الفصل الخامس عشر
أزهرَت الورود ونباتات البيجونيا خمسَ مراتٍ عند كوخ العم توم المجاوِر لمنزل عائلة شيلبي الكبير. وقد أحدَث مرورُ السنوات تغييراتٍ غريبةً على مناطق الجنوب الجميلة، فقد سُحِقَت الحقول الجميلة تحت أقدام الجيوش، ونَشبَت معاركُ الحرب الأهلية الفظيعة على الأراضي الهادئة المُفعَمة بالحياة والتابعة للمُزارعين الجنوبيِّين. كان جورج شيلبي قد وفَّى بوعده وحرَّر جميع العبيد الموجودين في ممتلكاته حين عاد إلى منزله مع توم. ذهَب بعض أولئك العبيد إلى ولاياتٍ أخرى، لكن مكَث معظمهم معه على أساس أنهم عمَّال مستأجَرون يعملون في المكان، وكانوا في مكانهم بمثابة حُراسٍ لشرف «السيد الشاب» وأمِّه أثناء فَترة أهوال التمرُّد والثورة. والآن خبَت نار المعارك ودبَّت الحياة مرةً أخرى في المنزل القديم. كان توم قد أصبح مُديرَ المزرعة، وقد استطاع — بحكمته وحصافته — أن يُعوِّض الخسائر التي تكبَّدَتها العائلة خلال سنوات الحرب الأربع. وفي حين أن المَزارع المجاورة له أصبحت خربةً ومهجورة، كانت أراضي عائلة شيلبي منتجةً كما كانت دائمًا، وتَمَّ استكمال أعمال الزراعة والحصاد من دون انقطاع، بغضِّ النظر عن الظروف التي تمر بها البلاد.
جلَسَت السيدة شيلبي في الشرفة الخارجية — وقد تغيَّرَت بعض الشيء بفِعل مرور السنوات، لكنها كانت لا تزال جميلةً ولطيفة — ممسكة بمجلةٍ وتتحدث إلى جورج الذي نزل عن جواده لتوِّه، ووقف أمامها يهزُّ سوطه ويضحك مِن تَصرُّفات مجموعة من الأطفال السُّود وهم يَلْهون على العشب. كان جورج قد كَبِر فأصبح رجلًا وسيمًا ووجهه يوحي بالقوة والعطف.
قالت السيدة شيلبي: «إنني أتطلَّع ببالغ السرور إلى زيارة السيدة أوفيليا لنا. لقد ازدادت صلتي بها ومعرفتي لها كثيرًا من خلال الخطابات التي تبادلناها حول توم. لقد طلبتُ منها أن تزورنا مدةَ شهر وقد وافقَت. وأتوقع أنها ستُحضر معها وصيفتها، تلك الفتاة الصغيرة المرحة التي تحمل اسم توبسي والتي سمِعنا عنها كثيرًا.»
«لقد عادت إلى مكانٍ ما في الشمال بعد وفاة السيد سانت كلير، أليس كذلك؟»
«بلى، لقد عادت إلى فيرمونت. أعتقد أن السيدة سانت كلير كانت امرأةً تعيسةَ الحظ بدرجةٍ كبيرة؛ فقد كانت مريضةً ولا تستطيع أن تتعاطفَ مع الآخرين.»
رفع جورج بصَره وابتسم ابتسامةً حنونة وقال:
«ليبارككِّ الرب يا أمي. إن أي شخصٍ آخر كان يصف السيدة سانت كلير بكلماتٍ أقسى من مجرد «سيئة الحظ». لكن متى ستأتي السيدة أوفيليا؟»
«لستُ متأكدة تمامًا. لقد أخبرتُها أنها ليست في حاجة لأن تُخبرنا بموعد قدومها؛ لأننا لا نتحرك من المنزل، كما أن مفاجأةَ حضورها ستكون سارَّةً للغاية. إن توم يعرف كلَّ قطار يأتي من الشمال، وأثق أنه سيكون مسرورًا ليكون أولَ من يستقبلها. لقد كانت طيبةً وعطوفة معه فيما مضى لأجل تلك الطفلة الجميلة التي أحبَّها كلاهما، إيفا الصغيرة.»
كرَّر جورج كلمتها الأخيرة بنبرةٍ رقيقة: «إيفا الصغيرة.»
«هل رأيتِ خَصْلة الشعر الذهبيةَ التي أعطتها لتوم حين كانت في فراش الموت؟ إنها شيءٌ مقدس لدى توم، لا بد وأن تلك الطفلة الصغيرة كانت ملاكًا يمشي على الأرض في عيون أولئك العبيد المساكين. هناك عَربَة تدخل إلى الباحة يا أمي. تُرى من يكون القادم فيها؟»
نهَضَت السيدة شيلبي وسارت حتى حافَة الشُّرفة وقالت:
«لا بد وأنها السيدة أوفيليا. أترى البهجة والسعادة على وجه توم؟»
كان توم يقود العربة في شيء من زهوٍ استثنائي ونادر بالنسبة إليه، وكان وجهه مُكلَّلًا بالابتسامة.
قال جورج: «ماذا؟ لا يا أمي. تلك ليست السيدة سانت كلير. هناك ثلاثة أشخاص في العربة — سيدة ورجل وفتًى.»
أوقف توم العربة في تباهٍ، فاندفَعَت المرأة خارج العربة وهُرِعَت على الدَّرَج واحتَضنَت السيدة شيلبي بين ذراعَيها وقالت وقد اختلَط بكاؤها وضحكها:
«أوه، سيدتي. سيدتي العزيزة.» فصاحت السيدة شيلبي بنَبرة في غاية الابتهاج:
«إلايزا، عزيزتي إلايزا.»
كان جورج شيلبي قد نزل من الشرفة ليستقبل جورج هاريس ولكي يُحيِّيَ هاري ذا العينَين البُنِّيتَين الذي كان طفلًا فيما مضى، ثم استدارت السيدة شيلبي عن إلايزا لكي تُرحب بهما أحرَّ ترحيبٍ أيضًا.
قالت السيدة شيلبي: «ستحصُلين على حجرتك القديمة يا فتاتي العزيزة، وسيكون لهاري الحُجرةُ الملاصِقة لها. هل يعلم بأَمْر تلك الليلة التي هربتِ فيها وهو على ذِراعك قبل زمنٍ مضى؟»
رفع الفتى نظَره وقد ظهرت على وجهه آثارُ الانفعال وقال: «أعرف يا سيدة شيلبي، وأُحاوِل أن أكون جديرًا بأمي الشُّجاعة.»
صَعِد توم الدرَج وتحدَّث مع هاريس وابنه، بينما اصطَحَبت السيدة شيلبي إلايزا إلى غرفتها.
وفي أثناء الدقائق القليلة التي قضَتها الزائرة في تعديل شعرها وتجديدِ زينتها، استمعَت المرأة التي كانت صديقتَها وسيدتها إلى جميع تفاصيل هُروبها وفِرارها الأخير إلى كندا.
كان جورج قد شغَل منصبًا مهمًّا ومرموقًا في شركة للخدمات المصرفية وتخرَّج هاري لتوِّه من مدرسة في مدينة إِمرستبيرج مع مرتبة الشرف، وينتظره مستقبلٌ باهر في مهنةٍ تِجارية ناجحة.
قالت إلايزا وقد استَخدَمَت أسلوب الخطاب القديم لأجل المحبة التي تُكِنُّها للسيدة شيلبي: «لكن قلبي كان يهفو لرؤية وجهِكِ العزيز يا سيدتي، وقد قرَّرنا المجيء بمجرد أن علمنا أن بإمكاننا أن نأتيَ بأمان، وأن الحرب قد حرَّرَت العبيد، وأن الحرية التي دفَعنا ثمنها غاليًا لا يُمكن أن تُسلَب منا.»
وفي الشرفة في الخارج، كان جورج شيلبي يَستمِع بإنصات إلى القصة التي يرويها هاريس عن قتاله صائدي العبيد على الصخور، وعن المساعدة التي قدَّمها لهم عدوُّهم الجريح.
قال هاريس: «بِناءً على نصيحة توم لوكر — بعد أن اضطُرِرت إلى إطلاق النار عليه وبعد أن أسعفَه فينياس فليتشر الرائع وأختٌ رقيقة من جمعية «الكويكرز» — تنكَّرَت إلايزا في زي رجل، وجعلَت هاري يبدو وكأنه فتاةٌ صغيرة. كان الضابطُ قد تلقى تحذيرًا عن هروبنا، وتم تعليق إعلان بذلك على كل عمود وشجَرة وتم عَرضُ مكافأةٍ لمن يُلقي القبض علينا. كانت مكافأة القبض عليَّ حيًّا أو ميتًا هي خَمسمائة دولار. كان الرجل الذي وسم يدي بقطعةِ حديدٍ ساخنة يُريد أن يحرص على ألا أحصُل على حريتي أبدًا. لكنَّ تنكُّرَنا أنقذَنا؛ وقد شَعرتُ بارتياحٍ كبير بالوقوف إلى جوار ماركس وسماعِه يقول:
كنت آخذ تَذاكري من الموظَّف في تلك اللحظة ذاتها باليد نفسها التي يتحدث عنها. لكن يدي لم ترتعش، ثم التفتُّ في هدوء، وسِرتُ مبتعدًا عنه في طريقي إلى الحجرة حيث إلايزا والصبي. دقَّ الجرس ونزل ماركس وقطيع المحقِّقين معه من السفينة على السلَّم الخشبي ثم إلى الرصيف. رأيناهم من الحجرة السفلية، لكننا لم نُبدِ أي إشارة على شعورنا الكبير بالارتياح. مَرَّت الساعات وصَعِدنا إلى سطح السفينة لننظر إلى سواحل كندا المجيدة. ظلَّت السفينة السريعة تَمْخَر عُبابَ البحر، ووَضعَت إلايزا يدها على ذراعي فشَعرتُ بها ترتجف بينما كنا نقترب بالسفينة من مدينة إِمرستبيرج بكندا، وتَشوَّش تفكيري حينها. رسَت السفينة ونزلنا عنها إلى الرصيف وكنت أحمل هاري على ذراعَيَّ. خَشِيتُ أن تقع إلايزا مغشيًّا عليها بينما كنا ننزل عن ذلك السلم الخشبي من السفينة. كان الأَمْر أشبهَ بالسير على الصراط الذي يُؤدي إلى الفردوس. لكنها كانت شُجاعة حتى اللحظة الأخيرة، وفي غُضون لحظات كنا نقف ودموع الامتنان تَنهمِر من أعيننا، كنا واقفين تحت سماء الرب الحُرة، والحياة أمامَنا تَفتَح لنا ذراعَيها. وقَفْنا في مكاننا صامتين لبعض الوقت حتى تحركَت السفينة مرةً أخرى. ثم وحين غابت عنا عيون الباحثين، ركَعْنا على الرمال وأذرعُنا تلُفُّ الصغير وشكَرْنا الرب.»
كان هاريس يَروي القصة أثناء انقطاعاتٍ كثيرة قام بها توم، فكان يقول بين الحين والآخر: «الحمد للرب!» «فضلٌ من الرب!» والكثير من التعبيرات التي تُعبِّر عن إيمانه وورعه. وكانت عيون جورج شيلبي تَنهمِر بالدموع وهو يُنصت، لكن حين طلب هاريس أن يستمع إلى قصة عودة توم، لم يستطع أيٌّ منهما الحديث. لكن توم وضع يده السوداء في حُنوٍّ تام على كتف سيده الشاب وقال:
«سنُخبرك أنا والسيد جورج بتلك القصة في وقتٍ لاحق.»
جاءت كِلوي متلهفةً من ناحية الشرفة بينما كانت ترتدي عمامةً جديدة ومنديلًا رائعًا تلفُّه حول فستانها القطني النظيف، وهُرِعت إلايزا إلى أحضانها ونطَق الجميع بكلمات الشكر ومباركة هذا اللقاء. أبدَت كِلوي إعجابها بهاري، بينما أشادت بحُسن مظهر كلٍّ من إلايزا وجورج، وفي النهاية طلبَت منهم الذَّهاب إلى الكوخ ليتذَوَّقوا الأطعمة التي اشتُهِرتُ بصُنعها على العَشاء.
قالت العمة كِلوي: «كنتُ قد فرَغتُ من سَلْخ الدجاجة من ريشها في اللحظة التي رأيتُ فيها توم وهو يقود العَربَة إلى الباحة، والطعام على وشَكِ أن يُجهَّز. سأُطعِم هاري الصغير الكعكَ المُحلَّى الذي اعتاد سيده جورج أن يتناوله. يا إلهي! كان ذلك الصغير يراني وأنا أُعِد الكعك وكان يُطِل برأسه الصغير ويقول: «إنني أتباهى بكِ أمام توم لينكولن، أيتها العمة كِلوي. إن طبَّاخَه لا يُقارَن بكِ.» أتذكُر ذلك سيدي جورج؟»
«أتذكَّر أيتها العمة كلوي، وما زلتُ أتباهى بكِ حتى الآن. سأمرُّ عليكم بعد تناوُل الطعام. اطلُب من الأولاد يا توم أن يأتوا بآلات البانجو الخاصة بهم، واجعلهم يُغنُّون ويرقصون. ينبغي أن نحتفل على شرف إلايزا.»
توجَّه الجميع نحو الكوخ، وكانت العمة كِلوي لا تزال تضحك من المديح الذي تَلقَّته، فكانت جوانبها السمينة تهتزُّ من شدة ضحكها، وكان هاري ينظر إلى تفاصيلِ مشاهدَ من طفولته التي كانت مألوفةً له فيما مضى، أما جورج شيلبي فكان قد صَعِد دَرَج المنزل قبل أن يستدير فجأة ويصيح:
«توم، من الأفضل أن تذهب في موعد قطار المساء. قد تصل السيدة أوفيليا وتوبسي إلى هنا، وينضمَّان إلينا هذا المساء.»
دخل جورج عبر الباب فوجَد والدتَه جالسة تبتسم في الظلمة، فأحنى رأسه اليافعَ الأبيَّ وقبَّلها دون أن ينطق بكلمة.
بعد تناوُل الطعام أقبل موس بعددٍ من أوراق الزينة الملوَّنة في يدَيه وقد أَشرقَ وجهه الأسودُ مبتسمًا.
«أظنُّ أن سيدتي ستُحب أن أُعلِّق هذه هنا في الرُّواق؛ حيث إننا سينضمُّ إلينا مزيد من الصحبة.»
قالت السيدة شيلبي: «هذه فكرةٌ رائعة يا موس. أعتقد أن السيدة أوفيليا ستُسَرُّ بذلك.»
قال موس مبتسمًا: «أجل، وأتوقَّع أن السيدة توبسي ستُسَر بذلك أيضًا.»
ضحِكَت السيدة شيلبي وقالت: «آه، فهمت. إن توبسي هي المنشودة إذن.»
«أجل، وقد أعددتُ لها أغنيةً أيضًا.»
وعلَّق الفوانيس الصينية في خطٍّ مقوَّس بين كل عمودٍ وآخر، كما علَّق بعضها في الأشجار، ثم أضاءها فاكتسى المكانُ كله بمظاهر الاحتفال.
قالت السيدة شيلبي: «أتمنى ألا يخيب أملُنا الآن يا موس. لماذا أنتَ واثق هكذا من أنهم سيصلون هذا المساء؟»
رفع موس نظره إليها في ثقة.
وأجابها: «شعرَت أمي بهم قادمين في قرارة نفسها.» ثم استمَرَّ في تعليق المزيد من المصابيح، ولم يتوقف حتى سمِع الجميع صوتَ عجلات العَربَة تسير على الطريق الطيني الأحمر، ودخلَت العربة من البوابة الكبيرة. وقفَت السيدة شيلبي في بصيصٍ من الضوء يأتي من الباب المفتوحِ خلفها، ثم تقدَّمَت لتُحيِّيَ ضيوفها، وظنَّت المرأة العانس الطويلة القامة التي أتت من نيو إنجلاند أنها لم تفرح في حياتها بلقاء أحدٍ مثلَ فرحتها بلقاء السيدة التي تتحدَّر من الجنوب. شدَّت المرأتان كلتاهما على يدَي الأخرى في صداقةٍ دامت طَوال حياتهما، ثم جاء جورج ورحَّب بضيوفه ترحيبًا حارًّا، بينما تقدَّم توم نحو السيدة شيلبي ليقول لها:
«هذه هي توبسي يا سيدتي. كِدتُ ألا أعرِفَها؛ فقد كَبِرَت وازدادت جمالًا وطُولًا كزهرة الخطميَّة، لكنها هي نفسها الفتاةُ الصغيرة التي أحبَّتها سيدتي إيفا قبل أن تنتقل إلى الأمجاد.»
حيَّت السيدة شيلبي الفتاةَ السوداء بطريقةٍ رقيقة ولطيفة، ثم أخبرَت توم أن يصحبها إلى الكوخ ليُقدِّمها إلى كِلوي. خرج موس من ظل الشُّرفة بينما مرُّوا أمامه، ودخل ثلاثتهم إلى الكوخ معًا.
سمعَت السيدة أوفيليا قصة عودة إلايزا وأسرتها السعيدة، وقصة هروبها من المزرعة القديمة، وبعد أن انتهى العَشاء الذي كان يحمل طابَعًا رسميًّا إلى حدٍّ ما، ذهبوا جميعًا إلى الكوخ حيث نبَّهَتهم أنغام الموسيقى إلى أن الاحتفال قد بدأ. كانت العمة كِلوي تشعر بالإحراج نفسِه، حيالَ توفير المقاعد لضيوفها، الذي كانت قد شعرَت به أثناء اجتماع أداء الصلاة في تلك الليلة التي كان جورج هو من يتلو الكتابَ المقدَّس فيها، والتي سار بعدها إلى المنزل وقلبُه الصغير يمتلئ بمشاعر الحب تجاه أصدقائه المتواضعين، الليلة التي سبقَت اليوم الذي بِيعَ فيه توم. جالت بخاطر جورج ذِكْرى ما حدث بينما كان يجلس على صندوقٍ صغير بجوار الباب، ونظر فوجَد صديقَه العجوز ينظُر إليه وقد عَجزَ لسانه عن الكلام.
سحبَت العمة كِلوي كرسيًّا هزازًا وكرسيًّا ذا ذراعَين لسيدتها والسيدة فيلي، واحتلَّ موس المسرح بانحنائه أمام مشاهديه، وبدأ يُغنِّي بصحبة ألحان آلة البانجو، وكان يُطقطِق بكعب حذائه على الأرض وتصطكُّ ركبتاه ويرقص بقدَمَيه على أنغامها. كان أداؤه كله مُكرَّسًا لأجل توبسي التي جلَسَت في مكانٍ متقدِّم في الغرفة كان مخصصًا للرقص.
استَيقَظَت في وجه توبسي روحُ الشقاوة التي كانت أقوى صفاتها المميزة، وفي لحظةٍ كانت تقف أمام الجميع وتُشارك في الرقصة المرِحة بكلِّ حماسة الماضي.
صاحت السيدة أوفيليا وهي مصدومة فقالت: «توبسي!» ثم التفتَت نحو السيدة شيلبي لتقول لها:
«يا إلهي! إنها لم تتصرَّف بهذه الطريقة منذ سنوات.»
نظرَت السيدة شيلبي إلى الفتاة بعينَين مستمتِعتَين، وكانت الفتاة تتقافَز وتدور وقد بَرِقَت عيناها وأسنانها، أما أقدامها فكانت تُساير الألحان التي تُغنيها.
فقالت السيدة شيلبي وهي تضحك: «إنها على سجيَّتها الآن، وهذه هي توبسي التي كنت آمُل أن أراها. اتركيها ترقص.»
أُدِّيَت كل الأغاني والرقصات في تلك المزرعة بروح احتفالات الزنوج ذات الطبيعة الطيبة والسجيَّة البسيطة، وكانت الساعة متأخرة من الليل حين نهَضَت السيدات كي يُغادرن.
خَرجت السيدات في جُنح الليل، كانت المصابيح قد انطفَأَت، لكن القمر كان يُشِع ضوءًا فِضيًّا ويتألَّق بوَهَجٍ كاملٍ في السماء، وحين نظَرن خَلْفَهنَّ من الشرفة، رَأَيْن ضوء القمر يسقُط على رأس توم ذي الشعر الرمادي، فكان وكأنَّ هناك هالةً من البَركة حوله، وكان توم يُلوِّح لهم أن «طاب مساؤكم» بينما يقف في مَدخل منزله المزيَّن بالزهور.