الفصل السابع
يبرز أمامنا الآن مَشهدٌ هادئ، مَطبخٌ كبير وفسيح بألوانٍ متناسقة، وأرضيةٍ صفراءَ لامعة ومصقولة، ولا تُوجَد عليها ذَرَّة ترابٍ واحدة؛ وبه مَوقِدٌ للطهي نظيفٌ تمامًا وذو لونٍ أَسودَ رائع؛ وكذلك تُوجَد صفوفٌ من عُلَب الطعام اللامعة التي تُوحي بوجود أشهى الأطعمة؛ كما يُوجَد بالمطبخ كراسيُّ خشبية قديمة وقوية ذات لونٍ أخضر لامع؛ وبه أيضًا كرسيٌّ متأرجح ذو قاعدةٍ مُميَّزة الشكل وعليه وِسادةٌ مرسوم عليها أشكالٌ كثيرة، ووِسادةٌ أخرى أكبر حجمًا من الأولى تبدو أقدم ومريحة أكثر — كان الكرسي عتيقًا لكنه يجذب الانتباه، ويوحي بالكثير من الراحة — ذا قيمةٍ كبيرة بطريقةٍ تبعث على الراحة وكأنه شيءٌ يعود إلى طبقة النبلاء في قاعات الاستقبال الخاصة بهم. على هذا الكرسي جلَسَت صديقتنا العزيزة إلايزا تَتأرجَح للأمام والخلف بينما ثبَّتَت نظرها على شيء كانت تَحيكُه. أجل، كانت جالسةً على ذلك الكرسي وتبدو أكثر شُحوبًا ووهنًا مما كانت عليه في منزل كنتاكي، وتحت عينَيها كانت تحمل حزنًا كبيرًا فيما تسلَّلَت آثارُ الكآبة على شفتَيها. كان من السهل أن يرى الناظر إليها كيف أن قلبها الشابَّ أصبح مُثقلًا وأكثر كآبةً بفعل الحزن الشديد الذي يعتريها، وحين رفعَت عينَيها الواسعتَين الداكنتَين لتتبُّع صغيرها هاري وهو يتقافَز كالفَراشة على الأرض ويلعب هنا وهناك، ظهر في أعماقها نظراتُ الحزم والعزم التي لم يُرَ مثلها عليها في أيامها السابقة والأكثر سعادة.
إلى جوارها جلَسَت امرأةٌ تضَع وعاءً معدنيًّا لامعًا على ركبتَيها، وفي ذلك الوعاء كانت تفرِز به بعضًا من الخوخ المجفَّف. ربما كانت في الخامسة والخمسين أو الستين من عمرها، لكن وجهها كان من الأوجُه التي يبدو أن بَصْمةَ الزمن عليه لا تَزيده سوى جمالٍ وبهاء. كانت القَلَنسُوة حول رأسها معصوبةً على طريقة «الكويكرز»، والمنديلُ القطني الأبيض الناصع المُرْخى على صدرها مطويًّا في هدوء، بالإضافة إلى رِدائها وشالها الرماديَّين؛ كل ذلك أشار في الحال إلى المجتمع الذي كانت تنتمي إليه. كان وَجهُها مستديرًا مُتوردًا، ذا بَشرةٍ رقيقة ملساءَ وكان يُوحي بأنه ثمرةُ خوخٍ ناضجة. وكان شَعرُها فِضيَّ اللون بشكلٍ جزئي، وقد فرَّقَته إلى الخلف في سلاسةٍ من مَنبَته على جَبهَتها التي تُوحي بالسلام والنوايا الحسنة، وتَحتَ جَبْهَتها بَرزَت عينان بُنيَّتان بريئتان صافيتان حانيتان، يكفيكَ فقط أن تنظُر مُباشَرةً إليهما فتعرف أنك تنظر في أعماقِ أفضلِ وأوفى قلبٍ نبض يومًا في صَدْر امرأة.
قالت المرأة بينما كانت تنظُر في هدوء إلى الخوخ: «إذن أنتِ ما زلتِ تُفكِّرين في الذَّهاب إلى كندا يا إلايزا؟»
قالت إلايزا بنَبرةٍ حازمة: «أجل سيدتي، ينبغي أن أستمر في طريقي. لن أجرؤ على التوقُّف.»
«وماذا ستفعلين حين تصلين إلى هناك؟ ينبغي أن تُفكِّري في ذلك يا ابنتي.»
خَرجَت كلمة «ابنتي» من فَمِ راشيل هاليداي بصورةٍ طبيعية؛ ذلك أن وَجهَها وهَيْأتها أضْفَيا عليها طابعَ الأمومة تمامًا.
ارتَعشَت يدا إلايزا وتَحدَّرَت الدموع وتساقَطَت على ما كانت تَحيكُه، لكنها أجابت بنَبرةٍ حازمة:
«سأفعل — أي شيء يُمكنني أن أفعله. آمُل أن أجد شيئًا.»
قالت راشيل: «تعرفين أنه يُمكِنُكِ البقاء هنا قدْرَ ما تُريدين.»
قالت إلايزا: «أوه، أشكُركِ. لكن» وأشارت إلى هاري ثم قالَت وهي ترتعد: «لا يُمكنني أن أنام ليلًا؛ لا يُمكنني أن أَشعُر بالراحة. لقد حلَمتُ ليلةَ أمسِ أنني رأيتُ ذلك الرجل وهو يأتي إلى هنا.»
قالت راشيل بينما مَسحَت عينَيها: «أيتها المسكينة! لكن لا ينبغي لكِ أن تشعري بذلك. لقد أمَر سيدنا ألا يتم تسليمُ أي لاجئٍ يحتمي بقريتنا. وأنا على ثقةٍ من أنكِ لن تكوني الحالةَ الأُولى.»
فُتح الباب في هذه اللحظة، ووقفَت عنده امرأةٌ قصيرة ضئيلة الحجم ذات جسدٍ مستدير الشكل ووجهٍ مبتهج ناضر وكأنه تفَّاحةٌ ناضجة. كانت المرأة ترتدي ملابس ذات لونٍ رمادي داكن مثل راشيل، وكانت قِطعةٌ من القماش الرقيق مَطويةً بعنايةٍ على صَدْرها الصغير المنتفخ.
قالت راشيل بنَبرةٍ دافئة وهي تتحرك نحوها بفرحةٍ كبيرة بينما أَمسكَت بكلتا يدَيها: «روث ستيدمان، كيف حالُكِ يا روث؟»
قالت روث: «بخير!» وهي تخلَع القلَنسُوة الباهتة قليلًا وتنفُض عنها الغبار بمنديلها، فظهر بفِعلِها هذا رأسها الصغير المستدير الذي استقَرَّت عليه القُبَّعَة على طريقة جمعية الأصدقاء الدينية المعروفة باسم «الكويكرز» في شيء من الأناقة، رغم أنها استَخدَمَت يدَيها الصغيرتَين البدينتَين في تعديل مظهرها. كان بعضُ خُصَل شَعرِها المجعَّد أيضًا قد تناثَر عن بقية شعرها هنا وهناك على جانِبَي رأسها، فكان عليها أن تُعيد ترتيبها في مكانها؛ ثم قامت تلك الوافدة الجديدة — التي قد لا يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين — بالاستدارة عن المرآة التي استخدمَتها لتعديل مظهرها وبدَت سعيدة ومسرورة — كما قد يَشعُر كلُّ مَن يَنظُر إليها — ذلك أنها كانت بلا شَكٍّ امرأةً جميلة تشِعُّ منها الحماسة وذات صوتٍ عذب وهي كلها صفاتٌ يَطرَب قلب المرء حين يراها مُجتمعةً في امرأة.
«روث، هذه هي صديقتنا إلايزا هاريس، وهذا هو الصبي، لقد أخبرتُكِ عنهما!»
قالت روث وهي تُسلم على إلايزا وكأنها صديقةٌ عزيزة لها كانت تتُوق لرؤيتها منذ وقتٍ طويل: «أنا مسرورةٌ للقائك يا إلايزا — في غاية السرور. وهذا هو طفلُكِ العزيز — لقد أحضرتُ له كعكة.» ثم قدَّمَت للصبي كعكةً صغيرة على شَكلِ قلب، فأتى الصبي نحوها وحدَّق بها من خلال شَعره المجعَّد المُتناثِر على جبينه ثم قبَّلَها في خَجَل.
قالت راشيل: «أين طفلُكِ يا روث؟»
«أوه، لقد أَحضَرتُه معي، لكن ماري أَخذَته وأنا في طريقي إليكم، وجرَت به نحو الفِناء لتُعرِّفه على الأطفالِ الآخرين.»
في هذه اللحظة فُتح الباب ودخلت ماري ومعها الطفل. كانت ماري فتاة بسيطة متوردة الوجه ولها عينان بنيتان واسعتان كعينَي والدتها.
قالت راشيل بينما نَهضَت وأخذَت الطفل الصغير البدين ذا البشَرة البيضاء في ذراعَيها: «آه! ها هو! يا له من طفلٍ جميل! لقد كَبِر حقًّا!»
قالت روث بنبَرةٍ حماسية: «أجل! أنت مُحقَّة فيما تقولين!» بينما أخذَت منها الصبي وبدأت تخلَع عنه قلَنسُوةٍ حريرية صغيرة زرقاء اللون وعِدَّة طبقات من الملابس الخارجية، وبعد أن خلَعَت عنه ملابسه قبَّلَته قُبلةً حارة ووضَعَته على الأرض ليَستجمِع أفكاره. كان الصبي يبدو معتادًا على مثل هذه الأمور؛ ذلك أنه وضَع إبهامه في فَمِه بينما جلَسَت أمه وأَخرجَت جَوْربًا طويلًا مغزولًا من خيوطٍ زرقاء وبيضاء وبدأَت تُكمل غَزْله في نشاط.
دخل عليهم في تلك اللحظة سايمون هاليداي، وهو رجلٌ طويل القامة مستقيمُ الظهر قوي البنية يرتدي مِعطفًا بلونٍ داكن وبنطالًا وقُبَّعةً عريضة الحواف.
قال الرجل بنَبرة ترحابٍ بينما قدَّم يده العريضة لتُصافِحَه بيدها الصغيرة البدينة: «كيف حالُكِ يا روث؟ وكيف حال جون؟»
قالت روث في نَبرةٍ مَرِحة: «أوه، جون بخير حال وبقيَّتنا كذلك.»
قالت راشيل بينما كانت تضَع البسكويت في الفرن: «هل هناك أيُّ أخبارٍ زوجي العزيز؟»
قال سايمون بينما كان يغسل يدَيه على حَوضٍ نظيف يقَع على شُرفةٍ خلفية صغيرة: «لقد أخبرني بيتر ستيبينز بأنهم قادمون وبصُحبتِهم بعض الأصدقاء.»
قالت راشيل: «حقًّا!» بينما نَظَرت إلى إلايزا وبدَت وكأنها غارقةٌ في التفكير.
قال سايمون لإلايزا بينما دخل عليهم مرةً أخرى: «هل قُلتِ بأن زوجَكِ اسمه هاريس؟»
رمقَت راشيل زَوجَها بنظرةٍ سريعة فيما أجابت إلايزا وهي ترتعش: «أجل.»
قال سايمون وهو يَقِف على الشُّرفة ويُنادي: «راشيل!»
قالت راشيل وهي تَفرُكُ يدَيها الورديتَين بينما خَرجَت نحو الشرفة: «أجل يا زوجي، ماذا تريد؟»
قال سايمون: «والد ذلك الطفل في المُستوطَنة وقريبًا ما سيأتي هنا.»
قالت راشيل بينما أَشرقَ وَجهُها غِبطةً: «لا، أذلك صحيح يا بابا؟»
«هذا صحيح فعلًا، كان بيتر قد ذهب بالأمس بالعربة إلى الناحية الأخرى وهناك وجد امرأة عجوزًا ومعها رجلان؛ وقال أحدهم إن اسمه جورج هاريس؛ ومن قصَّته التي قصَّها، أنا واثق أنه هو. إنه رجلٌ أبيض البشرة مثلهما أيضًا.»
قال سايمون: «أنُخبرها الآن؟»
قالت راشيل: «لنُخبر روث. يا روث، تعالي إلى هنا.»
وضَعَت روث عُدَّة الغزل من يدها، وفي لحظة كانت قد ذَهبَت إلى الشُّرفة الخلفية.
قالت راشيل: «روث، ما رأيُكِ؟ يقول زوجي إن زوج إلايزا في المجموعة الأخيرة، وإنه سيكون هنا في غُضون وقتٍ قصير.»
غَمَرَت البهجةُ المرأةَ الضئيلةَ الحجم العضوة في جمعية الأصدقاء الدينية «كويكرز» فقَطعَت الحديث. كانت قد قَفَزت عن الأرض وصفَّقَت بيدَيها الصغيرتَين حتى وقَعَت تِلكما الخصلتان الضالَّتان من شَعرها من تحت قُبَّعتها وتدلَّتا على الوِشاح الذي تَلُفُّه حول عُنقها.
قالت راشيل بنَبرةٍ لطيفة: «اصمُتي يا عزيزتي! اصمُتي يا روث! أخبرينا، أينبغي أن نُخبرها بهذا الخَبرِ الآن؟»
«الآن! بالطبع — في هذه اللحظة. أخبراها الآن. افتَرِضا أن زوجي جون هو الذي سيأتي، كيف سيكون شعوري؟ أخبِراها توًّا.»
قال سايمون وهو يَنظُر إلى وَجْه روث بعينَين مَسرورتَين: «أنت تُحبِّين الخير للآخرين يا روث كما تُحبينه لنفسك.»
«بالطبع. أليس هذا هو غايةَ وجودنا؟ لو لم أكن أُحبُّ جون والطفل الصغير، لم أكن لأعرف كيف أشعر بما تشعر هي به. هيا الآن، أخبرها، هيا!» ثم وضَعَت يدها على ذراع راشيل وقالت: «خُذيها إلى غرفة نومكِ وأخبريها بذلك هناك، وسأطهو أنا الدجاج في غضون ذلك.»
خرجَت راشيل إلى المطبخ حيث كانت إلايزا تقوم بالحياكة، وفتحت باب غرفةِ نومٍ صغيرةٍ وقالت: «تعالَي معي يا ابنتي؛ لديَّ شيء أقوله لكِ.»
تَورَّد الدم في وجه إلايزا الشاحب؛ وانتصَبَت وهي ترتعد من الخوف والقلق، ونظرت تجاه الصبي.
قالت روث الصغيرة وهي تندفع نحوها وتُمسك بيديها: «لا، لا. لا تخافي أبدًا؛ إنها أخبارٌ سارة يا إلايزا — ادخلي، ادخلي!» ثم دفعَتها برفق نحو الباب الذي أُغلِق خلفها، ثم استدارت وأخذَت هاري الصغير بين ذراعَيها وبدأت تُقبِّله.
ظلَّت تُردِّد: «سوف ترى والدكَ يا صغيري، أتعرِفه؟ والدكَ قادم.» وكان الصبي ينظر إليها مُتعجبًا.
في تلك الأثناء، وخلْف الباب المغلَق، كان هناك مشهدٌ آخر تدور أحداثه. اقتَربَت راشيل هاليداي من إلايزا وقالت: «لقد أنزل الربُّ رحماتِه عليكِ يا ابنتي؛ لقد هَربَ زوجُكِ من منزل العبودية.»
تَورَّد الدم في وَجْنتَي إلايزا، فلَمعَتا فجأة، ثم عاد الدم مرةً أخرى إلى قلبها بسرعةٍ كبيرة. جلَسَت إلايزا ووجها شاحبٌ وقد خارت قوتها.
قالت راشيل وهي تُمسِك بيدَيها: «تشجَّعي يا طفلتي. إنه بين أصدقاءَ لنا وسيَجلِبونه إلى هنا قريبًا.»
ردَّدَت إلايزا قائلة: «قريبًا! قريبًا!» لم تجد الكلمات طريقًا إلى فمها؛ كان عقلها شاردًا ومشوشًا، وسادت غَشاوةٌ أمام عينَيها للحظة.
لكن كان هناك صوتُ أقدامٍ على المَمْشى في الخارج وصوتُ طرقاتٍ خفيفة على الباب؛ وفي لحظاتٍ كانت إلايزا بين ذراعَي زوجها، وكانت دموع فَرحَته تجري على وَجْنتَيه.
وفي صباح اليوم التالي كانوا جميعًا يجلسون على طاولة الإفطار، ورغم أنها كانت المرة الأُولى التي جلس فيها جورج هاريس إلى طاولة رجلٍ أبيض، إلا إنه كان يتصرف بنفس النُّبل واللَّباقة التي يتمتع بها مَن هم حَوْله.
قال سايمون الصغير بينما كان يضَع الزُّبدَ على كعكته: «يا أبي، ماذا لو عرَفوا بأمرك مجددًا؟»
أجابه والده في هدوء: «سأدفع الغرامة.»
«أجل، لكن ماذا لو وضعوك في السجن؟»
قال سايمون وهو يبتسم: «ألن تستطيع أنت ووالدتُكَ أن تُديرا المزرعة؟» فقال الصبي: «يُمكن لأمي أن تقوم بأي شيء، لكن أليس من العار أن تُوضَع مِثلُ هذه القوانين؟ إنني أكره أولئكَ العجائز الذين يحتفظون بالعبيد.»
قال جورج: «آمُل يا سيدي الطيب ألا تكون عُرضةً للخطر بسببنا!»
«صديقي جورج، لقد وُجدنا في هذا العالم لنُساعد بعضنا بعضًا ونكون بعضنا في خدمة بعض، ولسنا نفعل ذلك لكَ وإنما هو في سبيل الرب. والآن ينبغي عليك أن تُحافظ على هدوئكَ اليوم، وفي الساعة العاشرة من مساء الليلة، سيَحمِلكَ فينياس فليتشر وزوجتَك وما معكم من أمتعة إلى المحطة التالية. إنَّ من يُطاردونكم على وَشكِ أن يلحقوا بكم؛ ولا ينبغي علينا أن نتأخر.»