الفصل الحادي عشر
كان منزل جمعية «الكويكرز» يَمتلئ بحركةٍ طفيفة حين كانت فَترة الظهيرة قد قاربَت على الانتهاء. وقد انشَغلَت راشيل هاليداي بجَمعِ بعض الأشياء من مَخزنِها التي يُمكن للهارِبين أن يحملوها بسهولة أثناءَ هُروبهم؛ ذلك أنَّ جورج هاريس والزنوج الهاربين الآخرين كانوا سيُكملون فِرارهم في تلك الليلة. امتدَّت ظِلالُ فترة الظهيرة باتجاه الشرق، وكانت الشمس معلَّقة بالأفق وكأنها كُرةٌ حمراء. وقد تسلَّلَت أشعَّة الشمس الأخيرة إلى الغرفة التي كان يجلس بها كلٌّ من جورج وإلايزا، فلفَّتها بسلام هادئ. جلس جورج وإلايزا يتحدثان وهما يُمسِكان أحدهما بيد الآخر عما يُمكن أن يَحمِلَه لهما المستقبل في طيَّاته.
«لم نَبتعِد عن الخطر بعدً، ولا ينبغي أن يَغُرَّنا الأمل. أوه، سأكون مسرورًا للغاية حين نكون بأمانٍ في كندا.»
ثم مدَّ جورج ذراعَيه وقال:
«أوه، لقد ملَأَتني نَسْمة الحرية هذه بقوةِ عشَرة رجال. أشعُر وكأنني أستطيع قتالَ قطيع الذئاب الذي يَتْبَعُنا بأسره.»
قاطعَهما طرقٌ خفيف على الباب، فنهضَت إلايزا وفتحته. كان سيميون هاليداي عند الباب وكان معه أخٌ من جمعية «الكويكرز» وقدَّمَه باسمه فينياس فليتشر. كان فينياس رجلًا طويلَ القامة نحيلَ البِنية ضعيفَ البدَن وله شعرٌ أحمر، وكانت رؤيته تبعث في النفس شعورًا بأنه رجلٌ فَكِهٌ غريبُ الأطوار، وكان هذا مختلفًا إلى حدٍّ ما عن مظهر سيميون الهادئ الساذج. في الواقع، كان لفينياس مظهرُ رجلٍ سبَرَ أغوارَ الدنيا، ولا يسمح أن تُشتِّت توافهُ الأمور تركيزَه.
قال سيميون: «عرَف صديقنا فينياس شيئًا ذا أهميةٍ لكَ ولمن معكَ يا جورج، وسيكون من الأفضل لكَ أن تسمعه.»
قال فينياس: «هذا صحيح، وهذا يُظهِر أهمية أن تُبقِيَ أذُنَيك وإحدَى عينَيك مُنتبِهتَين حين تكون نائمًا في مكانٍ أنتَ غريبٌ عنه. في الليلة الماضية وفي حانةٍ منعزلةٍ بجوار النهر صادف أنني كنتُ هناك بحلول الليل، تناوَلْتُ العَشَاء ثم تمدَّدتُ قليلًا على كَومةٍ من الحقائب كي تغفُو عيناي قليلًا قبل حُلول الوقت المُخصَّص للنوم. كان هناك عَددٌ من الرجال في الحُجرة يتحدثون، وسَمِعتهم يتحدثون عن جمعية «الكويكرز». لذا عمدتُ إلى أن أتنفَّس بعمق حتى أُظهِر لهم أنني كنتُ أغُطُّ في نومٍ عميق وأنني لا أسمع أيَّ شيءٍ مما يقولونه سِرًّا.
قال أحدُهم: «إنهم في مستوطنة جمعية «الكويكرز» ولن يكون هناك في الواقع أيُّ مشكلةٍ إذا ما خوَّفنا أولئك الإخوة الوُدَعاء وحمَلناهم على تسليمهِم لنا.» ثم حافظتُ على ثباتي وسمِعتُهم يُفصِّلون خُطتَهم ليُمسكوا بكم. هناك شُرطيَّان قادمان من مدينةٍ صغيرة تقع أعلى النهر وسيَصحَبانِهما لإلقاء القَبض عليكم، ثم سيكون هناك نذلٌ يافع عذبُ الحديث سيُقسِم على أن إلايزا ملكه، ثم سيتَسلَّمُها منهم ليأخذها إلى الجنوب. أما عن الطفل فسيتركونه للتاجر الذي اشتراه من مزرعة شيلبي في كنتاكي، وسيعود جيم وأمه العجوز إلى أسيادهما السابقين.» ثم استطرد فينياس وهو ينظُر إلى هاريس نظرةً غريبة: «وأعتقد يا صديقي جورج أن الأمر نفسه سيحدُث مَعكَ بسبب هروبكَ؛ ذلك أن سيدكَ السابق ينوي أن يجعل من هروبكَ عِبرةً يتطلع إليها الزنوجُ الآخرون إذا ما أقدَموا على الفرار. أَعتقِد أنه سيكون هناكَ من ثمانية إلى عشرة أشخاصٍ في إثرنا، ويبدو أنهم يعرفون الوِجهَة التي سنَسلُكها، على الرغم من أنني قد حاولتُ التشويش عليهم قليلًا. لقد استجوَبوني قليلًا هذا الصباحَ حين كنتُ أهمُّ بالرحيل؛ فقد قال أحدهم:
«أيها الصديق، هل رأيتَ زَنْجيًّا فارًّا على الطريق الذي أتيتَ منه؟»
فسألتُه: «هل هو طويل القامة؟»
فقال: «أجل!»
سألتُه: «وأصفَر البَشرة؟»
فأجابني: «أجل!»
سألته «هل يبدو عليه الذكاء ويرتدي ملابسَ جيدة؟»
فأجاب: «أجل» وهنا كنتُ قد أثَرتُ حماستهم.
قالوا: «هل رأيته؟»
فأجبتهم: «لا، لم أرَ أحدًا.»
قال السيد هاليداي مُؤنِّبًا إياه: «هل أثَرتَ حفيظة الرجل يا سيميون وجعلتَه يصل إلى مرحلة الغضب؟»
قال الأخ من جمعية «الكويكرز» مبتسمًا: «لا ينبغي أن أتساءل إن كُنتُ قد فَعلتُ أم لا، ولكن قل لي ما الذي أفعلُه؟ أولًا أنا لا أنوي أن أجعل أولئكَ الرجال يُمسِكون بأصدقائنا هنا إذا ما كانت هنالك طريقةٌ للحيلولة دونَ حدوثِ ذلك. إنهم رجالٌ أشرار وقُساة، وأنا على استعداد أن أجعلهم يُطاردوننا مطاردةً ممتعة، فما هي الخطَّة التي سنقوم بها؟»
وقفَت المجموعة في وضعيَّاتٍ مختلفة بعدما قيل، وكان مظهرهم يَستحقُّ أن يُمثِّله أحدُ الرسامين. كانت راشيل هاليداي — التي أَخرجَت يدَها من عجينة تُعِدها لصنع البسكويت كي تسمع الأخبار — تَقِف معهم وهي مهتمَّة للغاية ومُغطَّاة بالدقيق ورافعة يدَيها، وبدا سيميون وكأنه يُفكِّر تفكيرًا عميقًا. أما إلايزا فقد لفَّت ذِراعَيها حَوْل زوجها ونظَرت إليه. وقد وقَف جورج بيدَين مقبوضتَين وعينَين لامعتَين ويبدو عليه كأيِّ رجلٍ آخر زَوجتُه على وشكِ أن تُباع في مزاد، وسيُرسَل ابنه إلى أحد التجار، وكل هذا تحتَ ظلِّ قوانينِ أمَّةٍ مسيحية.
قالت إلايزا بنَبرةٍ خافتة: «ماذا ينبغي أن نفعل يا جورج؟»
قال جورج: «أَعرِف ما يتَعيَّن عليَّ فعلُه.» بينما دخل الغُرفة الصغيرة وبدأ يفحص مُسدَّساته.
قال فينياس وهو يُومئ برأسه إلى سيميون: «أترى يا سيميون كيف ستسير الأمور؟»
قال سيميون وهو يتنهَّد: «أجل، أرى. إنني أدعو ألا تئول الأُمور إلى ذلك.»
قال جورج: «لا أُريد أن أُشرِكَ أحدًا في هذا الأَمْر معي أو مِن أجلي. إذا ما أعَرتُموني مركبتَكم وأرشدتُموني إلى الطريق، فسأقودها وحيدًا إلى المِحطَّة التالية. إنَّ جيم عِملاقٌ قوي، وهو شُجاعٌ في وَجْه الموت والمِحَن، وهكذا أنا أيضًا.»
قال فينياس: «آه، حَسنًا يا صديقي، لكنكَ رغم هذا ستحتاجُ إلى سائق. لا بأس أن تقوم أنت بالقتال وما تَعرِفه بشأنه، لكنني أَعرِف أشياءَ عن الطريق لا تَعرِفها أنتَ.»
قال جورج: «لكنني لا أُريد أن أُورِّطكَ في هذا الأمر.»
قال فينياس بتعبيرٍ حماسيٍّ غريب على وَجهِه: «تُورِّطُني! أرجوكَ أعلِمْني إذن حين تُورِّطُني فِعلًا.»
قال جورج: «لن أُهاجِم أحدًا. كل ما أطلُبه من أهل هذا البلد أن يتركوني وحدي، وسأخرج منها في سلام، لكن …» ثم توقَّف وقد قطَّب جبينَه واكفَهرَّ لونُه وعَبُس وجهُه … «هل سأقف بلا حَراكٍ وأُشاهدهم يأخذون زَوجَتي ويبيعونها في حين أن الربَّ أمَدَّني بيدَين قويتَين لأُدافع عنها؟ لا، سأُقاتل حتى آخرِ أنفاسي قبل أن يأخذوا مني زوجَتي وابني، فهل تلومونني على ذلك؟»
قال سيميون: «لا يستطيع أحد أن يلومَكَ يا جورج. أيُّ رجلٍ كان يفعل مثلَما تقول.»
«ألم تكن أنت يا سيدي لتفعل ما أقول لو كنتَ في مكاني؟»
قال سيميون: «أدعو الربَّ ألا أقف هذا الموقف أبدًا؛ فجسدي ضعيف.»
قال فينياس وهو يمدُّ ذراعَيه وكأنهما أشرعةٌ طاحونة هوائية: «أعتقد أن جسدي يُصبح قويًّا في مثل هذا الموقف. لست واثقًا صديقي جورج، ولن أمنعَكَ عن أحدٍ إذا ما كان بينكما حسابٌ تريد تصفيته معه.»
قال سيميون: «إذا كان على المرء أن يُقاوم الشر، فلا بد أن يكون جورج حرًّا في فعل ذلك الآن. لندعُ الرب ألا يُغرينا هذا.»
قال فينياس: «أُوافقُكَ على ذلك، لكننا إذا ما رغبنا في ذلك بشدة، فلن ندَعَهم يأخذوا حِذرَهم! هذا كل ما هنالك.»
قال سيميون وهو يبتسم: «من الواضح أنك لم تُولَد لتكون أخًا في جمعية «الكويكرز». فطبيعتُكَ القديمة لا تزالُ تجد طريقها إليك وبصورةٍ قوية أيضًا كما كان حالُكَ من قبلُ.»
للحقيقة، كان فينياس رجلًا انعزاليًّا وكان قويَّ البِنية شديدَ البأس، وكان صيادًا نشيطًا وقنَّاصًا ماهرًا؛ لكنه وبعد أن تودَّد إلى إحدى أخوات جمعية «الكويكرز»، أقنعَته بقوة جمالها وسِحرها أن ينضمَّ إلى الجمعية في الحي الذي يسكن فيه.
قالت راشيل هاليداي وهي تبتسم: «سيظل للأخ فينياس أساليبُه الخاصة. لكننا نعتقد جميعًا أن قلبَه أصبحَ في المكان الصحيح في النهاية.»
وبعد تناوُل طعام العَشاء بفترةٍ قصيرة، وقفَت عربةٌ كبيرة مغطَّاة أمام الباب، كانت الليلة صافيةَ الأجواء، وقفَز فينياس من مَقعدِه في خِفَّة ونشاط ليُشرِف على ركوب مُرافقيه. خرج جورج من الباب حاملًا ابنَه على ذراعه، وأمسكَت زوجتُه بذراعه الأخرى. كانت خطوته ثابتةً وبدَت على وجهِه أماراتُ العزم والإصرار، ثم خرجَت راشيل ومعها سيميون بعدهما.
قال فينياس لمن كانوا يركبون بالداخل: «اخرجوا أنتم لِلَحظة، ودعوني أُعدِّل من مؤخرة العرَبة، من أجل السيدات والطفل.»
قالت راشيل: «إليكم هذَين المفرشَين. أبقُوا على المقاعد مُريحةً قدْر الإمكان؛ فمن الصعب ركوبُ العربة طيلة الليل.»
خرج جيم أولًا وساعَد أمَّه العجوز على الركوب بحرص، تعلَّقَت أمُّه بذراعه ونظرَت حولها في قلق، وكأنها كانت تتوقَّع وصول مُطارديهم في كل لحظة.
قال جورج بنَبرةٍ خفيضة: «هل مُسدساتُكَ جاهزة يا جيم؟»
قال جيم: «أجل، بالفعل.»
«وهل أنت واثقٌ تمامًا مما ستقوم به إذا ما أَتَوا إلينا؟»
قال جيم وهو يفتح صدره العريض ويتنفَّس بعمق: «وهل لديك شكٌّ في هذا؟! أتعتقد أنني سأدَعُهم يُمسِكون بأمي مُجدَّدًا؟»
أثناء تلك المحادثة القصيرة، كانت إلايزا تُودِّع صديقتها العزيزة راشيل، وساعدَها سيميون في ركوب العربة، فتسلَّلَت إلى الجزء الخلفي من العربة رُفقةَ ابنها، وجلَسَت بجانب المفرشَين المصنوعَين من جلد الجاموس. صَعِدَت المرأة العجوز العرَبةَ بعدها وجلَسَت، وجلَس كلٌّ من جورج وجيم على مقعدٍ كبير خشِن أمامهما، وصَعِد فينياس أمامهم جميعًا.
قال سيميون من خارج العربة: «وداعًا أصدقائي.»
فأجابه جميعُ مَن بالعربة: «ليُبارِككَّ الرب!»
وانطلَقَت العربة مسرعةً تهتز وترتجُّ على الطريق المُتجمِّد.
لم يكن هناك أيُّ فرصةٍ للحديث، بسبب وعورة الطريق والضوضاء التي تُحدِثها العجلات. كانت العربة تُقعقِع خلال مساحاتٍ طويلة ومظلمة من الغابات — وعلى سهولٍ شاسعةٍ كئيبة وعلى مُنحدَرات التِّلال والوديان — وظلَّت العربة تُهروِل وتمرُّ الساعاتُ واحدةً تِلو الأخرى. سرعان ما غَطَّ الطفل في نومٍ عميق، وبمرور الميل تِلْوَ الآخر، نسيَت المرأةُ العجوزُ جلَّ مخاوفها تقريبًا. فجأةً مال جورج إلى الأمام وأنصَت، كان هناك صوتُ أقدامِ جِيادٍ تعدو بسرعة خلفَهم. وبعد أن نظر فينياس إلى جورج نظرةً فَطِنة زاد مِن سرعة الخيول نحو صخرةٍ شديدة الانحدار، وخَرجَ من العربة.
قال فينياس: «هذا هو المكان الذي أردتُ أن نصل إليه. اخرُجوا واصعَدوا تلك الصخورَ معي.»
أمسَكَ هاري بذارعَيه القويتَين وتَبِعَه البقية نحوَ أعلى حافة الصخرة، ثم ضاق الممرُّ الذي يسيرون فيه حتى إنه صار لا يتَّسع إلا لمرور شخصٍ واحد فقط في كل مرة، حتى وصلوا فجأةً إلى هُوَّةٍ اتساعُها ياردةٌ واحدة، وخلفها برزَت كتلةٌ من الصخور ارتفاعها ثلاثون قدمًا، ولها جوانبُ جدارية مُنحدِرة وزَلِقة، وكأنها جُدرانُ قلعة. قفَز فينياس بسهولة من فوق تلك الهُوَّة وتبِعَته السيدات بشيء من الصعوبة.
صاح الأخُ من جمعية «الكويكر»: «هيَّا، اقفزوا وانجَوا بحياتكم وحُريَّتكم.» وحتى تلك المرأة السوداء العجوزة قامَت بالقَفزة. كوَّنَت بعضُ كسراتِ الصخور مِتراسًا، فتوارَوْا خلفه عن أنظار مَن تحتهم.
قال فينياس: «ها نحن ذا، لِيَصعدوا إذا ما كان باستطاعتهم ذلك. إن مَن سيَصعَد إلى هنا سيتَحتَّم عليه أن يكون فردًا وحيدًا، ويسير بين تلك الصخرتَين في مرمى مُسدَّساتكما أيها الرجلان، أتريان ذلك؟»
قال جورج في ثبات: «أجل، أرى ذلك. والآن وبما أن هذا الأمر يخصُّنا نحن فدَعنا نُقاتل، ونتحمَّل جميع المخاطر.»
كان الرجال في الأسفل يتكوَّنون من عددٍ من الرجال كان هالي قد عيَّنَهم ليُطاردوا الفارِّين. كان اسمُ أحدهم توم لوكر، ورجلٌ آخر اسمه ماركس وهو مُحامٍ ماكرٌ كان أنفه الغريب محشورًا في شئون الجميع. وكان مع هذَين الرجلَين اثنان من رجال الشرطة مخوَّلٌ لهما سلطةُ القبض على جورج وجيم الزنجي الذي عاد من كندا من أجل أمه العجوز. وكان الرجال في طريقهم إلى الصخور حين ظهر جورج من فوقهم وقال بصوتٍ هادئ وواضح:
«أيها السادة، مَن أنتم وماذا تريدون؟»
قال توم لوكر: «نريد مجموعةً من الزنوج الهاربين؛ أولهم جورج هاريس وزوجته إلايزا وابنهما، وجيم سيلدن وامرأةٌ عجوز. معنا هنا ضابطا شرطة ومُذكَّرةٌ بالقبض عليهم؛ وسنقبض عليهم أيضًا. أتسمعني؟ ألستَ أنت جورج هاريس المملوكَ للسيد هاريس بمقاطعة شيلبي في ولاية كنتاكي؟»
«أنا جورج هاريس، وكان السيد هاريس من ولاية كنتاكي يقول بأنني مملوكٌ له. لكنني الآن رجلٌ حر، وأقف على أرض الرب الحرَّة؛ وزوجتي وابني معي، وهما لي، وجيم وأمه هنا. إننا نمتلك أسلحةً نُدافع بها عن أنفسنا، وسنستخدمها فعلًا إذا ما اضطُرِرنا إلى ذلك. يُمكنكم أن تصعدوا إذا ما أردتم؛ لكن أَوَّل مَن يظهر منكم على مرمى رَصاصنا فهو في عِداد الأموات، والذي يليه وهكذا حتى آخرِ فردٍ منكم.»
قال رجلٌ قصير بدين منهم وهو يتقدَّم للأمام: «أوه، هيا! هيا! أيها الشاب، ليست هذه طريقةً تتحدث بها. أترى؟ نحن ضابطان. إن القانون في صفِّنا، ونمتلك السلطة كذلك؛ لذا فمن الأفضل لك أن تستسلم سلميًّا؛ لأنك ستستسلم في النهاية.»
قال جورج بمرارة: «أعرف تمامًا أن القانون والسلطة في صفِّكم. أنتم تُريدون أن تأخذوا زوجَتي وتبيعوها في نيو أورليانز، وتأخذوا طفلي وتضَعوه في حظيرة أحَدِ التجار وكأنه عِجلٌ صغير، وتريدون أن تُرسلوا والدة جيم العجوز إلى ذلك الحيوان الذي اعتدى عليها قبل ذلك؛ لأنه لم يستطع أن يعتديَ على ابنها. إنكم تريدون أن تُعيدوني أنا وجيم لكي يتمَّ جلدُنا، وستحميكم قوانينُكم وتُخرجكم من هذه المسألة، ويا له من عارٍ عليكم وعلى تلك القوانين! لكنكم لم تَقبضوا علينا بعدُ. نحن لا نعترف بقوانينكم، ولا ببلدكم. إننا نقف هنا أحرارًا، تحتَ سماء الرب، تمامًا مثلكم، وأقسم بالربِّ العظيم الذي خلقَنا أننا سنُقاتل لأجل حريتنا حتى نموتَ عنها.»
إن ثَمَّةَ شيئًا في الجُرأة والعزيمة قادرًا — لبعض الوقت — على إسكات حتى أقسى الرجال وأكثَرِهم وقاحة. لكن ظلَّ ماركس هو الوحيد الذي لم تُؤثِّر به تلك الكلمات، كان يُصوِّب مُسدَّسه عمدًا، وأثناء ذلك السكونِ اللحظي الذي تَبِع حديثَ جورج، أطلق ماركس رصاصةً من مُسدَّسه في اتجاهه.
ثم قال في بُرودٍ بينما كان يمسح مُسدَّسه في كمِّ معطفه: «طبقًا لقوانين ولاية كنتاكي فإننا نحصل على أجر إحضاره ميتًا، تمامًا كما نحصل على أجرِ إحضاره على قيد الحياة.»
وثَبَ جورج إلى الخلف — وقد أطلقَت إلايزا صرخةَ ذعر — ذلك أن الرَّصاصةَ مرَّت قريبًا من أُذنِه، حتى إنها كادت تكشطُ وجنةَ زوجته، ثم استَقرَّت في الشجرة فَوق رءوسهم.
قال جورج سريعًا: «لا بأسَ يا إلايزا.»
قال فينياس: «من الأفضل لك أن تتوارى عن الأنظار حين تُلقي خطابكَ، إن أولئك الرجال أوغادٌ وضيعون.»
قال جورج: «والآن يا جيم، تأكَّد من مسدساتِكَ، وراقب ذلك الممرَّ معي. سأُطلق أنا النار على أول رجلٍ يظهر فيه، وأطلِقْ أنت النار على مَن يليه، وهكذا. فلن يُجدِيَنا نفعًا أن نُضيِّع رصاصتَين على رجلٍ واحد منهم.»
«لكن ماذا لو لم تُصِب أولهم؟»
قال جورج بنَبرةٍ هادئة: «سأفعل.»
تمتم فينياس: «هذا جيد، هذا الرجل يعرف كيف يُقاتل.»
وقَف الرجال في الأسفل للحظة متردِّدين غيرَ عاقِدي العزم بعد أن أطلَق ماركس رصاصته.
قال أحدهم: «أعتقد أنه لا بُد أنك قد أصبتَ أحدهم بتلك الرَّصاصة. لقد سمعتُ صوت صرخة أحدهم!»
قال توم وهو يقفز على الصخور: «سأصعد إليهم مباشرة، لم أخَف من زنجي من قبلُ، ولن أخافَ منهم الآن. مَن سيأتي خلفي؟»
سَمِع جورج كلماتِه واضحة. فسَحَب مُسدَّسه، وتفحَّصَه وصوَّبه نحو الممر الذي سيظهر فيه أول الرجال.
تَبِع توم أحدُ أكثر أولئك الرجال شجاعة، وبعد ذلك تَبِعَه الآخرون وبدَءوا يتسلَّقون الصخور؛ فكان آخرهم يدفع الذي أمامه والذي أمامه يدفع بدورِه مَن هو أمامه وبذا تسلَّقوا الصخور سريعًا. وهكذا ظهرَت بِنْية توم القوية على مرأى جورج وجيم عند حافة الهُوَّة تقريبًا.
أطلق جورج النار — فأصابت الطلقة لوكر في جانبه — لكنه ورغم جرحِه لم يتراجع. قفَز لوكر مُزمجرًا فوق الهوَّة، وسرعان ما كان بقية الرجال أمام الرجلَين، لكن الرجل من جمعية «الكويكرز» — الذي لم يكن يعرف القتال — وجَّه إليه ضربةً من ذراعه الطويل فأطاح به من فوق حافة المُنحدَر، فاصطَدَم الأخير بالأشجار والأحجار حتى استَقرَّ على الأرض من على ارتفاع ثلاثين قدمًا وهو يُعاني من كُسور وكدَمات.
صاح فينياس: «هيا! أنا رجل سلام، لكنَّ التاليَ منكم الذي سيُحاول أن يَعبُر إلى هنا سأُطيح به أسفل المنحدر ليكون بصُحبة صديقه.»
بدا على الرجال أنهم مُتردِّدون للحظاتٍ وغيرُ واثقين مما يفعلونه. ثم هُرِع ماركس وقفَز فوق حِصانه وقال وهو يخز جواده ويعدو به:
«بينما تهتمُّون بتوم، سأذهب أنا وأعود بالمساعدة.»
قال الآخَرون: «يُمكننا أن نذهب نحن أيضًا.» ثم ركضوا بجيادهم تارِكين خلفهم لوكر سيئ الحظ في قاع الوادي.
شاهدهم فينياس وهو يضحك وقال:
«أعتقد أن تكلفة فعلتِهم أضحَت واضحة الآن. هيا، ينبغي علينا أن نستمرَّ في التحرُّك.»
قالت إلايزا: «أوه، لا ينبغي أن نترك ذلك الرجل المسكين وحده هنا. ألا يُمكننا أن نفعل شيئًا لأجله؟»
قال جورج: «لن نكون مسيحيِّين حقًّا إذا ما تركناه. لنرفعه ونحمله معنا إلى مكانٍ يُمكن أن يتلقَّى فيه الرعاية.»
نزل الرجال إلى أسفل الوادي حيث كان لوكر راقدًا ويئنُّ مِن الألم، واعتَنى بجِراحه فينياس، الذي كان، بطريقته الخاصة، جَرَّاحًا.
قال لوكر في وهن: «ماركس، أهذا أنت يا ماركس؟»
أجابه الأخُ من جمعية «الكويكرز»: «لا أعتقد ذلك يا صديقي. لقد فكَّرَ ماركس في نفسه؛ لقد تركَكَ لتموت هنا وحيدًا.»
قال الرجل بصوتٍ ضعيف: «لقد دفعتَني وأسقطتَني إلى هنا.»
«أجل، لقد فعلتُ ذلك. ولو لم أفعل ذلك لكنتَ قد دفعتَنا أنت، أليس كذلك؟ هاكَ، دعني أُثبِّت تلك الضِّمادة، ثم سنأخُذك لتنام على سريرٍ ناعم كالذي في بيت أمكَ.»
جرَت إلايزا وأحضَرت الكِساء المصنوع من جِلْد الجاموس من العربة، ولفَّ الرجال جسد لوكر الثقيل فيه وحملوه بتلك الطريقة إلى العربة. أمسكَت المرأة الزنجيةُ العجوزَ برأسه ووضَعَته في حجرها، وانطَلَقوا في طريقهم نحو برِّ الأمان في بطءٍ بسبب العدوِّ الجريح الذي يحملونه معهم.