مدينة الزمرد
١
توقَّفت العربة التي تسير دون سائقٍ في ميدان دائري، يتفرَّع منه خمسة شوارع في اتجاهاتٍ مختلفة. وخرج من العربة امرأة سمراء بيضاء الشعر ومرافقها الأوكتوسبايدر تاركَين السيارة خاوية. وبعدما سار الأوكتوسبايدر ومرافقته البشرية ببطء بعيدًا عن الميدان، رحلت العربة بعد أن خبت أنوارها الداخلية.
تقدَّمت نيكول ودكتور بلو يراعة عملاقة، وهما يسترسلان في حديثهما في الظلام شبه الدامس الذي خيَّم على المكان. حرصت نيكول في حديثها على أن تضغط على كل كلمةٍ تقولها، حتى لا يجد صديقها الفضائي أي صعوبة في قراءة شفتَيها. وكان دكتور بلو يُجيبها بعباراتٍ بسيطةٍ يعرف أن نيكول ستفهمها بمساعدة شرائط عريضة من الألوان.
وعندما وصلا إلى أول منزل من المنازل الأربعة البيضاء، التي تتكوَّن من طابق واحد وتقع في نهاية طريق مسدود، رفع الأوكتوسبايدر إحدى لوامسه عن الأرض وصافح نيكول. أجابته بابتسامة شاحبة: «طابت ليلتك. لقد كان يومًا حافلًا … شكرًا لك على كل شيء.»
بعد أن دخل دكتور بلو بيته، سارت نيكول إلى نافورة شرب عامة على هيئة جزيرة في وسط الشارع، وشربت من أحد الصنابير الأربعة التي ينبثق منها تيار متواصل من الماء في مستوى الخصر. سقط بعض الماء الذي لمس وجه نيكول مرة أخرى عائدًا إلى الحوض، مما تسبب في حدوث موجة من النشاط في الحوض الضحل. وبالرغم من الضوء الخافت، فقد استطاعت نيكول أن ترى الكائنات السابحة تندفع جيئة وذهابًا. قالت في نفسها: «ينتشر عمال النظافة في كل مكان، ولا سيما عندما يكون البشر في الجوار. سيجري تطهير الماء الذي لمس وجهي في ثوانٍ.»
ثم استدارت واقتربت من أكبر المنازل الثلاثة المتبقية في الطريق المسدود. وعندما اجتازت عتبة منزلها طارت اليراعة سريعًا عبر الشارع عائدة إلى الميدان. وفي الرواق نقرت نيكول على الحائط برفق مرة واحدة، وخلال ثوانٍ قليلة ظهرت في الممر أمامها يراعة أصغر من السابقة تشع ضوءًا خافتًا. مرت نيكول بأحد حمامَي الأسرة، ثم وقفت أمام باب غرفة بينجي. سمعت صوت غطيطه العالي. ظلَّت نيكول تراقب ابنها النائم دقيقةً كاملة تقريبًا، ثم استأنفت سيرها في الرواق إلى غرفة النوم الرئيسية التي يشاركها فيها زوجها.
كان ريتشارد نائمًا أيضًا. لم يردَّ على تحية نيكول الهادئة. خلعت حذاءها وغادرت الغرفة. وعندما وصلت إلى غرفة المكتب، نقرت على الحائط مرتَين فازدادت الإضاءة. وكانت غرفة المكتب مزدحمة بالقطع الإلكترونية الخاصة بريتشارد، التي طلب من كائنات الأوكتوسبايدر أن تجمعها له على مدار عدة أشهر. ضحكت نيكول في نفسها وهي تشقُّ طريقها عبر الفوضى إلى مكتبها. قالت في نفسها: «دائمًا ما يعمل في أحد ابتكاراته. على الأقل سيكون ابتكار المترجم مفيدًا للغاية.»
جلست نيكول على كرسي مكتبها وفتحت الدرج الأوسط، وأخرجت كمبيوترها المحمول، الذي وفرت له كائنات الأوكتوسبايدر أخيرًا أنظمة طاقة وتخزين فرعية بديلة. وبعد أن اختارت فتح دفتر اليوميات من القائمة، بدأت تكتب على لوحة المفاتيح، وتنظر من حين لآخر إلى الشاشة الصغيرة لتقرأ ما كتبت.
اليوم ٢٢١
وصلتُ إلى المنزل متأخرة. كان الجميع نائمين كما توقعت. أردت أن أخلع ملابسي وأتسلل إلى الفراش بجوار ريتشارد، لكن هذا اليوم كان استثنائيًّا للغاية، حتى إنني شعرت أنني مرغمةٌ على الكتابة، والأفكار والأحاسيس لا تزال حية في ذهني.
تناولتُ طعام الإفطار مع العائلة البشرية بأكملها — كما هو الحال دائمًا — بعد ساعة واحدة تقريبًا من الفجر. وتحدثت ناي عما سيفعله الأطفال في المدرسة قبل أن يغفوا لوقت طويل، وأخبرتنا إيبونين أن الحرقة في معدتها وغثيان الوحم اللذين شعرت بهما سكنا، واشتكى ريتشارد من أن «عباقرة علم الأحياء» (يقصد بالطبع مضيفونا كائنات الأوكتوسبايدر) مهندسو إلكترونيات متوسطو المستوى. حاولت أن أشارك في الحوار، لكن قلقي المتزايد وترقُّبي للاجتماع المقرر عقده هذا الصباح مع أطباء الأوكتوسبايدر ظلَّ يشغل تفكيري.
كان القلق يسيطر عليَّ عندما وصلت إلى غرفة المؤتمرات في المبنى هرمي الشكل بعد الإفطار مباشرة. كان دكتور بلو وأصدقاؤه الأطباء متعجلين، وبدءوا على الفور في مناقشات طويلة، عما توصلوا إليه من الفحوصات التي أجروها على بينجي. لكن فَهْم المصطلحات الطبية أمر صعب في لغة المرء الأصلية، فضلًا عن لغةٍ غريبة؛ كان من المستحيل عليَّ في بعض الأوقات أن أتابع ما يقولون بألوانهم. وكنت أطلب منهم في كثيرٍ من الأحيان أن يُعيدوا ما قالوا.
لم يستغرق التوصل إلى إجابات حاسمة وقتًا طويلًا. توصلت كائنات الأوكتوسبايدر قطعًا إلى موضع الاختلاف بين تسلسل جينات بينجي وتسلسل الجينات البشري العادي. واتفقت أن سلسلة الجينات في الكروموسوم ١٤ بالتحديد هي مصدر الإصابة بمتلازمة ويتينجهام. لكنها اعتذرت عن عدم وجود إمكانية — كاستخدام شيء فسرته بأنه زرع جين — لعلاج هذه المشكلة. قال أطباء الأوكتوسبايدر إن الأمر شديد التعقيد، ويتعلق بالكثير من سلاسل الأحماض الأمينية، وإنهم لا يتمتعون بخبرة كبيرة في علاج البشر، فهناك احتمالات كثيرة جدًّا لأن يحدث شيء سيئ للغاية …
بكيت عندما فهمت ما يخبرونني به. هل كنت أتوقع غير ذلك؟ هل ظننت أنه، بطريقة ما، قد تنجح القدرة الطبية المعجزة التي حررت نيكول من لعنة فيروس «آر في ٤١»، في علاج العيب الذي وُلد به بينجي؟ أدركت في خضم شعوري باليأس أنني كنت آمل فعلًا في أن تحدث معجزة، مع أن عقلي أدرك بوضوح الفرق الشاسع بين العيب الخِلْقي والفيروس المكتسب. بذل دكتور بلو قصارى جهده لمواساتي. لكنني تركت العنان لدموع الأم بداخلي أمام كائنات الأوكتوسبايدر، لعلمي أنني سأحتاج إلى كامل قوتي عندما أعود إلى المنزل لأخبر الآخرين.
عرفت ناي وإيبونين النتيجة فور أن رأتا وجهي. ناي تحب بينجي بشدة ولا تتوقف عن مدح إصراره على التعلم رغم العقبات التي يواجهها. في الواقع بينجي مذهل. فهو يقضي ساعات طويلة في غرفته يجتهد في استذكار دروسه، مجاهدًا لأيام كي يستوعب مفهومًا في الكسور أو الأرقام العشرية، يمكن لطفل موهوب في التاسعة من عمره أن يتعلمها في نصف ساعة. والأسبوع المنصرم امتلأ بينجي فخرًا وهو يريني كيف يمكنه إيجاد المقام المشترك الأصغر لجمع الكسور ١ / ٤ و١ / ٥ و١ / ٦.
في الواقع ناي هي معلمته الأساسية. أما إيبونين فكانت صديقته. لذا أحزنها الأمر أكثر من الآخرين هذا الصباح. فقد كانت واثقة — نظرًا لنجاح الأوكتوسبايدر في علاجها بسرعة كبيرة — أن مشكلة بينجي أيضًا ستحل بمساعدة سحرهم الطبي. لكن هذا لن يحدث. أجهشت إيبونين بالبكاء لوقتٍ طويل هذا الصباح، حتى إنني قلقت على سلامة طفلها. لكنها ربتت على بطنها المنتفخ وطلبت مني ألَّا أقلق. وضحكت وقالت وهي تبكي إن رد فعلها على الأرجح نتيجة النشاط الزائد للهرمونات في جسدها.
أما الرجال الثلاثة فبدا عليهم الضيق، لكنهم لم يفصحوا عن مشاعرهم. فقد غادر باتريك الغرفة بسرعة دون أن يقول أي شيء. وعبر ماكس عن إحباطه بوابل الألفاظ البذيئة. أما ريتشارد فقد عبس وهز رأسه بأسًى.
كنا قد اتفقنا جميعًا قبل أن تبدأ الفحوصات، ألَّا نخبر بينجي شيئًا عن الهدف الحقيقي وراء كل الفحوصات التي أجرَتها عليه كائنات الأوكتوسبايدر. هل يمكن أن يكون قد علم؟ هل يمكن أن يكون حدسه قد أخبره بما يحدث؟ ربما. لكن عندما أخبرته هذا الصباح أن كائنات الأوكتوسبايدر توصلت إلى أنه شابٌّ يتمتع بصحة جيدة، لم أرَ في عينَيه ما يشير إلى أنه يعي ما يحدث. وبعد أن ضممته إلى صدري بقوة، وأنا أحارب فيضانًا آخر من الدموع يهدِّد بتدمير ذلك القناع الذي رسمته على وجهي، عُدت إلى غرفتي وسمحت للأسى الذي أشعر به حيال إعاقة ابني أن يغلبني مرة أخرى.
أنا واثقة أن ريتشارد والدكتور بلو تآمرا عليَّ ليُبقيا ذهني منشغلًا بقية اليوم. فلم يمرَّ على وجودي بغرفتي أكثر من عشرين دقيقة، عندما سمعت طرقات خفيفة على الباب. أخبرني ريتشارد أن دكتور بلو في الردهة، ومعه عالمان آخران من كائنات الأوكتوسبايدر ينتظرونني في غرفة المؤتمرات. هل نسيتُ أنه من المقرر تقديم عرض مفصل لي عن النظام الهضمي في أجساد كائنات الأوكتوسبايدر اليوم؟
كان النقاش مع كائنات الأوكتوسبايدر شائقًا للغاية، حتى إنني تمكنت مؤقتًا من نسيان أن إعاقة ابني أصعب من أن تتعامل معها. أراني زميلي دكتور بلو رسومات تشريحية معقدة لأحشاء الأوكتوسبايدر، موضحة جميع الأعضاء الرئيسية في النظام الهضمي. ورُسم ذلك الرسم على نوعٍ من الورق السميك أو الجلد، ووُضع على طاولةٍ كبيرة. وشرحت لي كائنات الأوكتوسبايدر بلغة الألوان الرائعة — التي تتحدث بها — كل شيءٍ يحدث للطعام داخل أجسادها.
أغرب ما تتسم به عملية الهضم في الأوكتوسبايدر هو وجود الكيسَين الكبيرَين، أو منطقتَي التخزين في نهايتَي النظام. فكل شيءٍ تأكله كائنات الأوكتوسبايدر يذهب مباشرةً إلى كيس امتصاص، حيث يمكنه البقاء حتى ثلاثين يومًا. وجسد الأوكتوسبايدر نفسه هو الذي يحدد تلقائيًّا — بناءً على مستوى نشاط الفرد — معدل استخدام الطعام المخزن في الكيس، وتحليله كيميائيًّا، وتوزيعه على الخلايا من أجل الحصول على الطاقة.
وعلى الجانب الآخر يوجد كيس الفضلات، الذي تفرغ فيه جميع المواد التي لا يستطيع جسد الأوكتوسبايدر تحويلها إلى طاقة مفيدة. وعلمت أن كل كائن أوكتوسبايدر في صحةٍ جيدة لديه حيوان صغير يعيش دائمًا في ذلك الكيس. وشاهدت أحد الكائنات الصغيرة التي تشبه الحيوانات المتعددة الأرجل، التي تبدأ حياتها بيضة متناهية الصغر يضعها سلفها في جسد الأوكتوسبايدر المضيف. ويكون ذلك الحيوان من الحيوانات التي تقتات على كل شيء. ويستهلك تسعة وتسعين بالمائة من الفضلات التي تفرغ في الكيس أثناء الشهرَين — بزمن البشر — اللازمَين لوصوله إلى مرحلة البلوغ. وعند البلوغ يضع بيضتَين جديدتَين، واحدة منهما فقط يتكون بداخلها كائن جديد، يترك للأبد جسد الأوكتوسبايدر الذي كان يعيش بداخله.
ويوجد كيس الامتصاص خلف الفم وأسفله مباشرة. كائنات الأوكتوسبايدر نادرًا ما تأكل، لكنها تلتهم كمياتٍ كبيرةً من الطعام عندما تفعل. ودار بيننا نقاش طويل حول عاداتها في الأكل. وكانت اثنتان من الحقائق التي أخبرني بها دكتور بلو مذهلتَين للغاية؛ أولًا أنه إذا فرغ كيس الامتصاص في جسد أوكتوسبايدر فإنه سيموت على الفور في أقل من دقيقة، وثانيًا أن طفل الأوكتوسبايدر يجب أن يتعلم مراقبة مخزون الطعام في جسده. أمر لا يصدق! إنه لا يعرف بغريزته متى يكون جائعًا! وعندما رأى دكتور بلو الذهول الذي ارتسم على وجهي ضحك، والضحك في لغتهم سلسلة غير منتظمةٍ من شرائط الألوان القصيرة، ثم طمأنني سريعًا أن الموت من الجوع المفاجئ ليس سببًا للكثير من حالات الوفاة بين كائنات الأوكتوسبايدر.
بعد أن غفوت لثلاث ساعات (فلا يزال من الصعب عليَّ إكمال يوم من أيام الأوكتوسبايدر الطويلة دون أن أحظى بقسطٍ من النوم، ولم ينجح في التخلي عن هذه القيلولة سوى ريتشارد)، أخبرني دكتور بلو أنه نظرًا لاهتمامي الشديد بعملية هضم الطعام داخل أجسادها، قررت أن تريني سمتَين غير عاديتَين في نظامها الحيوي.
ركبت مع كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة العربة، مرَّت عبر إحدى البوابتَين خارج المنطقة المخصصة لنا، واجتازت مدينة الزمرد. وظننت للحظةٍ أن هذه الرحلة الميدانية مخطط لها أيضًا؛ للتخفيف من حدة الإحباط الذي أشعر به بشأن بينجي. وذكرني دكتور بلو ونحن في الطريق أن كائنات الأوكتوسبايدر جنس متعدد الأشكال، وأن هناك ستة أشكال مختلفة لكائنات الأوكتوسبايدر البالغة التي تعيش على متن سفينة راما الفضائية. (كان من الصعب عليَّ متابعة ما يقول بتركيز؛ فبعد أن خرجنا من منطقتنا رأيت أنواعًا متعددة من المخلوقات الساحرة إلى جوار العربة وفي الشارع، بما في ذلك العديد من الفصيلة نفسها التي رأيتها في الدقائق القليلة الأولى التي قضيتها في مدينة الزمرد.) وقال لي دكتور بلو بألوانه: «تذكري أن أحد المؤشرات المحتملة لذلك الاختلاف هي الحجم.»
ولم تكن هناك طريقةٌ لإعدادي لما رأيته بعد ذلك بعشرين دقيقة. نزلنا من العربة أمام مستودع كبير. ووجدنا عند كل طرف من أطراف المبنى العديم النوافذ كائنَين هائلَي الحجم من كائنات الأوكتوسبايدر، تبدو عليهما السذاجة يصل قُطر رأس كلٍّ منهما إلى عشرة أمتار على الأقل، وجسداهما يبدوان كمنطادَين صغيرَين، ولوامسهما طويلة ذات لون رمادي قاتم، وليست سوداء وذهبية كالمعتاد. أخبرني الدكتور بلو أن هذا الشكل بالتحديد لديه وظيفة واحدة فقط؛ أن يكون مستودع طعام للمستوطنة.
قال دكتور بلو: «وكل «مخزن طعام» (وفقًا لترجمتي لألوان دكتور بلو) يمكنه تخزين كمية طعامٍ تكفي لملء عدة مئاتٍ من الأكياس التي تكفي حيوان أوكتوسبايدر بالغًا. ونظرًا لأن أكياس الامتصاص داخل أجسادنا تكفي لتخزين طعام يكفي ثلاثين يومًا، أو خمسة وأربعين يومًا في حالة اتباع نظامٍ غذائي يقلِّل من استهلاك الطاقة، فإنكِ بالطبع تدركين ضخامة المخزون الذي يحمله اثنا عشر كائنًا من هذه.»
وبينما كنت أراقب، اقترب خمسة من كائنات الأوكتوسبايدر من أحد إخوانها الضخام وتحدثوا إليه بالألوان. وفي غضون ثوانٍ انحنى الكائن للأمام وخفض رأسه إلى الأرض تقريبًا، ولفظ خليطًا سميكًا من فمه الضخم الواقع مباشرة أسفل عدساته البيضاء. فتجمعت كائنات الأوكتوسبايدر الخمسة العادية الحجم حول الخليط الذي لفظه، وتناولته بلوامسها.
قال دكتور بلو: «إننا نمارس هذه العملية عدة مرات يوميًّا مع كل مخزن طعام منها. فلا بد لهذه الكائنات أن تتدرب لأنها ليست ذكية. وربما لاحظت أن أيًّا منها لا يتحدث بالألوان، فهي لا تتمتع بأي قدرة على التواصل اللغوي، وقدرتها على الحركة محدودة للغاية. فقد صُممت جيناتها بحيث تكون لديها قدرةٌ على تخزين الطعام بكفاءة، والاحتفاظ به لأوقات طويلة، ولفظه لإطعام سكان المستوطنة عند الطلب.»
كنت لا أزال أفكر في الكائنات المخزنة للطعام، عندما وقفت العربة أمام ما علمت أنه مدرسة لكائنات الأوكتوسبايدر. وقلت ونحن نجتاز الفناء إن المبنى الكبير يبدو مهجورًا. فقال أحد الأطباء الآخرين شيئًا عن أن المستعمرة لم يجرِ فيها «ترميمات حديثة»، تبعًا لما فهمته من ألوانه، لكنني لم أتلقَّ تفسيرًا واضحًا عما يعنيه بملاحظته.
وفي أحد أطراف مبنى المدرسة، دخلنا مبنًى صغيرًا لا يوجد به أثاث. وفي الداخل كان هناك فردان بالغان من كائنات الأوكتوسبايدر، وما يقرب من عشرين صغيرًا، يصل حجم أحدهم إلى نصف حجم الأوكتوسبايدر البالغ. واتضح من النشاط الممارس في الفصل تكرار تأدية أحد التدريبات. لكنني لم أستطع متابعة الحوار بين الطلاب والمعلمين؛ نظرًا لأن الصغار يستخدمون كامل أحرف لغتهم، بما في ذلك الألوان فوق البنفسجية وتحت الحمراء، وأيضًا لأن «حديث» الصغار لم يتدفَّق في شرائط منتظمة أنيقة كالتي تعلمت قراءتها.
شرح دكتور بلو أن ما نراه هو «درس قياس» حيث يتدرب الصغار على تقييم صحتهم، بما في ذلك تقدير كمية الطعام الموجودة في أكياس الامتصاص في أجسادهم. وبعد أن أخبرني دكتور بلو أن تعلم «القياس» جزء لا يتجزأ من منهج التعليم المبكر للصغار، وسألته عن سبب عدم انتظام شرائط ألوان الصغار. فأخبرني أن هؤلاء الطلاب صغار للغاية، لم يتجاوزوا مرحلة «اللون الأول»، وبالكاد يستطيعون التعبير عن أفكار واضحة.
وبعد أن عدنا إلى غرفة المؤتمرات، طرحوا عليَّ عددًا من الأسئلة عن أنظمة الجهاز الهضمي البشري. كانت الأسئلة شديدة التعقيد (ناقشنا على سبيل المثال دورة حمض السيتريك المعروفة باسم دورة كريبس خطوة خطوة، وناقشنا نقاطًا أخرى في الكيمياء الحيوية البشرية التي كنت بالكاد أتذكرها)، وذهلت مرة أخرى عندما أدركت أن كائنات الأوكتوسبايدر تعلم عنا أكثر مما نعلم عنها. وكالعادة لم أكن مضطرةً أن أعيد إجابةً مرتَين.
يا له من يوم حافل! بدأ بألم اكتشاف أن كائنات الأوكتوسبايدر لن يكون بإمكانها مساعدة بينجي. وفي وقت لاحق تذكرت مرونة النفس البشرية، عندما أخرجني حافز الرغبة في تعلم المزيد عن كائنات الأوكتوسبايدر من يأسي. وما زال يذهلني مقدار المشاعر التي نمتلكها نحن البشر، وكيف يمكننا أن نتغير ونتكيف سريعًا.
كنت أنا وإيبونين نتحدث الليلة السابقة عن حياتنا هنا في مدينة الزمرد، وكيف أن ظروف المعيشة غير العادية التي نعيشها ستؤثر على سلوك الطفل الذي تحمله. وفي مرحلة ما هزت إيب رأسها وابتسمت. قالت: «أتعلمين ما المدهش في الأمر؟ أننا هنا مجموعة معزولة من البشر تعيش في مكان غريب، داخل سفينة فضاء عملاقة تنطلق في اتجاه غير معلوم … ومع ذلك فإن أيامنا هنا مليئة بالضحك والمرح والحزن والإحباط، بالضبط كما لو كنا على كوكب الأرض.»
قال ماكس: «قد تبدو هذه مثل كعكة الوافل، وملمسها كذلك عندما تضعينها في فمك، لكن طعمها يختلف تمامًا عن طعم كعكة الوافل.»
فقالت إيبونين وهي تضحك: «ضع عليها المزيد من الشربات. ومرر لي الصحن.»
ناول ماكس الكعكة لزوجته بالجهة الأخرى من المائدة. وقال: «تبًّا يا فرنسيتي، في الأسابيع القليلة الماضية كنت تأكلين كل ما تقع عليه عيناك. ولو لم أكن أعرفك جيدًا لظننت أنك وذلك الطفل الذي لم يولد لديكما «أكياس امتصاص»، مثل تلك التي أخبرتنا نيكول عنها.»
قال ريتشارد وهو مشتت الذهن: «ولو وُجدت لثبت أنها ستكون مفيدة. يمكنك ملء معدتك مسبقًا بالطعام، وعدم قطع العمل لأن معدتك امتلأت على آخرها.»
قال كيبلر من الطرف الآخر للمائدة: «هذه الحبوب هي الأفضل. أؤكد لكم أن هرقل كان سيحبها …»
قاطعه ماكس بصوت منخفض وهو ينظر من طرف المائدة إلى الآخر: «بمناسبة الحديث عنه، ما الهدف من وجود هذا الكائن أو هذا الشيء؟ إن ذلك الأوكتوسبايدر اللعين يظهر كل صباح بعد الفجر بساعتَين ويظلُّ معنا. وإذا كان الأطفال يتعلَّمون مع ناي فإنه يجلس في آخر الغرفة …»
صاح جاليليو: «إنه يلعب معنا يا عم ماكس. إن هرقل مسلٍّ جدًّا. وهو يفعل كل ما نطلبه منه … بالأمس تركني أستخدم مؤخرة رأسه ككيس ملاكمة.»
قالت نيكول وهي تتناول الطعام: «طبقًا لما يقوله آرشي فإن هرقل مراقب رسمي. فكائنات الأوكتوسبايدر تشعر بالفضول تجاه كل شيء. إنها تريد معرفة كل شيء عنا، وأبسط تفاصيل حياتنا اليومية العادية.»
أجابها ماكس: «هذا رائع، لكن لدينا مشكلة بسيطة. عندما تذهبون أنت وإيلي وريتشارد لا يفهم أيٌّ من الموجودين هنا ما يقوله هرقل. صحيح أن ناي تعرف بعض العبارات البسيطة لكن لا شيء مما يقول. فبالأمس على سبيل المثال عندما كان الجميع نائمين، تبعني ذلك الهرقل إلى الحمام. أنا لا أعرف شعوركم حيال الأمر، لكنه من الصعب عليَّ قضاء حاجتي على مسمع من إيبونين حتى. ومع وجود كائن فضائي يحملق فيَّ على بعد أمتار قليلة، أُصيبَت عضلتي العاصرة بالشلل.»
سأله باتريك وهو يضحك: «لماذا لم تطلب من هرقل أن يبتعد؟»
أجابه ماكس: «لقد فعلت. لكنه ظل يحملق فيَّ والشريط يدور حول عدساته، وظل يعيد نفس نمط الألوان غير المفهوم تمامًا لي.»
قالت إيلي: «هل تتذكر نمط الألوان. ربما أخبرك بما كان هرقل يقوله.»
أجابها ماكس: «ماذا! بالطبع لا أتذكر. إلى جانب أن الأمر لا يشكِّل فارقًا الآن … فأنا لا أحاول قضاء حاجتي هنا.»
فانفجر التوءمان ضحكًا، في حين قطبت إيبونين جبينها في وجه زوجها. أما بينجي الذي لم يقُل الكثير على الإفطار، فقد استأذن للانصراف.
سألته نيكول: «هل أنت بخير يا عزيزي؟»
أومأ برأسه وترك غرفة الطعام متجهًا إلى غرفة نومه.
سألت ناي بهدوء: «هل يعرف شيئًا؟»
هزت نيكول رأسها بسرعة، والتفتت إلى حفيدتها. سألتها: «هل انتهيت من تناول إفطارك يا نيكي؟»
أجابتها الصغيرة: «نعم يا جدتي.» ثم انصرفت وتبعها كيبلر وجاليليو بعد لحظات.
وفور أن خرج الأطفال قال ماكس: «أظن أن بينجي يعرف أكثر مما نعتقد جميعًا.»
أجابته نيكول برفق: «قد تكون محقًّا. لكن عندما تحدثت إليه أمس لم أجد ما يشير إلى أنه …» ثم بترت عبارتها، والتفتت إلى إيبونين. وقالت: «بالمناسبة، كيف حالك هذا الصباح؟»
أجابتها إيبونين: «بخير حال. كان الطفل نشطًا للغاية قبل الفجر. وظل يركلني بقوة لمدة ساعة تقريبًا، وكنت أراقب قدمه تتحرك في بطني. وحاولت أن أجعل ماكس يتحسس واحدة من ركلاته لكنه لم يتحمل ذلك.»
«لماذا تتحدثين عن ذلك الجنين بصيغة المذكر يا فرنسيتي، في حين أنكِ تعرفين جيدًا أنني أريد فتاة تشبهك …»
قاطعته إيبونين: «لا أصدقك على الإطلاق يا ماكس باكيت. أنت تقول فقط إنك تريد فتاة حتى لا تصاب بالإحباط. فلا شيء سيسعدك أكثر من ولد تربيه ليصبح رفيقك … بالإضافة إلى أن الإشارة بالمذكر هو الأمر المعتاد، عندما يكون نوع الطفل غير معروف أو محدد.»
قال ماكس بعد أن رشف رشفة من المشروب الذي يشبه القهوة: «وهذا يجعلني أطرح سؤالًا آخر على أصدقائنا خبراء كائنات الأوكتوسبايدر.» ثم رمق إيلي بنظرة تبعها بأخرى إلى نيكول. وقال وهو يضحك: «هل تعرف أيٌّ منكما ما هو جنس أصدقائنا الأوكتوسبايدر، على فرض أن لهم جنسًا؟ لم أرَ شيئًا على أجسادها العارية يمكن أن يمنحنا فكرةً عن جنسها …»
هزَّت إيلي رأسها نفيًا. وقالت: «أنا لا أعلم حقًّا يا ماكس. أخبرني آرشي أن جيمي ليس ابنه وليس ابن دكتور بلو أيضًا، على الأقل ليس من الناحية البيولوجية البحتة؟»
قال ماكس: «إذن لا بد أنه متبنًّى. لكن هل آرشي الذكر ودكتور بلو الأنثى؟ أم العكس؟ أم إن جيراننا زوجان مثليان يربيان طفلًا؟»
قال باتريك: «ربما لا يكون لدى كائنات الأوكتوسبايدر ما نطلق نحن عليه جنسًا.»
سأل ماكس: «إذن من أين تأتي كائنات الأوكتوسبايدر الجديدة؟ هي حتمًا لا تخرج من العدم.»
قال ريتشارد: «إن كائنات الأوكتوسبايدر متقدمة جدًّا بيولوجيًّا، فربما يكون لديها نظام تكاثر سيبدو لنا سحرًا.»
قالت نيكول: «سألت دكتور بلو عن عملية التكاثر في جنسه عدة مرات. لكنه قال إنه أمر معقد، لا سيما أنها كائنات متعددة الشكل، ووعد بشرح العملية لي بعد أن أفهم الجوانب الأخرى للطبيعة البيولوجية لأجسادها.»
قال ماكس وابتسامة عريضة تعلو وجهه: «لو كنت كائن أوكتوسبايدر، لتمنيت أن أكون واحدًا من تلك الكائنات الضخمة القذرة التي رأتها نيكول بالأمس. أليس من الرائع أن تكون وظيفتك الوحيدة في الحياة هي الأكل على نحو متواصل، وتخزين الطعام لجميع إخوانك؟ يا لها من حياة! كنت أعرف ابن مزارع يربي الخنازير في آركنسو يشبه ذلك الكائن المخزن. غير أنه كان يحتفظ بكل الطعام لنفسه. لم يشاركه ولو مع الخنازير … أظن أن وزنه كان يقارب ثلاثمائة كيلوجرام عندما مات وهو في الثلاثين من عمره.»
انتهت إيبونين من تناول كعكة الوافل. وقالت وهي تتظاهر بالامتعاض: «إن السخرية من ممتلئي القوام في حضور سيدةٍ حامل تصرفٌ يفتقر إلى الكياسة.»
أجابها ماكس: «تبًّا يا إيب، أنت تعلمين أن لا شيء من هذا الهراء ينطبق علينا هنا. نحن هنا كحيوانات حديقة حيوان مدينة الزمرد، ونحن عالقون بعضنا مع بعض هنا. لا يهتم البشر بشكلهم إلا إذا خشوا مقارنتهم بأحدٍ آخر.»
استأذنت ناي للانصراف. قالت: «لا يزال لديَّ بعض التحضيرات قبل أن أبدأ دروس اليوم. ستبدأ نيكي دروس الحروف الساكنة؛ إذ نجحت في تمارين حفظ الحروف الهجائية.»
قال ماكس: «من شابهت أمها فما ظلمت.» وبعد أن غادر باتريك غرفة الطعام تاركًا ريتشارد وزوجته وماكس وزوجته وإيلي على مائدة الطعام، انحنى ماكس إلى الأمام وعلى وجهه ابتسامةٌ عابثة. وقال: «هل عيناي تكذبان أم إن باتريك يقضي وقتًا أطول مع ناي مما كان يفعل عندما وصلنا هنا؟»
قالت إيلي: «أعتقد أنك محق يا ماكس. لاحظت الشيء نفسه. وأخبرني أنه يشعر بأنه مفيد في مساعدة ناي في التعامل مع بينجي والأطفال. فأنت وإيبونين مستغرقان تمامًا في أموركما وفي التفكير في الطفل القادم، ووقتي موزع بالكامل بين نيكي وكائنات الأوكتوسبايدر، وأمي وأبي مشغولان طوال الوقت …»
قال ماكس: «إنك لا تفهمين ما أعنيه يا سيدتي. إنني أتساءل إن كان هناك زواج آخر وشيك.»
سأله ريتشارد كما لو أن الفكرة ترد على ذهنه للمرة الأولى: «باتريك وناي؟»
قالت نيكول: «نعم يا عزيزي.» ثم ضحكت وقالت: «إن ريتشارد ينتمي إلى طائفة العباقرة التي تتمتع بمهارات قوة الملاحظة في أشياء محددة فقط. فلا يفوته أدق تفاصيل أيٍّ من ابتكاراته مهما كان ضئيلًا. لكن تفوته ملاحظة التغيرات الواضحة التي تطرأ على سلوكيات الأشخاص. أذكر ذات مرة في عدن الجديدة، عندما بدأت كيتي ترتدي فساتين تتسع فيها فتحة العنق …»
سكتت نيكول. فلا يزال من الصعب عليها التحدث عن كيتي دون أن تغلبها مشاعرها.
قالت إيبونين: «لاحظ كيبلر وجاليليو أن باتريك موجود معهم كل يوم. وتقول ناي إن جاليليو بدأ يغار منه.»
سألت نيكول: «وماذا تقول ناي عن اهتمام باتريك؟ هل هي سعيدة بذلك؟»
أجابتها إيبونين: «أنت أدرى بطبيعة ناي. إنها دائمًا لطيفة، وتهتم بالآخرين. أظن أنها قلقة من تأثير أي علاقة ممكنة بينها هي وباتريك على التوءمَين.»
التفتت العيون كلها إلى الزائر الذي ظهر على الباب. وقال ماكس وهو يترك المقعد ويقف: «انظروا من حضر. صباح الخير يا هرقل. يا لها من مفاجأة سارة! كيف يمكننا أن نساعدك هذا الصباح؟»
خطا الأوكتوسبايدر إلى غرفة الطعام والألوان تتدفق حول رأسه. فقالت إيلي: «يقول إنه جاء ليساعد ريتشارد في المترجم الآلي الذي يخترعه. لا سيما فيما يخص الألوان التي تقع خارج نطاق رؤيتنا.»
٢
كانت نيكول تحلم. رأت نفسها ترقص على أنغام موسيقى أفريقية حول نيران مخيم في غابة غير كثيفة بساحل العاج. كان أومه هو الذي يقود الرقصة. كان يلبس الرداء الأخضر الذي ارتداه عندما ذهب لزيارتها في روما، قبل إطلاق سفينة الفضاء نيوتن بأيام قليلة. وكان جميع أصدقائها من البشر الموجودين معها في مدينة الزمرد، بالإضافة إلى معارفهم الأربعة المقربين من كائنات الأوكتوسبايدر، يرقصون في الدائرة حول نيران المخيم. كان كيبلر وجاليليو يتشاجران. وكانت إيلي ونيكي متشابكتَي الأيدي. وكان الأوكتوسبايدر هرقل يرتدي الزي الأفريقي الأرجواني الفاتح. وكان بطن إيبونين بارزًا أمامها وكانت حركتها ثقيلة. سمعت نيكول اسمها يُنادَى من خارج الدائرة. هل هي كيتي؟ وأخذت دقات قلبها تتسارع وهي تجاهد للتعرف على الصوت.
«نيكول. إنني أعاني انقباضات.» قالت إيبونين هذه الجملة وهي تقف إلى جوار فراش نيكول.
فاعتدلت نيكول ونفضت الحلم عن رأسها. وسألتها تلقائيًّا: «ما معدل تكرارها؟»
أجابتها إيبونين: «إنها غير منتظمة. يحدث انقباضان متتاليان يفصلهما خمس دقائق، ثم لا يحدث شيء لمدة نصف ساعة.»
قالت نيكول في نفسها: «إنها على الأرجح انقباضات براكستون هيكس أو المخاض الكاذب. فلا يزال أمامها خمسة أسابيع قبل أن تكتمل فترة حملها.»
قالت نيكول وهي تضع رداءها: «تعالَي واستلقي على الأريكة. أخبريني عندما يأتيكِ الانقباض التالي.»
كان ماكس ينتظر مع إيبونين في غرفة المعيشة، بعد أن انتهت نيكول من غسيل يدَيها. وسألها: «هل ستضع الطفل؟»
قالت نيكول: «في يومٍ ما، لكن ليس الآن على الأرجح.» ثم بدأت تضغط برفقٍ على بطن إيبونين وهي تحاول تحديد مكان الطفل.
وأثناء ذلك كان ماكس يذرع الغرفة جيئة وذهابًا بخطواتٍ سريعة. غمغم: «أنا مستعد الآن لقتل أي شخص لأحصل على سيجارة.»
عندما شعرت إيبونين بانقباضٍ آخر، لاحظت نيكول أن هناك ضغطًا خفيفًا على عنق الرحم غير المتسع. وشعرت بالقلق لأنها لم تكن متيقنةً من موضع الطفل. قالت بعد أن حدث انقباضٌ آخر بعد ست دقائق: «أنا آسفة يا إيب. أظن أن هذه انقباضات المخاض الكاذب. وهي نوع من التمرين لجسدك على الولادة، لكنني قد أكون مخطئة … فلم أتعامل قط مع حالة حمل في هذه المرحلة دون أجهزة مراقبة لتساعدني.»
سألتها إيبونين: «بعض النساء يلدْنَ مبكرًا، أليس كذلك؟»
«بلى. لكنها حالات نادرة. فواحد في المائة فقط تقريبًا من الأمهات اللائي يُرزقْنَ بأطفال للمرة الأولى يضعْنَ قبل أكثر من أربعة أسابيع من ميعاد ولادتهن. وغالبًا ما يكون ذلك بسبب مشكلة ما. أو ربما الوراثة … هل تعرفين إذا كنت أنت أو أيٌّ من أشقائك وُلد مبكرًا؟»
هزَّت إيبونين رأسها نفيًا. وقالت: «لا أعرف أي معلومات قط عن عائلتي الحقيقية.»
قالت نيكول في نفسها: «أكاد أجزم أن تلك انقباضات المخاض الكاذب … ليتني أستطيع التيقُّن …»
طلبت نيكول من إيبونين أن ترتديَ ملابسها وتعود إلى منزلها. وقالت لها: «سجِّلي مواعيد هذه الانقباضات. والمهم حقًّا هو الفترات التي تفصل بينها. فإذا بدأت تحدث بانتظامٍ كل أربع دقائق تقريبًا دون أن يفصل بينها وقت طويل، تعالَي إليَّ مرة أخرى.»
سأل ماكس نيكول همسًا بينما كانت إيبونين ترتدي ملابسها: «هل من المحتمل أن تكون هناك مشكلة؟»
«هذا مستبعد يا ماكس، لكن الاحتمال قائم.»
سألها ماكس: «ما رأيكِ أن نطلب مساعدة أصدقائنا عباقرة علم الأحياء؟ سامحيني لو أن في الأمر إساءة إليك، إنني فقط …»
قالت نيكول: «لقد سبقتك في التفكير في هذا الأمر يا ماكس. وقررت بالفعل أن أستشير دكتور بلو في الصباح.»
•••
كان ماكس بالفعل متوترًا، قبل أن يفتح الدكتور بلو ما أطلق عليه ماكس «وعاء الحشرات». قال للطبيب وهو يضع يدَيه برفقٍ على اللامسة التي تحمل بها الأوكتوسبايدر الوعاء: «انتظر قليلًا يا دكتور. هل تمانع أن تشرح لي ما ستفعله قبل أن تُخرج هذه الكائنات؟»
كانت إيبونين ترقد على الأريكة في غرفة معيشة منزل عائلة باكيت. كانت عارية تغطي أغلب جسدها ملائتَان جاء بهما الأوكتوسبايدر. كانت نيكول ممسكة بيد إيبونين أغلبية الدقائق العديدة التي استغرقتها كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة في إعداد المعمل المتنقل. ثم سارت نيكول لتقف إلى جوار ماكس حتى تترجم له ما يقوله دكتور بلو.
ترجمت نيكول قائلة: «دكتور بلو ليس خبيرًا في هذا المجال. لكنه يقول إن أحد الكائنَين الآخرين سيشرح تفاصيل العملية.»
وبعد حوارٍ قصير بين كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة، تنحَّى دكتور بلو جانبًا وتقدم كائن آخر ليقف في مواجهة نيكول وماكس مباشرة. ثم أخبرها دكتور بلو أن هذا الأوكتوسبايدر — الذي وصفه بأنه «مهندس تصوير» — بدأ حديثًا يتعلم اللهجة المبسطة من لغة الأوكتوسبايدر، التي تستخدم للتواصل مع البشر. وقال لها: «قد يكون من الصعب قليلًا فهمه.»
قالت نيكول بعد عدة ثوانٍ عندما بدأت شرائط الألوان تتدفق حول رأس المهندس: «يطلق على هذه الكائنات الضئيلة في الوعاء … كائنات التصوير رباعية الأطراف، أعتقد أن هذه ستكون ترجمة مقبولة … وعلى أي حالٍ إنها آلات تصوير حية متناهية الصغر ستزحف داخل جسد إيبونين وتلتقط صورًا للطفل. وكل كائنٍ منها لديه إمكانية … عدة ملايين من الصور الفوتوغرافية التي يمكن توزيعها على ما قد يصل إلى خمسمائة واثنتَي عشرة صورة في كل نيليت. بل يمكنها أيضًا عرض صورٍ متحركة إذا أردت.»
ثم تردَّدت والتفتَت إلى ماكس. وقالت: «إنني أبسط كل ما يقول، أتمنى أن يكون هذا مناسبًا لك. إنه يشرح أمورًا فنية للغاية وجميعها بالرياضيات الخاصة بالأوكتوسبايدر. وكان المهندس يشرح في الجزء الأخير كل الطرق المختلفة التي تساعد المستخدم على تحديد الصور، كان ريتشارد سينبهر بهذا الأمر بشدة.»
سأل ماكس: «هلَّا تذكرينني بطول النيليت؟»
أجابته نيكول: «ثمانٍ وعشرون ثانية تقريبًا. أطلق ريتشارد أسماءً على جميع الوحدات الزمنية. فالنيليت أقصر وحدة قياس زمني في زمن الأوكتوسبايدر: وهناك ثمانية نيليتات في كل فينج، وثمانية فينجات في كل وُدِن، وثمانية وُدِنات في كل تيرت، وثمانية تيرتات في يوم الأوكتوسبايدر. وحسب ريتشارد يومها فوجده يساوي اثنتين وثلاثين ساعة وأربع عشرة دقيقة وأكثر من ست ثوانٍ بقليل.»
قال ماكس بهدوء: «أنا سعيد أن هناك مَن يفهم كل هذا.»
عادت نيكول لتواجه مهندس التصوير واستمر الحوار. قالت مترجمة ببطء: «كل واحد من كائنات التصوير الرباعية الأطراف يدخل منطقة الهدف المحددة، ويلتقط الصور ثم يعود إلى معالج الصور، وهو ذلك الصندوق الرمادي هناك على الحائط، حيث «يفرغ» صوره، ويتلقى مكافأته ثم يعود إلى الطابور.»
قال ماكس: «ماذا؟ ما نوع المكافأة؟»
قالت نيكول: «في وقت لاحق يا ماكس.» إذ كانت تجاهد لتفهم عبارة طلبت من الأوكتوسبايدر أن يعيدها. ثم صمتت لعدة ثوانٍ قبل أن تهز رأسها وتلتفت إلى دكتور بلو. وتقول: «أنا آسفة، لكنني لا أزال لا أفهم تلك الجملة الأخيرة.»
تبادل كائنا الأوكتوسبايدر الحديث بسرعة بلغتهما، ثم واجه مهندس التصوير نيكول وعاد ليحدثها. قالت في النهاية: «حسنًا، أعتقد أنني فهمت … ماكس، إن ذلك الصندوق الرمادي نوع من أنواع الأجهزة قابل للبرمجة للتحكم في البيانات، فهو يخزن البيانات في خلايا حية، ويعد المخرجات من كائنات الصور الرباعية للعرض على الحائط، أو في أي مكان نود أن نرى الصور فيه، وفقًا للبروتوكول المختار …»
قاطعها ماكس: «لديَّ فكرة. هذا الأمر برمته يفوق استيعابي … إذا كنت أنت مقتنعة أن تلك الوسيلة لن تؤذي إيب بأي طريقة، فلنبدأ العمل.»
فهم دكتور بلو ما قاله ماكس. وعند أول إشارة من نيكول خرج هو ورفيقاه من منزل عائلة باكيت، وأحضروا ما بدا أنه درج مغطًّى من العربة التي تقف بالخارج. ثم قال دكتور بلو لنيكول: «يوجد في هذه الحاوية مجموعة تتكون من عشرين أو ثلاثين من أصغر الكائنات من فصيلتنا، شكل آخر وظيفته الأساسية هي التواصل مباشرة مع الكائنات الرباعية، والكائنات المتناهية الصغر الأخرى التي تجعل النظام يعمل. في الواقع إنها ستدير العملية.»
فُتح الدرج وبدأت كائنات الأوكتوسبايدر الصغيرة التي يبلغ طولها بضعة سنتيمترات تندفع إلى وسط الغرفة. قال ماكس متلعثمًا من فرط حماسته: «تبًّا، هذه هي … هذه هي الكائنات التي رأيتها أنا وإيبونين في المتاهة الزرقاء في المخبأ على الجانب الآخر من البحر الأسطواني.»
وشرح دكتور بلو: «هذه الكائنات القزمة تتلقى منا التعليمات، ثم تنظم العملية بالكامل. وهي التي ستبرمج الصندوق الرمادي. والآن كل ما نحتاج إليه للبدء هو أن تحددا نوع الصور والمكان الذي تريدان رؤيتها فيه.»
•••
أظهرت الصورة الكبيرة الملونة على حائط غرفة معيشة آل باكيت، صورة جنين ذكر جميل مكتمل النمو، يملأ تقريبًا رحم والدته بالكامل. فظل ماكس وإيبونين يحتفلان لمدة ساعة منذ أن ميزا أن طفلهما الذي لم يولد ذكر. وفي وقتٍ لاحقٍ من فترة بعد الظهيرة وبعد أن تعلمت نيكول كيفية تحديد ما تريد أن تراه، تحسَّنت كفاءة الصور بصورةٍ ملحوظة. وأصبحت الصورة على الحائط بضعف الحجم البشري العادي واضحة للغاية.
سألت إيبونين: «هل يمكنني أن أراه وهو يركل مرة أخرى؟»
قال مهندس التصوير شيئًا للقزم القائد، وفي أقل من نيليت أعيد بث الجزء الخاص بطفل آل باكيت وهو يركل لأعلى في بطن والدته.
هتف ماكس: «انظروا إلى قوة ساقَيه!» كان قد بدأ توتره يخف. وبعد أن تغلب على الصدمة التي أصابته عند رؤية الصورة المبدئية، أصابه القلق إزاء كل الأشياء التي تحيط بابنه في الرحم. لكن نيكول هدأت الأب الجديد بأن أخبرته أن هذه الأشياء هي الحبل السري والمشيمة، وطمأنته أن كل شيء طبيعي.
سألت إيبونين بعد انتهاء إعادة العرض: «هل هذا يعني أنني لن أضع طفلي قريبًا؟»
أجابتها نيكول: «لا. أظن أن أمامك خمسة أو ستة أسابيع. فغالبًا ما يصل الطفل البكر متأخرًا قليلًا. ومن المحتمل أن تشعري بهذه الانقباضات المتقطعة منذ الآن وحتى وقت الولادة، لكن لا تقلقي حيالها.»
شكرت نيكول دكتور بلو بشدة، وكذلك فعل ماكس وإيبونين. ثم جمعت كائنات الأوكتوسبايدر كل الأدوات البيولوجية وغير البيولوجية المكونة لمعملها المتنقل. وعندما رحلت الأوكتوسبايدر اجتازت نيكول الغرفة وأمسكت بيد إيبونين. وسألت صديقتها: «هل أنت سعيدة؟»
أجابتها إيبونين: «بالطبع. ومطمئنة أيضًا. ظننت أن شيئًا ما ليس على ما يرام؟»
قالت نيكول: «كلا. كان إنذارًا كاذبًا فحسب.»
واتجه ماكس إليهما وضم إيبونين إلى صدره. كان وجهه يشع سعادة. تراجعت نيكول قليلًا، وراقبت المشهد الرقيق بين صديقيها. قالت في نفسها: «لا يتحاب الزوجان بقدر ما يتحابان قبل ولادة طفلهما الأول.»
همَّت نيكول بمغادرة المنزل. فقال ماكس: «انتظري دقيقة. ألا تريدين معرفة الاسم الذي سنطلقه عليه؟»
أجابته نيكول: «بالطبع.»
فقال ماكس بفخر: «ماريوس كلايد باكيت.»
وأضافت إيبونين: «ماريوس كان فتى أحلام إيبونين المتشردة في مسرحية «البؤساء»، وكنت أشتاق لأن يكون في حياتي ماريوس طوال ليالي الوحدة الطويلة التي قضيتها في دار الأيتام. وكلايد على اسم شقيق ماكس في آركنسو.»
قالت نيكول مبتسمة وهي تستدير لمغادرة المنزل: «إنه اسم رائع.» ثم كررت: «اسم رائع.»
•••
لم يتمكن ريتشارد من إخفاء سعادته، عندما عاد إلى المنزل في وقت متأخر بعد ظهر ذلك اليوم. وقال لنيكول بأعلى صوت ممكن: «قضيت لتوي ساعتَين في غاية الروعة في غرفة المؤتمرات مع آرشي وكائنات الأوكتوسبايدر الأخرى. أرتني الجهاز بالكامل الذي استخدمَته معكِ ومع إيبونين في وقتٍ مبكر اليوم. إنه مذهل، يا له من نبوغ لا يصدقه عقل! لا إنها عبقرية، هذا هو المصطلح الأفضل، أخبرتك بذلك منذ البداية، إن كائنات الأوكتوسبايدر عباقرة في علم الأحياء.
هل تتخيلين … لديها كائنات حية هي في الواقع آلات تصوير، ومجموعة أخرى من الحشرات الميكروسكوبية التي تقرأ الصور وتخزن كل بيكسل بدقة، ونظام تحكم جيني خاص يتحكم في العملية، وكمية محدودة من الإلكترونيات — عند الضرورة — لتنفيذ مهام التحكم في البيانات البسيطة … كم استغرقها من آلاف السنوات لتفعل كل هذا؟ ومن صممه منذ البداية؟ إنه لأمر يدهش العقول!»
ابتسمت نيكول لزوجها وقالت: «هل رأيت ماريوس؟ ما رأيك؟»
استمر ريتشارد في الصراخ قائلًا: «رأيت كل الصور التي التُقطت بعد ظهر اليوم. هل تعرفين كيف تتواصل كائنات الأوكتوسبايدر القزمة مع كائنات الصور الرباعية؟ إنها تستخدم نطاق أطوال موجية خاصًّا يقع في أقصى طرف الألوان فوق البنفسجية في سلسلة الألوان. هذا صحيح. وأخبرني آرشي أن هذه الحشرات الصغيرة وكائنات الأوكتوسبايدر القزمة لديها في الواقع لغة مشتركة. وهذا ليس كل شيء. فبعض كائنات الأوكتوسبايدر القزمة تعرف نحو ثماني لغات مختلفة من لغات الأجناس الميكروسكوبية. آرشي نفسه يستطيع التواصل مع أربعين جنسًا آخر، خمسة عشر منها باستخدام ألوان كائنات الأوكتوسبايدر الأساسية، والباقي باستخدام مجموعةٍ من اللغات تتضمن الإشارات والمواد الكيميائية، وأجزاء أخرى من سلسلة الألوان الكهرومغناطيسية.»
وقف ريتشارد صامتًا لدقيقة في وسط الغرفة. ثم قال: «هذا أمر لا يصدق يا نيكول، فعلًا لا يصدق.»
وكان على وشك أن يبدأ حديثه الذاتي مرة أخرى، عندما سألته نيكول عن طريقة تواصل كائنات الأوكتوسبايدر العادية مع الكائنات القزمة. قالت: «لم أرَ قط أي أنماط ألوان على رءوس الكائنات القزمة اليوم؟»
أجابها ريتشارد وهو يعود ليقطع الغرفة بخطوات سريعة مرة أخرى: «يدور الحوار بالكامل بينها بالألوان فوق البنفسجية.» وفجأة استدار وأشار إلى منتصف جبهته. وقال: «نيكول، إن تلك العدسة في منتصف الشق لديها تلسكوب حقيقي، قادر على تلقي المعلومات بأي طول موجي. إنه أمر مذهل. تمكنت الأوكتوسبايدر بطريقة ما من تنظيم جميع أشكال الحياة هذه في نظام تكافلي كبير، يفوق تعقيده أي شيء يمكننا استيعابه على الإطلاق …»
جلس على الأريكة بجوار نيكول. وقال وهو يُريها ذراعَيه: «انظري، لم يَزُل أثر القشعريرة بعد. إن هذه الكائنات تبهرني … من الجيد أنها ليسَت عدائية.»
نظرَت نيكول إلى زوجها وهي تقطب جبينها. وقالت: «لمَ تقول هذا؟»
«بإمكانهم حشد جيشٍ من مليارات أو تريليونات الجنود. أراهنك أن بإمكانها أن تتحدث إلى نباتاتها! رأيت بنفسك كيف أخافت ذلك الشيء في الغابة بسرعة … تخيلي ما سيكون عليه الوضع لو كان عدوك يستطيع التحكم في البكتيريا والفيروسات ويجعلها تطيعه. يا لها من فكرة مخيفة!»
ضحكت نيكول وقالت: «ألا تظن أن ذهنك ابتعد كثيرًا؟ فكونها صممت جينيًّا مجموعة من آلات التصوير الحية لا يعني بالضرورة …»
فقال ريتشارد وهو يهب واقفًا من جلسته على الأريكة: «أعلم. لكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من التفكير في التطور المنطقي لما رأيناه اليوم … نيكول، اعترف لي آرشي أن الغرض الوحيد من تلك الكائنات القزمة هو التعامل مع عالم الكائنات المتناهية الصغر. فتلك الأقزام قادرة على رؤية أشياء في صغر الميكرومتر، أي واحد على ألف من الملِّيمتر … والآن طبقي هذه الفكرة على مقادير أسية عديدة. تخيلي أن فصيلة تتضمن أشكالها أربع أو خمس علاقات مشابهة للعلاقة بين كائن الأوكتوسبايدر العادي والقزم. حينها لن يكون التواصل مع البكتيريا أمرًا مستحيلًا.»
قالت نيكول في هذه اللحظة: «ريتشارد، أليس لديك ما تقوله حول أن ماكس وإيبونين سيرزقان بولد؟ وأن ابنهما يبدو صحيحًا معافًى؟»
وقف ريتشارد صامتًا لثوانٍ قليلة. ثم قال بخجل: «إنه أمر رائع. أظن أنني يجب أن أزورهما في المنزل المجاور وأهنئهما.»
قالت نيكول وهي تلقي نظرة على واحدة من الساعات الخاصة التي صنعها ريتشارد لهما: «يمكنك على الأرجح أن تنتظر حتى بعد العشاء.» كانت الساعة تعلن التوقيت الزمني للبشر في إطار زمن الأوكتوسبايدر.
أردفت: «إن باتريك وإيلي ونيكي وبينجي لدى ماكس وإيبونين منذ ساعة، بعد أن مر بهما دكتور بلو ومعه بعض الصور المطبوعة للصغير ماريوس في الرحم.» ثم ابتسمت. وقالت: «وكما يمكن أن تقول أنت: سيعودون إلى المنزل في غضون فينج.»
٣
انتهت نيكول من تنظيف أسنانها، ثم حدقت في صورتها التي تنعكس في المرآة. وقالت في نفسها: «إن جاليليو على حق. أنا امرأة عجوز.»
وبدأت تلمس وجهها بأصابعها، وتدلك بصورة نظامية التجاعيد التي انتشرت في كل مكان. وسمعت صوت بينجي والتوءمين وهم يلعبون في الخارج، ثم نادى عليهم باتريك وناي للدخول إلى المدرسة. وقالت في نفسها: «لم أولد عجوزًا. بل مر عليَّ وقت كنت أذهب فيه أنا أيضًا إلى المدرسة.»
وأغلقت نيكول عينيها وهي تحاول أن تتذكر شكلها عندما كانت فتاة صغيرة. لكنها لم تستطِع أن تستحضر صورة واضحة لنفسها وهي طفلة. بل تداخلت صور كثيرة من السنوات التي تخللت المرحلتين، وشوشت الصورة التي تحتفظ بها نيكول في ذاكرتها لنفسها وهي فتاة صغيرة تذهب إلى المدرسة.
وفي النهاية عادت لتفتح عينيها وتحدِّق إلى الصورة في المرآة. ورسمت في عقلها صورةً لنفسها بعد التخلص من كل التجاعيد والانتفاخات بوجهها. وغيرت لون شعرها وحاجبيها من اللون الأبيض إلى الأسود الداكن. وفي النهاية رأت نفسها فتاة جميلة في الحادية والعشرين من عمرها. فشعرت لوقت قصير بشوق شديد لأيام الشباب. وقالت في نفسها متذكرة: «كنا صغارًا، وكنا نعتقد أننا لن نموت قط.»
أطل ريتشارد برأسه من ركن الحمام. وقال: «سأعمل أنا وإيلي مع هرقل في غرفة المكتب. لم لا تنضمين إلينا؟»
أجابته نيكول: «أمهلني بضع دقائق.» وبينما كانت تضفي بعض اللمسات على شعرها، فكَّرت في نمط الحياة اليومية للبشر في مدينة الزمرد. في الصباح يجتمعون عادةً جميعًا لتناول طعام الإفطار في غرفة طعام منزل عائلة ويكفيلد. ثم تنتهي مدرسة الصغار قبل الغداء. ثم ينام الجميع القيلولة فيما عدا ريتشارد، وهي الطريقة التي يتكيفون بها مع يوم كائنات الأوكتوسبايدر الذي يزيد عن يوم البشر بثماني ساعات. وبعد الظهيرة في معظم الأيام، يكون ريتشارد ونيكول وإيلي مع كائنات الأوكتوسبايدر، يتعلمون المزيد عنها أو يشاركونها خبراتهم عن كوكب الأرض. أما الأربعة الكبار الباقون فيقضون الوقت كله تقريبًا مع بينجي والأطفال في الجزء الخاص بهم في نهاية الطريق المسدود.
ثم وجدت نيكول نفسها فجأة تتساءل: «وإلى أين يأخذنا كل هذا؟ كم عامًا سنكون ضيوفًا على كائنات الأوكتوسبايدر؟ وماذا سيحدث عندما تصل راما إلى وجهتها؟»
جميعها أسئلة لا تعرف لها نيكول إجابة. حتى ريتشارد بدا أنه توقف عن القلق إزاء ما يحدث خارج مدينة الزمرد. إنه مستغرق بكيانه بالكامل مع كائنات الأوكتوسبايدر ومشروع الترجمة الخاص به. وطلب من آرشي أن يمده ببيانات ملاحة فضائية كل شهرين تقريبًا. وفي كل مرة كان ريتشارد يبلغ الآخرين — دون أي مقدمات — أن راما لا تزال تتجه نحو نجم تاو سيتي.
فكرت نيكول في نفسها: «نحن — مثل الصغير ماريوس — قانعون بحياتنا في هذا الرحم الذي نعيش فيه. وما دام العالم الخارجي لا يفرض نفسه علينا فإننا لا نطرح الأسئلة المربكة.»
تركت نيكول الحمام وسارت في الرواق إلى غرفة المكتب. وجدت ريتشارد يجلس على الأرض بين هرقل وإيلي. كان يقول: «إن الجزء السهل من العملية هو تتبع نمط الألوان وتخزين الترتيب في جهاز المعالجة. أما الجزء الصعب في عملية الترجمة، فهو تحويل ذلك النمط تلقائيًّا إلى جملة مفهومة.»
التفت ريتشارد إلى هرقل ببطءٍ شديد. وقال له: «نظرًا لأن لغتكم رياضية بحتة، وكل لون فيها له نطاق أنجستروم مقبول سابق التحديد، فإن كل ما سيفعله جهاز الاستقبال هو التعرف على تدفق الألوان وعرض الشرائط. ومن ثم نكون قد حصلنا على جميع مكونات المعلومة. ونظرًا لأن القواعد شديدة الدقة، فلن يكون من الصعب صياغة لوغاريتم بسيط للحماية من الخطأ، لاستخدامه مع كائنات الأوكتوسبايدر الصغيرة السن أو التي تتحدث بعدم اكتراث، في حالة حدوث خطأ في أي لون إلى يمين أو إلى يسار سلسلة الألوان.»
«لكن تحويل ألوان كائنات الأوكتوسبايدر إلى كلمات عملية معقدة جدًّا. إن قاموس الترجمة مباشر بصورة كافية. ويمكن بسهولة ترجمة كلمة بكلمة التوضيح المناسبة لها. لكن من المستحيل تقريبًا القيام بالخطوة التالية — ألا وهي تحويلها إلى جمل — بدون تدخل من العنصر البشري.»
علقت إيلي على حديث والدها قائلة: «يرجع هذا إلى أن لغة الأوكتوسبايدر مختلفة في الأساس عن لغتنا. فكل شيء فيها محدد كمًّا وكيفًا لتقليل احتمالات سوء الفهم. لا يوجد فيها مجال للاستنتاج أو اللبس بسبب اختلاف بسيط. انظر كيف يستخدمون الضمائر «نحن» و«هم» و«أنت». فالضمائر دائمًا مميزة بألوان توضيح رقمية، ذات نطاقات مختلفة إذا كان هناك شك. فلن تجد كائن أوكتوسبايدر يقول «بضعة وُدنات» أو «عدة نيليتات»، بل دائمًا ما يستخدم رقمًا، أو نطاقًا رقميًّا لتحديد طول المدة بصورة أدق.»
قال هرقل بألوانه: «من وجهة نظرنا هناك أمران في لغة البشر في غاية الصعوبة. الأول: هو غياب التحديدات الدقيقة، مما يؤدي إلى وجود كم هائل من المفردات. والآخر: هو استخدامكم للأساليب غير المباشرة في التواصل … فلا أزال أجد صعوبة في فهم ماكس لأنه في معظم الوقت لا يعني ما يقوله حرفيًّا.»
وفي تلك اللحظة قالت نيكول لريتشارد: «لا أدري كيف يمكن عمل ذلك على كمبيوترك، لكن بطريقة ما يجب أن تعكس الترجمة جميع المعلومات التي تحدد الكم في كل عبارة من عبارات الأوكتوسبايدر. فتقريبًا كل فعل أو صفة تستخدمها يرتبط بها موضح رقمي. على سبيل المثال كيف ترجمت إيلي عبارة «في غاية الصعوبة» و«كم هائل من المفردات»؟ ما قاله هرقل بلغة الأوكتوسبايدر هو كلمة «صعب» وذكر معها العدد خمسة لتوضيحها وقال «مفردات كثيرة» مع الرقم ستة كتوضيح للفظة «كثيرة». الغرض من جميع الألوان التوضيحية لصفات المقارنة هو توضيح مدى قوة الصفة. ونظرًا لأن نظام الأوكتوسبايدر الرقمي الأساسي ثُماني، فإن نطاق صفات المقارنة يقع بين رقمَي واحد وسبعة. لو أن هرقل استخدم الرقم سبعة لتوضيح كلمة صعب، لكانت إيلي ستترجمها «صعبة بدرجة مستحيلة». أما إذا استخدم الرقم اثنين للتوضيح في العبارة نفسها، فربما تترجمها «صعبة بصورة طفيفة».
فقال ريتشارد وهو شارد الذهن يعبث بجهاز معالجة صغير: «الأخطاء في مدى قوة الصفات — مع أهميتها — لن تؤدي على الإطلاق إلى سوء فهم. لكن الفشل في ترجمة موضحات الفعل بصورة صحيحة موضوع آخر … كما استنتجت مؤخرًا من الاختبارات المبدئية. فلنأخذ على سبيل المثال الفعل البسيط «يذهب» في لغة الأوكتوسبايدر، وهو يعني كما تعرفون أن يتحرك دون مساعدة، ودون وسيلة نقل. فالشريط الأحمر القاني الأرجواني الأصفر الليموني الذي يتساوى فيه عرض كل لون يعبر عن عشرات الأفعال في اللغة الإنجليزية، بدءًا من الأفعال التي تعني «يسير» إلى «يتجول» و«يتهادى» و«يجري» و«يعدو بسرعة».»
قالت إيلي: «هذه هي النقطة التي كنت أتحدث عنها لتوي. لا توجد ترجمة دون تفسير كامل لجميع ألوان التوضيح. ولهذا الفعل بالتحديد تستخدم الأوكتوسبايدر اثنين من ألوان التوضيح لتحديد السرعة. فإن لديها ثلاثًا وستين سرعة مختلفة لتوضيح سرعة الفعل «يذهب» … ولتعقيد الأمور أكثر فإنها قد تستخدم لونًا توضيحيًّا للنطاق أيضًا؛ ومن ثم قد تحمل عبارة «هيا بنا نذهب» أكثر من ترجمة.»
فقطب ريتشارد جبينه وهز رأسه.
سألته إيلي: «ما الأمر يا أبي؟»
أجابها: «إنني محبط. إذ كنت آمل أن أنتهي من نسخة مبسطة من المترجم بحلول هذا الوقت. لكنني افترضت أن فحوى ما يقال يمكن تحديده دون الانتباه لجميع ألوان التوضيح. أما إضافة جميع شرائط الألوان القصيرة، فسيزيد من مساحة الذاكرة المطلوبة ويبطئ من عملية الترجمة كثيرًا. قد لا أتمكَّن أبدًا من تصميم مترجم فوري.»
سأله هرقل: «وما المشكلة في هذا؟ لماذا تهتم لهذه الدرجة بهذا المترجم؟ إن إيلي ونيكول تفهمان لغتنا جيدًا.»
قالت نيكول: «ليس تمامًا. إيلي هي الوحيدة بيننا التي تتقن لغتكم. أما أنا فلا أزال أتعلم الجديد كل يوم.»
أجاب ريتشارد على هرقل قائلًا: «مع أنني بدأت هذا المشروع في الأصل تحديًا ووسيلة لإجبار نفسي على الاعتياد على لغتكم، فقد تحدثت أنا ونيكول الأسبوع الماضي عن أهمية وجود المترجم. فهي تقول — وأنا أوافقها على هذا — إن جماعتنا التي تعيش هنا في مدينة الزمرد تنقسم إلى مجموعتَين. إيلي ونيكول وأنا من ناحية، وقد جعلنا حياتنا أكثر إثارة بسبب زيادة الاحتكاك والتواصل مع جنسكم. أما الباقون ومن ضمنهم الأطفال فلا يزالون منعزلين تقريبًا. وفي النهاية إذا لم يجد الآخرون وسيلةً للتواصل معكم، فإنهم سيصبحون غير راضين وتعساء أو كلَيهما. والمترجم الآلي الجيد هو المفتاح الذي سيفتح آفاقًا جديدة لحياتهم هنا.»
•••
كانت الخريطة مجعدة وممزقة في بضعة أماكن. فساعد باتريك ناي على فردها ببطء، وتثبيتها على حائط غرفة الطعام في منزلها التي تضاعف حجمها لتصبح فصلًا للأطفال.
سألت ناي: «نيكي، هل تتذكرين ما هذه؟»
أجابتها الطفلة الصغيرة: «بالطبع يا سيدة ناي. إنها خريطتنا لكوكب الأرض.»
«بينجي، هل يمكنك أن ترينا أين وُلد والداك وأجدادك؟»
تمتم جاليليو لكيبلر بصوت مسموع: «ليس مجددًا. لن يجيب الإجابة الصحيحة أبدًا. إنه شديد الغباء.»
فجاءه الجواب حادًّا: «جاليليو واتانابي، اذهب إلى غرفتك واجلس على فراشك لمدة خمس عشرة دقيقة.»
قال بينجي وهو يتجه نحو الخريطة: «لا بأس يا ناي. اعتدت الأمر.»
وقف جاليليو — الذي يبلغ سبع سنوات بأعمار أهل الأرض — بجوار الباب ليرى إذا كان عقابه سيُخفف. لكن والدته وبخته قائلة: «ماذا تنتظر؟ أمرتك أن تذهب إلى غرفتك.»
وقف بينجي بهدوء أمام الخريطة لما يقارب عشرين ثانية. وقال في النهاية: «وُلدت أمي هنا في فرنسا.» ثم تراجع مبتعدًا عن الخريطة لوقت قصير، وأشار إلى الولايات المتحدة على الجانب المقابل من المحيط الأطلنطي. ثم قال: «وأبي وُلد هنا في بوسطن في أمريكا.»
همَّ بينجي بالعودة إلى مكانه. لكن ناي حثَّته على الاستمرار قائلة: «ماذا عن أجدادك؟ أين وُلدوا؟»
قال بينجي ببطء: «إن والدة أمي — أي جدتي — وُلدت في أفريقيا.» وحدَّق في الخريطة لعدة ثوانٍ ثم قال: «لكنني لا أتذكر مكانها على الخريطة.»
قالت نيكي الصغيرة على الفور: «أنا أعرف يا سيدة ناي. هل أخبر بينجي؟»
استدار بينجي، ونظر إلى الفتاة الجميلة ذات الشعر الأسود الحالك. وارتسمَت على محياه ابتسامة. ثم قال: «يمكنكِ أن تخبريني يا نيكي.»
نهضت الطفلة من مقعدها واجتازت الغرفة. ووضعَت إصبعها على غرب أفريقيا. وقالت بفخر: «إن والدة جدتي وُلدت هنا في هذا البلد الأخضر الذي يُطلَق عليه اسم ساحل العاج.»
قالت ناي: «أحسنت يا نيكي.»
قال بينجي: «أنا آسف يا ناي. كنت أستذكر دروس الكسور بجدٍّ ولم يتوفر لديَّ وقت لمذاكرة الجغرافيا.» وتبعت عيناه ابنة أخته ذات السنوات الثلاث وهي تعود إلى مقعدها. وعندما استدار ليواجه ناي مرة أخرى، كانت وجنتاه مبللتَين بالدموع. قال: «ناي، لا أشعر برغبةٍ في الدراسة اليوم … أظن أنني سأعود إلى منزلي.»
قالت ناي برفق: «حسنًا يا بينجي.» اتجه بينجي إلى الباب. همَّ باتريك بالذهاب إليه، لكن ناي أشارَت له بألَّا يفعل.
خيَّم هدوء غير مريح على غرفة الدراسة لمدة دقيقة تقريبًا. ثم سأل كيبلر في النهاية: «هل حان دوري؟»
أومأت إليه ناي برأسها. فاتجه الصبي إلى الخريطة. وقال: «وُلدت أمي هنا في تايلاند في مدينة لامفون. وهنا أيضًا وُلد والدها. أما جدتي لأمي فوُلدت أيضًا في تايلاند، لكن في مدينة أخرى اسمها شيانج ساين. ها هي بجوار الحدود الصينية.» ثم أخذ كيبلر خطوةً واحدةً إلى الشرق، وأشار إلى اليابان.
قال: «وُلد والدي كينجي واتانابي وأبواه في مدينة كيوتو اليابانية.»
ثم ابتعد الصبي عن الخريطة، وبدا كأنه يجاهد لقول شيء. فسألته ناي: «ما الأمر يا كيبلر؟»
قال الصبي الصغير بعد صمت آلمه: «أمي، هل كان أبي رجلًا سيئًا؟»
قالت ناي مصعوقة: «ماذا؟» ثم انحنت لتصل إلى مستوى ابنها ونظرت في عينيه مباشرة. وقالت: «كان أبوك إنسانًا رائعًا … كان ذكيًّا وحساسًا ومحبًّا وخفيف الظل؛ شخصًا لا يجود الزمان بمثله. إنه …»
اضطرت ناي أن تسكت. إذ شعرت أن مشاعرها على وشك الانفجار. فوقفت وحدقت في السقف للحظة، ثم استعادت رباطة جأشها. ثم قالت: «كيبلر، لماذا تسأل هذا السؤال؟ كنت تحب أباك حبًّا جمًّا. كيف أمكنك …»
«أخبرنا العم ماكس أن السيد ناكامورا من اليابان. ونحن نعرف أنه رجل سيئ. وجاليليو قال إنه نظرًا لأن أبي جاء من المكان نفسه …»
لكن قاطعته صرخة ناي الهادرة التي أخافت الأطفال: «جاليليو. تعال إلى هنا فورًا.»
فجاء الطفل يركض إلى الغرفة، ونظر إلى أمه نظرة حائرة.
«ماذا قلت لشقيقك عن والدك؟»
قال جاليليو محاولًا أن يبدو بريئًا: «ماذا تقصدين؟»
«أخبرتني أن أبي قد يكون رجلًا سيئًا لأنه جاء من اليابان مثل السيد ناكامورا …»
«حسنًا، أنا لا أتذكر أبي جيدًا. وكل ما قلته هو أنه من المحتمل …»
احتاجت ناي كل ما تتمتع به من قدرة على التحكم في النفس كي تمنع نفسها من صفع جاليليو. فأمسكت بالصبي من كتفَيه. وقالت: «أيها الصبي، إذا سمعتك تقول كلمة واحدة ضد والدك مرة أخرى …»
ولم تستطع إنهاء جملتها. لم تعرف بمَ تهدِّده أو ماذا تقول بعد ذلك. وشعرت فجأةً أن كل ما مرَّت به في حياتها يجتاح كيانها بقوة.
وفي النهاية قالت لولدَيها: «اجلسا من فضلكما، واستمعا إليَّ جيدًا.» ثم أخذت نفسًا عميقًا، وقالت وهي تُشير بيدها: «هذه الخريطة على الحائط توضح جميع البلدان على كوكب الأرض. وفي كل أمةٍ يوجد جميع أنواع البشر، بعضهم سيئ، وبعضهم طيب، وأغلبهم مزيجٌ معقدٌ من الطيبة والشر. فلا يوجد في بلدٍ واحد طيبون فقط أو أشرار فقط. نشأ والدكما في اليابان. وكذلك السيد ناكامورا. وأنا أتفق مع العم ماكس أن السيد ناكامورا رجل شرير جدًّا. لكن كونه شريرًا ليس له علاقة بأنه ياباني. أما والدكما السيد كينجي واتانابي الذي كان يابانيًّا بدوره، فكان من أفضل الرجال. ويؤسفني حقًّا أنكما لا تتذكرانه، ولم تعرفاه على حقيقته …»
سكتت ناي لدقيقة. ثم قالت بصوت أرق وكأنما تحدِّث نفسها: «لن أنسى والدكما أبدًا. لا أزال أذكره وهو عائد إلى منزلنا في عدن الجديدة في وقت متأخر من اليوم. اعتدتما أنتما الاثنان أن تصيحا في صوتٍ واحد وهو داخل إلى المنزل: «مرحبًا يا أبي، مرحبًا يا أبي.» فكان يقبلني ويرفعكما معًا بين ذراعَيه، ثم يصطحبكما إلى الأرجوحة في الفناء الخلفي للمنزل. وكان دائمًا صبورًا وحنونًا مهما كان يومه مرهِقًا …»
ثم خفت صوتها تمامًا. وانهمرت الدموع من عينَيها، وشعرت بجسدها بدأ يرتجف. فاستدارت لتواجه الخريطة. ثم قالت: «انتهت الدراسة اليوم.»
•••
بعد مرور نصف ساعة، وقف باتريك بجوار ناي يشاهدان التوءمَين ونيكي يلعبون بكرة زرقاء كبيرة في الطريق المسدود. قالت ناي: «أنا آسفة يا باتريك. لم أتوقع أن …»
أجابها الشاب: «لم تفعلي شيئًا لتعتذري عنه.»
قالت ناي: «بل فعلت. قبل سنوات وعدت نفسي ألَّا أظهر مثل هذه المشاعر أمام كيبلر وجاليليو. لا يمكنهما أن يفهما.»
قال باتريك بعد صمت قصير: «لقد نسيا الأمر بالفعل. انظري إليهما. إنهما مستغرقان تمامًا في اللعب.»
وفي تلك اللحظة دارت بين الصبيَّين مشاحنة عادية. وكالمعتاد كان جاليليو يحاول أن يكسب الكثير من المميزات في لعبة ليس لها قواعد خاصة. كانت نيكي تقف إلى جوار الصبيَّين تتابع كل كلمة من جدالهما.
نادت ناي عليهم قائلة: «أيها الولدان. كُفَّا عن ذلك. إذا لم تلعبا دون شجارٍ فستدخلان إلى المنزل.»
وبعد ثوانٍ قليلة، كانت الكرة الزرقاء تقفز في الشارع في اتجاه الميدان، والأطفال الثلاثة يركضون وراءها بمرح. سألت ناي باتريك: «هل تود احتساء شراب؟»
«نعم، من فضلك … هل لا يزال لديك بعض من عصير البطيخ الأخضر الخفيف، الذي أحضره هرقل الأسبوع المنصرم؟ كان شهيًّا للغاية.»
أجابت ناي وهي تنحني نحو الخزانة الصغيرة التي يحتفظون فيها بالمشروبات الباردة. وقالت: «بالمناسبة، أين هرقل؟ لم أرَه منذ عدة أيام.»
ضحك باتريك. وقال: «وظَّفه العم ريتشارد للعمل بدوام كامل في مشروع المترجم. وإيلي وآرشي يقضيان معهما كل يوم بعد الظهيرة.» ثم شكر ناي على العصير.
ارتشفت ناي رشفة من كوب عصيرها وسارت عائدة إلى غرفة المعيشة. وقالت: «أعلم أنك أردت مواساة بينجي هذا الصباح. وتعمدت أن أوقفك لأنني أعرف شقيقك جيدًا. إنه يعتز بكرامته جدًّا. ولا يريد أن يشفق عليه أحد.»
قال باتريك: «فهمت ذلك.»
«أدرك بينجي هذا الصباح إلى حدٍّ ما أن نيكي الصغيرة — التي لا يزال يراها طفلة — سرعان ما ستتفوق عليه في المدرسة. وهذا الإدراك أصابه بصدمة، وذكَّره مرة أخرى بقدراته المحدودة.»
كانت ناي في تلك اللحظة تقف أمام خريطة الأرض التي لا تزال مثبتة على الحائط. وقالت: «لا يوجد شيء على هذه الخريطة يمثل لك أهمية، أليس كذلك؟»
أجابها باتريك: «نوعًا ما. رأيت الكثير من الصور والأفلام بالطبع، وعندما كنت في عمر التوءمين اعتاد أبي أن يحدثني عن بوسطن، وعن لون أوراق الشجر في نيو إنجلاند في فصل الخريف، والرحلة التي قام بها إلى أيرلندا مع والده. لكن ذكرياتي أنا في أماكن أخرى، مثل المخبأ في نيويورك الذي لا تزال ذكرياتي عنه حية، والسنة الرائعة التي قضيناها في النود.» ثم صمت للحظة. وقال: «والرجل النسر! يا له من كائن! إنني أتذكره أكثر مما أتذكر أبي.»
سألته ناي: «هل تعتبر نفسك إذن من أهل الأرض؟»
أجابها باتريك: «هذا سؤال شيق.» ثم أنهى شرابه وأكمل: «أتعلمين! إني لم أفكر في الأمر من قبل … بالطبع أعتبر نفسي بشريًّا. لكن من أهل الأرض؟ لا أظن هذا.»
مدت ناي يدها ولمست الخريطة. وقالت: «مسقط رأسي هو مدينة لامفون، لو كانت أكبر قليلًا لظهرت هنا جنوب مدينة تشانج ماي مباشرة. في بعض الأحيان لا يبدو لي أنه من الممكن أن أكون قضيت طفولتي هناك.»
دارت أصابع ناي على الخطوط التي تحدد تايلاند وهي تقف بهدوء بجوار باتريك. ثم قالت: «في ليلة سابقة سكب جاليليو كوبًا من الماء على رأسي، عندما كنت أساعدهما على الاغتسال، وفجأةً راودَتني ذكريات حية للغاية عن الأيام الثلاثة التي قضيتها في مدينة تشانج ماي مع أقربائي، عندما كنت في الرابعة عشرة من عمري … كان ذلك أثناء مهرجان سونجكران في شهر أبريل، والجميع في المدينة يحتفلون بالسنة التايلندية الجديدة. فكانت هناك مواكب تسير وخطابات تُلقى — والأمور المعتادة عن جميع ملوك سلالة تشاكري، منذ أن أعدَّت مركبة راما الفضائية الأولى الشعب التايلاندي للدور المهم الذي سيقومون به في العالم — لكن أكثر ما أتذكره بوضوح هو التجول في المدينة ليلًا، على ظهر شاحنة كهربية مع قريبتي أوني وأصدقائها. وفي كل مكان ذهبنا إليه كنا نسكب دلوًا من الماء على أحدهم، وكانوا هم يسكبون علينا دلوًا أيضًا. وكنا نضحك ونضحك.»
سألها باتريك: «ولمَ كان الجميع يسكبون الماء؟»
قالت ناي وهي تهزُّ كتفَيها: «نسيت السبب الآن، الأمر يتعلق بالاحتفال. لكن التجربة نفسها ومشاركة الضحك مع الآخرين، وشعوري وملابسي مبتلة تمامًا، وانهيال دلو آخر من الماء عليَّ فجأة؛ هو ما أذكره بالتفصيل.»
ثم عاد الصمت ليخيم عليهما مرة أخرى، وناي تمد يدها لتنزل الخريطة من فوق الحائط. ثم قالت وهي مستغرقة في التفكير: «أظن أن كيبلر وجاليليو لا يعتبران نفسَيهما من أهل الأرض أيضًا.» ثم لفَّت الخريطة بحرص شديد. وقالت: «وربما تكون دراسة جغرافيا كوكب الأرض وتاريخه مضيعةً للوقت.»
قال باتريك: «لا أظن هذا. فماذا سيدرس الأطفال غير ذلك؟ إلى جانب أننا جميعًا ينبغي أن نعرف من أين أتينا.»
ثم أطلَّت عليهما في غرفة المعيشة ثلاثة وجوه صغيرة من الرواق. سأل جاليليو: «ألم يَحِن موعد الغداء بعد؟»
أجابته ناي: «لقد اقترب.» ثم قالت وهي تسمع أقدامهم الصغيرة تدبُّ على أرض الرواق: «اذهبوا واغتسلوا أولًا … كلٌّ على حدة.»
ثم التفتت فجأة ورأت باتريك يحدِّق فيها بطريقةٍ غريبة. ابتسمت. وقالت: «أنا سعيدة أنك قضيت معنا هذا الصباح.»
ومدت ذراعَيها وأمسكت بيدَي باتريك بين يدَيها. وقالت وعيناها تلتقي بعينَيه: «كنت نِعم العون لي مع بينجي والأطفال في الشهرَين الأخيرَين. وسيكون من الحمق ألَّا أعترف أنني لم أعُد أشعر بالوحدة، منذ بدأت تأتي إلى هنا كل صباح.»
اقترب باتريك خطوةً منها، لكنها قبضت على يدَيه بحزمٍ ليبقى في مكانه، وقالت برفق: «ليس بعد. لا يزال الوقت مبكرًا للغاية.»
٤
بعد أقل من دقيقةٍ من إعلان مجموعات اليراعات العملاقة في قبة مدينة الزمرد بداية يوم جديد، كانت نيكي الصغيرة في غرفة جدَّيها. كانت تقول: «لاح الصباح يا جدتي. سيأتون من أجلنا قريبًا.»
فاستدارت نيكول على جانبها واحتضنت حفيدتها. وقالت للفتاة المتحمسة: «لا يزال أمامنا ساعتان يا نيكي، جدك لا يزال نائمًا … لمَ لا تعودين إلى غرفتك وتلعبين بلعبك حتى نستحم؟»
وعندما غادرت الفتاة المحبطة أخيرًا، كان ريتشارد يجلس على الفراش ويحكُّ عينَيه. فقالت له نيكول: «إن نيكي لم تتحدث عن شيءٍ طوال الأسبوع الماضي إلا عن هذا اليوم. إنها دائمًا في غرفة بينجي تنظر إلى الرسم، وأطلقت هي والتوءمان أسماءً على جميع الحيوانات الغريبة.»
ثم مدَّت نيكول يدها لتمسك بفرشاة الشعر بجوار سريرها وهي شاردة الذهن. وتساءلت: «لماذا يصعب على الأطفال الصغار استيعاب مفهوم الوقت؟ فمع أن إيلي صنعَت لها نتيجة، ووضعت خطًّا على كل يومٍ يمر، فنيكي تسألني كل صباح إذا كان «اليوم هو اليوم المنتظر».»
قال ريتشارد وهو ينهض من الفراش: «إنها متحمسة. جميعنا كذلك. وآمل ألَّا نصاب جميعًا بخيبة أمل.»
أجابته نيكول: «كيف ذلك؟ أخبرني دكتور بلو أننا سنرى مشاهد أكثر روعةً من تلك التي رأيتها أنا وأنت عندما دخلنا المدينة للمرة الأولى.»
قال ريتشارد: «أظن أن الحيوانات الغريبة جميعها ستكون بالخارج بأعداد كبيرة. وبالمناسبة هل تفهمين بمَ تحتفل كائنات الأوكتوسبايدر؟»
«إلى حدٍّ ما … أظن أن أقرب نظير له هو عيد الشكر الذي يُحتفل به في أمريكا. وتطلق كائنات الأوكتوسبايدر على هذا اليوم اسم «عيد النِّعم». إنها تخصص يومًا للاحتفال بجودة حياتها … أو على الأقل هذا ما شرحه لي دكتور بلو.»
همَّ ريتشارد ليدخل إلى الحمام للاستحمام، لكنه عاد ليطلَّ برأسه إلى الغرفة. وسألها: «هل تظنين أنها دعتنا للمشاركة في هذا اليوم؛ لأنك أخبرتها عن النقاش الذي دار بين أفراد عائلتنا على الإفطار قبل أسبوعَين؟»
«أتقصد عندما قال باتريك وماكس إنهما يتمنيان العودة إلى عدن الجديدة؟»
أومأ ريتشارد برأسه.
أجابته نيكول: «نعم. أظن أن كائنات الأوكتوسبايدر أقنعت نفسها أننا جميعًا سعداء هنا. ودعوتنا لحضور احتفالها جزء من محاولتها دمجنا في مجتمعها.»
قال ريتشارد: «أتمنى لو أنني انتهيت من صنع جميع أجهزة المترجم. فحتى الآن ليس لديَّ سوى اثنين … ولم أختبرهما بدقة. هل أعطي الثاني لماكس؟»
قالت نيكول وهي تزاحم زوجها على باب الحمام: «ستكون هذه فكرة جيدة.»
سألها: «ماذا تفعلين؟»
أجابته وهي تضحك: «سأنضم إليك، إلا إذا كنت أكبر سنًّا من أن ينضم إليك أحد.»
•••
جاء جيمي من المنزل المجاور ليخبرهم أن العربة التي سيستقلونها جاهزة. وكان جيمي الأصغر بين جيرانهم كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة (فكان هرقل يعيش وحده على الجانب الآخر من الميدان)، وكانت علاقته بالبشر أقل من زملائه. أوضح «راعيا» جيمي — آرشي ودكتور بلو — أن جيمي منخرط إلى حد بعيد في دراسته، وأنه مقبل على مرحلة مهمة في حياته. ومع أن جيمي بدا من النظرة الأولى يشبه كثيرًا كائنات الأوكتوسبايدر الثلاثة البالغة التي قابلتها العائلة بانتظام، فإنه أصغر قليلًا من الآخرين، وكانت الشرائط الذهبية في لوامسه أخف لونًا منها بصورة طفيفة.
ولوقت قصير واجه البشر صعوبة في اختيار الملابس التي سيرتدونها في احتفال الأوكتوسبايدر، لكنهم سرعان ما أدركوا أن ملابسهم ليست ذات أهمية على الإطلاق. فلا يضع أيٌّ من الكائنات الفضائية في مدينة الزمرد شيئًا على جسده، وهي حقيقة علقت عليها كائنات الأوكتوسبايدر كثيرًا. وعندما اقترح ريتشارد ذات مرة — على سبيل المزاح في الأغلب — أن يستغني البشر أيضًا عن ملابسهم وهم في مدينة الزمرد قائلًا: «عندما تكون في روما …» أدرك الجميع على الفور أهمية الملابس للراحة النفسية للبشر. فقالت إيبونين ملخصة مشاعر الجميع: «لن أستطيع أن أمنع نفسي من الشعور بالخجل الشديد وأنا عارية بينكم، وأنتم أعز أصدقائي.»
سار الوفد المؤلف من عناصر مختلفة؛ أحد عشر بشريًّا وزملائهم الأربعة من كائنات الأوكتوسبايدر في الشارع متجهين إلى الميدان. وكانت إيبونين التي يثقلها الحمل تسير في آخر الموكب ببطء، وهي تضع إحدى يديها على بطنها. فضلت السيدات أن ترتدي ملابس جميلة، حتى إن ناي ارتدت رداءها الحريري التايلندي الملون الذي تزينه ورود زرقاء وخضراء، لكن الرجال والأطفال — فيما عدا ماكس (الذي كان يرتدي قميصه الغريب المميز لسكان جزيرة هاواي الذي احتفظ به لارتدائه في المناسبات الخاصة) — كانوا يرتدون قمصانًا خفيفة وسراويل جينز، التي كانت زيهم المعتاد منذ أول يوم وصلوا فيه إلى مدينة الزمرد.
على الأقل كانت جميع ملابسهم نظيفة. في البداية كان العثور على وسيلة لتنظيف الملابس مشكلة كبيرة لهم. لكن فور أن شرحوا مشكلتهم لآرشي، لم تمر سوى بضعة أيام حتى قدم لهم كائنات يطلق عليها «درومو» في حجم الحشرات تنظف الملابس تلقائيًّا.
استقلت المجموعة العربة في الميدان. وقبل أن تصل إلى البوابة التي تمثل حدود المنطقة المخصصة للبشر، توقفت وصعد على متنها اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر لم يروهما من قبل. وحاول ريتشارد استخدام مترجمه لترجمة الحوار الذي دار بعد ذلك بين دكتور بلو والوافدين الجديدين. قرأت إيلي الترجمة التي تظهر على شاشة الجهاز وهي واقفة خلف أبيها، وهنأته على دقة الترجمة. كانت الترجمة جيدةً إلى حدٍّ ما، لكن سرعتها كانت بطئية للغاية، على الأقل بمعدل السرعة العادية التي يدور بها الحوار بين الأوكتوسبايدر. فترجمة جملة واحدة تظهر في الوقت الذي تُقال فيه ثلاث جمل، مما جعل ريتشارد يعيد ضبط الجهاز باستمرار. فإنه بالطبع لن يستفيد كثيرًا من حوار يفقد فيه جملتَين من كل ثلاث جمل.
وفور أن عبروا البوابة، كان المشهد مزيجًا من الأشكال الغريبة والألوان الزاهية. وظلَّت عينا نيكي مفتوحتَين عن آخرهما وهي تسمي مع بينجي والتوءمَين — بالكثير من الصراخ — معظم الحيوانات التي كانت في لوحة الأوكتوسبايدر. كانت الشوارع الواسعة تعجُّ بحركة المرور. فلم يكن هناك الكثير من وسائل المواصلات التي تتحرَّك في كلا الاتجاهَين على قضبان مثل الحافلات الكهربية فحسب، بل أيضًا ظهرَت كائنات من مختلف الأنواع والأحجام تسير على أقدامها، وكائنات تستقل مركبات بإطارات مثل الدراجات العادية والدراجات الأحادية العجلة، ومن حين لآخر تمرُّ مجموعة من الكائنات المختلفة على ظهر نعامصور.
كان ماكس — الذي خرج لأول مرةٍ منذ وصوله من المنطقة المخصصة للبشر — يضمِّن تعليقاته على ما يلاحظه كلمات مثل «تبًّا» و«سحقًا» وغيرها من الألفاظ الأخرى التي طلبت منه إيبونين التخلص منها قبل أن يولد ابنهما. ولم يبدأ ماكس في القلق على سلامة إيبونين، حتى دخلت بعض الكائنات الغريبة الجديدة إلى العربة في أول محطة تتوقف فيها العربة خارج البوابة. اتجه أربعة من الوافدين الجدد على الفور نحو إيبونين، لفحص المقعد الخاص الذي ثبتته كائنات الأوكتوسبايدر لها في أيامها الأخيرة من الحمل. وقف ماكس إلى جوارها ليحميها، وهو يتمسك بأحد القضبان العمودية المنتشرة في العربة التي يبلغ طولها عشرة أمتار.
وكان اثنان من الركاب الجدد من نوع أطلق عليه الأولاد «السلطعونات المخططة»؛ وهي كائنات ملونة باللونين الأحمر والأصفر لها ثماني أرجل في حجم نيكي تقريبًا، ولها أجساد دائرية مغطاة بصدفة صلبة ولها مخالب مخيفة الشكل. بدأ الكائنان على الفور بحك قرون استشعارهما في إحدى ساقي إيبونين العاريتين أسفل ثوبها. كان الكائنان يشعران بالفضول فقط، لكن الإحساس الغريب الذي راود إيبونين وشكل الكائنين الغريب جعلا فرائصها ترتعد من الخوف. فقام آرشي الذي كان يقف على الجانب الآخر من إيبونين بمدِّ إحدى لوامسه بسرعة، ودفع الكائنَين بعيدًا عنها برفق. فتراجع أحد السلطعونَين المخططَين على أرجله الأربع الخلفية، وحرَّك مخالبه في الهواء أمام وجه إيبونين، وعلى الأرجح قال شيئًا يهدِّد به إيبونين باستخدام قرون استشعاره التي تهتزُّ بسرعة. وبعد لحظةٍ واحدةٍ مد آرشي اثنتَين من لوامسه، ورفع بهما السلطعون العدواني من أرضية العربة ووضعه في الشارع بالخارج.
لكن ذلك المشهد غيَّر من الحالة المزاجية للبشر. ففي حين ترجمت إيلي لماكس وإيبونين شرح آرشي لما حدث، هرع التوءمان إلى ناي يحتميان بها، ومدت نيكي ذراعيها لجدها كي يحملها.
قال آرشي لأصدقائه من البشر: «هذا النوع من الكائنات ليس ذكيًّا، وقد واجهنا صعوبة في التعامل هندسيًّا مع ميوله العدوانية. والكائن الذي أخرجته من العربة بالتحديد تسبب في مشكلات من قبل. والكائن المسئول عن الوصول بأداء هذا النوع من الكائنات إلى المستوى الأمثل علَّم عليه بالفعل، لعلكم لاحظتم النقطتَين الخضراوَين في مؤخرة الصدفة. من المؤكد أن ذلك الانتهاك الأخير سيقضي بفصله.»
عندما انتهت إيلي من الترجمة، تفحص البشر الكائنات الفضائية الأخرى على متن العربة؛ بحثًا عن أي نقاط خضراء أخرى. وعندما تيقنوا أن الكائنات الأخرى مسالمة شعر الكبار ببعض الراحة.
ثم سأل ريتشارد آرشي والعربة تقترب من محطة أخرى: «ماذا قال ذلك الشيء؟»
أجابه آرشي: «إنه رد فعل تهديدي معتاد من الحيوانات التي تتمتع بذكاء محدود. فحركات قرون استشعاره تبث رسالة فظة، ليس بها سوى قدر ضئيل من المعلومات.»
•••
استمرت العربة في اجتياز الشارع الواسع لمدة ثمانية أو عشرة نيليتات، وتوقفت مرتين لاستقبال ركاب إضافيين، بما في ذلك ستة كائنات أوكتوسبايدر ونحو عشرين كائنًا آخر يمثلون خمسة أنواع مختلفة من الكائنات. فهناك أربعة كائنات لونها أزرق أرجواني ذات رءوس نصف دائرية، تبدو وكأنها تحتوي على مخٍّ متموج، جثمَت إلى اليمين قبالة ريتشارد الذي ظل يحمل نيكي. وتجمعت قرون الاستشعار الثمانية ذات العقد الممتدة لأعلى باتجاه قدم نيكي، وأصبحت متشابكة، كما لو أنها تتواصل. وعندما حركت الفتاة البشرية قدمها حركة خفيفة، تراجعت قرون الاستشعار بسرعة إلى الكتلة الغريبة التي تمثل مجموع أجساد الكائنات الفضائية الغريبة.
بحلول ذلك الوقت كانت العربة مزدحمة للغاية. وقام حيوان لم يره البشر من قبل — وصفه ماكس بعد ذلك بدقة بأنه يشبه السجق البولندي له أنف طويل وست أرجل قصيرة — برفع جسده على أحد القضبان العمودية، وجذب حقيبة النقود الصغيرة التي تحملها ناي بكفَّيه الأماميَّتَين. لكن جيمي تدخل قبل أن يحدث مكروه للحقيبة أو ناي، وبعد بضع ثوانٍ ركل جاليليو الكائن بقوة مما جعله يفقد قدرته على التمسك بالقضيب. وبرر الصبي ذلك بأنه ظن أن الكائن يستعد لاختطاف الحقيبة مرة أخرى. فتراجع الكائن إلى جزء آخر من العربة، وظلَّت عينه الوحيدة مثبتةً بحذر على جاليليو.
فقال ماكس بابتسامةٍ عريضةٍ وهو يداعب شعر الصبي: «من الأفضل أن تتوخَّى الحذر. وإلا فستضع كائنات الأوكتوسبايدر نقطتَين خضراوَين على مؤخرتك.»
اصطفَّت على جانبَي الشارع العريض مبانٍ يتكون بعضها من طابق واحد والآخر من طابقَين، جميعها تقريبًا مزينة بأشكال هندسية ألوانها زاهية، وأكاليل الزهور زاهية الألوان والأوراق تزين أبواب المنازل وأسطحها. وعلى حائط طويل — أخبر هرقل ناي أنه الجدار الخلفي للمستشفى الرئيسية — توجد لوحة جدارية ضخمة مستطيلة الشكل، يصل ارتفاعها إلى أربعة أمتار وطولها إلى عشرين مترًا، تصوِّر أطباء الأوكتوسبايدر وهم يتولون رعاية جرحاهم، ويساعدون كائنات أخرى عديدة تعيش في مدينة الزمرد.
أبطأت العربة قليلًا وبدأت تصعد منحدرًا. ثم عبرت جسرًا يبلغ طوله عدة مئاتٍ من الأمتار، يمتدُّ عبر نهرٍ واسع أو قناة بها قوارب، وكائنات أوكتوسبايدر تمرح وكائنات بحرية أخرى غير معروفة. شرح لهم آرشي أنهم يدخلون وسط مدينة الزمرد، حيث تقام جميع الاحتفالات الكبيرة، وحيث يعيش ويعمل «أهم» القادة. وقال وهو يشير إلى مبنًى ثُماني الأضلاع يبلغ طوله نحو ثلاثين مترًا: «وهناك توجد المكتبة ومركز معلوماتنا.»
وإجابة عن سؤال ريتشارد، قال آرشي إن القناة أو الخندق يحيط «بالمركز الإداري» تمامًا. وقال: «ولا يُسمح إلا لكائنات الأوكتوسبايدر بالدخول إلى هذه المنطقة، فيما عدا المناسبات الخاصة مثل اليوم، أو لغرض رسمي يوافق عليه القادة.»
وقفت العربة في سهل واسع منبسط إلى جوار مبنًى بيضاوي يشبه الاستاد أو قاعة خارجية. قالت ناي لباتريك، بعد أن ترجَّلوا عن العربة، إنها شعرت برُهاب الأماكن المغلقة في الجزء الأخير من رحلتها أكثر مما شعرت به في أي وقت، منذ أن كانت على متن قطار كيوتو في ساعة الذروة، أثناء رحلتها للقاء عائلة كينجي.
قال باتريك وهو يهزُّ كتفَيه: «على الأقل في اليابان كنت محاطةً ببشر مثلك … أما هنا فالمكان غريب للغاية. شعرت أنهم جميعًا يتفحصونني بأعينهم. فاضطررت أن أغلق عينَي وإلا كنت سأفقد صوابي.»
وعندما ترجَّلوا وبدءوا يتحركون في اتجاه الاستاد، سار البشر في مجموعةٍ محاطين بأصدقائهم الأربعة من كائنات الأوكتوسبايدر، بالإضافة إلى الاثنين الآخرَين اللذَين استقلَّا العربة قبل أن تغادر المنطقة المخصَّصة للبشر. كانت كائنات الأوكتوسبايدر الستة تحمي نيكول والآخرين من حشود الكائنات الحية التي تندفع في جميع الاتجاهات. بدأت إيبونين تشعر بدوارٍ بسبب المناظر التي تراها والروائح التي تستنشقها وكذلك بسبب السير؛ لذا حرص آرشي أن يوقف الموكب كل خمسين مترًا تقريبًا. وفي النهاية عبروا إحدى البوابات، وقادت كائنات الأوكتوسبايدر البشر إلى المكان المخصَّص لهم.
كان هناك مقعد واحد في القسم المخصص للبشر. في الواقع ربما جلست إيبونين على المقعد الوحيد في الاستاد كله. رأى ماكس وباتريك، وهما ينظران حول الجزء العلوي من المدرج باستخدام نظارات ريتشارد المكبرة، كائنات كثيرة تستند إلى الأعمدة الرأسية الثابتة، أو تتمسك بها في كل مكانٍ في المدرج المكشوف ذي الشرفات، ولكن لم تكن هناك أي مقاعد في أي مكان آخر.
كانت الحقائب القماشية التي يحملها آرشي وبعض كائنات الأوكتوسبايدر الأخرى؛ تأسر انتباه بينجي. كانت الحقائب المتماثلة بيضاء اللون تميل إلى الصفرة في حجم حقيبة اليد التي تحملها السيدات. وتتدلَّى مما يمكن أن يطلق عليه مستوى الورك في جسد الأوكتوسبايدر، ومعلقة حول الرأس بشريط بسيط. ولم يحدث من قبل أن رأى أيٌّ من البشر كائن أوكتوسبايدر يضع حلًى. لاحظ بينجي الحقائب على الفور، وسأل آرشي عنها عندما كانا يقفان معًا في الميدان. وافترض بينجي أن آرشي لم يفهم سؤاله في ذلك الوقت، وقد نسي بينجي نفسه الأمر حتى وصل إلى الاستاد، ورأى الحقائب الأخرى المشابهة.
كان آرشي غامضًا على غير عادته عندما شرح الغرض من تلك الحقائب. واضطرت نيكول أن تطلب من الأوكتوسبايدر أن يعيد ألوانه قبل أن تترجم لبينجي ما قيل. قالت له: «يقول آرشي إنها أداة قد يُحتاج إلى استخدامها لحمايتنا في حالة الطوارئ.»
سأل بينجي: «أداة من أي نوع؟» ولكن آرشي كان ابتعد بالفعل لعدة أمتار، وبدأ يتحدث مع أوكتوسبايدر آخر في جزء متاخم لهم.
عُزل البشر عن الكائنات الأخرى بوسيلتين؛ أولًا بشريطين من الحبال المعدنية المشدودة حول الأعمدة الرأسية من أعلاها وأسفلها خارج المكان المخصص لهم، وثانيًا بحمايتهم من كائنات الأوكتوسبايدر (أو «الحراس» كما أطلق عليهم ماكس) الذين تمركزوا في المنطقة الخالية بين الكائنات المختلفة. إلى يمين البشر ظهرت مجموعة من عدة مئات من الكائنات الفضائية التي لديها ست أذرع مرنة، وهي نفس الكائنات التي شيدت السلم الأسطواني أسفل قبة قوس قزح. وإلى يسار وأسفل البشر، على الجانب الآخر من منطقة واسعة خاوية، ما يقرب من ألف من حيوانات بنية اللون قصيرة ممتلئة الجسم، تشبه سحلية الإجوانا لها ذيل طويل مستدق وأسنان بارزة. كانت في حجم القطط المنزلية.
كان واضحًا للعيان أن الاستاد بالكامل مقسمٌ بحدود فاصلة. فكل نوع من الكائنات يجلس مع بني جنسه. والأهم من هذا أنه لم يوجد أي كائنات الأوكتوسبايدر فيما عدا «الحراس» بالجزء العلوي. فالخمسة عشر ألفًا من كائنات الأوكتوسبايدر (وفقًا لتقدير ريتشارد) الحاضرة لتشاهد، تجلس في الجزء السفلي.
فسر آرشي الأمر قائلًا بعدما ترجمت إيلي كلامه: «هناك عدة أسباب للفصل، أولًا سيبثُّ كلام مسئول الأمثلية بثلاثين أو أربعين لغة في الوقت نفسه. وإذا أمعنتم النظر فسترون أن كل جزء منفصل لديه جهاز — ها هو جهازكم على سبيل المثال، وهو ما يطلق عليه ريتشارد مكبر الصوت — يُذيع ما يقال بلغة الكائنات التي تسمعه. ظللنا نعمل على مدار أيام لإعداد الخطاب الذي سيقوله مسئول الأمثلية والترجمة المناسبة. ونظرًا لأن كائنات الأوكتوسبايدر بجميع أشكالها تفهم لغتنا القياسية المعتمدة على الألوان، فإنها جميعًا تجلس في الأسفل حيث لا يوجد جهاز ترجمة …»
«دعوني أُرِكم ما أتحدث عنه. انظروا إلى هناك»، قالها آرشي وهو يمد إحدى لوامسه، ثم استأنف: «هل ترَون تلك المجموعة من السلطعونات المخططة؟ هل ترون السلكَين الرأسيَّين الضخمين على تلك المنضدة، في مقدمة الجزء الخاص بهم؟ عندما يبدأ مسئول الأمثلية في الحديث ستنشط تلك الأسلاك، وتعرض ما يقول القائد بلغة قرون الاستشعار.»
وعلى مسافة بعيدة في الأسفل، أعلى ما بدا مثل حقل مغمور في استاد على كوكب الأرض، يوجد غطاء كبير به شرائط ملونة معلق من دعامات ملحقة بأسفل الجزء السفلي.
سألت إيلي أباها: «هل يمكنك أن تقرأ المكتوب عليها؟»
قال ريتشارد وهو لا يزال مذهولًا من عظم المشهد الذي يراه: «ماذا؟»
قالت إيلي وهي تشير إلى الأسفل: «هناك رسالة على الغطاء. اقرأ الألوان.»
قال ريتشارد: «صحيح.» وقرأ ببطء: «النعمة هي الطعام والماء والطاقة والمعلومات والتوازن و…» ما الكلمة الأخيرة؟»
قالت إيلي: «أعتقد أن ترجمتها هي «التنوع».»
سألت إيبونين: «ماذا تعني هذه الرسالة؟»
«أعتقد أننا سنكتشف بأنفسنا.»
•••
وبعد بضع دقائق، بعد أن أخبر آرشي البشر أن سببًا آخر لعزل الكائنات المختلفة بعضها عن بعض، يرجع للتأكد من الإحصاءات السكانية التي تجريها كائنات الأوكتوسبايدر، طوى أربعة أزواج من الحيوانات السوداء العملاقة غطاء أرض الاستاد على عمودَين طويلَين سميكَين. وبدأ كل زوجَين عملية الطي من الطرفَين المتقابلَين لمنتصف الساحة، ثم تحركا باتجاه أطراف الاستاد، وهما يلفان الغطاء حول الأعمدة للكشف عن الأرض بأكملها.
وفي الوقت نفسه هبطت مجموعة إضافية من اليراعات من أعلى الاستاد، حتى لا يتمكن كل المشاهدين من رؤية الفواكه والخضراوات والحبوب الوفيرة المجمعة في مئات الأكوام في كلتا نهايتَي الحقل فقط، بل أيضًا رؤية مجموعتي الكائنات المتنوعة التي تجلس في مناطق منفصلة على جانبي وسط الملعب. كانت المجموعة الأولى من الكائنات الغريبة تسير في دائرة كبيرة على سطح عادي يغطيه التراب. وكانت مربوطة بعضها ببعض بحبال من نوع ما. وإلى جوارها حوض كبير من المياه، بداخله ثلاثون أو أربعون نوعًا مختلفًا من الكائنات المربوطة بعضها ببعض أيضًا تسبح في دائرة كبيرة.
وفي منتصف الملعب تمامًا، منصة مرتفعة عن الأرض لا يوجد عليها سوى بعض الصناديق السوداء المتفرقة، وبها منحنياتٌ تهبط في اتجاه المنطقتَين المتاخمتَين. وبينما كان الجميع يشاهدون، خرج أربعة من كائنات الأوكتوسبايدر من الدائرة في حوض السباحة، وصعدوا إلى المنصة. وترك أربعة آخرون المجموعة التي تسير على السطح المغطى بالتراب، وانضموا إلى زملائهم. ثم وقف أحد هؤلاء الثمانية على صندوق في منتصف المنصة، وبدأ يتحدَّث بالألوان.
«لقد اجتمعنا هنا اليوم …» أجفل البشر عندما سمعوا الصوت يخرج من مكبر الصوت. وبدأت نيكي الصغيرة تبكي. في البداية كان من الصعب للغاية فهم ما يسمعونه لأن الصوت يضغط على كل مقطع لفظي بالطريقة نفسها، والأصوات — مع أنها تُنطق بحرص — غير صحيحة، كأنها تصدر عن شخص لم يسمع قط أي بشري يتحدث. كان ريتشارد مشدوهًا. وعلى الفور تخلى عن محاولته استخدام مترجمه الفوري، وانحنى لدراسة آلة الأوكتوسبايدر.
استعارت إيلي منظار ريتشارد المعظم حتى تتابع الألوان بسهولة أكبر. ومع أنها اضطرَّت أن تخمن بعض الكلمات التي تصدر بألوان تفوق نطاقها البصري، فقد كان أسهل عليها أن تشاهد بدلًا من التركيز على ما تصدره الأداة الصوتية التي قدمتها كائنات الأوكتوسبايدر.
وفي نهاية المطاف، تمكَّن البشر البالغون من الاعتياد إلى حدٍّ ما على الإيقاع والنطق اللذين يصدرهما الصوت الغريب، وفهموا معظم ما يُقال. وأشار الأوكتوسبايدر مسئول الأمثلية إلى أن الأمور تسير على ما يرام في عالمهم الزاخر بالخيرات، وأن النجاح المستمر لمجتمعهم المتنوع المعقد ينعكس في تنوع أصناف الطعام الموجودة على الساحة. وقال الصوت عبر الآلة: «ما كان من الممكن أن نحصل على هذه الخيرات المتنوعة دون التعاون الوثيق بين الأنواع المختلفة من الكائنات.»
وفي وقت لاحق من حديثه القصير أثنى مسئول الأمثلية على الأداء المتميز للكائنات المختلفة. وذكر أجناسًا عديدة بعينها، فعلى سبيل المثال كان من الواضح أن إنتاج المادة التي تشبه العسل عمل مميز، إذ حلقت نحو اثنتَي عشرة يراعةً عملاقةً فوق الجزء الخاص بالخنافس ذات الأنوف البارزة لبعض الوقت. وبعد مرور ثلاثة فينجات على بدء حديث القائد، شعر البشر بالتعب من مشقة الاستماع إلى ذلك الصوت الغريب، وتوقفوا عن متابعة الحديث تمامًا. لذا شعروا بالدهشة عندما ظهرت اليراعات العملاقة فوق رءوسهم، وقدمتهم إلى الجماهير الفضائية. فتوجهت إليهم آلاف العيون الغريبة لنصف نيليت.
سأل ماكس إيلي التي استمرت في ترجمة الألوان: «ماذا قال عنا؟» كان ماكس يتحدث إلى إيبونين، أثناء الجزء الأخير من حديث مسئول الأمثلية.
«قال إننا جُدُد في المدينة، وإنهم ما زالوا يتعرفون على قدراتنا. ثم ذكر عدة أرقام تصفنا ولا شك بطريقة ما، لم أفهم ذلك الجزء.»
بعد أن قدَّم مسئول الأمثلية نوعَين آخرَين من الكائنات، بدأ يلخِّص النقاط الأساسية في حديثه. وفجأة دوت صرخات نيكي المذعورة على الصوت الغريب وهي تنادي: «أمي، أمي.» فبينما كان كبار البشر مستغرقين بكيانهم في متابعة الحديث والمشهد المحيط بهم، تسلَّقت نيكي فوق الحاجز المنخفض حول الجزء الخاص بهم، ودخلت إلى المساحة المفتوحة التي تفصلهم عن كائنات الإجوانا. ومن الواضح أن الأوكتوسبايدر هرقل الذي يحرس المنطقة لم يلاحظ ذلك هو الآخر، حيث إنه لم يدرك أن إحدى كائنات الإجوانا قد حشرت رأسها في الفجوة بين الحبلَين المعدنيَّين اللذَين يحيطان بالجزء الخاص بها، وجذبت فستان نيكي بأسنانها الحادة.
وقد أصاب الرعب الذي ملأ صوت الطفلة الجميع بالشلل للحظةٍ فلم يتحرك أيٌّ منهم، فيما عدا بينجي. تحرك بينجي على الفور وقفز فوق الحاجز وهُرع لمساعدة نيكي وهو يضرب الإجوانا على رأسها بكل ما أوتي من قوة. فترك الكائن الفضائي المذعور فستان نيكي. ولكن لم ينته الأمر عندئذٍ. بل تبعته جلبة كبيرة. هُرعت نيكي إلى أمها لترتمي بين ذراعَيها، ولكن قبل أن يصل هرقل أو آرشي إلى بينجي، اقتحم الكائن الفضائي الغاضب بجسده في الفتحة وعبر من خلالها وقفز على ظهر بينجي. صرخ بينجي من الألم الرهيب الذي شعر به عندما غرس ذلك الكائن أسنانه في كتفه، فبدأ بينجي يضرب بجسده محاولًا رمي الكائن عن ظهره. وبعد بضع ثوانٍ سقط الكائن على الأرض فاقد الوعي تمامًا. وعلى ظهره نقطتان خضراوان واضحتان عند النقطة التي يلتقي فيها ذيله بباقي جسده.
حدث كل هذا في أقل من دقيقة. ولم يقاطع حديث القائد، بل لم يشعر أحد بهذه الحادثة، فيما عدا الأجزاء المحيط بهم مباشرة. ولكن نيكي كانت ترتعب من الخوف ولا سبيل لتهدئتها، وجرح بينجي غائر، وإيبونين بدأت تعاني انقباضات. وأسفلهم كائنات الإجوانا الغاضبة تحاول التخلص من الحبال المعدنية المحيطة بها، متجاهلة تهديد كائنات الأوكتوسبايدر العشرة الذين انتقلوا إلى الفراغ بين النوعين المختلفين من الكائنات.
فقال آرشي للبشر إن الوقت قد آن ليرحلوا. ولم يجادله أحد. فاصطحبهم هو إلى خارج الاستاد على عجل وإيلي تحمل ابنتها التي تبكي، ونيكول تضع بعصبية على جرح بينجي مطهِّرًا أخرجته من حقيبتها الطبية.
•••
اعتدل ريتشارد ليستند على مرفقه عندما دخلت نيكول إلى غرفة نومهما. وسألها: «هل هو بخير؟»
قالت نيكول وهي تتنهد بعمق: «أعتقد هذا. ولكني لا أزال قلقة من احتمال وجود كيماويات سامة في لعاب ذلك الكائن. وقد كان الدكتور بلو عونًا حقيقيًّا لي. فقد شرح لي أن كائنات الإجوانا غير سامة، ولكنه يوافق على أننا يجب أن نحترس من احتمال إصابة بينجي بالحساسية … وسنحدد في اليوم أو اليومَين القادمَين ما إذا كنا نواجه مشكلة.»
«وماذا عن الألم؟ هل هدأ قليلًا؟»
«بينجي يأبى أن يشتكي. أظن أنه فخور بنفسه حقًّا — كما يجب أن يكون — ولا يريد أن يقول شيئًا ينقص من لحظة احتفاله بأنه بطل العائلة.»
صمت ريتشارد لبرهة. ثم سأل: «وماذا عن إيبونين؟ هل لا تزال تعاني انقباضات؟»
«كلا لقد توقفت الانقباضات مؤقتًا. ولكنها إذا وضعت في اليوم أو اليومين القادمين، فإن ماريوس لن يكون الطفل الأول الذي يدفعه الأدرينالين إلى الخروج إلى العالم.»
بدأت نيكول تخلع ملابسها. وقالت: «إن إيلي هي من يعاني أكثر من الجميع … فتقول إنها أمٌّ سيئة وإنها لن تسامح نفسها أبدًا؛ لأنها لم تراقب نيكي وتحرسها بصورة أفضل … ومنذ بضع دقائق رددت الكلام نفسه الذي قاله ماكس وباتريك. وكانت تتساءل في صوت عالٍ هل من الممكن أن نعود جميعًا إلى عدن الجديدة ونجرب حظنا مع ناكامورا. «لمصلحة الأطفال» على حسب قولها.»
انتهت نيكول من خلع ملابسها وصعدت إلى الفراش. وقبلت ريتشارد قبلة سريعة ثم وضعت يديها خلف رأسها. وقالت: «ريتشارد، لدينا موضوع خطير هنا … هل تظن أن كائنات الأوكتوسبايدر «ستسمح» لنا بالعودة إلى عدن الجديدة؟»
فقال بعد صمت قصير: «لا. على الأقل ليس جميعنا.»
قالت نيكول: «أخشى أنني أوافقك الرأي. ولكني لا أريد أن أخبر الآخرين بهذا. ربما من الأفضل أن أطرح السؤال على آرشي مرة أخرى.»
«سيراوغ في الإجابة كما فعل في المرة الأولى.»
رقدا على الفراش متشابكي الأيدي لعدة دقائق. ثم سألته نيكول عندما لاحظت أن عينَيه لا تزالان مفتوحتَين: «ما الذي تفكِّر فيه يا حبيبي؟»
قال: «اليوم. في كل ما حدث اليوم. إني أسترجعه بالكامل في ذهني، كل مشهد لا يصدق فيه. إنني الآن رجل عجوز وذاكرتي ليست قوية كما كانت يومًا، فأحاول استخدام بعض أساليب تنشيط الذاكرة …»
ضحكت نيكول. وقالت: «أنت لا تصدق. ولكني أحبك على أي حال.»
٥
كان ماكس ثائرًا. قال: «أنا من جهتي لا أريد أن أبقى في هذا المكان دقيقة واحدة أخرى. لم أعد أثق بهم. اسمع يا ريتشارد؛ أنت تعرف جيدًا أنني على حق. هل رأيت السرعة التي أخرج بها آرشي ذلك الشيء الأنبوبي من حقيبته، عندما قفزت الإجوانا الفضائية على ظهر بينجي؟ لم يتردَّد ثانية في استخدامه. وكل ما سمعته هو صوت ففففف، وعلى الفور كانت تلك السحلية ميتة أو مصابة بالشلل. كان من الممكن أن يفعل الأمر نفسه مع أيٍّ منا إن أسأنا التصرف.»
فقال ريتشارد: «ماكس، أعتقد أنك تبالغ في ردة فعلك.»
«حقًّا؟ وهل أبالغ في ردة فعلي أيضًا عندما أقول إن ما رأيناه أمس أكد في ذهني فقط مدى عجزنا؟»
فقاطعته نيكول: «ماكس، ألا تظن أن هذا أمر يُستحسن أن نناقشه في وقتٍ آخر، عندما لا نكون منفعلين إلى هذه الدرجة؟»
فأجابها ماكس بلهجة قوية: «كلا. لا أظن هذا … أنا أريد مناقشة هذا الأمر الآن، هذا الصباح. لهذا طلبت من ناي أن تقدم للأطفال طعام الإفطار في منزلها.»
فقالت نيكول: «ولكنك لا تقترح بالطبع أن نرحل في هذه اللحظة، وإيبونين على وَشْك أن تضع في أي لحظة.»
فقال ماكس: «بالطبع لا. ولكني أظن أننا يجب أن ننجو بأنفسنا من هنا بمجرد تمكنها من السفر. يا إلهي! ما نوع الحياة التي يمكن أن نحياها هنا على أي حال يا نيكول؟ إن نيكي والتوءمين يرتعدون خوفًا الآن. وأُراهن أنهم لن يرغبوا في الخروج من المنطقة المخصصة لنا لعدة أسابيع، وربما للأبد … وحتى هذا لا يجيب عن السؤال الأكبر: ما الهدف الأساسي من إحضار كائنات الأوكتوسبايدر لنا إلى هنا؟ هل رأيت كل تلك الكائنات في الاستاد أمس؟ ألم يتكون لديك انطباع أنها جميعًا تعمل لدى كائنات الأوكتوسبايدر بطريقة أو بأخرى؟ أليس من المحتمل أن نجد لنا أيضًا مكانًا في نظامها عما قريب؟»
تحدثت إيلي للمرة الأولى منذ أن بدأ الحوار. قالت: «كنت أثق دائمًا بكائنات الأوكتوسبايدر. ولا زلت أثق بها. فلا أعتقد أن لديها خطة خبيثة كي تجعلنا جزءًا من نظامها الكلي بطريقة لا نقبل بها. ومن ناحية أخرى، لقد اكتشفت شيئًا أمس، أو بالأحرى ذكرني به ما حدث أمس. فبوصفي أمًّا تقع على كاهلي مسئولية توفير بيئةٍ لابنتي تنشأ فيها نشأة صحية وتتاح أمامها سبل السعادة … ولكني لم أعُد أظن ذلك ممكنًا هنا في مدينة الزمرد.»
نظرت نيكول إلى إيلي بدهشةٍ وسألتها: «إذن فأنتِ أيضًا تودين الرحيل؟»
«نعم يا أمي.»
دارت نيكول بعينَيها على الجالسين حول المائدة. ورأت في تعبيرات وجه إيبونين وباتريك أنهما يوافقان ماكس وإيلي. فتساءلت: «هل يعرف أيٌّ منكم موقف ناي من هذا الأمر؟»
احمرَّ وجه باتريك خجلًا بعض الشيء، عندما نظر ماكس وإيبونين إليه، كأنهما يتوقعان أن يتولى هو الإجابة عنها. فقال بعد صمت: «لقد تحدثنا في هذا الأمر ليلة أمس. ووجدت ناي مقتنعةً منذ فترة أن الحياة المتاحة أمام الأطفال، وهم معزولون في المنطقة المخصصة لنا، محدودة للغاية بصورة لا تسمح لهم بالنمو. ولكنها قلقة أيضًا لا سيما بعد ما حدث أمس من أن هناك مخاطر كبيرة محدقة بالأطفال، إذا حاولنا أن نعيش خارج المنطقة المخصصة لنا في مجتمع كائنات الأوكتوسبايدر.»
فقالت نيكول وهي تهز كتفَيها: «أظن أن هذا يحسم الأمر. سأتحدَّث إلى آرشي عن رحيلنا في أول فرصة تتسنَّى لنا.»
كانت ناي راوية قصص بارعة. فكان الأطفال يحبُّون أيام الدراسة التي تعفيهم فيها من الأنشطة المدرسية، وتروي لهم قصة. وفي الواقع، كانت ناي تقص عليهم أساطير إغريقية وصينية في أول يومٍ ظهر هرقل لمراقبتهم. وقد أطلق الأطفال هذا الاسم على كائن الأوكتوسبايدر بعد أن ساعد ناي على تغيير ترتيب أثاث الغرفة.
وكان لمعظم القصص التي تقصها ناي عليهم بطل. ونظرًا لأن نيكي كانت لا تزال تتذكر الكائنات الآلية البشرية في عدن الجديدة، فقد كان الأطفال يهتمون أكثر بسماع قصص عن ألبرت أينشتاين، وأبراهام لينكولن، وبنيتا جارسيا أكثر من القصص عن الشخصيات التاريخية، أو الأسطورية التي ليس لديهم أيُّ ارتباطٍ شخصي بها.
وفي صباح اليوم التالي للاحتفال بعيد النِّعم، كانت ناي تقص عليهم كيف استغلت بنيتا جارسيا شهرتها الكبيرة إبان المراحل الأخيرة من الفوضى الكبرى؛ لمساعدة ملايين الفقراء في المكسيك. وقد أثرت قصة شجاعة بنيتا في تحدي حكومة الأقلية والشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات في المكسيك؛ في نيكي التي ورثت عن أمها وجدتها عاطفتهما. فأعلنت أن بنيتا جارسيا هي بطلها.
صحَّح لها كيبلر الذي يتحرَّى الدقة دائمًا: «بطلتك.» ثم قال الصبي بعد مرور ثوانٍ قليلة: «وماذا عنك يا أمي؟ هل كان لديك بطل أو بطلة في صغرك؟»
ومع أن ناي كانت في مدينة كائنات فضائية، وعلى متن سفينة فضائية غريبة عن كوكب الأرض على بعد مسافةٍ سحيقةٍ من مسقط رأسها، مدينة لامفون في تايلاند، فقد حملتها ذاكرتها مدة خمس عشرة أو عشرين ثانية استثنائية عائدة بها إلى طفولتها، فرأت نفسها بوضوحٍ وهي ترتدي فستانًا قطنيًّا متواضعًا، وتسير حافية القدمَين إلى داخل المعبد البوذي؛ لتعبر عن إجلالها وتقديرها للملكة كاماتيفي. ورأت ناي أيضًا الرهبان في ملابسهم ذات اللون البرتقالي الضارب إلى الصفرة، واعتقدت أنها تستطيع للحظةٍ أن تستنشق رائحة البخور الصاعدة من الدير، أمام تمثال بوذا الأكبر بالمعبد.
فأجابته وهي مأخوذة إلى حد بعيد بتأثير ذكريات الماضي: «نعم، لقد كان لديَّ بطلة … الملكة كاماتيفي، ملكة هاريبونتشاي.»
فسألتها نيكي: «من هي يا سيدة ناي؟ هل كانت مثل بنيتا جارسيا؟»
فبدأت ناي تقص عليهم: «ليس بالضبط. فالملكة كاماتيفي كانت شابةً جميلة تعيش في مملكة المون في جنوب الهند الصينية قبل ألف عام. وكانت عائلتها ثرية وعلى علاقة وثيقة بملك المون. ولكن كاماتيفي التي كانت على قدرٍ كبيرٍ من العلم لم يتح لسيدة في ذلك الوقت، كانت تتوق إلى القيام بشيء مختلف وغير تقليدي. وذات يوم عندما كانت في التاسعة عشرة أو العشرين من عمرها زار عرافٌ المملكة …»
فسألها كيبلر: «ما معنى عراف يا أمي؟»
فابتسمت ناي. وأجابت: «شخص يتوقع المستقبل، أو على الأقل يحاول ذلك.
على أي حال، قال هذا العرَّاف للملك إن هناك أسطورة قديمة تقول إن شابة جميلة من نسل المون كريمة الأصل، ستذهب إلى الشمال عبر الغابات إلى وادي هاريبونتشاي، وتقوم بتوحيد جميع القبائل المتناحرة في هذه المنطقة. وقال ذلك العرَّاف أيضًا إن هذه السيدة ستؤسِّس مملكةً تضاهي في عظمتها عظمة مملكة المون، وستشتهر في أمصارٍ كثيرة بحكمها الرشيد. وقد روى العراف هذه القصة في أثناء مأدبة مقامة في بلاط الملك، وكانت كاماتيفي تستمع إليه. فعندما انتهت القصة، تقدمت الشابة إلى ملك المون وأخبرته أنها لا بد أن تكون هي السيدة التي تتحدث عنها الأسطورة.
ورغم معارضة والدها، قبلت كاماتيفي ما قدمه لها الملك من نقود ومؤن وأفيال، مع أن الطعام كان سيكفيها فقط للأشهر الخمسة التي ستقطعها عبر الغابة إلى أرض هاريبونتشاي. وكانت تعلم أنه إذا لم تقبل قبائل الشمال بها ملكة لهم، ستُجبر على بيع نفسها كجارية. ولكن الخوف لم يزر نفسها ولو لحظة واحدة.
وبالطبع تحققت الأسطورة وقبلتها قبائل الوادي ملكة لها، وحكمت هي سنوات طويلة فيما يعرف في التاريخ التايلندي بالعصر الذهبي للهاريبونتشاي. وعندما تقدم العمر بكاماتيفي، قسمت مملكتها بدقة إلى قسمَين متساويَين ومنحتهما لابنَيها التوءمَين. ثم اعتزلت العالم إلى دير بوذي لتتعبد فيه وتشكر الرب على محبته وعنايته. قد ظلت كاماتيفي محتفظةً برجاحة عقلها وبصحتها، حتى ماتت عن تسعة وتسعين عامًا.»
ولأسباب لم تفهمها ناي، شعرت بأن عاطفة جياشة تجتاحها وهي تحكي القصة. وعندما انتهت منها، كانت لا تزال ترى في عقلها صورة اللوحات على جدران المعبد في لامفون التي تجسد حكاية كاماتيفي. وقد كانت ناي مستغرقة بكل كيانها في قصتها، حتى إنها لم تلاحظ أن باتريك ونيكول وآرشي قد دخلوا جميعهم إلى الفصل، وجلسوا على الأرض خلف الأطفال.
•••
بعد عدة دقائق قال آرشي ونيكول تترجم ما يقول: «لدينا الكثير من القصص المشابهة التي نقصها نحن أيضًا على صغارنا. ومعظمها قصص قديمة للغاية. ولكن هل هي حقيقية؟! هذا الأمر لا يهم أي أوكتوسبايدر في الواقع. فهذه القصص تسلي الأطفال وتعلمهم وتلهمهم.»
فقالت ناي لآرشي: «أنا واثقة أن الأطفال سيحبون سماع إحدى قصصكم. في الواقع جميعنا سنحب ذلك.»
لم يقل آرشي شيئًا لبرهة. وكان سائل عدساته شديد النشاط يتحرك جيئة وذهابًا، وكأنه يفحص بدقة البشر المحدقين به. وفي النهاية، بدأت الشرائط الملونة تتدفَّق من الشق وتدور دورةً كاملةً حول رأسه الرمادي. ثم بدأ يروي: «في سالف العصر والأزمان، في عالم بعيد يتمتع بموارد وفيرة وجمال يفوق الوصف، كانت جميع كائنات الأوكتوسبايدر تعيش في محيطٍ شاسع. وعلى اليابسة كانت هناك كائناتٌ كثيرة أحدها …»
قاطعته نيكول وقالت له وللآخرين: «أنا آسفة، لا أدري كيف أترجم تتابع الألوان التالي.»
فاستخدم آرشي عدة جمل جديدة محاولًا تعريف الكلمة بأسلوب آخر. فقالت نيكول في نفسها: «تلك التي انقرضت قبل … حسنًا على الأرجح ليس من الضروري في القصة أن تكون كل كلمة صحيحة مائة بالمائة … سأطلق عليهم «السلف».»
استمرَّت نيكول في ترجمة ما يقول آرشي: «على يابسة هذا الكوكب الجميل كان هناك الكثير من الكائنات، تفوق عليهم في الذكاء إلى حد بعيد السلف. فقد صمموا مركبات تحلق في الجو واستكشفوا جميع الكواكب والنجوم المجاورة لهم، بل وتعلموا كيف يخلقون حياةً من مواد كيميائية بسيطة في أماكن لم تكن بها حياة من قبل. وغيروا طبيعة اليابس والمحيطات بمعرفتهم التي لا يتصورها عقل.
وحدث أن قرَّر السلف أن كائنات الأوكتوسبايدر لديها قدرات وإمكانات هائلة غير مستغلة لم يكشف عنها النقاب، في السنوات الطويلة من حياتها في الماء، فبدءوا يعلمون كائنات الأوكتوسبايدر كيف ينمون إمكاناتهم الدفينة ويستغلونها. وبمرور السنوات، أصبحت كائنات الأوكتوسبايدر، بفضل السلف، هي ثاني أذكى كائنات على الكوكب ونشأت بينهم وبين السلف علاقات معقدة ووثيقة.
وفي أثناء ذلك، ساعد السلف كائنات الأوكتوسبايدر على تعلُّم العيش خارج المياه، عن طريق استخلاص الأكسجين من هواء الكوكب الجميل مباشرة. فبدأت مستعمرات كاملة من كائنات الأوكتوسبايدر تقضي حياتها بأكملها على اليابسة. وفي يوم من الأيام، بعد لقاء مهم بين قادة السلف وقادة كائنات الأوكتوسبايدر، أُعلن أن جميع كائنات الأوكتوسبايدر ستصبح كائنات برية وستتخلى عن مستوطناتها في المحيطات.
وهناك على عمق سحيق من سطح البحر، كانت هناك مستوطنة واحدة صغيرة من كائنات الأوكتوسبايدر، لا يزيد تعداد سكانها عن ألف نسمة، يديرها مسئول تطوير محلي رأى أن كبار قادة الجنسَين لم يحسنوا اتخاذ القرار. فعارض الإعلان، مع أن الآخرين نبذوه هو ومستوطنته، ولم يكن لهم نصيب في الهبات السخية التي كان السلف يقدمونها، واستمر هو والكثير من الأجيال التي تبعته في العيش في عزلتهم وحياتهم البسيطة في قاع المحيط.
ثم حدث أن حلت نكبة مروعة على الكوكب، وأصبح من المستحيل العيش على اليابسة. فماتت الملايين والملايين من الكائنات، ولم ينجُ سوى كائنات الأوكتوسبايدر التي ظلت تعيش تحت الماء، طوال آلاف السنوات التي أتت فيها النكبة على الأخضر واليابس على سطح الكوكب.
وأخيرًا، عندما عادت الحياة إلى الكوكب، وغامر عدد قليل من كائنات الأوكتوسبايدر التي عاشت في المحيط بالخروج إلى اليابسة، لم يجدوا أحدًا من جنسهم، ولا من السلف. لقد كان لدى ذلك مسئول الأمثلية المحلي الذي عاش قبل آلاف السنوات قدرةٌ على تبصر المستقبل. ولولا تصرفه ذلك، لانقرضت جميع كائنات الأوكتوسبايدر. ولهذا حتى اليوم لا تزال كائنات الأوكتوسبايدر الذكية تحتفظ بقدرتها على العيش في البر والبحر.»
أدركت نيكول في بداية القصة أن آرشي كان يسرُّ إليهم بشيءٍ يختلف تمامًا عن أي شيءٍ أخبرهم به من قبل. هل كان ذلك بسبب الحوار الذي دار بينهم صباح ذلك اليوم، عندما أخبرت آرشي أنهم يريدون العودة إلى عدن الجديدة في أسرع وقت بعد أن يولد ابن آل باكيت؟ لم تكن متيقنة من هذا. ولكنها كانت تعرف أن الأسطورة التي قصها عليهم آرشي تخبرهم أشياء عن كائنات الأوكتوسبايدر، ما كان البشر ليكتشفوها بأي صورة أخرى.
فقالت نيكول وهي تمس آرشي برفق: «لقد كانت رائعة حقًّا. لا أعرف إذا كان الأطفال قد استمتعوا بها …»
فقال كيبلر: «أعتقد أنها قصة رائعة. لم أكن أعرف أنه بإمكانكم التنفس تحت الماء.»
قالت ناي: «بالضبط مثل الطفل وهو جنين في رحم أمه.» في تلك اللحظة اندفع ماكس باكيت وهو منفعل إلى الغرفة.
قال: «تعالَي بسرعة يا نيكول. لا يفصل الانقباضات عن بعضها سوى أربع دقائق فقط.»
التفتت نيكول إلى آرشي وهي تنهض. وقالت: «رجاءً، أخبر الدكتور بلو أن يحضر مهندس التصوير ونظام رباعيات الأطراف المُصورة. بسرعة!»
•••
كان من المذهل حقًّا مشاهدة عملية ولادة من الخارج والداخل في الوقت نفسه. وكانت نيكول تعطي تعليماتٍ لكلٍّ من إيبونين والأوكتوسبايدر مهندس التصوير عبر الدكتور بلو. فكانت تهتف لإيبونين: «تنفسي، يجب أن تتنفسي أثناء الانقباضات.» وتقول للدكتور بلو: «حركهم إلى مكان أقرب، إلى أسفل قناة الولادة، وزد الإضاءة قليلًا.»
كان ريتشارد مبهورًا للغاية بما يرى. حيث كان يقف بعيدًا عند أحد أركان غرفة النوم، وعيناه تتنقلان جيئة وذهابًا بين الصور على الحائط وكائني الأوكتوسبايدر ومعداتهما. وكان ما يظهر في الصور يُعرَض متأخرًا بمعدل انقباضةٍ كاملة عما يحدث على الفراش. وفي نهاية كل انقباضة، كان الدكتور بلو يعطي نيكول قطعة لاصقة صغيرة دائرية الشكل؛ لتلصقها على الجزء الداخلي من أعلى فخذ إيبونين. وفي غضون ثوانٍ، تسرع طفيليات التصوير الضئيلة التي كانت داخل جسد إيبونين، خلال الانقباضة الأخيرة إلى القطعة اللاصقة، وتتسلق الطفيليات الجديدة منها إلى قناة الولادة. وتظهر مجموعة أخرى من الصور على الحائط بعد تأخير يستغرق عشرين أو ثلاثين ثانية لمعالجة البيانات.
أما ماكس، فقد كان يقود الجميع إلى حافة الجنون. عندما كان يسمع صرخة إيبونين أو أنينها، كما كانت تفعل من حين إلى آخر قرب ذروة كل انقباضة، يسرع إلى جوار الفراش ويمسك بيدها. ويقول لنيكول: «إنها تتألم بشدة يا نيكول. يجب أن تفعلي شيئًا لمساعدتها.»
وبين الانقباضات عندما كانت إيبونين تقف إلى جوار الفراش بناءً على نصيحة نيكول؛ كي تجعل الجاذبية الصناعية تساعدها في عملية الولادة، كانت حالة ماكس تسوء أكثر فأكثر. فصورة ابنه الذي لم يولد بعد وهو محشور في قناة الولادة يجاهد للخروج بعناء من ضغط الانقباضة السابقة؛ تجعله يفقد صوابه. وقال ماكس بعد انقباضة أكثر حدة من سابقاتها: «يا إلهي، انظروا، انظروا. رأسه عالق. اللعنة، لا توجد مساحة كافية له. لن تكتب له الحياة.»
قبل لحظات قليلة من خروج ماريوس كلايد باكيت إلى العالم، اتخذت نيكول قرارَين مهمَّين. أولًا، قررت أن الصبي لن يولد دون قدر من المساعدة. وسيكون من الضروري أن تفتح جزءًا بسيطًا في قناة الولادة حتى تهدئ من الألم وتخفف من التمزق المصاحبين للولادة. وثانيًا، يجب أن يخرج ماكس من غرفة النوم قبل أن يفقد رشده تمامًا، ويفعل شيئًا قد يعيق عملية الولادة.
قامت إيلي بناءً على طلب نيكول بتعقيم المشرط. فنظر ماكس إلى المشرط وعيناه متسعتان عن آخرهما. وسأل نيكول: «ماذا ستفعلين بهذا الشيء؟»
فقالت نيكول بهدوء في الوقت الذي شعرت فيه إيبونين بقدوم انقباضة أخرى: «ماكس، إنني أحبك جدًّا، ولكني أريدك أن تغادر هذه الغرفة، من فضلك. ما سأفعله الآن سيسهل مجيء ماريوس، ولكنه لن يبدو جيدًا …»
لم يتحرك ماكس من مكانه. فوضع باتريك الذي كان يقف عند باب الغرفة يده على كتف صديقه، وإيبونين تبدأ في الأنين مرة أخرى. كان رأس الطفل يضغط بوضوح على الفتحة المهبلية. فبدأت نيكول تجري الفتح بالمشرط. فصرخت إيبونين في ألم. وجنَّ جنون ماكس الذي صاح بمجرد أن رأى الدماء: «لا. لا … اللعنة … اللعنة.»
فصاحت نيكول بحزم آمر وهي تنتهي من إجراء الفتح: «الآن … اخرج الآن.» كانت إيلي تمسح الدماء بأسرع ما يمكنها. فأدار باتريك ماكس باتجاهه واحتضنه وقاده إلى غرفة المعيشة.
فحصت نيكول الصورة على الحائط بمجرد ظهورها. ووجدت أن ماريوس الصغير في وضعٍ ممتاز. ففكرت في نفسها برهة قصيرة: «يا لها من تكنولوجيا رائعة! إنها ستغير عمليات الولادة بالكامل.»
ولكن لم يكن لديها وقت للاسترسال في أفكارها. فقد كانت انقباضة جديدة تبدأ. مدت نيكول يدها وأمسكت بيد إيبونين. وقالت: «قد تكون هذه هي انقباضة الولادة. أريدك أن تدفعي بكل ما أوتيت من قوة. طوال الانقباضة بأكملها.» وأخبرت نيكول الدكتور بلو أنهم لن يحتاجوا إلى مزيد من الصور.
صرخت نيكول وإيلي معًا: «ادفعي.»
ظهرت قمة رأس الطفل. ورأوا خصلات صغيرة من الشعر البني الفاتح.
فقالت نيكول: «مرة أخرى. ادفعي مرة أخرى.»
فقالت إيبونين وهي تنتحب: «لا أستطيع.»
«بل يمكنك … ادفعي.»
قوست إيبونين ظهرها والتقطت نفسًا عميقًا، وبعد لحظاتٍ اندفع ماريوس الوليد بين يدَي نيكول. وكانت إيلي جاهزةً بالمقص لقطع الحبل السري. وبدأ الطفل يبكي بصورة طبيعية دون الحاجة إلى حثِّه على ذلك. فهرول ماكس إلى الغرفة.
أنهت نيكول مسح السوائل المتخلفة وربطت الحبل السري، وأعطت الوليد لأبيه الفخور. وقالت: «لقد وصل ابنك.»
قال ماكس المرتبك الذي شع وجهه سعادة: «يا إلهي … يا إلهي … ماذا أفعل الآن؟» وكان يحمل الطفل وكأنه هشٌّ كالزجاج ونفيس كالماس.
فقالت نيكول وهي تبتسم: «يمكنك أن تقبله. وستكون هذه بداية جيدة.»
فأحنى ماكس رأسه وقبَّل ماريوس برفق. فقالت إيبونين: «ويمكنك أن تحضره إلى هنا للقاء أمه.»
انهمرت دموع السعادة لتغرق وجنتي الأم الجديدة، عندما نظرت إلى ابنها عن قرب للمرة الأولى. ساعدت نيكول ماكس كي يضع الطفل على صدر إيبونين. ثم قال ماكس وهو يعتصر يد إيبونين: «آه يا فرنسيتي الجميلة، كم أحبك … كم أحبك حبًّا جمًّا.»
هدأ ماريوس — الذي كان يبكي دون توقف منذ لحظة ولادته — عندما استقر في مكانه الجديد فوق صدر أمه. وأخذت إيبونين تربت بحنان بيدها الأخرى على وليدها الجديد. وفجأة انفجرت عينا ماكس بالدموع. وقال: «شكرًا لك يا حبيبتي إيبونين. شكرًا لك يا نيكول. شكرًا لك يا إيلي.»
وأخذ ماكس يشكر كل من في الغرفة مرارًا وتكرارًا وكائني الأوكتوسبايدر معهم. وللدقائق الخمس التالية، كان ماكس عبارةً عن آلة حية للعناق. فلم ينجُ من أحضانه الممتنَّة أحد ولو كائني الأوكتوسبايدر.
٦
طرقت نيكول برفق على الباب، ثم أطلت برأسها داخل الغرفة. وقالت: «معذرة. هل يوجد أحد مستيقظ هنا؟»
تقلب كلٌّ من إيبونين وماكس، ولكن دون أن يفتح أيهما عينيه لتحية نيكول. في حين كان ماريوس الصغير نائمًا نومًا هنيئًا بين أبوَيه. وبعد برهةٍ تمتم ماكس: «كم الساعة الآن؟»
فقالت نيكول: «خمس عشرة دقيقة بعد الموعد المحدد لفحص ماريوس. سيعود الدكتور بلو بعد قليل.»
تأوه ماكس ووكز إيبونين بمرفقه. وقال لنيكول: «ادخلي.» كان ماكس يبدو مرهقًا للغاية. وكانت عيناه حمراوين ومنتفختين وأسفلهما متورم. سألها وهو يتثاءب: «لماذا لا ينام الرضع أكثر من ساعتين متواصلتين؟»
وقفت نيكول على الباب. وقالت: «بعضهم يفعل يا ماكس … ولكن هذا الأمر يختلف من طفل لآخر. فبعد الولادة مباشرة، يتبع الأطفال عادةً الوتيرة نفسها التي كانوا يشعرون معها بالراحة وهم في الرحم.»
اعتدلت إيبونين بصعوبة. وقالت: «علام المشتكى؟ ما عليك سوى الاستماع إلى بعض البكاء وتغيير الحفَّاظة من حين لآخر، ثم تعود لتنام … أما أنا فيجب أن أظل مستيقظة وهو يرضع … هل حاولت قط أن تنام وهناك طفل صغير يرضع من ثدييك؟»
فقالت نيكول وهي تضحك: «ما هذا؟ هل فقد الوالدان الجديدان فرحتهما بالمولود بعد أربعة أيام فقط؟»
فقالت إيبونين وهي ترغم نفسها على الابتسام وهي ترتدي ملابسها: «ليس صحيحًا. ولكن يا إلهي! كم أنا متعبة!»
فقالت نيكول: «هذا طبيعي. لقد مر جسدك بعملية كبيرة. تحتاجين إلى الراحة. وكما أخبرتك أنت وماكس بعد ميلاد ماريوس بيومٍ واحد، عندما أصررتما على إقامة حفل، أن الطريقة الوحيدة كي تحصلي على كفايتك من النوم في أول أسبوعَين، هي أن تكيفي جدولك اليومي مع جدوله.»
فقال ماكس: «أنا أوافقك.» ثم ترنح مغادرًا الغرفة ومعه ملابسه متجهًا إلى الحمام.
نظرت إيبونين إلى الحفَّاظة المستطيلة الشكل، ذات اللون الأزرق الفاتح التي أخرجتها نيكول لتوها من حقيبتها. وقالت: «هل هذه واحدة من الحفَّاظات الجديدة؟»
فأجابتها نيكول: «نعم. لقد أدخل مهندسو كائنات الأوكتوسبايدر بعض التحسينات الإضافية عليها. وبالمناسبة لا يزال عرضهم الخاص بكائنات التنظيف مطروحًا. إنهم لا يملكون شيئًا للتعامل مع بول ماريوس، ولكن طبقًا لحساباتهم مع وجود هذه الكائنات فإنه سيتغوط فقط …»
فقاطعتها إيبونين: «يعارض ماكس الفكرة تمامًا. ويقول إن الصبي الصغير لن يكون فأر تجارب لكائنات الأوكتوسبايدر.»
فعقبت نيكول: «لن أصف الأمر بالتجربة. فكائنات التنظيف الخاصة التي صمموها، ما هي إلا نسخة معدلة تعديلًا طفيفًا من الكائنات التي تنظِّف حماماتنا منذ ستة أشهر. ثم فكري في المتاعب التي ستتجنبينها …»
فقالت إيبونين بحزم: «لا، ولكن اشكري كائنات الأوكتوسبايدر على أي حال.»
عندما عاد ماكس، كان يرتدي ملابسه التي سيقضي بها اليوم، ولكنه لم يحلق ذقنه بعد. فقالت له نيكول: «ماكس، أريد أن أخبرك بأمر قبل أن يعود الدكتور بلو. لقد دار أخيرًا بيني وبين آرشي حوار طويل حول رحيلنا إلى عدن الجديدة. وعندما شرحت لآرشي أننا جميعًا نريد الرحيل، وحاولت إعطاءه بعض الأسباب لهذا، قال إنه ليس من سلطته الموافقة على رحيلنا.»
فسألها ماكس: «ماذا يعني هذا؟»
«قال آرشي إنه أمر يرجع إلى مسئول الأمثلية.»
فقال ماكس: «آها! إذن لقد كنت محقًّا طوال هذه الفترة. إننا سجناء هنا ولسنا ضيوفًا.»
«كلا، ليس كذلك إن كنت قد فهمت ما قاله آرشي فهمًا صحيحًا. لقد أخبرني أن هذا الأمر «يمكن الإعداد له إذا كان ضروريًّا» ولكن مسئول الأمثلية وحده يفهم «جميع العوامل» المتعلقة بالموضوع بصورة كافية تجعله يتخذ قرارًا مدروسًا.»
فقال ماكس متذمرًا: «المزيد من هراء كائنات الأوكتوسبايدر.»
فأجابته نيكول: «لا أظن هذا. فقد شجعني هذا الحديث في الواقع … ولكن آرشي قال إننا لن نستطيع تحديد موعد للاجتماع مع مسئول الأمثلية، حتى تنتهي «مراسم الاختيار» … هذا ما كان جيمي منشغلًا به طوال الوقت. ومن الواضح أنها تقام كل عامين تقريبًا وتحضرها المستوطنة بالكامل.»
فسأل ماكس: «ومتى تنتهي مراسم الاختيار هذه؟»
«بعد أسبوع. وقد تلقيت أنا وريتشارد وإيلي دعوة للمشاركة في بعض فعاليات المراسم الليلة … ويبدو الأمر مثيرًا للاهتمام.»
فقالت إيبونين لماكس: «لن أستطيع أنا وماريوس الرحيل قبل عدة أسابيع على أي حال. لذا لن يضيرنا الانتظار أسبوعًا واحدًا.»
في تلك اللحظة، طرق الدكتور بلو الباب. ثم دلف إلى غرفة النوم ومعه الجهاز المتخصص الذي سيستخدم في فحص ماريوس. نظر ماكس بارتياب إلى الحقيبتَين المصنوعتَين من البلاستيك، والحاويتَين لكائناتٍ ملتويةٍ تشبه المكرونة المعدة بحبر حيوان الحبار.
سألها وقد اكفهر وجهه: «ما هذه الأشياء اللعينة؟»
انتهت نيكول من رص أدواتها على المنضدة إلى جوار الفراش. وقالت وهي تبتسم: «ماكس، لمَ لا تذهب إلى الحجرة المجاورة لخمس عشرة الدقيقة القادمة؟»
فعقد ماكس ما بين حاجبَيه. وقال: «ماذا ستفعلون بصغيري؟ هل ستلقونه في الزيت المغلي؟»
فضحكت نيكول وقالت: «لا. ولكن من حين لآخر قد يبدو الأمر وكأننا نفعل ذلك.»
•••
حملت إيلي نيكي الصغيرة واحتضنتها. فتوقفت الفتاة عن البكاء قليلًا. وقالت إيلي: «ستخرج أمك مع جدك وجدتك وآرشي والدكتور بلو. وسنعود بعدما تأوين إلى الفراش. ستكونين بخير هنا مع السيدة ناي وبينجي والتوءمين …»
فقالت نيكي في صوت حزين: «لا أريد أن أبقى هنا. أريد الذهاب مع أمي.» ثم طبعت قبلة على وجنة إيلي. وتطلعت إليها في ترقب.
وعندما وضعت إيلي الطفلة مرة أخرى على الأرض بعد بضع ثوان، عبس وجه نيكي الجميل وبدأت تنتحب. ثم صرخت عندما سارت أمها متجهة إلى الباب: «لا أريد …»
هزت إيلي رأسها في أسف، والخمسة يسيرون في اتجاه الميدان. وقالت: «أتمنى لو أعلم ما ينبغي أن أفعله من أجلها. فمنذ تلك الحادثة في الاستاد وهي ملتصقة بي …»
فقالت نيكول: «قد تكون هذه مرحلة طبيعية. فالأطفال يتغيرون بسرعة كبيرة في سنها. كما أن نيكي لم تعُد هي بؤرة الاهتمام منذ ولادة ماريوس.»
فقالت إيلي بعد بضع ثوانٍ: «أظن أن المشكلة أكبر من هذا.» ثم التفتَت إلى نيكول. وقالت: «للأسف يا أمي أعتقد أن إحساس نيكي بعدم الأمان يرتبط أكثر بغياب روبرت، وليس بوصول ماريوس.»
فقال ريتشارد: «ولكن مرَّ أكثر من عامٍ على رحيل روبرت.»
فأجابته إيلي: «لا أظن أن هذا يصنع فارقًا. فلا بد أن نيكي لا تزال تذكر كيف كان يبدو الأمر، عندما كان لديها والدان. والأمر بالنسبة إليها على الأرجح كما لو أنني تركتها أولًا ثم تركها روبرت. لا عجب إذن في أنها لا تشعر بالأمان.»
مسَّت نيكول ابنتها برفق. وقالت لها: «ولكن يا إيلي، إن كنت محقة، فلماذا تتصرف الآن فقط بهذا الشكل؟»
فأجابتها إيلي: «لا أعلم عن يقين. ربما ذكَّرتها حادثة الإجوانا بمدى هشاشتها … ومدى فقدانها لحماية والدها.»
سمعوا صوت بكاء نيكي العالي من خلفهم. فقالت إيلي وهي تتنهد: «أيًّا كان ما يزعجها، أتمنى أن تتخطاه سريعًا. فعندما تبكي بهذا الشكل، أشعر أن سكينًا حادًّا يمزق قلبي.»
لم تكن هناك عربة تنتظرهم في الميدان. وواصل آرشي والدكتور بلو السير متجهين نحو المبنى الهرمي الشكل، حيث يعقد البشر وكائنات الأوكتوسبايدر اجتماعاتهم عادة. وشرح لهم الدكتور بلو قائلًا: «إن هذه أمسية خاصة، وهناك كثير من الأشياء التي يجب أن نطلعكم عليها قبل أن نغادر المنطقة المخصصة لكم.»
سألتها نيكول وهم يدلفون إلى المبنى: «أين جيمي؟ كنت أظن أنه سيذهب معنا. وبمناسبة هذا الحديث، ماذا حدث لهرقل؟ إننا لم نره منذ الاحتفال بعيد النعَم.»
وبينما كانوا يصعدون الدرج معًا إلى الطابق الثاني من المبنى الهرمي، أخبرهم الدكتور بلو أن جيمي مع زملائه المشاركين في مراسم الاختيار ذلك المساء، أما هرقل فقد «تولى مهمة أخرى.»
فقال ريتشارد مازحًا: «يا إلهي، إنه لم يودعنا حتى.»
فاعتذر كائنا الأوكتوسبايدر، اللذان لم يتعلما بعد فهم الدعابات البشرية، عن سوء سلوك هرقل. وذكرا أنه لن يعيش كائن أوكتوسبايدر بعد ذلك بين البشر للمراقبة اليومية.
فسألهما ريتشارد وهو لا يزال يمزح: «هل طرد هرقل من عمله لسبب ما؟» فتجاهل الكائنان سؤاله تمامًا.
ثم دلفوا إلى غرفة الاجتماعات نفسها التي تعرفت فيها نيكول على عملية الهضم لدى كائنات الأوكتوسبايدر. وكانت هناك عدة أوراق ضخمة من الورق الفاخر، أو جلود الحيوانات في ركن الغرفة مواجهة للحائط، وقد خطَّت عليه كائنات الأوكتوسبايدر رسوماتهم ومخططاتهم. وطلب الدكتور بلو من ريتشارد ونيكول وإيلي الجلوس.
ثم قال لهم آرشي: «إن ما سترونه في وقت لاحق الليلة، لم يره من قبلُ أيُّ كائن غير كائنات الأوكتوسبايدر، منذ إنشاء هذه المستوطنة على متن راما. إننا سنصطحبكم معنا كمحاولةٍ لزيادة كفاءة التواصل بين الجنسَين. ومن المهم أن تفهموا — قبل أن نغادر هذه الغرفة ونتجه إلى «الموطن البديل» — ما سترَونه، وتدركوا السلوك المتوقع منكم.»
واصل الدكتور بلو مضيفًا: «لا يجب تحت أي ظرف أن تقاطعوا المراسم، أو تحاولوا التفاعل مع أي شخص أو أي شيء تجدونه طوال الطريق، سواء في الذهاب أو العودة. ويجب أن تتبعوا تعليماتنا في كافة المواقف. فإذا لم يكن بإمكانكم قبول هذه الشروط أو لا تريدون قبولها، يجب أن تخبرونا الآن ولن نصطحبكم معنا.»
نظر البشريون الثلاثة بعضهم إلى بعض في قلق. وقالت نيكول بعد صمت: «إنكم تعرفوننا جيدًا. وأرجو ألَّا تطالبونا بفعل شيء يخالف قيمنا أو مبادئنا. فلا يمكننا …»
قاطعها آرشي: «ليس هذا من شأننا. إن كل ما نطلبه منكم ببساطةٍ هو أن تكونوا مشاهدين صامتين، مهما كان ما ترونه أو تمرون به. فإذا شعرتم بالارتباك أو بالخوف، ولم تستطيعوا لسببٍ ما تحديد مكان أيٍّ منا، فالزموا الجلوس أينما كنتم، وضعوا أيديكم إلى جانبكم، وانتظروا حتى نأتي.»
ساد الصمت لحظة قصيرة. ثم استأنف آرشي حديثه: «لا يسعني أن أؤكد لكم أكثر من ذلك على مدى أهمية سلوككم الليلة. لقد اعترض معظم القادة الآخرين عندما طلبت السماح لكم بالحضور. وقد شهدت أنا شخصيًّا والدكتور بلو على قدرتكم على الالتزام.»
فسأله ريتشارد: «هل حياتنا في خطر؟»
فأجاب آرشي: «على الأرجح لا. ولكن من الممكن أن تكون كذلك. وإذا فشلت الأمور الليلة بسبب أي شيء يفعله أحدكم، فأنا لست واثقًا …» وعلى غير المعتاد من كائنات الأوكتوسبايدر، لم ينهِ آرشي عبارته.
وهنا سألته نيكول: «هل تخبرنا أن طلبنا العودة إلى عدن الجديدة يرتبط على نحوٍ ما بهذا؟»
فقال آرشي: «إن علاقتنا المتبادلة قد وصلت إلى مرحلة مختلفة. وبمشاركتنا إياكم جزءًا حساسًا من مراسم الاختيار، فإننا نحاول الوصول إلى مستوًى جديد من التفاهم. ومن هذا المنطلق، فإن الإجابة عن سؤالكِ هي نعم.»
•••
قضت المجموعة نصف تيرت تقريبًا، أي ساعتَين بتوقيت البشر، في قاعة المؤتمرات. بدأ آرشي بشرح ماهية مراسم الاختيار، فأخبرهم الأوكتوسبايدر أن جيمي ورفاقه قد أتمُّوا مرحلة المراهقة من حياتهم وهم على وَشْك الانتقال إلى مرحلة البلوغ. وبوصفهم يافعين، كانت هناك قيودٌ مفروضة على حياتهم، ولم يكن مسموحًا لهم أن يتخذوا أي قرارات مهمة. وفي نهاية مراسم الاختيار، سيتخذ كلٌّ من جيمي وكائنات الأوكتوسبايدر الصغار الآخرين قرارًا غاية في الأهمية، قرارًا سيُغير حياتهم تغييرًا جذريًّا. والهدف من مراسم الاختيار، بل جزء كبير من السنة السابقة للبلوغ، هو إمداد مراهقي الأوكتوسبايدر بمعلوماتٍ تساعدهم على اتخاذ ذلك القرار المهم.
وواصل آرشي: «سيتم الليلة نقل جميع اليافعين إلى الموطن البديل لمشاهدة …»
في البداية لم تعرف أيٌّ من إيلي أو نيكول كيف تترجم إلى الإنجليزية ذلك الشيء الذي سيراه شباب كائنات الأوكتوسبايدر. وفي النهاية، بعد نقاشٍ بينهما وعدد من العبارات التوضيحية من الدكتورة بلو وآرشي، قرَّرت السيدتان أن أفضل ترجمةٍ لما قاله آرشي هي «مسرحية أخلاقية».
حاد الحديث عن الموضوع عدة دقائق تالية، حيث أخذ كلٌّ من الدكتور بلو وآرشي يشرحان، إجابة عن أسئلة البشر، أن الموطن البديل هو منطقة خاصة من عالم كائنات الأوكتوسبايدر ليست أسفل القبة. فقال آرشي: «هناك مستوطنة أخرى جنوب مدينة الزمرد يختلف بها نمط الحياة تمامًا عن نمط حياتنا. يعيش ما يقرب من ألفَين من كائنات الأوكتوسبايدر هناك في الوقت الحالي، بالإضافة إلى حوالَي ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف كائن آخرين يمثلون اثني عشر جنسًا من الكائنات المختلفة. حياتهم فوضوية وغير منظمة. فلا توجد فوق رءوس كائنات أوكتوسبايدر الموطن البديل قبة لحمايتهم، وليس لديهم مهام محددة يقومون بها، ولا أنشطة محددة للتسلية، ولا يتاح لهم الوصول إلى المعلومات في المكتبة، وليس لديهم طرقات أو منازل فيما عدا تلك التي بنوها هم لأنفسهم، ويبلغ متوسط أعمارهم عشر متوسط أعمار كائنات الأوكتوسبايدر الطبيعية التي تعيش في مدينة الزمرد تقريبًا.»
تذكَّرت إيلي كيف أن ناكامورا شيد منطقة أفالون، للتعامل مع المشكلات التي يريد سكان المستوطنة في عدن الجديدة نسيانها. وظنَّت أنه قد يكون الموطن البديل مكانًا مشابهًا لها.
فسألت: «لماذا تم إجبار هذا العدد الكبير من أبناء جنسك — أكثر من عشرة بالمائة منهم إذا كانت حساباتي دقيقة — على العيش خارج القبة؟»
فرد الدكتور بلو: «لم يُجبَر أيُّ أوكتوسبايدر طبيعي على العيش في الموطن البديل. إنهم يعيشون هناك لأنهم هم من اختاروا ذلك.»
فسأل البشريون الثلاثة في صوتٍ واحد تقريبًا: «ولكن لماذا؟»
اتجه الدكتور بلو إلى ركن الغرفة وجلب بعض المخططات. استخدم كائنا الأوكتوسبايدر المخططات بصورة مكثفة في أثناء الحوار الطويل التالي. في البداية شرحا لهم أنه قبل مئات الأجيال، توصَّل علماء الأحياء إلى تحديد العلاقة التي تربط بين النشاط الجنسي والعديد من الخصائص السلوكية، أهمها على الإطلاق الطموح الشخصي، والعدوانية، والدفاع عن الموطن، والشيخوخة. وقد توصَّلوا إلى ذلك الاكتشاف، في أثناء فترةٍ من تاريخ كائنات الأوكتوسبايدر، كان قد بدأ فيها التحول إلى نظام التطوير أو الأمثلية الذي يطبقونه. ولكن رغم افتراض موافقة الجميع على تنظيم أفضل من الناحية النظرية لمجتمع كائنات الأوكتوسبايدر، فقد حال نشوب الحروب والنزاعات القبائلية والأعمال الفوضوية الأخرى المستمرة دون هذا التحول. ولذا افترض علماء الأحياء في ذلك الوقت أن مجتمعًا عديم النشاط الجنسي، أو مجتمعًا تكون فيه نسبة ضئيلة فقط هي التي تمارس نشاطًا جنسيًّا، سيكون قادرًا على الالتزام بمبادئ التحول إلى النمط الأمثل، الذي تأتي فيه رغبات الفرد في المرتبة بعد مصلحة المستوطنة بأسرها.
وقد تلا ذلك سلسلة من الصراعات بدا أنها لن تنتهي؛ فأقنعت جميع كائنات الأوكتوسبايدر التي تتطلع إلى المستقبل في تلك الحقبة، أن حلم الحياة المثلى ما هو إلا حلم عبثي ما لم يتوصلوا إلى طريقة أو وسيلة، لمقاومة النزعة الفردية التي تعوق، ولا شك، قبول النظام الجديد. ولكن ما الذي يمكن فعله؟ وتعاقب العديد من الأجيال قبل أن يتوصلوا إلى اكتشاف عبقري. فقد توصلت الأبحاث إلى أن هناك مواد كيميائية خاصة، في محصولٍ يشبه قصب السكر يطلق عليه باريكان، تبطئ النضوج الجنسي في كائنات الأوكتوسبايدر. وخلال عدَّة قرون من الزمان، نجح المهندسون المتخصصون في مجال الهندسة الوراثية في تخليق شكلٍ مغايرٍ من الباريكان وإنتاجه؛ بحيث إذا تناولته كائنات الأوكتوسبايدر بانتظام فسيمنع عندها عملية النضوج الجنسي من الأساس.
وقد حقَّقت الحالات والمستوطنات التي اختبر عليها الاكتشاف نجاحًا يفوق ما كان يحلم به علماء الأحياء وعلماء السياسة التقدميون. وقد كانت كائنات الأوكتوسبايدر غير الناضجة جنسيًّا أكثر استجابة للمفاهيم العامة لعملية التحول إلى نظام الأمثلية. بالإضافة إلى هذا، تأخر التقدم في السن بطريقة ما في كائنات الأوكتوسبايدر التي تناولت الباريكان. وقد توصَّل علماء الأوكتوسبايدر سريعًا إلى أن التقدم في العمر يرتبط بآلية الساعة البيولوجية نفسها، التي ترتبط بها عملية البلوغ، وفي الواقع، إن الإنزيمات التي تجعل الخلايا لا تتجدَّد بصورةٍ سليمة في كائنات الأوكتوسبايدر الأكبر سنًّا، لم تنشط إلا بعد فترةٍ معينةٍ تعقب النمو الجنسي.
وأكَّد آرشي والدكتور بلو أن مجتمع كائنات الأوكتوسبايدر مرَّ بتغيراتٍ سريعة، بعد هذه الاكتشافات الهائلة. فقد أحكم نظام الأمثلية قبضته على شتى مناحي الحياة. وبدأ علماء الاجتماع في مجتمع كائنات الأوكتوسبايدر يضعون تصورًا لمجتمعٍ تكون فيه كائنات الأوكتوسبايدر خالدةً تقريبًا، أي لا تفنى إلا من جراء الحوادث أو الإخفاق المفاجئ لعضوٍ أساسي وخطير في الجسم. وهكذا، انتشرَت كائنات الأوكتوسبايدر العديمة النشاط الجنسي في كل المستعمرات، وكما توقَّع علماء الأحياء لم يعُد هناك وجود تقريبًا للطموح الشخصي والعدوانية.
وواصل آرشي: «حدثت كل هذه الوقائع قبل عدة أجيال مضت، وهي في المقام الأول خلفية لكم لتفهموا ماهية مراسم الاختيار. ودون الدخول في تفاصيل الفترة التاريخية المعقدة بين المرحلتَين، سيلخص لكم الدكتور بلو أين نقف اليوم في مستوطنتنا بالتحديد.»
فأخذ الدكتور بلو بزمام الحديث وقال: «كل أوكتوسبايدر قابلتموه حتى الآن تأخر نموه الجنسي بفضل الباريكان، فيما عدا الأقزام والكائنات المُخزنة للطعام فهما محايدا الجنس إلى الأبد. وقبل سنوات عدة خلت، كانت ملكة واحدة فقط من كائنات الأوكتوسبايدر هي من يمكنها إنجاب أطفال، قبل أن يُفشي عالم أحياء فاسد كيفية استحداث نوع مختلف من النشاط الجنسي في نوعنا باستخدام الهندسة الوراثية.
وكان هناك جنسان بين كائنات الأوكتوسبايدر البالغة العادية، ولكن الفرق الجوهري الوحيد بينهما هو أن أحدهما فقط لديه القدرة على تلقيح ملكة من الملكات إن كان قد وصل إلى البلوغ الجنسي. أما الكبار البالغون جنسيًّا فيدخلون في علاقة حميمة بهدف المتعة فقط، ولكن نظرًا لأن هذه العلاقة لا ينتج عنها أطفال، أصبحت الفروق بين الجنسين غير واضحة. وفي الواقع، كانت العلاقات التي تستمر فترة طويلة في المستوطنة أكثر شيوعًا بين أفراد الجنس الواحد؛ نظرًا لأنهم يتفقون في المشاعر ووجهات النظر المشتركة.
أما الآن، فقد أصبح الموقف أكثر تعقيدًا. ففي نوعنا، وبفضل عبقرية أجدادنا في مجال الهندسة الوراثية، تستطيع الأنثى الناضجة إنجاب وليدٍ عقيمٍ له متوسط عمر قصير وقدرات محدودة نوعًا ما، من خلال علاقة جنسية مع ذكر أوكتوسبايدر ناضج. إنكم لم ترَوا أيًّا من هذه الكائنات بعد؛ لأنها تعيش وفقًا لقرار صادر في الموطن البديل.»
توقف الدكتور بلو عن الحديث. فاستكمل آرشي: «بعد مراسم الاختيار مباشرة، يقرر كل مواطن صغير في المستوطنة ما إذا كان يريد أن يكون ناضجًا جنسيًّا. فإذا كانت الإجابة لا، فإن هذا الأوكتوسبايدر الصغير يعهد إلى مسئولي الأمثلية والمستوطنة ككل بحياته الجنسية. وهذا هو ما فعلته الدكتورة بلو، وهي أنثى بالمناسبة، وما فعلته أنا منذ زمن طويل. وطبقًا لقانون كائنات الأوكتوسبايدر، يمكن للفرد القيام باختيار حياته الجنسية بعد مراسم الاختيار مباشرة، دون أن تترتب أي عواقب على ذلك. ولا يتساهل القادة مع أولئك الذين يُقرِّرون الخضوع لعملية تحويل جنسي دون إذن صريح من المستوطنة، بعد أن تم التنظيم لحياتهم العملية بوضوح والتخطيط لها.»
عادت الدكتورة بلو تتحدث. قالت: «وكما شرحنا لكم الليلة، قد يبدو أنه من غير المحتمل أن يختار أوكتوسبايدر صغير المرور بالنضوج الجنسي مبكرًا. وعلى أي حال، حرصًا على تحقيق العدل، يجب أن نشير إلى أن هناك أسبابًا مقنعة، على الأقل في عقول بعض شباب الأوكتوسبايدر، تجعلهم يختارون أن يكونوا من سكان الموطن البديل. أولها وأهمها هو أن أنثى الأوكتوسبايدر تعرف أن فرصها في الإنجاب تنخفض كثيرًا، إذا اختارت أن تظلَّ عديمة الجنس بعد مراسم الاختيار. ويذكرنا تاريخنا أنه في حالة الطوارئ فقط سيُطلب من عددٍ كبيرٍ من هذه الإناث إنجاب صغار. وبصفة عامة، فإن القدرات المحدودة لهذا النوع من النسل وعدم استطاعته التكاثر، يجعلانه غير مرغوب فيه، من وجهة نظر المستوطنة بأكملها، بالطبع فيما عدا حالة الحاجة إلى أعدادٍ كبيرةٍ من كائنات الأوكتوسبايدر لدعم البنية التحتية للمجتمع.
وبعض شباب الأوكتوسبايدر لا يحبون نظامنا الصارم ومجرى حياتنا النمطي في مدينة الزمرد، ويريدون حياة يكون بإمكانهم فيها اتخاذ كافة قراراتهم. أما البعض الآخر، فيخشون أن يجعلهم مسئولي الأمثلية يعملون في مهن غير مناسبة لهم. وجميع من يختارون النضج الجنسي المبكر يرون في الموطن البديل مكانًا مثيرًا يتمتعون فيه بالحرية، ومليئًا بالمغامرة ومتع الحياة. ويُسقِطون من اعتباراتهم ما يتخلون عنه … وفي لحظات السعادة الغامرة المؤقتة تكون طبيعة حياتهم أكثر أهمية لهم من الفترة الزمنية التي سيعيشونها …»
وعلى مدار الحوار الطويل، طرح ريتشارد ونيكول وإيلي كثيرًا من الأسئلة. وبمرور الوقت بدأ البشر الثلاثة يشعرون بالارتباك التام. فقد كان حجم المعلومات أكثر مما يمكنهم استيعابه في نقاش واحد.
عندما أشار آرشي إلى أنهم قد تأخروا في الرحيل، قال ريتشارد فجأة: «انتظر لحظة، أنا آسف … هناك شيء أساسي في هذا ما زلت لا أفهمه. لماذا يُسمح لهم بالاختيار من الأساس؟ لماذا لا يقرر المسئولون أن جميع كائنات الأوكتوسبايدر ستتناول الباريكان دائمًا، وستظل عديمة الجنس حتى تحتاج المستوطنة إلى أجيال جديدة؟»
أجابه آرشي: «هذا سؤال جيد جدًّا، وإجابته معقدة. ولكني سأبسِّطها لك قدر الإمكان لضيق الوقت، وأقول لك إن جنسنا يؤمن بالسماح بقدر من حرية الاختيار. وأيضًا، كما سترى الليلة، هناك بعض الوظائف التي لا تناسب سوى سكان الموطن البديل، والتي تستفيد منها المستوطنة بأكملها.»
٧
بعد أن غادرت وسيلة التنقل التي يستقلونها المنطقة المخصصة للبشر، سلكت طريقًا مختلفًا عن ذلك الذي سلكته عندما أقلَّتهم إلى الاستاد في يوم الاحتفال بعيد النِّعم. ففي هذه المرة، أخذت تسير في شوارع خافتة الإضاءة في أطراف المدينة. ولم تقابل المجموعة في طريقها أيًّا من المشاهد المزدحمة النابضة بالحياة التي رأوها في رحلتهم السابقة. وبعد عدة شوارع، اقتربت العربة من بوابة كبيرة مغلقة تشبه كثيرًا تلك التي دخلوا منها إلى مدينة الزمرد أول مرة.
حضر اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر وأنعما النظر في العربة. وقال لهما آرشي شيئًا بلغة الألوان، فعاد أحدهما إلى ما يبدو أنه نظير مركز الحراسة لديهم. ومن على بعد، رأى ريتشارد الألوان تومض على حائط مسطح. فقالت الدكتورة بلو: «إنها تراجع الأمر مع السلطات. فقد وصلنا في غير موعدنا المتوقع؛ ومن ثم لم يعُد كود الخروج صالحًا.»
خلال عدة نيليتات من الانتظار، دخل الأوكتوسبايدر الآخر إلى العربة وفتشها بإمعان. لم يتعرَّض أيٌّ من البشر من قبل لهذه الاحتياطات الأمنية الصارمة في مدينة الزمرد، ولا حتى في الاستاد. وقد ازداد قلق إيلي عندما قام ضابط الأمن بفتح حقيبتها لرؤية ما بداخلها دون استئذان. ثم أعاد الضابط حقيبة إيلي وترجَّل عن العربة. ثم فُتحت البوابة وتحركت العربة مارة أسفل القبة الخضراء، ثم توقَّفت في الظلام بعد أقل من دقيقة.
كانت العربة محاطة في المرأب الذي توقفت فيه بثلاثين أو أربعين عربة تقريبًا. شرحت لهم الدكتورة بلو وهم يهبطون من العربة وينضم إليهم يراعتان: «هذه المنطقة يطلق عليها مقاطعة الفن. وهذه المنطقة وحديقة الحيوان، التي لا تبعد كثيرًا عن هنا، هما المنطقتان الوحيدتان في الموطن البديل اللتان يتردد عليهما أيٌّ من كائنات الأوكتوسبايدر التي تعيش في مدينة الزمرد كما يحلو له. ولا يوافق القادة على الكثير من طلبات الزيارة للمناطق السكنية بالموطن البديل، التي توجد إلى الجنوب — والواقع أن الفرصة الوحيدة التي يحظى بها معظم كائنات الأوكتوسبايدر لإلقاء نظرةٍ مستفيضةٍ على الموطن البديل؛ هي الجولة التي يقومون بها في الأسبوع الأخير من مراسم الاختيار.»
كان الهواء أكثر برودة بكثير مما كان عليه في مدينة الزمرد. فبدأ آرشي والدكتورة بلو كلاهما يسيران بسرعة لم يرَ البشر أي كائن أوكتوسبايدر يتحرك بها من قبل. ثم استدار إليهم آرشي وقال: «يجب أن نسرع وإلا فسنتأخر.» فاضطر البشر الثلاثة إلى الركوض كي يلحقوا بخطاهما السريعة.
وعندما اقتربا من منطقةٍ مضاءةٍ على بعد ثلاثمائة مترٍ تقريبًا من العربة، تحرَّك آرشي والدكتورة بلو إلى نهايتَي الصف الذي يشكله مرافقوهم البشريُّون الثلاثة، فأصبح الخمسة يسيرون جنبًا إلى جنب. وقالت الدكتورة بلو: «إننا سندخل ميدان الفنانين؛ حيث يقدم سكان الموطن البديل أعمالهم الفنية من أجل المقايضة.»
فسألتها نيكول: «ماذا تعنين بالمقايضة؟»
فأجابتها الدكتورة بلو: «يحتاج الفنانون إلى أموال للطعام وغيره من ضرورات الحياة. فيعرضون أعمالهم الفنية على سكان مدينة الزمرد الذين لديهم فائضٌ من المال.»
وبقدر ما كانت نيكول تود متابعة الحديث، فقد شتت انتباهها على الفور المجموعة المذهلة من الأشياء غير العادية، والأكشاك المؤقتة، وكائنات الأوكتوسبايدر والحيوانات الأخرى التي كانت أول ما وقعت عليها عيناها في ميدان الفنانين. وكان الميدان عبارة عن ساحة ضخمة يبلغ طول أحد جانبَيه سبعين أو ثمانين مترًا، وكان الميدان مواجهًا للمسرح — وجهتهم — ويفصلهما شارعٌ واسعٌ. مد كلٌّ من آرشي والدكتورة بلو عند طرفَي الصف إحدى لوامسهما على ظهور البشر، حتى أصبح الخمسة يتحركون مثل كيان واحد في الميدان الصاخب.
صادفت المجموعة عددًا من كائنات الأوكتوسبايدر تحمل أشياء تود مقايضتها. وقد تأكد ريتشارد ونيكول وإيلي سريعًا مما أخبرهم به آرشي في أثناء الاجتماع المطول، ولا سيما أن سكان الموطن البديل لا يلتزمون بتفاصيل اللغة الرسمية، التي تستخدمها كائنات الأوكتوسبايدر في مدينة الزمرد. فلم تكن هناك شرائط ملونة منمقة تتدفق حول رءوسهم، بل أنماط متتابعة فوضوية من بقع الألوان ذات الأحجام المختلفة اختلافًا كبيرًا. دنا منهم أحد الباعة الجائلين، لكنه تسبب في أن ترتعد إيلي من الخوف، عندما لف إحدى لوامسه حول ذراعها لجزءٍ من الثانية قبل أن يزيحها آرشي عن الطريق. فقبض آرشي على المعتدي بثلاثٍ من لوامسه، وقذفه بخشونة بعيدًا عن الطريق في اتجاه أحد كائنات الأوكتوسبايدر الذي يحمل حقيبة قماشية فوق كتفه. وقد أوضحت لهم الدكتورة بلو أن هذه الحقيبة تعني أن الأوكتوسبايدر ضابط شرطة.
كانت نيكول تسير بخطًى سريعة وحولها الكثير والكثير من الأشياء لتراها، لدرجة أنها وجدت نفسها تحبس أنفاسها. ومع أنه لم تكن لديها أدنى فكرةٍ ما الذي يمكن فعله بهذه الأشياء الكثيرة التي تُعرض للمقايضة في الميدان، فقد كانت تستطيع التعرف على اللوحات المرسومة لجميع الحيوانات المختلفة التي تعيش في مدينة الزمرد، أو التماثيل المنحوتة لها، أو الأشكال الصغيرة المصنوعة على الخشب، أو مادة مشابهة له، وقد أعجبت بها إعجابًا كبيرًا. وفي جزء من الميدان، كانت تُعرَض لوحات من القماش الفاخر مطبوع عليها أنماط ملونة، شرحت لها الدكتورة بلو فيما بعد عندما دخلوا إلى المسرح، أن هذا الشكل الخاص من الفن على هذه النماذج يمثل مزيجًا، كما فهمت من لغة البشر، بين فن الشعر وفن الخط.
وقبل أن يعبروا الشارع مباشرة، التقطت عينا نيكول مشهدًا على حائط على بعد عشرين مترًا إلى يسارها، وهو عبارة عن لوحة جدارية ضخمة جميلة بصورة تخلب الألباب. كانت الألوان قوية ولافتة للأنظار، كانت اللوحة بأكملها عمل فنان يفهم جيدًا أسس التصميم وما يفتن العيون. كما كانت المهارة الفنية مثيرةً للإعجاب أيضًا، ولكن ما بهر نيكول حقًّا كان المشاعر التي تفيض بها أجساد ووجوه كائنات الأوكتوسبايدر والمخلوقات الأخرى التي تصوِّرها اللوحة.
تمتمت نيكول لنفسها وهي تشرئب بعنقها لتقرأ العنوان الذي كُتب بلغة الألوان بعرض الجزء العلوي من اللوحة الجدارية: «انتصار الأمثلية». وكان الرسم يصوِّر سفينة فضائية، يتصدر نجم في أحد أجزاء خلفيتها وفي الجزء الآخر محيط يعجُّ بالكائنات الحية، وكذلك غابة وصحراء في الزاويتين المتقابلتين. لكن العنصر الرئيسي في الرسم كان كائن أوكتوسبايدر عملاق يحمل هراوة ويقف فوق كومة من ثلاثين حيوانًا مختلفًا، كانت تتلوَّى في الغبار أسفل لوامسه. إلا أن قلب نيكول كاد يقفز من صدرها، عندما رأت أن واحدة من تلك الكائنات التي يسحقها كائن الأوكتوسبايدر امرأةٌ بشرية شابة، لها بشرة داكنة وعينان ثاقبتان وشعر قصير متموج.
فصرخت فجأة في الآخرين: «انظروا! هناك! على اللوحة الجدارية.»
وفي تلك اللحظة، كان هناك حيوان ما صغير الحجم يزعج البشر ويلتف حول أقدامهم. فنجح في تشتيت انتباه الجميع. وقد أبعد كائنا الأوكتوسبايدر الحيوان، وقادا الصف مرة أخرى باتجاه المسرح. وبينما كانت نيكول تسير في الشارع، عادَت بعينيها لتُلقي نظرةً سريعة خلفها على اللوحة؛ كي تتأكَّد من أنها لم تكن تتخيَّل وجود امرأةٍ شابةٍ في الصورة. مع بُعد المسافة أصبح وجه السيدة وملامحها غير واضحَين، ولكن كانت نيكول واثقة من أنها رأت وجهًا بشريًّا في العمل الفني. وسألت نفسها وهم يدلفون إلى المسرح. ولكن كيف يمكن هذا؟
كانت نيكول تستمع غير منتبهةٍ إلى حديث ريتشارد مع آرشي، عن عزمه استخدام المترجم الذي صنعه في أثناء العرض المسرحي، وهي مشغولة الذهن تفكر فيما اكتشفته. وبعد أن اتخذوا مجلسهم في الصف الخامس من الصفوف المحيطة بخشبة المسرح، لم تنظر نيكول حتى عندما أشارت الدكتورة بلو بإحدى لوامسها إلى يسارهم؛ حيث يجلس جيمي وباقي كائنات الأوكتوسبايدر الذين أقيمَت مراسم الاختيار من أجلهم. وفكرت نيكول في نفسها: «لا بد أنني مخطئة.» وكانت تسيطر عليها رغبة قوية في أن تركض عائدةً إلى الميدان لتتحقَّق مما رأته. ثم تذكرت ما قاله آرشي عن ضرورة اتباع تعليماتهم بدقة، خاصة ذلك المساء. وقالت لنفسها في حين كانت ثلاث يراعات كبيرة تطير لتحلِّق فوق خشبة المسرح في المنتصف: «أنا واثقة من أنني رأيت وجه امرأة في ذلك الرسم. ولكن إذا كان هذا صحيحًا، فماذا يعني ذلك؟»
•••
لم يكن هناك أيُّ فترات استراحة أثناء العرض المسرحي الذي استمر أكثر قليلًا من وُدنَين. كانت المشاهد مستمرة ويقف واحد أو أكثر من الممثلين من كائنات الأوكتوسبايدر على خشبة المسرح المضاءة طيلة الوقت. ولم تكن هناك أي أدوات أو ملابس مسرحية. وفي بداية المسرحية، تقدمت «الشخصيات» السبع الرئيسية وقدمت نفسها باختصار، فكانوا يتكونون من صغيرَين سيشتركان في مراسم الاختيار، أحدهما ذكر والأخرى أنثى، ومجموعتَين من الآباء بالتبنِّي لكلٍّ منهما، وذكر من سكان الموطن البديل كانت ألوانه الجميلة الزاهية تنتشر حتى نهاية لوامسه عندما يتحدث.
ومن الدقائق الأولى من زمن المسرحية بعد بدايتها، اتضح أن الصغيرَين كانا صديقين حميمين لسنوات وأنهما اختارا النضوج الجنسي المبكر معًا، رغم النصائح الرشيدة من آبائهما بالتبني. وفي أول حوار تناجي فيه الأنثى نفسها قالت: «أرغب في إنجاب طفل من الزواج برفيقي الحبيب.» أو هكذا ترجم ريتشارد ما قالته. وقد كان سعيدًا بأداء جهاز الترجمة الخاص به الذي تحسن كثيرًا، وبعد أن تذكر أن كائنات الأوكتوسبايدر صماء، أخذ يتحدث من حين لآخر في أثناء العرض.
اجتمع آباء كليهما في منتصف المسرح وعبروا عن قلقهم مما يمكن أن يحدث عندما يواجه الطفلان بالتبني للمرة الأولى «المشاعر الجديدة القوية» التي تصاحب التحول الجنسي. ولكنهم على أي حال، حاولوا أن يكونوا عادلين، واعترفوا أنهم لا يستطيعون إعطاءهما نصيحة بناءً على تجربة حقيقية؛ لأنهم اختاروا ألَّا يصبحوا ناضجين جنسيًّا بعد مراسم الاختيار الخاصة بهم.
وفي منتصف المسرحية، كان كائنا الأوكتوسبايدر الشابان معزولين في زاويتين متقابلتين من خشبة المسرح، واستنتج المشاهدون من المؤثرات الضوئية من اليراعات، بالإضافة إلى بعض الجمل القصيرة من ممثلي كائنات الأوكتوسبايدر؛ أن كلًّا منهما قد توقَّف عن تناول الباريكان وكان وحيدًا في «موطن انتقالي».
وفي مشهد لاحق، سار الاثنان المتحولان على خشبة المسرح وتقابلا في المنتصف، حيث كانت أنماط الألوان في حوارهما قد تغيَّرت بالفعل. وكان لهذا التغيير تأثيرٌ كبير، بغضِّ النظر عن أن مَن قام به ممثلون؛ فالألوان التي استخدمها كلٌّ منهما كانت أكثر سطوعًا مما كانت عليه قبل التحول، كما أن الشرائط المنمقة الثابتة التي كانت تميز المحادثات السابقة بين الشابَّين؛ أصبحت تحمل بعض التصميمات المختلفة المثيرة للاهتمام أيضًا الخاصة بكلٍّ منهما. وكان حولهما على المسرح في تلك اللحظة ستةٌ آخرون من كائنات أوكتوسبايدر — يتضح من لغتهم أنهم من سكان الموطن البديل — واثنان من الحيوانات التي لها شكل النقانق البولندية يطاردان أي شيء يجدانه. من الواضح أن الصغيرين قد انتقلا إلى الموطن البديل.
ثم ظهر من الظلام المحيط بخشبة المسرح ذكر الموطن البديل الذي قدَّم نفسه في بداية المسرحية. قام الممثل أولًا بعرض رائع مستخدمًا الشرائط الرأسية والأفقية الملونة، التي تتحرَّك في كلا الاتجاهَين، ثم صنع بها موجة تتقدم وأشكالًا هندسية أيضًا، بل إن انفجارات تشبه الألعاب النارية باستخدام الألوان بدأت في مواقع مختلفة حول رأسه. وهذا العرض باهر الألوان الذي قام به الوافد الجديد خلب لب الأنثى الشابة، ونجح في استمالتها وجعلها تتخلَّى عن أقرب أصدقاء طفولتها. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، كان من الواضح أن المتطفِّل ذا الألوان الرائعة هو والد الطفل الذي تحمله الأنثى الشابة في كيسها الأمامي، إلا أنه تركها جالسةً وحيدةً وبائسةً في زاوية خشبة المسرح، ترسل شريطًا بعد شريط من الشرائط غير المنتظمة ذات الألوان التي لا معنى لها.
وفي هذا المشهد من المسرحية، دخل ذكر الأوكتوسبايدر الذي اختار النضوج جنسيًّا في المشاهد الأولى، مندفعًا إلى دائرة الضوء، ورأى حبيبته تجلس بائسةً مع طفلها، فقفز مبتعدًا إلى الجزء المظلم المحيط بخشبة المسرح. وبعد لحظاتٍ عاد مع الذكر الزاهي الألوان الذي غرَّر بصديقته، واشتبك الاثنان في صراعٍ عنيف لكنه مشوق في منتصف خشبة المسرح. ولمدة فينج كامل، كانت الشرائط الملونة المعبرة عن الشتائم تتزاحم حول رأسيهما، وهما يتضاربان ويتصارعان ويشتبكان ويخنق كلٌّ منهما الآخر. وفي النهاية، انتصر الأوكتوسبايدر الفتيُّ وظل الآخر راقدًا بلا حَراك على خشبة المسرح بعد انتهاء المعركة. أكد الحزن الذي عبر عنه البطل والبطلة في جملهما الأخيرة على أن المغزى الأخلاقي من المسرحية واضحٌ كالشمس. وعندما انتهت المسرحية، نظر ريتشارد إلى نيكول وإيلي وقال وابتسامة عريضة لا صلة لها بالموقف تعلو وجهه: «إنها واحدة من المسرحيات المأساوية التي تنتهي بموت الجميع، مثل عطيل.»
وتحت إشراف مرشدي المشاهدين من كائنات الأوكتوسبايدر، الذين كانوا جميعهم من رجال الشرطة، غادر الصغار الذين أقيمت مراسم الاختيار من أجلهم المسرح أولًا، ثم تبعهم آرشي والدكتورة بلو ورفاقهم من البشر. توقف الموكب المنظم بالخارج بعد دقائق قليلة، وشكل حلقة محتشدة حول ثلاثة كائنات أخرى من الأوكتوسبايدر الذين كانوا في منتصف الشارع. شعر ريتشارد ونيكول وإيلي بلوامس أصدقائهم القوية تحيط بهم، وهم يتحركون إلى مكانٍ يستطيعون منه رؤية ما يحدث. كان اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر في منتصف الشارع يحملون هراواتٍ ويحملون حقائب الشرطة، في حين كان الثالث جاثمًا بينهما يبثُّ رسالة ملونة في شرائط عريضة غير منتظمة تقول: «من فضلكم ساعدوني!»
قال أحد رجال الشرطة في شرائط واضحة ومنتظمة: «كائنة الأوكتوسبايدر هذه فشلت باستمرار في الحصول على أموال، منذ أن جاءت إلى الموطن البديل بعد مراسم الاختيار الخاصة بها قبل أربع دورات. وفي الدورة السابقة، تلقَّت تحذيرًا بأنها أصبحت مستنزِفًا غير مقبول لمواردنا المشتركة، ومؤخرًا قبل يومَين من الاحتفال بعيد النِّعم، تلقَّت أمرًا بأن تتقدم لإنهاء حياتها. ومنذ ذلك الوقت وهي تختبئ بين أصدقائها في الموطن البديل …»
وفجأة اندفعت كائنة الأوكتوسبايدر، وقفزت محاولة الهرب بين المتفرجين في المكان الذي كان البشر يقفون فيه. فتقهقر الجمع وسقطت إيلي على الأرض في خضم الفوضى الناتجة؛ إذ كانت أقرب شخص إلى النقطة التي حاولت كائنة الأوكتوسبايدر الهروب منها. وفي أقل من نيليت كانت الشرطة قد تمكنت من السيطرة على الهاربة، بمساعدة آرشي وعددٍ من الشباب الذين أقيمت مراسم الاختيار من أجلهم.
وقال ضابط الشرطة عندئذٍ: «إن التخلف عن التقدم لعملية إنهاء حياة مزمعة لهو أسوأ جريمة يقترفها أوكتوسبايدر. وعقابها هي الإعدام الفوري فور إلقاء القبض عليه.» ثم أخرج أحد ضابطي الشرطة عددًا من الكائنات المتلوية، التي تشبه الدود من الحقيبة التي يحملها على كتفه. فقاومت كائنة الأوكتوسبايدر الخارجة عن القانون في أول مرة حاول فيها ضابطا الشرطة وَضْع الكائنات التي تشبه الدود داخل فمها عنوة. إلا أنه بعد أن ضربها كلٌّ من ضابطي الشرطة مرتَين بالهراوة، انهارت كائنة الأوكتوسبايدر التي حكم عليها بالهلاك بين آسريها. ولم تستطع إيلي التي استعادَت توازنها قبل ذلك أن تكبت صرخة الذعر التي انطلقت من بين شفتَيها، عندما دخلت الكائنات الصغيرة فم كائنة الأوكتوسبايدر، وبدأت تتقيأ. وسريعًا ما سقطت كائنة الأوكتوسبايدر صريعة.
لم يتفوه أيٌّ من البشر بكلمة وهم يعبرون الميدان جنبًا إلى جنب مع آرشي والدكتورة بلو، ثم دلفوا إلى المرأب حيث كانت العربة تنتظرهم. وفي ذلك الوقت، كانت نيكول مصعوقةً تمامًا مما رأته، حتى إنها لم تتذكر أن تلقي نظرة على الرسم الذي ظنت أنه يتضمن وجهًا بشريًّا.
•••
في منتصف الليل، سمعت نيكول التي لم تستطع الخلود إلى النوم ضوضاء في غرفة المعيشة. فنهضت من فراشها بهدوء وارتدت ثوبها. وجدت إيلي تجلس على الأريكة في الظلام. فجلست نيكول إلى جوار ابنتها وأمسكت بيدها.
قالت إيلي: «لم أستطع الخلود إلى النوم يا أمي. ما زلت أتذكر تفاصيل كل ما حدث اليوم، لا يستطيع عقلي أن يتقبل ذلك. أشعر وكأني قد تعرضت للخيانة.»
فقالت نيكول: «أعلم يا إيلي. وأنا أيضًا يراودني الشعور نفسه.»
فقالت إيلي: «كنت أظنُّ أنني أعرف كائنات الأوكتوسبايدر. لقد كنت أثق بهم. بل وكنت أرى أنهم أسمى منا في كثيرٍ من النواحي، ولكن بعد ما رأيته الليلة …»
واصلت نيكول: «لا أحد منا يتقبل القتل. حتى ريتشارد روعه الأمر في البداية. ولكن عندما أوينا إلى الفراش، أخبرني أنه واثق من أن ما حدث في الشارع أعد بعنايةٍ خصوصًا من أجل الشباب الذين أقيمت مراسم الاختيار من أجلهم. وقال أيضًا إننا يجب أن نكون حذرين ولا نقفز إلى كثير من الاستنتاجات، أو نترك عواطفنا تسيطر على أفعالنا جراء حادث واحد منفصل …»
«لم أرَ من قبلُ كائنًا عاقلًا يُقتل بأم عيني. وماذا كانت جريمتها؟ لم تتقدم لينهوا حياتها؟»
«إننا لا نستطيع الحكم عليهم كما نحكم على البشر. فكائنات الأوكتوسبايدر كائنات مختلفة للغاية ولها نظام اجتماعي مستقل تمامًا، قد يكون أكثر تعقيدًا من نظامنا. نحن لا زلنا في بداية فهمهم … هل نسيتِ أنهم عالجوا إيبونين من فيروس أر في-٤١؟ وسمحوا لنا باستخدام التكنولوجيا الخاصة بهم عندما كنا قلقين بشأن ولادة ماريوس؟»
فأجابتها إيلي: «لا، لم أنسَ.» ثم صمتَت لثوانٍ وعادت لتقول: «أتعلمين يا أمي أنني أشعر الآن بالإحباط نفسه الذي كنت أشعر به كثيرًا في عدن الجديدة، عندما كنت لا أتوقف عن التساؤل كيف للبشر القادرين على فعل كثير من الأشياء الطيبة أن يتقبلوا طاغية مثل ناكامورا. والآن يبدو الأمر وكأن كائنات الأوكتوسبايدر يمكنها أن تكون سيئة مثل البشر تمامًا، ولكن بطريقتها الخاصة … هناك الكثير من الأمور المتضاربة في كل مكان …»
حاولت نيكول أن تواسي ابنتها بضمها بين ذراعَيها. قالت في نفسها: «لا توجد إجاباتٌ بسيطة يا بنيتي.» ومر أمام عينَيها شريط سينمائي لأحداث تلك الليلة التي لا تصدَّق، بما في ذلك تلك النظرة الخاطفة التي تعتقد أنها رأت فيها امرأةً بشرية مجهولة في اللوحة الجدارية التي رسمها الأوكتوسبايدر. فسألت نفسها: «ماذا كان ذلك أيتها العجوز؟ هل كان ذلك الوجه موجودًا حقًّا، أم إن عقلك المنهك واسع الخيال صوَّرها لكِ ليثير حيرتك؟»
٨
انتهى ماكس من حلاقة ذقنه، وغسل عن وجهه باقي المادة التي تشبه كريم الحلاقة. وبعد لحظات سحب السدادة لينصرف الماء من الحوض الحجري. وبعد أن جفف ماكس وجهه جيدًا بمنشفة صغيرة، التفت إلى إيبونين التي كانت تجلس خلفه على الفراش ترضع ماريوس.
فقال ضاحكًا: «حسنًا يا فرنسيَّتي الجميلة، يجب أن أعترف أنني متوتر للغاية. فلم أقابل في حياتي مسئول أمثلية من قبل.» ثم سار ليقف إلى جانبها. واستكمل حديثه: «ذات مرة عندما كنت في مدينة ليتل روك في اجتماعٍ للمزارعين، جلست إلى جوار حاكم آركنسو أثناء مأدبة الطعام … شعرت حينها أيضًا ببعض التوتر.»
فابتسمت إيبونين. وقالت: «من الصعب عليَّ أن أتخيلك وأنت متوتر.»
وقف ماكس صامتًا لثوانٍ يراقب زوجته وابنه الرضيع. وأصدر الصبي صوتًا خافتًا يشبه هديل الحمام وهو يرضع. فسألها ماكس: «إنكِ تستمتعين حقًّا بعملية الرضاعة هذه، أليس كذلك؟»
أومأت إيبونين برأسها بالإيجاب. وقالت: «إنها متعةٌ تختلف عن أي متعة أخرى مررت بها في حياتي. إنه الإحساس ﺑ… لا أعلم في الواقع التعبير المناسب — ربما «مشاركة الطعام» تكون قريبة … إنه إحساس لا يوصف.»
هزَّ ماكس رأسه. وقال: «إن حياتنا نحن مدهشة، أليس كذلك؟ ففي الليلة السابقة عندما كنت أغير حفَّاظة ماريوس، فكرت أننا نشبه ملايين الأزواج من البشر المفتونين بأول مولودٍ لهم … ولكن خارج هذا الباب توجد مدينة فضائية يُديرها نوع من الكائنات …» لم يكمل ماكس حديثه.
قالت إيبونين: «إن إيلي تبدو مختلفة منذ الأسبوع الماضي. لقد فقدت بريقها وتتحدث عن روبرت أكثر من ذي قبل …»
فقال ماكس معلقًا: «لقد روَّعتها عملية الإعدام. وإنني لأتساءل هل النساء بطبيعتهن أكثر حساسية منا تجاه العنف. أتذكر بعد زواج كلايد ووينونا أنه أحضرها إلى المزرعة، حيث رأتنا أول مرة نذبح خنزيرَين، فشحب وجهها كالموتى. لم تقُل شيئًا ولكنها لم تأتِ لتشاهد ذلك مرة أخرى.»
فقالت إيبونين وهي تنقل ماريوس ليرضع من ثديها الآخر: «لم تتحدث إيلي كثيرًا عن تلك الليلة. وهذا ليس من شِيَمها.»
«سأل ريتشارد آرشي عن الحادثة أمس، عندما طلب منه المكونات لصنع أجهزة الترجمة لباقي المجموعة … وطبقًا لما يقوله ريتشارد، فقد كان ذلك الأوكتوسبايدر اللعين مراوغًا ولم يمنحه إجاباتٍ شافية. حتى إنه لم يؤكد على ما قالته الدكتورة بلو لنيكول عن سياسة إنهاء الحياة الأساسية لديهم.»
فقالت إيبونين: «إنه أمر مرعب جدًّا، أليس كذلك؟» ثم عقدت ما بين حاجبيها. واستأنفت: «إن نيكول تصرُّ على أنها جعلت الدكتورة بلو تعيد شرح هذه السياسة لها عدة مرات، حتى إن نيكول جرَّبت عدة جمل مختلفة بالإنجليزية في حضور الدكتورة؛ كي تتأكد من أنها قد فهمت ما تعنيه فهمًا صحيحًا.»
فقال ماكس وهو يرغم نفسه على الابتسام: «إنها بسيطةٌ تمامًا، حتى بالنسبة إلى مزارع. إذا كان إجمالي إسهامات أي أوكتوسبايدر بالغ للمستوطنة، على مدار فترة زمنية محددة من الوقت، لا يساوي على الأقل الموارد الأساسية اللازمة لإبقائه حيًّا، فإنه يدرج في قائمة الكائنات التي سيتمُّ التخلُّص منها. وإذا لم يصحح القيمة السالبة في فترةٍ محددة، تنفذ عملية الإعدام فورًا.»
قالَت إيبونين بعد صمتٍ لم يدُم طويلًا: «طبقًا لما تقوله الدكتورة بلو، إن مسئولي الأمثلية هم من يفسِّرون السياسات. وهم من يقرِّرون قيمة كل شيء …»
فقال ماكس وهو ينحني ليربت على ظهر ولده: «أعلم ذلك، وأظن أن هذا هو أحد أسباب قلق ريتشارد ونيكول بشأن اليوم. لم يقُل أيُّ شخص شيئًا صراحةً، ولكننا نستهلك موارد كثيرة منذ فترة طويلة، ولا أرى أننا قدمنا إسهامات لهم.»
«هل أنت جاهز يا ماكس؟» جاءه صوت نيكول وقد أطلت برأسها من الباب. ثم واصلت: «إن الجميع في الخارج بجوار النافورة.»
انحنى ماكس وقبَّل إيبونين. وسألها: «هل سيكون بإمكانِك أنت وباتريك العناية ببينجي والأطفال؟»
فأجابته إيبونين: «بالطبع. إن بينجي لا يحتاج جهدًا للاعتناء به، وباتريك كان يقضي وقتًا طويلًا للغاية مع الأطفال مؤخرًا، حتى إنه أصبح متخصصًا في رعايتهم.»
فقال ماكس وهو يلوح لها مودعًا: «أحبك يا فرنسيَّتي الجميلة.»
•••
كانت هناك خمسة مقاعد خارج منطقة عمليات مسئولة الأمثلية. وعندما شرحت نيكول كلمة «مكتب» لآرشي والدكتورة بلو للمرة الثانية، أصر كائنا أوكتوسبايدر آخران يرافقانهم على أن «منطقة عمليات» ترجمة أفضل للمكان؛ حيث تعمل مسئولة الأمثلية.
قال آرشي معتذرًا: «في بعض الأحيان تتأخر مسئولة الأمثلية. فقد تجبرها أمور غير متوقعة في المستوطنة على الخروج عن جدول مواعيدها.»
فقال ريتشارد لماكس: «لا بد أن هناك شيئًا غير عادي يجري. فالدقة في المواعيد إحدى أهم سمات كائنات الأوكتوسبايدر.»
انتظر البشر الخمسة في صمت، وكان كلٌّ غارقًا في أفكاره. وأخذ قلب ناي يخفق بسرعة كبيرة. كانت خائفة ومتشوقة في الوقت ذاته. وتذكرت أنها مرت بشعور مماثل من قبل، عندما كانت في المدرسة تنتظر مقابلتها الرسمية مع الأميرة سوري ابنة ملك تايلاند، بعد أن فازت ناي بالجائزة الأولى في منافسة تعليمية على مستوى البلاد.
بعد دقائق قليلة، دعاهم أحد كائنات الأوكتوسبايدر إلى الغرفة المجاورة، وهناك أخبروهم أن مسئولة الأمثلية وبعض مستشاريها سينضمون إليهم في غضون لحظاتٍ قليلة. وكانت الغرفة الجديدة تحتوي على نوافذ شفافة؛ حيث كان بإمكانهم رؤية كل ما يدور من حولهم. وقد ذكَّر المكان الذي يجلسون فيه ريتشارد بمنطقة التحكم في منشأة طاقة نووية، أو ربما بسفينة فضائية على متنها بشر. فكانت أجهزة الكمبيوتر الخاصة بكائنات الأوكتوسبايدر منتشرة في كل مكان وكذلك شاشات المراقبة، وكان هناك أخصائيون فنيون من كائنات الأوكتوسبايدر يعملون عليها. وقد طرح ريتشارد سؤالًا على آرشي عن شيء يجري في منطقة بعيدة، ولكن قبل أن تتسنَّى له فرصة الإجابة، دلف ثلاثةٌ من كائنات الأوكتوسبايدر إلى الغرفة.
وقف البشر الخمسة في رد فعل لا إرادي. وقدَّم لهم آرشي مسئولةَ الأمثلية ونائبها المسئول عن مدينة الزمرد ورئيس قوات الأمن. فمدَّ كلٌّ من الكائنات الثلاثة إحدى لوامسه للبشر وصافحهم. ثم أشار آرشي إلى البشر بالجلوس وبدأت مسئولة الأمثلية تتحدَّث فور جلوسهم.
فقالت: «نعلم أنكم طلبتم، عبر ممثِّلنا، أن يُسمح لكم بالعودة إلى عدن الجديدة؛ لتعيشوا مرة أخرى مع أفراد فصيلتكم الموجودين على متن راما. وهذا في الواقع لم يُثر دهشتنا مطلقًا؛ لأن المعلومات التي جمعناها تشير إلى أن الكائنات العاقلة التي لديها مشاعر قوية، يتكون لديها، بعد العيش فترةً في مجتمع من الكائنات الفضائية، إحساسٌ بأنها لا تنتمي إلى ذلك المجتمع، وكذلك شوق للعودة إلى العالم الذي تألفه أكثر. وما نود أن نفعله هذا الصباح هو أن نقدم لكم بعض المعلومات الإضافية، التي من الممكن أن تؤثر على طلبكم بالسماح لكم بالعودة إلى عدن الجديدة.»
طلب آرشي من البشر أن يتبعوا مسئولة الأمثلية. فسارت المجموعة خلال غرفة مشابهة للغرفتين اللتين جلسوا فيهما، ثم دخلوا إلى غرفة مستطيلة بها اثنتا عشرة شاشة منتشرة على جدران الغرفة، على مستوى نظر كائنات الأوكتوسبايدر.
قالَت مسئولة الأمثلية عندما دخلوا جميعًا إلى الغرفة: «لقد كنا نراقب عن كثب التطورات في الموطن الخاص بكم، قبل وقت طويل من هروبكم. وهذا الصباح نود أن نطلعكم على بعض الأحداث التي لاحظناها مؤخرًا.»
وما هي إلا لحظة واحدة حتى اشتعلت الشاشات على الجدران. وكان كلٌّ منها يحمل مقطعًا من صورٍ متحركةٍ من الحياة اليومية بين البشر الباقين في عدن الجديدة. لم تكن جودة الصورة ممتازة، ولم يستمر أي مقطع فيديو أكثر من بضعة نيليتات، ولكن لا يمكن أن تخطئ عين ما يظهر على الشاشات.
ولعدة ثوانٍ خيم الصمت على البشر، ووقفوا جميعًا بلا حراك مندهشين يحدقون في الصور التي تظهر على الحائط. وعلى إحدى الشاشات ظهر ناكامورا وهو يرتدي زي القادة العسكريين اليابانيين القدامى، ويخطب في جموع حاشدة في الميدان بالمدينة الرئيسية. ويحمل صورة كبيرة مرسومة باليد لأوكتوسبايدر. ومع أن الفيلم كان صامتًا، فقد كان من الواضح من قسمات وجهه وصور العامة أنه يحرض الجميع على التصرف بعدوانية مع كائنات الأوكتوسبايدر.
فقال ماكس وعيناه تتحركان من شاشة إلى أخرى: «اللعنة.»
وعقبت نيكول: «انظروا هنا. إنه السوق في سان ميجيل.»
في أفقر قرية من قرى عدن الجديدة الأربع، كان هناك اثنا عشر شخصًا من القوقازيين والآسيويين تبدو عليهم سيماء العنف، يلفون رءوسهم بشرائط رياضة الكاراتيه، ويضربون أربعة شبَّان داكني البشرة على مرأًى ومسمعٍ من اثنين من رجال شرطة عدن الجديدة، وحشد من حوالَي عشرين قرويًّا يبدو الأسى على ملامحهم. ثم حملت كائنات آلية، من تلك التي تحمل وجوه تياسو ولنكولن، الأجسادَ المهشمة الدامية بعد أن تعرَّضت لضرب مبرح، ووضعوها على متن عربة كبيرة ثلاثية العجلات.
وعلى شاشةٍ أخرى، كان هناك مقطع فيديو لحشد يرتدي ملابس راقية، معظمهم من البيض والشرقيين، يصلون لحضور حفل أو مهرجان في ملهى ناكامورا الفخم. وجذبتهم إلى الكازينو الأضواء الساطعة المعلقة فوقه لافتة ضخمة مكتوب عليها «يوم تقدير المواطنين»، وتعلن أن كل من يرتاد الحفل سيحصل على اثنتَي عشرة تذكرةً مجانية من تذاكر اليانصيب، للاحتفال بهذه المناسبة. وعلى جانبَي اللافتة توجد صورتان ضخمتان لناكامورا، تظهرانه من أعلى رأسه وحتى صدره وهو يبتسم مرتديًا قميصًا أبيض ورابطة عنق.
أما الشاشة على الجدار خلف مسئولة الأمثلية، فقد كانت تعرض صورةً من داخل سجن المدينة الرئيسية. فكانت مجرمة ملونة الشعر أُلقِيَ القبض عليها لتوِّها، يزجُّ بها في الزنزانة التي تضم مدانين آخرين. وكان من الواضح أن الوافدة الجديدة تشتكي من الزحام، ولكن ضابط الشرطة دفعها إلى الزنزانة وهو يضحك. وعندما عاد إلى مكتبه، التقطت الكاميرا صورتَين على الحائط خلفه، واحدة لريتشارد والأخرى لنيكول كتب تحت كلٍّ منهما كلمة «مكافأة» بحروف ضخمة تجذب الأنظار.
انتظرت كائنات الأوكتوسبايدر في صبر، وعيون البشر تنتقل من شاشة إلى أخرى. كان ريتشارد لا ينفك يسأل وهو يهز رأسه: «كيف بحق السماء؟» ثم فجأةً انطفأت الشاشات.
قالت مسئولة الأمثلية: «لقد جمعنا ثمانية وأربعين مقطعًا لنعرضها عليكم اليوم، وجميعها من شرائط المراقبة للأيام الثمانية الماضية في عدن الجديدة. وسيكون مع مختص الأمثلية الذي تسمونه آرشي قائمةٌ بالمقاطع التي صنفت تبعًا للمكان والوقت والحدث الجاري. ويمكنكم قضاء ما تشاءون من الوقت هنا تشاهدون هذه المقاطع، وتتناقشون فيما بينكم، وتطرحون أسئلةً على كائنَي الأوكتوسبايدر اللذَين اصطحباكم إلى هنا. ولكن للأسف، لديَّ مهام أخرى لأقوم بها … إذا أردتم بعد الانتهاء من المشاهدة أن تتحدثوا معي مرة أخرى، فسأحرص على أن أدبِّر وقتًا لذلك.»
رحلت مسئولة الأمثلية يتبعها مساعداها. وجلست نيكول على واحدٍ من المقاعد. كانت شاحبة الوجه واهنة الجسد. فاتجهت إليها إيلي. سألتها: «هل أنت بخير يا أمي؟»
فأجابتها نيكول: «أظن هذا. بمجرد أن بدأ عرض مقاطع الفيديو شعرت بألم حاد في صدري — على الأرجح بسبب الدهشة والانفعال — ولكنه سكن الآن.»
فسألها ريتشارد: «أتودين العودة إلى المنزل ونيل قسط من الراحة؟»
فقالت نيكول بابتسامتها المعتادة: «أتمزح؟ ما كنت لأفوت هذا العرض حتى لو كنت سأسقط صريعة في منتصفه.»
•••
ظلوا يشاهدون الأفلام الصامتة لمدة ثلاث ساعات تقريبًا. كان واضحًا من لقطات الفيديو أنه لم تعد هناك أي حرية للمواطنين في عدن الجديدة، وأن معظم سكان المستوطنة كانوا يجاهدون كي يعيشوا على الكفاف. لقد أحكم ناكامورا قبضته على البلاد وسحق جميع صور المعارضة. إلا أن المستوطنة التي يحكمها مأهولة بأناس بؤساء وتعساء.
في البداية كان البشر يشاهدون المقطع نفسه معًا، ولكن بعد عرض ثلاثة أو أربعة مقاطع، اقترح ريتشارد أنه من غير المجدي على الإطلاق أن يشاهدوا مقطعًا واحدًا جميعًا. فقال ماكس: «إنك تتحدث مثل مسئول أمثلية حقيقي.» ولكنه وافق على رأيه.
كان هناك مشهد تظهر فيه كيتي لوقت قصير. وكان ذلك المشهد قد التقط في وقت متأخر من الليل في فيجاس. كانت العاهرات قد بدأن عملهن في الشوارع خارج أحد الملاهي الليلية. اقتربت كيتي من واحدة من النساء، ودار بينهما حوارٌ قصير عن موضوع غير معروف، ثم اختفَت من الشاشة. وقد لاحظ ريتشارد ونيكول أن كيتي تبدو نحيفةً للغاية بل ضامرة أيضًا. وطلبا من آرشي أن يُعيد المقطع عدة مرات.
كانت هناك سلسلة أخرى من المقاطع مخصصة للمستشفى في المدينة الرئيسية. ولم يحتج المشاهدون إلى كلمات ليفهموا أن هناك عجزًا في أدوية مهمة، ونقصًا في عدد الأطباء، ومشكلات في الأدوات التي تحتاج إلى إصلاح. وقد كان أحد أكثر المشاهد المؤثرة مشهدًا يصور موت سيدةٍ شابةٍ تبدو من أحد شعوب البحر المتوسط، قد تكون يونانية، وذلك بعد عملية ولادةٍ مؤلمةٍ كان الطفل فيها يواجه قناة الولادة بمؤخرته. وقد كانت غرفة الولادة مضاءةً بالشموع، وأجهزة الفحص، التي كان من الممكن أن تحدِّد المشكلات التي تواجه المرأة وتنقذ حياتها إلى جوار الفراش، مطفأة دون سببٍ واضح.
ظهر روبرت تيرنر في كل مكان في المقطع الخاص بالمستشفى. وعندما رأته إيلي لأول مرة يسير في الردهات، أجهشت في بكاء حار. وظلت تبكي على مدار المشهد ثم طلبت على الفور أن يعاد عرضه. ولم تُبد أي تعليق إلا وهي ترى المشهد للمرة الثالثة. فقالت: «إنه يبدو منهك القوى ومستغرقًا بكيانه في العمل. لم يتعلم قط كيف يعتني بنفسه.»
وعندما أصبحوا جميعًا منهكين عاطفيًّا مما رأوه، ولم يطلب أيٌّ منهم إعادة عرض أي مقطع آخر، سألهم آرشي عما إذا كانوا يريدون لقاء مسئولة الأمثلية مرة أخرى. فقالت نيكول معبرة عن رأي الجميع: «ليس الآن. إننا لم نحظَ بوقتٍ لاستيعاب ما رأيناه.»
فسألت ناي هل بإمكانهم اصطحاب بعض لقطات الفيديو إلى منازلهم في مدينة الزمرد. وقالت: «أودُّ أن أشاهدَها مرة أخرى بروية. وسيكون من الرائع أن نريها لباتريك وإيبونين.» فاعتذر لها آرشي، وقال إن هذه اللقطات لا تعرض إلا في أحد مراكز الاتصالات الخاصة بكائنات الأوكتوسبايدر.
وفي أثناء عودتهم إلى المنطقة المخصصة لهم، أوضح ريتشارد لآرشي أن مترجمه الفوري يعمل بكفاءة. وكان ريتشارد قد أنهى اختباراته النهائية عليه في اليوم السابق للاجتماع مع مسئولة الأمثلية. ويستطيع ذلك المترجم التعاملَ مع لغة كائنات الأوكتوسبايدر الأصلية، واللغة التي أعدوها خصوصًا لتتوافق مع مجموعة الألوان التي يستطيع البشر رؤيتها. وقد اعترف له آرشي أنه منبهرٌ بهذا العمل.
وأضاف ريتشارد في صوت أعلى حتى يسمعه رفاقه: «بالمناسبة، هل بوسعك إخبارنا كيف تمكنتم من الحصول على كل مقاطع الفيديو؟»
لم يتردد آرشي في الإجابة عليه. وقال: «بواسطة رباعيات الأطراف المُصورة الطائرة. وهي نوع أكثر تقدمًا وأصغر كثيرًا في الحجم.»
ترجمت نيكول ما قاله آرشي لماكس وناي. فتمتم ماكس بصوت خافت: «تبًّا.» ثم نهض وسار إلى الطرف المقابل من المركبة وهو يهزُّ رأسه بعنف.
•••
قال ريتشارد لنيكول: «إنني لم أرَ ماكس مكتئبًا أو متوترًا بهذا الشكل من قبل.»
فأجابته: «ولا أنا.» كان ريتشارد ونيكول يمارسان رياضة المشي بعد ساعة من تناول طعام العشاء مع عائلتهما وأصدقائهما. وكانت يراعة وحيدة تحلق فوق رأسَيهما، وقد أخذا يسيران جيئةً وذهابًا من الميدان إلى نهاية الطريق المسدود.
سألها ريتشارد وهما يسيران حول النافورة مرة أخرى: «هل تظنين أن ماكس سيغير رأيه بشأن الرحيل؟»
فأجابت نيكول: «لا أعلم. أظن أنه لا يزال مصدومًا. إنه يمقت حقيقة أن كائنات الأوكتوسبايدر تستطيع رؤية كل شيء نقوم به. ولهذا يصر على أنه هو وعائلته سيعودون إلى عدن الجديدة حتى إذا قرر الجميع البقاء هنا.»
«هل تسنت لك فرصة الحديث إلى إيبونين وحدكما؟»
«أحضرت إيبونين ماريوس إليَّ أول أمس بعد أن استيقظنا من النوم مباشرة. وبينما كنت أضع عقارًا طبيًّا على الالتهاب الجلدي الذي تسببه الحفَّاظة، سألتني ما إذا كنت قد ذكرت لآرشي أنهم يريدون الرحيل. وكانت تبدو خائفة.»
أخذا يمشيان بخطًى سريعةٍ داخلين الميدان. ودون أن يتوقف ريتشارد، أخرج قطعة قماش صغيرة ومسح العرق عن جبينه. قال وكأنه يتحدث إلى نفسه كما يتحدث إلى نيكول: «لقد تغيَّر كل شيء.»
فأجابته نيكول: «أنا واثقة من أن هذا كله جزءٌ من خطة كائنات الأوكتوسبايدر. لم يُرونا هذه الشرائط ليوضحوا لنا أن الأمور ليسَت على ما يرام في عدن الجديدة فحسب. بل إنهم يعلمون رد فعلنا بعد أن نحظى بوقت لتقييم الدلالة الحقيقية لما رأيناه.»
سار الاثنان في صمت عائدَين باتجاه منزلهما المؤقت. وفي دورتهما التالية حول النافورة، قال ريتشارد: «إذن فهل يراقبون كل شيءٍ نقوم به، حتى هذا الحوار الذي يدور بيننا؟»
فأجابته نيكول: «طبعًا. هذه هي الرسالة الأساسية التي نقلتها لنا كائنات الأوكتوسبايدر، عندما سمحوا لنا بمشاهدة لقطات الفيديو … أي إنه ليست لدينا أسرار. والهروب أمر مستحيل. إننا في قبضتهم دون فكاك منها … قد لا يؤيدني أحد في هذا الاعتقاد، ولكني ما زلت لا أصدق أنهم يعتزمون إيذاءنا … بل إنهم قد يسمحون لنا بالعودة إلى عدن الجديدة … في النهاية.»
فقال ريتشارد: «هذا لن يحدث أبدًا. إنهم بهذا سيكونون قد أهدروا كثيرًا من الموارد دون مقابل يذكر، وهو موقف يتعارض تمامًا مع سياسة الأمثلية. كلا لا أوافقك الرأي؛ أنا واثق من أن كائنات الأوكتوسبايدر ما تزال تحاول إيجاد المكان المناسب لنا في كامل نظامها.»
سار ريتشارد ونيكول بأسرع ما يمكنهما في دورتهما الأخيرة. ختماها عند النافورة ثم احتسيا شربة ماء. وسألها ريتشارد: «كيف حالك الآن؟»
فأجابته نيكول: «بخير. لا ألم أو ضيق في التنفس. وعندما فحصتني الدكتورة بلو أمس، لم تجد أنني أصبت بأي أمراض جديدة. كل ما في الأمر أن قلبي قد تقدم في العمر وأصابه الوهن … يجب أن أتوقع الإصابة بأمراض من حين إلى آخر.»
بعد بضع لحظات، قال ريتشارد وهما يغسلان وجهيهما: «إنني أتساءل ما الدور الذي سنؤديه في عالم كائنات الأوكتوسبايدر؟»
فرمقت نيكول زوجها بنظرة عجلى. وقالت: «ألست أنت من سخر مني منذ عدة أشهر خلت، عندما خلصت إلى استنتاجات عن دوافعهم؟ كيف يمكنك أن تكون متأكدًا الآن من أنك تفهم ما تحاول كائنات الأوكتوسبايدر القيام به؟»
فقال ريتشارد وابتسامة عريضة تعلو وجهه: «لست متأكدًا من ذلك. ولكن من الطبيعي أن نفترض أن جنسًا من الأجناس العليا سيكون منطقيًّا.»
•••
أيقظ ريتشارد نيكول من سباتها في منتصف الليل، وقال: «أنا آسف لإزعاجك يا حبيبتي، ولكن لديَّ مشكلة.»
فسألته نيكول وهي تجلس على الفراش: «ما الأمر؟»
فقال ريتشارد: «إنها مشكلة مخجلة. لذا لم أذكرها لكِ من قبل … لقد بدأَت في اليوم التالي لعيد النِّعم. ظننت أنها ستنتهي من تلقاء نفسها، ولكن الأسبوع الماضي أصبح الألم لا يحتمل.»
فقالت نيكول وهي تشعر ببعض السخط؛ لأنه أقضَّ عليها مضجعها: «ما الأمر يا ريتشارد، ادخل إلى صلب الموضوع. ما الألم الذي تتحدث عنه؟»
«في كل مرة أتبول فيها، أشعر بذلك الاحتراق …»
حاولت نيكول أن تمنع نفسها من التثاؤب وهي تفكر. ثم سألته: «وهل أصبحت تتبوَّل أكثر من المعتاد؟»
«نعم … كيف علمت؟»
«كان من المفترض أن يُمسك أخيل من غدة البروستاتا عندما غُمر في نهر ستيكس. إنها ولا شك أضعف نقطة في جسد الذكور. نم على وجهك ودعني أفحصك.»
فقال ريتشارد: «الآن؟»
فأجابته نيكول وهي تضحك: «إذا كنت تستطيع إيقاظي من سبات عميق بسبب ما تشعر به من ألم، فإن أقل ما تفعله هو أن تضغط على أسنانك وأنا أحاول التأكد من صحة تشخيصي المبدئي.»
•••
كانت نيكول والدكتورة بلو تجلسان معًا في منزل الأخيرة. وعلى أحد الجدران كانت هناك أربع صور التقطتها طفيليات التصوير. وقالت الدكتورة بلو: «الصورة على أقصى اليسار توضح التضخم، كما كان يبدو في ذلك الصباح قبل عشرة أيام، عندما طلبت مني التأكد من تشخيصك. الصورة الثانية هي صورة مكبرة بنسبة كبيرة لخليتَين من الورم. والخلل المصابة به الخلية — ما تطلقين عليه مرض السرطان — هو ذلك الموضح بالصبغ الأزرق.»
ابتسمت نيكول ابتسامة شاحبة. وقالت: «إنني أعاني مشكلةً في إعادة توجيه استيعابي. إنكِ لا تستخدمين أبدًا الألوان التي تعني كلمة «مرض» عندما تصفين مشكلة ريتشارد، والكلمة التي تستخدمينها هي «خلل».»
أجابتها الدكتورة بلو: «المرض في نظرنا هو قصور في أداء عضوٍ ما، يسبِّبه عامل خارجي مثل البكتيريا أو فيروس عدواني. أما عدم الانتظام في كيمياء الخلية الذي يؤدي إلى تكون خلايا غير سليمة، فهو نوع مختلف من الحالات المرضية. ففي علومنا الطبية، الخطة العلاجية تختلف في الحالتين. وهذا السرطان في حالة زوجك يرتبط بالتقدم في العمر بصفة عامة، أكثر من ارتباطه بأمراض مثل الالتهاب الرئوي أو الجهاز الهضمي.»
مدَّت الدكتورة بلو إحدى لوامسها في اتجاه الصورة الثالثة. وقالت: «هذه الصورة توضح الورم منذ ثلاثة أيام، بعد أن حملت الأجسام الميكروبيولوجية التي ابتكرناها المواد الكيميائية الخاصة، ونثرتها بعناية على مكان الخلل. وقد بدأ التضخُّم يقلُّ بالفعل لأن إنتاج الخلايا الخبيثة قد توقف. وفي الصورة الأخيرة التي التقطت هذا الصباح، عادَت البروستاتا في جسد ريتشارد إلى شكلها الطبيعي مرة أخرى. وحالًا، ماتت جميع خلايا السرطان الأولى ولم يتكوَّن غيرها.»
فسألتها نيكول: «إذن فهل هو بخير الآن؟»
أجابتها الدكتورة بلو: «نعم على الأرجح. لا يمكن أن نكون واثقين تمامًا من هذا؛ لأننا ما زلنا لا نملك بعدُ جميعَ البيانات التي نحتاجها عن دورة حياة الخلايا في أجسادكم. فخلاياكم تتمتَّع ببعض الخصائص الفريدة، كما هو الحال دائمًا في الكائنات التي مرَّت بتطورٍ مغاير للتطور الذي مرت به أيٌّ من الكائنات الأخرى التي فحصناها من قبل، والتي قد تسمح بتكرار حدوث الخلل مرةً أخرى. وعلى أي حال، بناءً على تجربتنا مع كثيرٍ من الكائنات الحية الأخرى، يمكنني أن أقول إن تكوُّن ورم آخر في البروستاتا بعيد الاحتمال.»
شكرَت نيكول زميلتها كائنة الأوكتوسبايدر. وقالت: «إنه أمر لا يصدق، لَكَمْ سيكون رائعًا لو نُقلت معرفتكم الطبية بطريقة ما إلى الأرض!»
اختفت الصور من فوق الحائط. وقالت الدكتورة بلو: «كان سيظهر العديد من المشكلات الاجتماعية. إذا كنت قد فهمت ما أخبرتني به في نقاشاتنا عن كوكبكم الأم. فإذا لم يمُت أفراد جنسكم بسبب الأمراض أو خلل الأعضاء، فسيزداد متوسط العمر المتوقع بصورةٍ كبيرة. وقد واجه جنسنا خللًا مشابهًا بعد العصر الذهبي لعلم الأحياء، بعدما تضاعف متوسط عمر الأوكتوسبايدر في غضون أجيالٍ قليلة فقط. ولم نتوصَّل إلى أي توازنٍ مجتمعي إلا بعد تطبيق نظام الأمثلية بصرامة؛ ليكون هو نظامنا في الحكم. ولدينا الكثير من الأدلَّة التي تؤكِّد أنه دون السياسات الحكيمة الخاصة بإنهاء الحياة والإمداد بأعضاء جدد، فإن الموطن المأهول بمواطنين خالدين يمرُّ بحالةٍ من الفوضى بعد فترة قصيرة نسبيًّا.»
اشتعل اهتمام نيكول بالحديث فقالت: «أنا أدرك ما تقولينه إدراكًا كاملًا، من الناحية النظرية على الأقل. فإذا كان الجميع خالدين أو نحو ذلك، والموارد ستنتهي بعد فترة معينة، فإن السكان قريبًا ما سيأتون على الطعام المتاح، وستعجُّ بهم أماكن المعيشة المتوفرة. ولكن يجب أن أعترف، خاصة وأنا عجوز، أن فكرة «سياسة إنهاء الحياة» هذه تثير رعبي.»
فقالت الدكتورة بلو: «في تاريخنا القديم، كان هيكل مجتمعنا مشابهًا لهيكل مجتمعكم، وكانت جميع سلطات اتخاذ القرار تقريبًا في أيدي أكبر أفراد جنسنا سنًّا. ولهذا كان وضع قيود على إمداد المجتمع بأفراد جدد، بعد أن ازداد متوسط العمر المتوقع للفرد زيادة كبيرة، أسهل من اللجوء إلى مسألة إنهاء الحياة الصعبة هذه. ولكن بعد مرور فترة زمنية قصيرة، بدأ المجتمع العجوز يصاب بالجمود. وكما سيوضح لك آرشي أو أي قائد مطلع، زاد معدل الرجعية في مجتمعنا زيادةً ضخمةً للغاية، حتى إن جميع الأفكار الجديدة أصبحت تقابل بالرفض. وانهارت هذه المستوطنات الهرمة، ليس لسببٍ إلا لأنها لم تستطع التعامل مع الظروف المتغيرة في العالم من حولها.»
«وهنا بدأت سياسة الأمثلية؟»
فأجابتها الدكتورة بلو: «أجل. فإذا آمن كل فرد بمبدأ أن مصلحة المستوطنة ككل لها الثقل الأكبر في سلسلة أولوياته العليا، فإنه سريعًا ما سيتضح أن عمليات إنهاء الحياة المنظمة عنصر أساسي من الحل الأمثل للمشكلة. وبإمكان آرشي أن يريك بالأرقام حجم الكارثة، من وجهة نظر المستوطنة ككل، عندما تُهدَر كميات هائلة من موارد سكان المستوطنة على هؤلاء المواطنين الذين تكون إسهاماتهم قليلة، بالمقارنة بغيرهم من المواطنين. وتستفيد المستوطنة الاستفادة القصوى من توظيف أموالها في الأعضاء الأصحاء المتمتعين بعمرٍ مديد، وبهذا يكون هناك احتمالٌ أكبر لأن تجنيَ المستوطنة مقابلًا لهذا الاستثمار.»
أعادت نيكول على الدكتورة بلو بعض العبارات الأساسية التي وردت في حديثها؛ كي تتأكد من أنها فهمت ما تعنيه بالضبط. ثم صمتت لنيليتين أو ثلاثة. ثم قالت في النهاية: «أظن أنه حتى مع تأخر تقدمكم في العمر عن طريق تأخير النضوج الجنسي، ومع قدراتكم الطبية المذهلة، يصبح في وقتٍ ما الإبقاء على حياة أوكتوسبايدر كبير في السن، طبقًا لبعض المعايير، مكلفًا بصورة تمنع هذا الأمر.»
فأجابتها الدكتورة بلو: «بالضبط. بإمكاننا جعل الفرد خالدًا تقريبًا. ولكن هناك ثلاثة عوامل رئيسية تجعل من إطالة الحياة بصورة زائدة، في غير مصلحة المستوطنة بالمرة. أولًا، كما ذكرت أنت، تزداد تكلفة مجهود إطالة الحياة زيادةً كبيرة، عندما يبدأ كل نظام فرعي بيولوجي أو عضو في العمل بكفاءة أقل من كفاءته المثلى. ثانيًا، عندما يصبح وقت كائن الأوكتوسبايدر مُستهلكًا أكثر وأكثر في مجرد البقاء على قيد الحياة، ينخفض قدر الطاقة التي قد يمتلكها للمشاركة في مصلحة المستوطنة انخفاضًا كبيرًا. ثالثًا، يأتي وقت في حياة كل أوكتوسبايدر يجعل فيه كم الخبرات التي مر بها على مدار حياته، من تعلُّم أشياء جديدة أمرًا صعبًا للغاية، وقد أثبت القادة علماء الاجتماع صحة هذه النقطة المثيرة للجدل قبل سنوات كثيرة، مع أنه لبضع سنين بعد أن تبدأ سرعة البديهة والقدرة على التعلم في الانحدار، فإن الحكمة التي تراكمت على مر السنين تعوِّض — فيما يختص بالمستوطنة — اضمحلال القوى العقلية إلى حدٍّ بعيد. حتى في حالة الأوكتوسبايدر الذي يتمتع بصحة جيدة فإن هذه المرحلة من العمر، التي يطلق عليها المسئولون «بداية محدودية المرونة»، تشهد انخفاضًا في قدرته على الإسهام للمستوطنة.»
«إذن فمسئولو الأمثلية هم من يحدِّدون وقت إنهاء الحياة؟»
قالت الدكتورة بلو: «نعم، ولكني لا أعلم تحديدًا كيف يفعلون هذا. هناك فترة اختبار قبل ذلك في أثنائها يدرج الأوكتوسبايدر على قائمة إنهاء الحياة، ويُمنَح بعض الوقت لكي يحسن من ميزان استهلاكه وإسهاماته. وهذا الميزان، إذا كنت أفهم تفسير آرشي، يتابع كل كائن أوكتوسبايدر عن طريق مقارنة إسهاماته بالموارد اللازمة لإبقائه حيًّا. وإذا لم يتحسن الميزان بين النسبتَين، يتحدد موعد لإنهاء حياته.»
سألتها نيكول وهي ترتعد رغمًا عنها، وقد تذكرت عندما واجهت هي حكمًا بالإعدام: «وماذا يكون رد فعل أولئك الذين يتم اختيارهم لإنهاء حياتهم؟»
فأجابتها الدكتورة بلو: «تختلف ردود أفعالهم. فبعضهم لا سيما أولئك الذين يواجهون مشكلات صحية، يقبلون حقيقة أنه لن يكون بإمكانهم تدارك رصيدهم غير المرضي، ويخططون لموتهم بأسلوبٍ منظم. أما البعض الآخر فيلتمس النصح من أحد مختصي الأمثلية، ويطلب منه تحديد مهام جديدة تتاح له فيها إمكانية أعلى لتحقيق المعدلات المطلوبة منهم … وهذا ما فعله هرقل قبل وصولكم مباشرة.»
خيَّم الصمت على نيكول لحظة. وسرت قشعريرة باردة في جسدها. ثم قالت بعد أن استجمعت شجاعتها: «هل ستخبرينني بما حدث مع هرقل؟»
فأجابتها الدكتورة بلو: «لقد تلقَّى تأنيبًا شديدًا لأنه لم يوفر لنيكي الحماية المناسبة في يوم الاحتفال بعيد النِّعم. فنُقل لأداء مهمة أخرى، وأخبره القائد المسئول عن عمليات إنهاء الحياة أنه لا توجد طريقة ممكنة للتعويض عن التقييم السلبي الكبير الذي حصل عليه في عمله الأخير. فطلب هرقل عملية إنهاء مبكرة وفورية.»
شهقت نيكول. رأت أمام عينيها كائن الأوكتوسبايدر الودود، وهو يقف في نهاية الشارع المسدود يقذف بالكثير من الكرات ليلتقطها مرة أخرى، مما أدخل السرور على الأطفال. قالت في نفسها: «والآن مات هرقل. فقط لأنه عجز عن أداء مهمته. هذا أمر قاسٍ يخلو من الرحمة.»
نهضت نيكول وشكرت الدكتورة بلو مرة أخرى. وحاولت أن تقنع نفسها أنها يجب أن تبتهج لأن زوجها قد شُفي من سرطان البروستاتا، ولا تهتم بموت أوكتوسبايدر قليل الأهمية. ولكن ظلت صورة هرقل تلاحقها. وقالت في نفسها: «إنهم جنس مختلف تمامًا من الكائنات. لا تحكمي عليهم بالمعايير البشرية.»
وبينما كانت على وشك مغادرة منزل الدكتورة بلو، شعرت نيكول فجأة برغبة لم تستطع مقاومتها في أن تعرف معلومات عن كيتي. وتذكرت أنها بعد أن رأت كيتي في حلم كان كالحقيقة قبل وقت قريب، استيقظت من نومها وتساءلت إن كانت سجلات كائنات الأوكتوسبايدر ستتيح لها مشاهدة المزيد عن حياة كيتي في عدن الجديدة.
فقالت وهي تقف على الباب: «دكتورة بلو، أود أن أطلب منك معروفًا. إنني في الواقع لا أدري هل ينبغي أن أطلبه منك أم من آرشي … ولا أدري حتى إذا كان ما سأطلبه ممكنًا.»
فسألتها كائنة الأوكتوسبايدر عن الخدمة التي تريدها.
فقالت نيكول: «كما تعلمين، لي ابنة أخرى ما زالت تعيش في عدن الجديدة. وقد رأيتها في أحد مقاطع الفيديو التي عرضَتها علينا مسئولة الأمثلية الشهر المنصرم في مشهدٍ قصير جدًّا … أتوق بشدةٍ إلى أن أعرف ما الذي يجري في حياتها.»
٩
في أثناء حوارٍ دار في اليوم التالي بين آرشي ونيكول، أخبرها أنه لم يُوافَق على طلبها لترى لقطات الفيديو التي تظهر فيها ابنتُها. ومع ذلك، كانت نيكول تصرُّ على الأمر وتنتهز كلَّ فرصة تكون فيها وحدَها مع آرشي أو الدكتورة بلو لتكرِّر طلبَها. ونظرًا لأن أيًّا منهما لم يُشِر قط إلى أنه لا توجد صورٌ خاصة بحياة كيتي في عدن الجديدة في ملفاتهما، فقد كانت نيكول واثقةً من أن لقطات الفيديو موجودة. وأصبحت مشاهدةُ هذه البيانات هاجسًا يطاردها.
قالت نيكول لريتشارد في وقتٍ متأخر ذات ليلة بعد أن أويا إلى الفراش: «تحدَّثت أنا والدكتورة بلو اليوم عن جيمي. لقد قرَّر أن ينضم إلى برنامج إعداد مسئولي الأمثلية.»
فقال لها ريتشارد بصوتٍ ناعس: «هذا جيد.»
«وقد قلت للدكتورة بلو إنها محظوظة، بوصفها أمًّا؛ لأنها تستطيع المشاركةَ في الأحداث في حياة طفلها … ثم أخبرتُها مرةً أخرى بقلقنا لأننا لا نعلم إلا القليل جدًّا عمَّا حدَث لكيتي …» ثم استطردت في صوتٍ أعلى قليلًا: «ريتشارد، إن الدكتورة بلو لم تَقُل اليوم إنني لن أستطيعَ رؤية لقطات الفيديو الخاصة بكيتي. هل تظن أن هذا يمثِّل تغيرًا في موقفهم؟ هل إلحاحي سيجعلهم يمتثلون لطلبي؟»
لم يُجِب عليها ريتشارد في البداية. ولكن بعد أن حثَّته نيكول قليلًا، اعتدل وجلس في الفراش. وقال: «ألا يمكننا الخلودُ إلى النوم هذه الليلة فقط دون مناقشةٍ أخرى عن كيتي وشرائط الفيديو اللعينة التي تمتلكها كائنات الأوكتوسبايدر؟ يا إلهي! إنك لم تتحدثي يا نيكول عن شيءٍ آخرَ على مدارِ أسبوعين. أنت تفقدين توازنك النفسي …»
فقاطعته نيكول بنبرةِ دفاع: «كلا لم يحدُث. كلُّ ما في الأمر أنني قلِقة على ما حدث لابنتنا. أنا واثقة من أن كائنات الأوكتوسبايدر لديها الكثير والكثير من مقاطع الفيديو التي يمكن أن تضعها معًا وتجعلنا نشاهدها. ألا تريد أن تعرف أنت أيضًا؟»
فقال ريتشارد وهو يتنهَّد بعمق: «بالطبع أريد أن أعرف. ولكن هذا النقاش دار بيننا عدة مرات من قبل. ما الفائدة من الخوض فيه مرةً أخرى في هذه الساعة؟»
قالت نيكول: «لقد أخبرتك. أنني شعرت بتغيُّر في موقفهم اليوم. فالدكتورة بلو لم …»
قاطعها ريتشارد بغضب: «لقد سمِعتك، ولا أظن أن ذلك يعني شيئًا. فالدكتورة بلو على الأرجح سئِمت من مناقشة هذا الموضوع مثلي.» ثم هزَّ ريتشارد رأسه. وقال: «اسمعي يا نيكول، إن مجموعتنا الصغيرة تمرُّ بظروفٍ صعبة … ونحتاج بشدة إلى قدْرٍ من الحكمة والعقلانية منك. فماكس يتذمَّر كلَّ يوم من تطفُّل كائنات الأوكتوسبايدر على حياته الخاصة، وإيلي تزداد حزنًا وكآبةً يومًا بعد يوم، عدا في اللحظات النادرة التي تجعلها فيها نيكي تبتسم؛ والآن وفي وسط كلِّ هذا، يعلن باتريك أنه وناي يريدان الزواج … ولكن هاجس كيتي وشرائط الفيديو يستبد بك تمامًا حتى إنك لا تستطيعين إسداءَ النُّصح لأي شخص آخر.»
رمقت نيكول ريتشارد بنظرة حادة ثم استلقَت على ظهرها. ولم تُجِب على تعليقه الأخير.
قال ريتشارد بعد دقيقة واحدة: «رجاءً لا تغضبي مني يا نيكول. إن كلَّ ما أطلبه منك هو أن تكوني موضوعية في سلوكياتك كما أنت عادةً فيما يخص تصرُّفات الآخرين.»
فأجابته نيكول: «أنا لست غاضبة، ولا أتجاهل الجميع. وعلى أي حال، لماذا يجب أن أكون دائمًا الشخصَ المسئول عن سعادة عائلتنا الصغيرة؟ لماذا لا يلعب أحدٌ آخرُ دورَ ربة الأسرة من حين لآخر؟»
فقال ريتشارد: «لأنه لا يوجد شخصٌ آخر يتمتَّع بما تتمتَّعين به. لطالما كنتِ أقربَ صديقة للجميع.»
فقالت نيكول: «حسنًا، وقد تعبت الآن. ولديَّ مشكلة خاصة بي، «هاجس» على حسب قولك … وبالمناسبة يا ريتشارد إن عدمَ اهتمامك الواضح هذا يصيبني بخيبةِ الأمل. لقد كنت أظن دائمًا أن كيتي هي طفلتك المفضَّلة …»
فقال ريتشارد بسرعة: «هذا ليس عدلًا يا نيكول. لا شيء سيسعدني أكثرَ من أن أعرف أن كيتي بخير … ولكن هناك أشياء أخرى في ذهني.»
لم ينبِس أيٌّ منهما ببنت شَفَة لدقيقة تقريبًا. ثم قال ريتشارد بنبرةٍ أرقَّ من ذي قبل: «أخبريني يا عزيزتي، لماذا أصبحت كيتي بهذه الأهمية فجأةً؟ ما الذي تغيَّر؟ إنني لا أتذكَّر أنكِ كنتِ قلقة عليها بهذا الشكل اللامعقول من قبل.»
فقالت نيكول: «لقد طرحتُ هذا السؤال على نفسي. لم أجِد له إجابةً شافية. ولكني أعلم أنني كنت أحلُم بكيتي كثيرًا مؤخرًا، حتى قبل أن نراها في شرائط الفيديو، وأنه كانت لديَّ رغبةٌ ملحَّة في التحدُّث إليها … وأيضًا عندما أخبرتني الدكتورة بلو أن هرقل قد مات، أول ما تبادر إلى ذهني هو أنه يجب أن أرى كيتي مرةً أخرى قبل أن أموت … أنا لا أعلم السبب حقًّا، ولا أعلم أيضًا ماذا أريد أن أقول لها، غير أني أرى أن هناك فجوة كبيرة جدًّا في علاقتي بكيتي …»
مرةً أخرى خيَّم الصمت على غرفةِ نومهما فترةً طويلة. ثم قال ريتشارد: «أنا آسف لأنني كنت متبلِّد المشاعر بعض الشيء معك.»
قالت في نفسِها: «لا بأس يا ريتشارد. لم تكن تلك هي المرة الأولى. ولن تكون الأخيرة. لكن حتى أفضل الزيجات تعاني سوءَ التواصل أحيانًا.»
اقتربت نيكول من زوجها وربَّتت عليه. وقالت وهي تطبع قبلةً على وجنته: «وأنا أقبل اعتذارك.»
•••
فوجئت نيكول حين رأت آرشي في وقتٍ مبكِّر للغاية من الصباح. وقد غادر باتريك وناي وبينجي والأطفال لتوهم للذهاب إلى البناية المجاورة لبدء اليوم الدراسي. لم يكن باقي كبار العائلة قد انتهوا من تناول إفطارهم بعدُ عندما ظهر الأوكتوسبايدر في غرفة طعام منزل ريتشارد ويكفيلد.
وقد كان ماكس فظًّا معه. إذ قال: «عفوًا يا آرشي، ولكننا لا نستقبل زائرين قبل أن نتناول قهوةَ الصباح، أو أيًّا كان ذلك الشيء اللعين الذي نحتسيه مع طعام الإفطار كلَّ يوم، أو على الأقل الأشخاص الذين نستطيع رؤيتهم.»
نهضَت نيكول عن المائدة عندما استدار الأوكتوسبايدر للمغادرة. وقالت: «لا تُعِر ماكس أيَّ اهتمام؛ فهو يعاني حالةً مزاجية سيئة بصورة مستمرة.»
فقفز ماكس من فوق مقعده وهو يحمل واحدةً من عبوات الحبوب التي أوشكت على النفاد. وحرَّكها في الهواء في اتجاه ثم في اتجاه آخر، وكأنه يملؤها هواءً قبل أن يغلقها بإحكامٍ ويعطيها لآرشي. قال بصوتٍ عالٍ: «هاك بعض رباعيات الأطراف المصوَّرة. أم أنها تتحرَّك أسرعَ مما يمكنني التقاطها.»
لم يردَّ آرشي. وشعرَ باقي البشر بالارتباك والخجل. عاد ماكس إلى مكانه إلى المائدة بجوار إيبونين وماريوس. ثم قال وهو يواجه الأوكتوسبايدر: «اللعنة يا آرشي، أظن أنك قريبًا ستضع عليَّ نقطتين من تلك النقاط الخضراء. أم أنك ستكتفي بإصدار أمرٍ لإنهاء حياتي.»
فصاح ريتشارد: «ماكس. لقد تخطيت كلَّ الحدود … على الأقل فكِّر في زوجتك وابنك.»
فقال ماكس: «هذا ما كنت أفكِّر فيه شهرًا يا صديقي. أوَتعلم يا ريتشارد؟ هذا المُزارع من آركنسو لا يستطيع إيجادَ أي شيء يمكنه فِعله ليغيِّر من …» وخفَت صوته. ثم فجأةً صدم أحدَ المقاعد بقبضته بعنف. وصرخ: «اللعنة! أشعر أنني عديم الفائدة.»
بدأ ماريوس يبكي. فهبَّت إيبونين من فوق مقعدها مبتعِدةً بطفلها، ولحِقت بها إيلي لمساعدتها. اصطحبت نيكول آرشي معها إلى الرَّدهة تاركةً ريتشارد وماكس وحدَهما. فانحنى ريتشارد وهو جالس في الجهة المقابلة من المائدة. وقال برفق: «أظن أنني أعرف ما تشعر به يا ماكس، وأنا متعاطف معك … ولكنَّ موقفنا لن يتحسَّن إذا وجَّهنا الإهانات لكائنات الأوكتوسبايدر.»
فقال ماكس وهو يتطلَّع إلى ريتشارد: «ما الفَرق الذي قد يحدِثه هذا؟ إننا سجناء هنا، وهذا واضح. لقد سمحت بأن يُولد ابني في عالمٍ سيكون سجينًا فيه إلى الأبد. أيَّ نوعٍ من الآباء أكون؟»
وفي حين كان ريتشارد يحاول تهدئةَ ماكس، كانت نيكول تتلقَّى من آرشي الرسالةَ التي كانت تسعى إليها أسابيعَ. فقد قال لها الأوكتوسبايدر: «لقد حصلنا على تصريحٍ لك لاستخدام مكتبة البيانات اليوم. لقد جمعنا لقطات فيديو تظهر فيها ابنتُك كيتي من ملفاتنا القديمة.»
وقد جعلت نيكول آرشي يعيد رسالته بالألوان كي تتأكَّد من أنها فهمته بصورةٍ صحيحة.
•••
لم يتبادل آرشي ونيكول الحديثَ والعربةُ تقلُّهما دون أن تتوقَّف على الإطلاق خلال مدينة الزمرد إلى المبنى الطويل الذي يضم مكتبةَ كائنات الأوكتوسبايدر. لم تُعر نيكول المشاهدَ التي في الشارع خارجَ العربة أيَّ اهتمام. كانت مستغرِقة تمامًا في مشاعرها وأفكارها عن كيتي. وأخذ ذهنها يَعرض عليها لحظاتٍ هامة من حياتها، واحدة تلو الأخرى، عندما كانت كيتي طفلة. وفي أبعدِ ذكرى داعبت ذهن نيكول، عاشت مرةً أخرى مشاعرَ الرعب التي شعرت بها عندما نزلت إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر قبل سنوات، ثم مشاعر السعادة عندما وجدت ابنتها المفقودة ذات الأعوام الأربعة. وفكَّرت نيكول في نفسها: «لقد كنت دائمًا مفقودة يا كيتي. بطريقةٍ أو بأخرى. لم أستطِع قط أن أبقيَك في أمان.»
شعرت نيكول بقلبها يخفق بقوة عندما قادها آرشي في النهاية إلى غرفةٍ خاوية لا يوجد بها سوى مقعد ومكتب ضخم وشاشة عرض على الحائط. أشار آرشي إلى نيكول بالجلوس على المقعد. وقال: «قبل أن أريك كيف تستخدمين الجهاز، هناك شيئان أودُّ أن أطلِعك عليهما. أولًا، أريد أن أجيب رسميًّا، بصفتي المسئول عن جماعتكم، عن الطلب الذي تقدَّم به بعضُكم للعودة إلى الانضمام لأفراد جنسكم في عدن الجديدة.»
سكت آرشي. وحاولت نيكول جمْعَ شَتات نفسها. فقد كان من الصعب عليها أن تخرج كيتي من عقلها مؤقتًا ولكنها كانت تعلم أنها يجب أن تمنح ما يوشك آرشي على قوله تركيزَها الكامل. فباقي أفراد المجموعة سينتظرون منها تقريرًا مفصلًا.
بعد لحظات قليلة استأنف آرشي حديثه قائلًا: «أخشى أنه لا يمكن لأيٍّ منكم الرحيل في المستقبل القريب. ولا يجوز لي أن أطلعك على أكثرَ من أنَّ مسئولة الأمثلية قد نظرت في الأمر بنفسِها في اجتماعٍ لكبار القادة، ولكن قوبل طلبُكم بالرفض لأسباب أمنية.»
صعِقَت نيكول لكلام آرشي. لم تكن تتوقَّع هذه الأخبار، ليس في هذا الوقت بالذات. لقد أخبرت الجميعَ أنها ترى أنهم سيسمحون لهم …
فقالت وهي تقاوم الدموعَ التي تجاهد للانهمار من عينيها: «إذن فماكس محقٌّ. إننا سجناؤكم هنا.»
فقال آرشي: «لكِ أن تفسِّري القرار بناءً على فهْمك أنت. ولكن يمكنني أن أقول لك حسب درجة فهمي للغتكم إن مصطلح «سجين»، الذي كان ماكس يستخدمه كثيرًا في الآونة الأخيرة، ليس صحيحًا.»
فقالت نيكول بغضب وهي تهُبُّ من مقعدها: «إذن أعطني كلمةً أفضل، وبعض التفسير من فضلك. أنت تعلم ماذا سيقول الآخرون …»
فأجابها آرشي: «لا أستطيع. لقد نقلت لك رسالتنا كاملة.»
أخذت نيكول تقطع الغرفةَ في خطًى سريعة ومشاعرها تتأرجح بقوةٍ ما بين الغضب والإحباط. لقد كانت تعلم ماذا سيكون ردُّ فعل ماكس. الجميع سيغضبون. حتى ريتشارد وباتريك سيذكِّرانها بأنها كانت مخطئة. فكَّرت في نفسها: «ولكن لماذا لا يشرحون السبب؟ هذا ليس من شيَمِهم.» شعرت نيكول بألمٍ خفيف في قلبها فهوَت بجسدها على مقعدها.
ثم قالت بعد صمت: «وما الأمر الثاني الذي أردتَ أن تخبرني به؟»
قال آرشي: «لقد عمِلت شخصيًّا مع مهندسي البيانات لإعداد ملفات الفيديو التي ستشاهدينها الآن … ومن خلال معرفتي بالبشر، وبك أنت تحديدًا، أظن أنكِ إذا رأيتِ هذه اللقطات، فإنها ستسبِّب لك أسًى شديدًا. لذا فأود أن أطلبَ منك أن تعيدي النظر في قرارك.»
اختار آرشي كلماتِه بحرص شديد؛ لأنه دون شكٍّ يفهم أهميةَ لقطات الفيديو لنيكول. وقد كانت رسالته واضحة. ففكَّرت نيكول في نفسِها: «ما سأراه الآن سيسبِّب لي الحزن. ولكن ما الخيارات المتاحة أمامي؟ لا شيء أو الحزن؟ سأختار الحزن.»
وبعد أن شكرت نيكول آرشي على اهتمامه وأخبرته أنها تود رؤيةَ لقطات الفيديو على أي حال، دفع آرشي المقعد الذي كانت تجلس عليه إلى أمام المكتب وأوضح لها كيف تتحكَّم في البيانات. وقد ترجمت كائنات الأوكتوسبايدر شفرةَ الوقت إلى أرقامٍ بلغةِ البشر من حيث الأيام السابقة لليوم الذي تشاهد فيه، وكانت هناك أربع سرعات يمكن لنيكول عرضُ الصور بها تشمل أربع وحدات قياس من وحدات قياس كائنات الأوكتوسبايدر، تتراوح ما بين سرعة تساوي ثُمن الزمن الحقيقي إلى ضعف السرعة العادية بأربع وستين مرة.
وقال آرشي: «البيانات الخاصة بكيتي كاملة تقريبًا عن الأشهر الستة الأخيرة بزمنكم. والإجراء التقليدي المتَّبع لدينا في عملية إدارة البيانات هو تصنيف البيانات القديمة وضغطها تبعًا لأهميتها. وتوضح الملفات الضخمة عن كيتي أهمَّ الأحداث التي مرَّت بها في العامين الأخيرين، ولكن من النادر وجود بيانات عن الفترة التي تسبق هذا.»
مدَّت نيكول يدَها إلى أزرار التحكُّم. وبحثت عن أحدث البيانات عن ابنتها فرأت وجهَ كيتي يظهر على الشاشة. وشعرَت بآرشي يربِّت على كتفها. وعندما التفتت قال لها الأوكتوسبايدر: «يمكنك استخدامُ هذا المكان وأجهزته لباقي اليوم، ولكن ليس أكثر من لذلك … ونظرًا لأن الكمية المتاحة من البيانات ضخمة، أقترح عليك أن تعرضيها بسرعةٍ كبيرة كي تحدِّدي أكثرَ الأحداث أهميةً لك.»
التقطت نيكول نفَسًا عميقًا، واستدارت لتواجه الشاشة.
•••
شعرت نيكول وكأنها ذرفت دموع عينيها كافة. فكانت عيناها متورمتين لا تكاد تستطيع أن تفتحهما من سيل الدموع المنهمر الذي لا يتوقَّف. لقد رأت نيكول كيتي وهي تحقِن نفسَها بمخدِّر الكوكومو ستَّ مرات على الأقل، ولكن عندما رأت ابنتها مرةً أخرى وهي تربط حبلًا مطاطيًّا حول عضدها وتحقن الإبرة في الوريد المنتفخ، وجدت دفعة جديدة من الدموع المحرقة طريقها إلى عينيها.
لقد كان ما رأته نيكول على مدارِ ما يقرُب من عشر ساعات أسوأ بكثير من أفظعِ كوابيسها حتى إنها انهارت تمامًا. ومع أنه لم يكن هناك صوتٌ يصحب الصور، فقد كان من السهل على نيكول أن تفهمَ الإطارَ العام لحياة كيتي. بادئ ذي بدء، ابنتُها مدمنةُ مخدِّرات بائسة. فكانت تأوي إلى شقَّتها الفاخرة إما وحدَها أو مع أصدقائها أربع مرات يوميًّا على الأقل، أو أكثر إذا لم تكن الأمور تسير على ما يرام معها، وتستخدم أدواتِ الحقن بالمخدِّرات الأنيقة التي كانت تحتفظ بها في صندوقٍ كبير مغلَق في غرفة الملابس بمنزلها.
كانت كيتي خلابةً وبعد أن تتعاطى جرعةَ المخدِّرات مباشرة. فتجدُها ودودةً ولطيفة ومفعمة بالحيوية وتبدو عليها الثقة بالنفس. ولكن إذا زال مفعول المخدِّر وهي لا تزال في إحدى حفلاتها تتحوَّل كيتي بسرعةٍ إلى مجرد ساقطة عدوانية لا تتوقف عن الصراخ، وينتهي بها الحال في كثير من الليالي وحدَها في شقَّتها مع حقنة المخدِّر.
أما مهنة كيتي الرسمية فهي إدارةُ أعمال العاهرات في فيجاس. وفي ذلك المنصب كانت كيتي أيضًا مسئولة عن استقطاب الساقطات الجدد. في البداية، لم يصدِّق قلب نيكول المفطور ما تراه عيناها. ولكن أجبرها مشهدٌ طويل دنيء — تظهر فيه كيتي — على الاعتراف لنفسها أن ابنتها عديمةُ الأخلاق والمبادئ؛ حيث بدأ المشهد بكيتي وهي تنسج خيوطَها حول فتاة إسبانية مراهقة جميلة لكنها فقيرة في سان ميجيل، وانتهى بالفتاة بعد أيام قليلة محظيةً عابرة لأحد رؤساء شركات ناكامورا الأثرياء بعد أن أصبحت ترتدي أفخرَ الملابس والحلي.
وبعد أن ظلَّت نيكول تشاهد لقطات الفيديو ساعاتٍ طويلة، دخل عليها آرشي وعرض عليها أن يُحضِر لها شيئًا تأكله. ولكنها رفضت. فقد كانت تعلم أنها في حالتها العصبية هذه لن تستطيع الاحتفاظَ بأي طعام في مَعِدتها.
لماذا ظلَّت نيكول تشاهد المقاطعَ طَوال هذا الوقت؟ لمَ لمْ تطفئ أجهزةَ التحكم وتغادر الغرفة؟ ستطرح نيكول هذه الأسئلةَ على نفسِها فيما بعدُ. وقد استنتجت نيكول بعد أن فكَّرت في الأمرِ فيما بعدُ أنه بعد مرور الساعات القليلة الأولى من بدء عرض مقاطع الفيديو، كانت تبحث، على الأقل دون وعي منها، عن علاماتٍ ما تشيرُ إلى وجودِ أي بارقة أمل في حياة كيتي. فإنه لم يكن من طبيعتها أن تسلِّم دون برهان بأن ابنتها فاسدةٌ بالفطرة. كانت تتوق بشدة إلى رؤيةِ شيء في شرائط الفيديو يوحي إليها أنَّ مستقبل كيتي قد يكون مختلفًا.
وجدت نيكول ضالتها في نهاية المطاف، شيئان في حياة كيتي التعيسة أقنعا نيكول بطريقةٍ أو بأخرى أنهما إشارتان إلى أن ابنتها قد تخرج عن نمط حياتها المدمِّر هذا يومًا ما. ففي نوبات الاكتئاب الشديد التي كانت تتعرَّض لها، والتي كانت تحدُث كثيرًا عندما لا تتوافر لديها المخدِّرات، كانت كيتي تدخل في حالة هستيريا مؤقتة فتحطِّم كلَّ ما تصل إليه يداها في شقَّتها. كل شيء فيما عدا صورتَي ريتشارد وباتريك اللتين تحتفظ بهما في إطارين. وفي نهاية نوبات غضبها الجنونية، عندما تنفد طاقتها، كانت تُخرِج الصورتين من ثيابها وتضعهما برفقٍ على فراشها. ثم ترقد إلى جوارهما لتبكي عشرين أو ثلاثين دقيقة. ورأت نيكول أن هذا السلوك المتكرِّر يشير إلى أن كيتي لا تزال تُكنُّ في قلبها بعضَ الحب لعائلتها.
أما بريق الأمل الثاني الذي رأته نيكول، فهو فرانتس باور، نقيبُ الشرطة الذي كان رفيق كيتي الدائم. ولم تفهم نيكول علاقتهما الغريبة؛ ففي إحدى الليالي تجدهما يشتبكان في شجار سوقي عنيف، ثم في الليلة التالية تجد فرانتس يقرأ لها شِعر راينر ماريا ريلكا قبل الانغماس في علاقة حميمة مفعمة بالنشاط تستمر ساعاتٍ طِوالًا، ولكنها استنتجت مما تراه في شرائط الفيديو أن فرانتس يحب كيتي بطريقته الغريبة، وأنه لم يكن يوافق على إدمانها للمخدرات. ففي أثناء شجارهما في إحدى المرات، أمسك فرانتس بما تملِكه كيتي من مخدرات وهدَّد بإلقائه في المرحاض. فجُنَّ جنون كيتي تمامًا، وهاجمت فرانتس بفرشاة شعر بوحشية.
استمرَّت نيكول ساعةً تعقُبها ساعةٌ في مشاهدة المقاطع في محاولةٍ لفهْم حياة ابنتها المأساوية. وعلى مدار اليوم الطويل، عادت نيكول تمرُّ على لقطات الفيديو الأقدم، ووجدت بعضَها يرجع إلى الأيام الأولى لإدمانها للمخدِّرات. واكتشفت أن ابنتها كانت على علاقةٍ مشينة بناكامورا نفسه، وأن طاغيةَ عدن الجديدة كان يمدُّها بالمخدِّرات بانتظام عندما كانا على علاقة.
كانت نيكول حينها قد فقدَت الإحساسَ بما حولها. وكانت مستنزَفة عاطفيًّا للغاية، حتى إنها لم تَعُد تقوى على الحَراك من مكانها. وعندما أغلقت أجهزة التحكُّم في النهاية، وضعت رأسها على المكتب، وأخذت تبكي بضع دقائق أخرى ثم سقطت في سُبات عميق. وبعد أربع ساعات أيقظها آرشي وأخبرها أنه قد حان وقتُ العودة إلى المنزل.
•••
كان الظلام قد حلَّ. ظلَّت العربة متوقِّفة في الميدان عشرَ دقائق، ولكن نيكول لم تنزل منها بعد. وكان آرشي يقف إلى جوارها.
قالت نيكول وهي تلقي نظرةً سريعة على الأوكتوسبايدر: «لا يمكن أن أخبرَ ريتشارد بما رأيته اليوم. إنه كفيل بالقضاء عليه تمامًا.»
قال آرشي بتعاطف: «أفهم ذلك. تفهمين الآن لماذا اقترحتُ عليك ألا تري شريط الفيديو.»
قالت نيكول وهي تُرخي قبضتَها ببطء عن العمود الرأسي وتُخرج إحدى قدميها من العربة بتراخٍ: «لقد كنت محقًّا، ولكن فات الأوان الآن. ليس بإمكاني محو تلك الصور البشعة العالقة بذهني.»
قال آرشي بمجرد أن نزلا من العربة: «لقد أخبرتني من قبل أنه من الواضح من شرائط الفيديو أن باتريك كان يعرف شيئًا عن نمطِ حياة كيتي قبل هروبه. وقد اختار ألا يخبرك أنتِ وريتشارد عن أسوأ تفاصيل حياتها. فهل القيام بشيء مماثل يُعَد خرقًا لمبادئك الشخصية؟»
قالت نيكول وهي تربِّت على كتفِ آرشي وتحاول الابتسام: «شكرًا لك يا آرشي لأنك تقرأ أفكاري … لقد صرتَ تفهمُنا جيدًا.»
فقال آرشي معلِّقًا: «نحن أيضًا نواجه بعضَ الصعوبات مع الحقيقة في مجتمعنا. ومن التعليمات الإرشادية الأساسية للقادة الجدد أن يقولوا الحقيقةَ في جميع الأوقات، ويقول علمُ السياسة إنه يُسمح بحجب المعلومات، ولكن لا يُسمح بقول الأكاذيب. ويتحمَّس القادة الصغار للغاية لقول الحقيقة، دون أن يعيروا العواقبَ اهتمامًا … ولكن في بعض الأحيان لا يتَّفق قول الحقيقة والتعاطف.»
قالت نيكول وهي تتنهَّد بعمق: «أوافقك الرأي يا صديقي الفضائي الحكيم. والآن بعد أحدِ أسوأ الأيام التي مررت بها في حياتي على الإطلاق، أواجه مهمَّتين صعبتين وليس مهمة واحدة. يجب أن أخبرَ ماكس أنه لن يستطيع الرحيلَ من مدينة الزمرد؛ ويجب أن أخبر زوجي ريتشارد أن طفلته المفضَّلة مدمنة مخدرات وقوادة. وأتمنى أن أجد في مكانٍ ما في هذا الجسد العجوز المنهك القوةَ اللازمة للتعامل مع هاتين المهمتين على نحوٍ سليم.»
١٠
كان ريتشارد نائمًا عندما وصلت نيكول إلى المنزل. وقد أسعدها أنها لم تُضطَّر إلى شرح أيِّ شيء من فورها. فارتدَت ملابس نومها بسرعة وتسلَّلت بهدوء إلى الفراش. ولكنها لم تستطِع النوم. فقد ظل عقلها يطوف جيئةً وذهابًا بين الصور الفظيعة التي رأتها ذلك اليوم وبين تفكيرها فيما ستخبر به ريتشارد والآخرين.
وقبل أن تستسلم إلى سبات عميق، رأت نيكول نفسَها تجلس في المدرَّجات المكشوفة في مدينة روان إلى جوار والدها في الميدان الذي أُحرِقت فيه جان دارك قبل ثمانمائة عام. رأت نيكول نفسَها فتاةً في سن المراهقة كما كانت بالفعل عندما اصطحبها والدها إلى هناك ليشاهدا نهايةَ الاحتفال الذي يحيي ذكرى جان دارك. وقد دخلت عربةٌ يجرها ثور وتحمِل جان إلى الميدان وأخذ الناس يصيحون.
فقالت نيكول وهي تصيح رافعةً صوتها فوق صوت الضجيج: «أبي، ماذا عساي أن أفعل لأساعد كيتي؟»
لم يسمع والدها السؤال. فقد كان اهتمامه بالكامل منصبًّا على عذراء أورليانز، أو بالأحرى الفتاة الفرنسية التي تلعب دور جان دارك. شاهدت نيكول الفتاةَ وهي يُشدُّ وَثاقها إلى الوتد. كان لها نفس العينين الثاقبتين الحادتين اللتين عُرفت بهما جان دارك. ثم بدأت الفتاة تتلو صلواتها بهدوءٍ وأحدُ الأساقفة يقرأ عليها حُكم الإعدام الصادر ضدها.
فسألته نيكول مرةً أخرى: «ماذا عن كيتي؟» ولكنها لم تتلقَّ إجابةً مجددًا. سمِعت نيكول لهاثَ الجماهير من حولها في المدرجات عندما أُضرمت النيران في أكوام الخشب المحيطة بجان. فوقفت نيكول مع الحشود وألسنةُ اللهب تنتشر بسرعة حول قاعدة الوتد الخشبي الضخم الذي شُدَّ وَثاقُها إليه. وكانت تسمع بوضوح صلوات القديسة جان وهي تطلب مباركةَ المسيح.
اقتربت النيران أكثرَ من الفتاة. فنظرت نيكول إلى وجهِ الفتاة المراهقة التي غيَّرت مجرى التاريخ وسرَت قشعريرة باردة في جسدها. صرخت: «كيتي! لا! لا!»
حاولت نيكول بكل قوَّتها أن تجِد مخرجًا من المدرجات، ولكن الجماهير كانت تحاصرها من جميعِ الجوانب. ولم تكن بيدها وسيلةٌ لإنقاذ ابنتها التي تحترق. فعادت نيكول لتصرخ مرةً أخرى وهي تدفع الناس من حولها بقوة: «كيتي! كيتي!»
ثم شعرت بذراعين تحيطان بها. استغرقت نيكول بضع ثوانٍ لتدرك أنها كانت تحلُم. ووجدت ريتشارد يحدِّق فيها بقلق. وقبل أن تتفوَّه بكلمة، دخلت إيلي الغرفة بملابسِ النوم هي الأخرى.
سألتها: «هل أنتِ بخير يا أمي؟ لقد كنتُ أتفقَّد نيكي ثم سمعتُك تصرخين باسم كيتي …»
نظرت نيكول إلى ريتشارد أولًا ثم إلى إيلي. ثم أغمضت عينيها. كانت لا تزال ترى وجهَ كيتي والألم يرتسم على ملامحه والنيران من أسفلها. فتحت نيكول عينيها مرةً أخرى ونظرت إلى زوجها وابنتها وقالت: «إن كيتي تحيا حياةً بائسة»، ثم أجهشت بالبكاء.
لم يكن هناك سبيل لتهدئة نيكول. ففي كلِّ مرة ما إن تبدأ في إخبار ريتشارد وإيلي تفاصيل ما رأته، حتى تجهش بالبكاء مرةً أخرى. ثم قالت بعد أن تمكَّنت أخيرًا من أن تتمالك نفسَها: «أشعر أني محبَطة وعاجزة تمامًا. كيتي في خطرٍ محدِق، ولا يسَعُ أيًّا منَّا أن يفعل شيئًا لمساعدتها.»
تخلَّت نيكول عن خطتها المبدئية بأن تخفِّف من وطأة الأمر على عائلتها؛ فأخبرتهم باختصار عن طبيعةِ حياة كيتي دون حذف أي شيء فيما عدا بعض مغامراتها الجنسية الطائشة. وقد صعِق ريتشارد وإيلي وانفطر قلباهما مما يسمعانه.
وفي أثناء الحوار، قال ريتشارد: «لا أدري كيف تمكَّنت من البقاء هناك ومشاهدة مقاطع الفيديو طوال هذه الساعات. لو كنت مكانك لخرجت في بضع دقائق.»
قالت إيلي وهي تهزُّ رأسَها: «لقد ضاعت كيتي، ضاعت تمامًا.» وبعد بضع دقائق، دخلت نيكي الغرفةَ تبحث عن والدتها. فعانقت إيلي نيكول وأخذت نيكي معها عائدة إلى غرفتهما.
قالت نيكول بعد بضع دقائق قبل أن يعودا إلى النوم: «أنا آسفة يا ريتشارد، لقد فقدتُ صوابي اليوم.»
فقال ريتشارد: «أنا أتفهَّم الأمر. من المؤكد أنه كان يومًا بشِعًا.»
مسحَت نيكول عينيها للمرة المليون. وقالت وهي تجبر نفسَها على رسم ابتسامة باهتة: «أتذكر أنني بكيت بهذا الشكل مرةً واحدة فقط في حياتي. كنت في الخامسة عشرة من عمري. وكان والدي قد أخبرني ذات يوم أنه يفكِّر في التقدُّم لخِطبة تلك المرأة الإنجليزية التي كان يواعدها. لم أكن أحبها؛ فقد كانت باردةً ومتحفِّظة، ولكني رأيت أنه من غيرِ اللائق أن أقول أيَّ شيء سيئ عنها لأبي. غير أنني كنت منهارة. فأخذت بطَّتي البرية، دانوا، وهُرعت إلى البحيرة في بوفوا. وأخذت أجدِّف حتى وصلت إلى منتصفها، ثم رفعت المجدافين إلى المركب ومكثت أبكي عدة ساعات.»
استلقيا في صمتٍ بضع دقائق. ثم مالت نيكول ناحيةَ زوجها وقبَّلته. قالت: «شكرًا على إصغائك إليَّ، كنت أحتاج إلى المؤازرة.»
قال ريتشارد: «الأمر ليس هينًا عليَّ أيضًا. لكني على الأقل لم أرَ كيتي بالفعل، فبدا لي …»
قاطعته نيكول فجأةً قائلة: «يا إلهي! لقد كدتُ أنسى … لقد أخبرني آرشي اليوم أنه لن يستطيع أيٌّ منَّا الرحيل إلى عدن الجديدة. وقال إنها مسألةٌ أمنية … من المؤكَّد أن ماكس سيستشيط غضبًا.»
فقال لها ريتشارد برفق: «لا تقلقي بشأنِ هذا الأمر الآن. حاولي أن تنالي قسطًا من الراحة. وسنتحدَّث عن هذا الأمر في الصباح.»
فارتمت بين ذراعيه وغطَّت في سبات عميق.
•••
صاح ماكس: «لأسباب ماذا؟ أمنية. ماذا يعني هذا بحق الجحيم؟»
نهض باتريك وناي عن مائدةِ الطعام. وقالت ناي وهي تشير إلى الأطفال كي يتبعوها: «اتركوا طعامكم. يمكننا أن نتناول بعضَ الفواكه والحبوب في الفصل.»
لم يرغب أيٌّ من كيبلر وجاليليو في المغادرة. فقد شعرا أن شيئًا مهمًّا على وشْك أن يُقال. ولم يحرِّكا مقعديهما وينهضا إلا عندما التفَّ باتريك حول المائدة واتَّجه إليهما.
أما بينجي فقد سُمح له بالبقاء بعد أن قطع وعدًا لنيكول بألا يقول شيئًا مما سيدور بينهم على مسامع الأطفال. وقد تركت إيبونين المائدةَ إلى أحدِ أركان الغرفة كي تُرضع ماريوس الذي استيقظ من نومه.
قالت نيكول لماكس بعد أن رحل الأطفال: «لا أعلم ماذا يعني هذا. فآرشي لم يوضح شيئًا.»
فقال ماكس: «حسنًا، هذا رائع حقًّا. لا نستطيع الرحيل، ولن يخبرنا أصدقاؤك القذرون هؤلاء بالسبب. لماذا لم تطلبي مقابلةَ مسئولة الأمثلية هناك على الفور؟ ألا تظنين أنهم يَدينون لنا ببعض التفسير؟»
فأجابت نيكول: «بلى، أرى ذلك. وربما يجب أن نطلب جميعًا لقاءً رسميًّا آخرَ مع مسئولة الأمثلية. أنا آسفة يا ماكس، فلم أتعامل مع الموقف بصورة جيدة … لقد كنت أستعدُّ لمشاهدة لقطات الفيديو الخاصة بكيتي، وأُصدِقك القول، لقد فاجأني آرشي بالقرار.»
فقال ماكس: «اللعنة! إنني لا ألومك شخصيًّا يا نيكول … وعلى أي حال، نظرًا لأنني أنا وإيب وماريوس فقط الذين ما زلنا نريد العودةَ إلى عدن الجديدة، فإن مهمتنا نحن أن نستأنف هذا القرار … وأشكُّ أن مسئولة الأمثلية قد رأت من قبلُ طفلًا بشريًّا في الشهر الثاني من عمره.»
دار بقيةُ الحوار في أثناء الإفطار عن كيتي وما رأته نيكول في اليوم السابق في مقاطع الفيديو. فشرحت لهم مجمل حياة كيتي التَّعسة دون الدخول في الكثير من التفاصيل.
عاد باتريك وأخبرهم أن الأطفال منشغلون في دروسهم. ثم قال مخاطبًا جميعَ الجالسين إلى مائدة الطعام: «لقد تحدثتُ أنا وناي عن العديد من الأمور. أولًا، نود منك يا ماكس أن تحفظ لسانك أكثرَ أمام الأطفال فيما يخص تعليقاتك السلبية عن كائنات الأوكتوسبايدر … لقد بدءوا يشعرون بالخوف عندما يحضُر آرشي أو الدكتورة بلو؛ فمن الواضح أن سببَ ردودِ أفعالهم هو أنهم استرقُوا السمعَ أثناء المناقشات التي تدور بيننا.»
رفع ماكس رأسَه في استياء، وكان على وشْك أن يبدأ في الرد. فأضاف باتريك بسرعة: «من فضلك يا ماكس، أنت تعلم أنني صديقك … دعنا لا نتجادل في هذا الأمر. فقط فكِّر فيما قلتُ وتذكَّر أنه من الممكن أن نظل جميعًا هنا مع كائناتِ الأوكتوسبايدر فترةً طويلة …»
ثم استأنف: «ثانيًا، أشعر أنا وناي، لا سيما في ضوءِ ما سمِعناه هذا الصباح، أنه يجب أن يتعلَّم الأطفال لغةَ كائنات الأوكتوسبايدر. ونود أن يبدءوا ذلك في أسرعِ وقت ممكن … ونرى أننا سنحتاج معنا إلى إيلي أو أمي، بالإضافة إلى كائن أوكتوسبايدر أو اثنين … ليس لتعليم الأطفال فقط، ولكن لجعلهم يشعرون بالأُلفة مرةً أخرى مع مضيِّفينا الفضائيِّين … فقد رحل هرقل منذ شهرين الآن … فهلا تتحدَّثين من فضلك يا أمي مع آرشي بهذا الشأن؟»
فأومأت نيكول برأسها موافقة، فاستأذن باتريك للانصراف قائلًا إنه ينبغي له العودة إلى الفصل. فبادر بينجي بالقول: «لقد أصبح باتريك معلِّمًا جيدًا. إنه صبور للغاية معي ومع الأطفال.»
ابتسمت نيكول ونظرت إلى ابنتها الجالسةِ إلى الجهة المقابلة من مائدة الطعام. وقالت في نفسها: «بالنظر إلى كل شيء، لم يَخِب أملُنا في أولادنا. يجب أن أكون سعيدة بباتريك وإيلي وبينجي. ولا أعذِّب نفسي كثيرًا بشأن كيتي.»
في أحدِ أركانِ غرفةِ نومها، انتهت ناي واتانابي من تأمُّلاتها، وتلت صلاةَ الصباح تبَعًا للتعاليم البوذية، التي كانت جزءًا من طقوسها اليومية منذ أن كانت فتاةً صغيرة في تايلاند. وخرجت إلى غرفةِ المعيشة متجهةً إلى غرفة النوم الأخرى لتوقظ ولدَيها التوءمين، واندهشت عندما وجدت باتريك نائمًا على الأريكة. وكان لا يزال يرتدي ملابسَه وجهاز القارئ الإلكتروني الخاص بها على صدره.
هزَّته برفق. وقالت: «استيقظ يا باتريك، لقد طلع الصبح … وقد نمْتَ هنا طوال الليل.»
فاستيقظ باتريك بسرعة، واعتذر لناي. وأخبرها وهو في طريقه إلى الخروجِ أنَّ لديه عدةَ موضوعات — عن البوذية بالطبع — يود مناقشتها معها ولكنه رأى أنها من الممكن أن تنتظر حتى وقت مناسب. فابتسمت ناي وطبَعت قُبلة رقيقة على وجنته قبل أن تخبره أنها ستحضُر هي والأطفال لتناول طعام الإفطار في غضون نصف ساعة.
قالت ناي لنفسها وهي تراه يبتعد: «إنه شاب يافع ومخلِص. وإنني أستمتع حقًّا بصحبته … ولكن هل من الممكن أن يحل أيُّ شخص محلَّ كينجي ويكون زوجي؟»
وتذكَّرت ناي الليلةَ السابقة. فبعد أن أخلد التوءمان إلى النوم، دار بينها وبين باتريك حوارٌ جادٌّ طويل. فقد أبدى باتريك رغبته في أن يعجِّلا بالزواج. ولكنَّ ناي أجابته أنها لا تريد التعجل، وأنها ستوافق على ميعادٍ محدَّد لعقد الزواج عندما تشعر أنها مرتاحة تمامًا للفكرة. ثم سألها باتريك بعد ذلك بحرجٍ عن إمكانيةِ أن يكون بينهما ما أطلق هو عليه «علاقة جسدية أقوى» وهما ينتظران الزواج. فذكَّرته ناي بأنها أخبرته منذ البداية أنهما لن يتبادلا سوى القُبلات حتى يتزوجا. وكي تهدئ من مشاعره، أكَّدت له أنها تجده جذابًا من الناحية الجسدية، وأنها تتطلع حقًّا ليكون بينهما علاقة حميمة بعد أن يتزوجا، ولكن ستظل «العلاقة الجسدية» ممنوعة في الوقت الحالي طبقًا للأسباب التي ناقشوها عشرات المرات.
تحدَّث الاثنان أغلبَ الأمسية إما عن التوءمين أو عن البوذية. وقد أعربت ناي عن مخاوفها من أنه قد يكون للزواج تأثيرٌ سلبيٌّ على جاليليو، ولا سيما أن الصبيَّ كثيرًا ما يرتدي عباءة حامي والدته. ولكنَّ باتريك قال لناي إنه لا يعتقد أن الاختلافات المتكررة بينه وبين جاليليو ترتبط بالغَيرة. وقال: «إن الصبي يستاء من وجود أي سلطة عليه ويعارض تقويم السلوك … وعلى العكس من جاليليو، فإن كيبلر …»
سألت ناي نفسَها عن عدد المرات التي علَّق فيها شخص طَوال السنوات السبع الماضية قائلًا: «وعلى العكس من جاليليو، فإن كيبلر …» وتذكَّرت حين كان كينجي لا يزال على قيد الحياة وكان الطفلان يبدآن في السير. كان جاليليو يسقط دائمًا ويرتطم بالأشياء. وعلى العكس من جاليليو، فإن كيبلر كان حريصًا ودقيقًا في خطواته. ولم يقع قطُّ تقريبًا.
لم تكن اليَراعات العملاقة قد أعلنت عن بزوغِ فجرِ مدينة الزمرد بعدُ. فتركت ناي لخيالها العِنان مثلما تفعل معظم الوقت بعد أن تنتهيَ من تأملاتها. وانتبهت إلى أنها كانت تعقد كثيرًا من المقارنات مؤخرًا بين كينجي وباتريك. فقالت في نفسها: «هذا ليس عدلًا مني. لا يمكن أن أتزوج باتريك حتى يتوقَّف ذهني عن هذه المقارنات تمامًا.»
ثم عادت لتفكِّر في الليلة السابقة. وابتسمت عندما تذكَّرت حوارهما المتحمِّس عن حياة بوذا. وقالت في نفسها: «ما زال باتريك يتمتَّع بسذاجة الأطفال ومثاليتهم النقية. إنها أحدُ أكثر الأشياء التي أحبُّها فيه.»
فقد قال باتريك تلك الليلة: «إنني معجب بفلسفة بوذا البسيطة ومنهجيته. معجب بها حقًّا … ولكن لا تزال لديَّ بعض النقاط التي لا أفهمها … كيف تعبدين رجلًا ترك زوجتَه وابنه وهجرهما ليصبح متسولًا … ماذا عن مسئوليته تجاه عائلته؟»
فأجابته ناي: «إنك بهذا تُخرِج أفعالَ بوذا من سياقها التاريخي. أولًا، قبل ألفين وسبعمائة عام في شمال الهند، كان التجوُّل في الشوارع والتسول أسلوبًا مقبولًا للحياة. فقد كان هناك بعضٌ ممن يعيشون على هذا النحو في كل قرية والكثير منهم بالمدن. فعندما كان الرجل يريد البحث عن «الحقيقة» تكون أول خطوة طبيعية له هي التبرؤ من كل وسائل الراحة المادية … إلى جانب أنك نسيت أن بوذا كان ينتمي إلى عائلة ثرية للغاية. أي إنه لم يكن هناك أيُّ شكٍّ لديه في توفر الطعام والمأوى والملبس وضرورات الحياة الأخرى لزوجته ولطفله …»
لقد تحدَّثا ساعتين تقريبًا ثم تبادلا القُبلات بعضَ الوقت قبل أن تذهب ناي وحدَها إلى غرفةِ نومها. وعندما ألقَت عليه تحيةَ المساء من عند باب غرفتها كان هو قد عاد ليقرأ عن البوذية.
عندما اندفعت اليَراعة العملاقة تغمُر مدينةَ كائنات الأوكتوسبايدر بالضوء، كانت ناي مستغرِقة في التفكير تقول لنفسها: «كم من الصعب أن أشرح التعاليمَ البوذية وارتباطها بالحياة لشخصٍ لم يرَ كوكب الأرض قط … ولكن حتى هنا، في هذا العالم الفضائي الغريب بين النجوم، لا تزال الرغبات تسبِّب المعاناةَ ولا يزال البشر يبحثون عن السَّكينة الروحية. لهذا ستظل بعضُ عناصرَ من البوذية والمسيحية وغيرهما من الديانات العظيمة التي ظهرت على الأرض باقيةً ما دام البشر موجودين في أي مكان.»
١١
هبَّ ريتشارد من مضجعه بحماسةٍ تفوق حماستَه المعتادة، وأخذ يتحدَّث بسرعة إلى نيكول. قال لها وهو يرتدي ملابسه: «تمنِّي لي حظًّا سعيدًا. لقد أخبرني آرشي أننا سنتغيب طَوال اليوم.»
كان من عادةِ نيكول أنها تستيقظ من نومها ببطء شديد ولا تحب على الإطلاق أيَّ نشاط كبير في الساعات الأولى من الصباح، فتقلبت على فراشها إلى الجهة الأخرى وحاولت أن تستمتع بآخرِ بضع لحظاتٍ من نومها. وفتحت إحدى عينيها قليلًا، وعندما رأت أن المدينة لا تزال مظلمة، أغمضتها مرةً أخرى.
فقال ريتشارد: «إنني لم أشعر بهذه الحماسة منذ أن أحرزت التقدمين الأخيرين في مشروع المترجم. أعلم أن كائنات الأوكتوسبايدر جادين في إيجاد عمل لي … إنهم فقط يحاولون إيجادَ المهمة المناسبة لي.»
غادر ريتشارد غرفةَ النوم عدةَ دقائق. ومن الضوضاء الصادرة من المطبخ، استنتجت نيكول نصف النائمة أنه يُعِدُّ طعامَ الإفطار لنفسه. ثم عاد وهو يأكل واحدة من الفواكه الضخمة القرنفلية اللون التي أصبحت المفضَّلة لديه. ووقف إلى جوار الفراش يمضغ الطعام بصوتٍ عالٍ.
فتحت نيكول عينيها ببطء ونظرت إلى زوجها. وقالت وهي تتنهَّد: «أظن أنك تنتظر أن أقول لك شيئًا.»
فقال: «نعم. سيكون من اللطيف أن نتبادل المزاح قبل أن أغادر. فقد يكون هذا هو أهم يوم لي منذ أن وصلنا إلى مدينة الزمرد.»
فقالت نيكول: «هل أنت واثق أن آرشي يعتزم العثورَ على عمل لك؟»
فأجابها ريتشارد: «قطعًا. هذا هو الهدف مما سنفعله اليوم. فسيطلعني على بعض نُظمهم الهندسية الأكثرِ تعقيدًا، ويحاول معرفةَ المكان الذي يمكن فيه استغلال مواهبي الاستغلال الأمثل … أو على الأقل هذا ما أخبرني به بعد ظهر أمس.»
فسألته نيكول: «ولكن لماذا تغادر في هذا الوقت المبكر؟»
«لأن هناك الكثير من الأشياء التي تنتظرني على ما أظن … وعلى أي حال، أعطني قبلة. سيصل آرشي في غضون بضع دقائق.»
قبَّلت نيكول ريتشارد بصورةٍ روتينية وعادت لتغلق عينيها مرةً أخرى.
•••
كان بنك الأجنة مبنًى ضخمًا مستطيلًا يقع إلى أقصى جنوب مدينة الزمرد، بالقرب من نهاية السهل الرئيسي. وعلى بُعد أقلَّ من كيلومتر من المكان الذي شُيِّد فيه البنك، كانت ثلاثة سلالم، كلٌّ منها يتكوَّن من عشرات الآلاف من الدرجات، تأخذ مَن يعتليها إلى مسرح القطب الجنوبي. وفوق بنك الأجنة، في ظلام راما شبه الحالك، يبدو للعيان بناء القرن الكبير الشاهق والقرون الصغيرة المحيطة به الحادة القمم، التي يفوق حجمُ كلٍّ منها حجمَ أي بناء معماري على كوكب الأرض.
كان ريتشارد وآرشي قد ركِبا نعامصور في أطرافِ مدينة الزمرد. وقَطعا معًا الموطنَ البديل في غضون دقائق، وكان برفقتهما حارسٌ وثلاث يراعات. وعند الأطراف الجنوبية من مملكة كائنات الأوكتوسبايدر، لم يكن هناك سوى عدد قليل من المباني. ومع أنهما كانا يمران ببعض حقول الحبوب من حين إلى آخر، فإن معظم المنطقة التي سافروا عبْرها في طريقهم إلى الجنوب قد ذكَّر ريتشارد بالنصف الشمالي من مركبة راما الثانية، حتى في ذلك الضوء الخافت، قبل أن يُبنى الموطنان.
دلف ريتشارد وصديقه الأوكتوسبايدر إلى بنكِ الأجنة عبْر بابين شديدي السُّمك قاداهما مباشرةً إلى قاعة مؤتمرات ضخمة. وهناك تعرَّف ريتشارد عددًا آخرَ من كائنات الأوكتوسبايدر الذين كانوا من الواضح يتوقَّعون زيارته. وكان ريتشارد يستخدم مترجمه الخاص وهم يقرءون حركةَ شفتيه، إلا أنه كان يُضطر إلى الحديث ببطء وتمييز كلماته؛ لأنهم لم يكونوا متمرسين في لغةِ البشر بعدُ مثل آرشي.
وبعد بعض الإجراءات الشكلية، قاد أحدُ كائنات الأوكتوسبايدر الاثنين إلى سلسلةٍ من لوحاتِ التحكُّم التي تضم نظيرًا للوحات المفاتيح، مصنوعةٍ من شرائط ألوان كائنات الأوكتوسبايدر. وقالت الأوكتوسبايدر القائدة في المقدِّمة التي افتتحت بها حديثَها: «لدينا تقريبًا عشرة ملايين جنين محفوظ هنا لأكثر من مائة ألف نوع مختلف من الكائنات، وثلاثة أضعاف هذا الرقم من أجنة الكائنات المهجَّنة. ويتراوح متوسط أعمارهم الطبيعية ما بين نصف تيرت إلى عدة ملايين من الأيام، أو ما يقرُب من عشرة آلاف عام بزمن البشر. ويتراوح حجمُ الأفراد البالغين من هذه الفصائل ما بين جزء من نانومتر إلى أحجامٍ عملاقة في حجم هذا المبنى تقريبًا. ونحتفظ بكل جنين هنا فيما نعتقد أنها الظروف المُثلى تقريبًا للحفاظ عليه. وعلى أي حال، إننا نحتاج إلى حوالي ألف بيئة مختلفة، ومزيج من درجات الحرارة والضغط والعوامل الكيميائية المحيطة بالأجنة، لتحقيق مجموعة الظروف المطلوبة.
«ويضم هذا المبنى أيضًا نظامًا مهولًا لإدارة البيانات والمراقبة. ويتحقَّق هذا النظام تلقائيًّا من الظروف في كلٍّ من البيئات المختلفة، ويراقب التطوُّر المبكر لعدة آلاف من الأجنة التي تكون في حالةِ نمو نشط. ويتمتَّع النظام أيضًا بتقنيات أوتوماتيكية لاكتشاف الأخطاء ومعالجتها، ونظام إنذار يعمل وفق متغيرين، كما أنه يسوق الصورَ والفيديو التي يمكن أن تعرِض الحالات أو تصنِّف المعلومات، على الحائط هنا أو في أيٍّ من مناطقِ البحث في الطوابق العليا.»
أخذ عقلُ ريتشارد يعمل بسرعةٍ رهيبة عندما بدأ يفهم بوضوحٍ أكثرَ الغرضَ من بنك الأجنة. وفكَّر في نفسه: «يا لها من فكرة رائعة. كائنات الأوكتوسبايدر تحفظ هنا جميعَ بذور أجناس النباتات وفصائل الحيوانات التي من الممكن أن تحتاج إليها لأي غرض.»
كانت القائدة تقول: «… والاختبارات مستمرة للتأكُّد من سلامة نظامي الحفظ والتخزين، ولتوفير عيناتٍ من أجل تجارب الهندسة الوراثية. وستجد في أي وقتٍ هنا مائتي أوكتوسبايدر تقريبًا من علماء الأحياء مشغولين في تجاربَ على الجينات. والهدف من هذا الكم من التجارب هو إنتاجُ أشكالٍ معدَّلة من الكائنات الحية تحسِّن من إنتاجية مجتمعنا …»
فقاطعها ريتشارد سائلًا: «هل من الممكن أن تريني مثالًا لهذه التجاربِ على الجينات؟»
فأجابته الأوكتوسبايدر: «بالطبع.» ثم اتجهت إلى لوحة التحكُّم واستخدمت ثلاثًا من لوامسها للضغط على سلسلةٍ من الأزرار الملوَّنة. وقالت وصورة فيديو تظهر على الحائط: «أعتقد أنك قد تعرَّفت إحدى وسائلنا الأساسية لتوليد الطاقة. وكما تعرف فإن فكرتها الأساسية بسيطةٌ إلى حدٍّ كبير. فالكائنات البحرية الدائرية الشكل تولِّد الشحنات الكهربية وتخزِّنها في جسدها. ونحن نحصل على هذه الشحنات من خلال شبكةٍ من الأسلاك التي يجب أن تضغط عليها هذه الكائنات للوصول إلى طعامها. ومع أن هذا النظام مُرضٍ إلى حدٍّ بعيد، فقد أشار مهندسونا إلى أنه من الممكن إدخالُ تعديلات جوهرية عليه إذا ما تغيَّر سلوكُ هذه الكائنات بصورةٍ ما.
«انظر إلى هذه الصورة المقرَّبة التي تعرِض بسرعةٍ عاليةٍ ستةً من المخلوقات البحرية التي تولِّد الطاقة. لاحظ أنه خلال هذه الصورة المتحرِّكة ببطء سيمر كلُّ حيوان من هذه الحيوانات عبْر ثلاث أو أربع دورات لتوليد الشحنات الكهربية وتفريغها. ما هي السِّمة في هذه الدورات التي ستكون أكثرَ أهميةً في نظر مهندس النظام؟»
شاهد ريتشارد الشريطَ بدقَّة. وفكَّر في نفسه: «يخبو توهُّج حيوانات الدولار الرملي بعد تفريغ شحناتها، ولكنها تستعيد كامل توهُّجها في فترةٍ زمنية قصيرة نسبيًّا.»
فقال ريتشارد وهو يتساءل في داخله فجأةً عما إذا كان يمرُّ باختبارٍ من نوعٍ ما: «إذا افترضنا أن التوهُّج هو مقياس للكهرباء المختزنة، فسيكون النظام أكثرَ فعاليةً مع زيادة عدد مرات تناول الطعام.»
فأجابته الأوكتوسبايدر القائدة: «بالضبط.» فأرسل آرشي إليها رسالةً سريعة بالألوان انتهت قبل أن يوجِّه ريتشارد تلسكوب جهاز المترجِم الخاص به إليه. وفي تلك الأثناء، ظهرت صورةٌ مختلِفة على الحائط. فواصلت القائدة: «هنا ثلاثة أشكال معدَّلة جينيًّا من الكائنات البحرية الدائرية التي لا تزال تحت الاختبار والتقييم. وذلك الموجود إلى اليسار هو المرشَّح الأول ليحلَّ محلَّ الكائنات الحالية. ويبلغ عدد المرات التي يتناول فيها هذا النموذجُ المبدئي طعامَه تقريبًا ضِعف عدد المرات التي يأكل فيها الكائن الحالي؛ لكنَّ لديه خللًا في عملية الأيض يزيد من حساسيته للأمراض المعدية بنسبة كبيرة، فنحن نضع في اعتبارنا جميعَ العوامل في التقييم الحالي …»
•••
انتقل ريتشارد من عرضٍ إلى آخر. وصاحبه آرشي طوال الوقت، ولكن في كل مكان كانت مجموعة مختلفة من كائنات الأوكتوسبايدر المتخصصة تنضم إليهما من أجل المحاضرة المختصرة والمناقشة الجماعية التي تتبعها دائمًا. وقد كان أحدُ العروض يركِّز على العلاقات بين بنك الأجنة وحديقة الحيوانات الضخمة التي تحتل مساحةً ضخمة من الموطن البديل، وحاجز الغابات الذي يشكِّل دائرةً كاملة حول راما، على بُعد أقلَّ من كيلومتر شمال مدينة الزمرد. قال المحاضر: «جميع الكائنات الحية في مملكتنا إما تربط بينها علاقة تكافلية نشطة، أو تحت الملاحظة المؤقتة في موطن معزول — في حديقة الحيوان أو الغابة أو — في حالتكم تحديدًا — في مدينة الزمرد نفسِها — أو تُجرى عليهم تجاربُ هنا في بنك الأجنة.»
وبعد أن قطع ريتشارد وآرشي مسافةً طويلة سيرًا مجتازين أكثرَ من رواق، حضرا اجتماعًا مع ستة من كائنات الأوكتوسبايدر يُجرون تقييمًا لاقتراحٍ بإحلالِ سلسلة تكافلية كاملة تتكوَّن من أربعة أنواع مختلفة من الكائنات. وقد كانت السلسلة مسئولة عن إنتاج مادة جيلاتينية تعالج داءً يصيب عدسة كائنات الأوكتوسبايدر تحديدًا. استمع ريتشارد بانبهار في الوقت الذي كانت كائنات الأوكتوسبايدر تُجري مقارنةً بين مؤشراتِ اختبارِ السلسلة التكافلية الجديدة ومؤشرات النظام الموجود بالفعل — وقد شمِلت المقارنةُ استهلاكَ الموارد، ومعدَّلات التكاثر والتفاعل المطلوب من كائنات الأوكتوسبايدر، ومُعامل الخطأ، وإمكانية توقُّع سلوكياتها. وقد انتهى الاجتماع إلى أنه سيُستعان بالسلسلة الجديدة في واحدة من «مناطق» التصنيع الثلاث لعدة مئات من أيام التشغيل، وبعد ذلك سيُنظر في القرار مرةً أخرى.
وفي منتصف يوم العمل، كان من المخطَّط أن يقضيَ آرشي وريتشارد نصفَ تيرت وحدَهما. وبناءً على طلب ريتشارد، فقد أخذا طعامَ الغداء والمشروبات في حقائبهما وركِبا النعامصور واستعانا بيراعتين وخرجا للتجوُّل في السهل الرئيسي وسط الظلام والبرد. وعندما ترجَّل ريتشارد عن النعامصور، أخذ يتجوَّل وذراعاه مبسوطتان أمامه محدِّقًا في فضاء راما.
ثم سأل آرشي: «مَن منكم يكترِث، أو حتى حاول اكتشافَ، أهمية كلِّ هذا؟» ولوَّح بذراعيه في حركة دائرية.
أجابه الأوكتوسبايدر إنه لم يفهم السؤال. فقال ريتشارد وهو يبتسم: «بل إنك تفهمه أيها الماكر. بغض النظر عن هذه الفترة التي خصَّصها قادتُك لنوعٍ مختلِف من النقاش بيننا … ما أريد أنا مناقشته يا آرشي ليس القِسم الذي أحبُّ العمل فيه من أقسام الهندسة في بنك الأجنة الخاص بكم حتى أشارك «بإسهاماتي» التي ستبرِّر «الموارد» التي أستهلكها لإبقائي على قيد الحياة … ما أريد التحدُّث بشأنه معك هو ما يحدُث هنا حقًّا. لماذا نحن — البشر والكائنات اللاسويقية وتلك الطائرة وأنتم بمعرض الكائنات الذي لديكم — على متن هذه المركبة الفضائية الغامضة نتجه إلى النجم الذي نطلِق عليه نحن البشرَ تاو سيتي؟»
لزِم آرشي الصمتَ ثلاثين ثانية تقريبًا. ثم قال: «بلَغ أفرادًا من بني جنسنا عندما كانوا في النود، كما كنتم، أن جنسًا أعلى من الكائنات الذكية يحاول تصنيفَ أشكال الحياة في المجرة، مع تركيزٍ خاصٍّ على الكائنات الفضائية. فقمنا بتكوين مستوطنة تمثِّل نموذجًا من حياتنا، كما طُلب منا، ونقلناها إلى داخل مركبة راما الفضائية هذه حتى يجمعوا المشاهدات المفصَّلة المطلوبة عن جنسنا.»
«أي أنكم يا كائنات الأوكتوسبايدر لا تعرفون أكثرَ مما نعرفه نحن عمَّن وراء هذا المخطط الكبير، أو هدفه؟»
فأجابه آرشي: «كلا. في الواقع نحن نعرف أقلَّ منكم على الأرجح. فلا يوجد أيٌّ من كائنات الأوكتوسبايدر التي قضت وقتًا في نود يعيش معنا هنا. فكما أخبرتك من قبل، مجموعة كائنات الأوكتوسبايدر التي كانت على متن مركبة راما الثانية كانت مختلِفة، كانت نوعًا أقلَّ رقيًّا منَّا. والمعلومات الوحيدة المستقاة من المصدر مباشرةً عن نود والموجودة الآن على متن هذه المركبة الفضائية مصدرها أنت وعائلتك، بالإضافة إلى معلوماتٍ مضغوطة من المحتمل أنها لا تزال موجودة داخل الكائنات اللاسويقية المحدودة السَّعة التي ما زلنا نحتفظ بها في حديقة الحيوانات.»
فقال ريتشارد: «وهذا كلُّ ما في الأمر؟ ألا يطرح أيٌّ منكم المزيدَ من الأسئلة؟»
فأجابه آرشي: «لقد تدرَّبنا في الصبا على ألا نضيعَ وقتًا في الموضوعات التي لن نحصل منها على أي بيانات هامة.»
صمت ريتشارد لحظة. ثم سأله على حين غِرة: «كيف تعرف هذه المعلومات كلَّها عن الكائنات اللاسويقية والطائرة؟»
فقال آرشي بعد صمتٍ لم يستمر طويلًا: «أنا آسف يا ريتشارد، ولكن لا يمكنني التحدُّث معك عن هذا الأمر الآن … والمهمة المنوطة بي في فترة الغداء هذه، كما استنتجتَ أنت، أن أتحقَّق مما إذا كان سيسعدك قبولُ العمل في مجال الهندسة الوراثية في بنك الأجنة، وإذا قبِلت، فأيُّ الأقسام الكثيرة التي رأيتها اليوم يثير اهتمامَك أكثرَ من غيره.»
فقال ريتشارد ضاحكًا: «إنك تغيِّر الموضوع تمامًا.» ثم أضاف «نعم، يا آرشي، إن كلَّ الأقسام رائعة، لا سيما ما أسميه قِسم دائرة المعارف. وأظن أنني أودُّ العمل هناك — فبهذه الطريقة يمكنني أن أزيد من معرفتي الضئيلة بعلم الأحياء. ولكن لماذا تطرح عليَّ هذا السؤال الآن؟ ألن نرى المزيدَ من «العروض» بعد الغداء؟»
فقال آرشي: «نعم. ولكن تم وضعُ برنامج بعد ظهيرة اليوم ضمِن جدول يومك من بابِ إطلاعك على الصورة الشاملة ليس إلا. فنصف بنك الأجنة مخصَّص لعلم الأحياء الدقيقة. وإدارة هذا النشاط أمرٌ بالغ التعقيد ويتطلَّب التواصل مع الأقزام من كائنات الأوكتوسبايدر. ومن الصَّعب علينا أن نتخيَّلك تعمل في أيٍّ من هذه الأقسام.»
•••
أسفل معمل الميكروبيولوجي الرئيسي كان هناك دور أرضي لا يدخله سوى مَن يحملون تصريحًا خاصًّا. وعندما ذكر آرشي أن عددًا كبيرًا من طفيليات التصوير الطائرة قد أُنتِجت في هذا الدور الأرضي من بنك الأجنة، كاد ريتشارد أن يترجَّاه كي يشاهدَ عملية الإنتاج. فتوقَّفت جولةُ ريتشارد الرسمية مؤقتًا، ووقف في مكانه لا يفعل شيئًا لعدة فينج بينما كان آرشي يحصل على التصريح كي يزورا «حضانة» الطفيليات.
قادهما اثنان آخران من كائنات الأوكتوسبايدر عبْر سلسلةٍ من السلالم الطويلة إلى المنطقة الواقعة تحت الأرض. وقال آرشي لريتشارد: «لقد بُنيت الحضانة أسفلَ مستوى الأرض بمسافةٍ كبيرة عن عَمدٍ لضمان مستوًى أكبر من العزلة والحماية. ولدينا ثلاث منشآت مشابهة موجودة في أماكن متفرقة في موطننا.»
قال ريتشارد في نفسِه عندما خرج هو ورفاقه الثلاثة إلى منصةٍ مرتفعة تُطِل على طابقٍ شاسع مستطيل الشكل: «اللعنة.» فقد تعرَّف ما رآه من فوره. فقد كان هناك على بُعد عدة أمتار أسفلهم، حوالي مائة قَزَم من كائنات الأوكتوسبايدر منتشرين في المكان يؤدون مهامَّ غير معروفة. وكان يتدلَّى من السقف ثماني شبكات مستطيلة الشكل، يبلغ طول كلٍّ منها نحو خمسة أمتار وعرضها مترين، موزَّعة توزيعًا منظمًا في أرجاءِ الغرفة. وأسفل كلٍّ من هذه الشبكات مباشرةً كان هناك جسمٌ بيضاوي الشكل له طبقةٌ خارجية صلبة. وكان كلٌّ من هذه الأجسام الثمانية يشبه حبةَ جوزٍ ضخمة الحجم ومحاطة بنباتات معترشة نامية أو شِباك.
قال ريتشارد بانفعال: «لقد رأيت نموذجًا مشابهًا من قبل. منذ عدة سنوات أسفل نيويورك. لقد كان ذلك قبل أول مواجهة شخصية لي مع أحد أبناء جنسك الآخرين مباشرة. وقد ارتعدَت فرائصي أنا ونيكول.»
فأجابه آرشي: «أظن أني قرأت شيئًا عن هذا الموقف. فقبل أن نُحضِر إيلي وإيبونين إلى مدينة الزمرد، درستُ جميعَ الملفات القديمة عن نوعِكم. وقد كانت بعض البيانات مضغوطة؛ لذا فلم يكن هناك الكثير من التفاصيل عن …»
فقاطعه ريتشارد قائلًا: «إنني أذكر هذا الموقفَ وكأنه وقعَ أمس. لقد وضعت إنسانين آليَّين صغيري الحجم في نفقٍ صغير واختفيا فيه. ثم دخلا منطقةً مثل هذه وبعد أن تسلَّقا فوق بعض هذه الشبكات، طاردهما أحدُ أبناء نوعك وأمسك بهما …»
«من المؤكَّد أنهما قد دخلا بطريق الخطأ إلى حضانةِ طفيليات. وقد تصرَّف الأوكتوسبايدر لحمايتهما. الأمر بسيطٌ للغاية …» ثم أشار آرشي إلى المهندس مرشدهما أنه قد حان الوقت ليلقيَ هو كلمته.
فقال الأوكتوسبايدر المهندس شارحًا: «تقضي ملِكات الطفيليات فتراتِ الحمل في حجيراتٍ خاصة ترتفع فوق مستوى الأرض مباشرة. وتضع كلُّ ملكة منهن آلاف البيضات. وعندما يصل عددُ البَيض إلى عدة ملايين، يُجمع معًا ويُوضع في إحدى تلك الحاويات البيضاوية الشكل. وتكون درجة حرارة باطن الحاويات مرتفعةً للغاية وهو ما يقلِّل الوقتَ المستغرَق لنمو هذه الطفيليات بنسبةٍ كبيرة. وهذه الشِّباك السميكة حول الحاويات تمتص الحرارة الزائدة حتى تكون ظروف العمل مواتية للأقزام الذين يشرفون على الحضانة …»
لم يكن ريتشارد يُنصِت بكامل تركيزه. فقد كان اهتمامه الحقيقي منصبًّا على لحظةٍ مرَّ بها قبل سنوات طويلة. قال في نفسه: «الآن لقد اتضح كل شيء. لقد كان ذلك النفق الضئيل خاصًّا بالأقزام.»
«… ومِجسَّات المراقبة داخل الحاويات تحدِّد بالضبط متى تكون الطفيليات جاهزةً للانطلاق خارجها. ويجري غمرُ هذه الشبكات بالمواد الكيميائية المناسِبة قبل أن يفقس البَيض تلقائيًّا بفينجات قليلة. فتطير الملِكات الجديدة أولًا منجذبة إلى العناصر الموجودة بالشبكات، وبعد ذلك تتبعهم أسرابُ الذكور المثارين مخلِّفين سحاباتٍ سوداءَ مرئية رغم حجمهم الصغير. ويجري جمعُ الطفيليات من الشِّباك وتُلحق على الفور بتدريب جماعي …»
فقال ريتشارد: «رائع جدًّا. ولكن لديَّ سؤال بسيط. لماذا تلتقط الطفيليات لكم هذه الصورَ كلَّها؟»
فأجابه آرشي: «الإجابة المختصرة لهذا السؤال هو أنها قد صُمِّمت جينيًّا على مدارِ آلاف السنوات كي تستجيبَ لتعليماتنا. نحن — المتخصِّصين من أقزامنا — نتحدَّث اللغةَ الكيميائية التي تستخدمها هذه الطفيلياتُ في التواصل فيما بينها. فإذا نفَّذوا ما يُطلب منهما، فإنها تحصل على طعامها. أما إذا كان أداؤهم مُرضيًا على مدارِ فترةٍ زمنية طويلة، فيسمح لها بممارسة الجنس.»
«كم نسبة الطفيليات التي تنفِّذ توجيهاتكم من المجموعة التي تفقس معًا؟»
فأجابه الأوكتوسبايدر المهندس: «يبلغ معدَّل الفشل للصورة الأولى عشرة بالمائة تقريبًا. ولكن بمجرد تحديد نمط العمل، والتأكيد على وجود مكافأة، ينخفض معدَّل الفشل بنسبة كبيرة.»
فقال ريتشارد في استحسان: «هذا مبهر حقًّا. ربما يكون عِلم الأحياء هذا أعمقَ مما كنت أتخيَّل.»
•••
ناقش ريتشارد وآرشي في طريقهما عائدَين إلى مدينة الزمرد نقاطَ القوة والضَّعف في الأنظمة الهندسية البيولوجية وغير البيولوجية. وقد كان حوارًا علميًّا بحتًا لا يفهمه سوى المتخصصين، ولم يتوصَّلوا منه إلى الكثير من الإجابات الحاسمة. وعلى أي حال، فقد اتفقا أن الوظيفة في قِسم دائرة المعارف، التي تتمثَّل أساسًا في حفظِ كمياتٍ هائلة من المعلومات والتعامل معها وعرْضها، تنفِّذها الأنظمةُ غير البيولوجية بالصورة المثلى.
وبمجرد أن اقتربا من المدينة ذات القبَّة، خبا النور الأخضر فجأة. وعاد الظلام يخيِّم على وسط موطن كائنات الأوكتوسبايدر. وبعد ذلك بوقت قصير، ظهرت يراعتان أخريان كي تمدَّا النعامصور بمزيد من الضوء.
كان يومًا طويلًا، وأصاب ريتشارد النَّصَب. وعندما دلفا إلى أطراف الموطِن البديل، ظن ريتشارد أنه رأى شيئًا يطير عاليًا في الظلام إلى يمينه. فسأل: «ماذا حدَث لتامي وتيمي؟»
فأجابه آرشي: «لقد تزاوج كلٌّ منهما وأنجبا عددًا من الأفرخ … نحن نعتني بأفرخهما في حديقة الحيوان.»
فقال ريتشارد: «هل يمكنني رؤيتهما؟ لقد أخبرتني ذاتَ مرةٍ قبل بضعة أشهر أن هذا سيكون ممكنًا يومًا ما …»
فأجابه آرشي بعد صمتٍ قصير: «أظن هذا. وعلى الرغم من أن حديقة الحيوانات منطقةٌ تحتاج تصريحًا لدخولها، فإن الجزء المخصَّص للكائنات الطائرة قريبٌ للغاية من المدخل.»
وعندما وصلا إلى أولِ بناء ضخم في الموطن البديل، ترجَّل آرشي عن النعامصور ودخل إلى المبنى. وعندما عاد قال شيئًا للنعامصور. وعندما بدأت الدابة تغيِّر اتجاهها بعيدًا عن الطريق الرئيسي وتسلك طريقَها في الطرق الأصغر من المنطقة قال: «لقد سُمح لنا بزيارة قصيرة فقط.»
قدَّم آرشي ريتشارد إلى حارس حديقة الحيوانات، الذي قادهما في عربةٍ إلى مجمعٍ على بُعد مائة متر فقط من مدخل الحديقة. وجد ريتشارد كلًّا من تامي وتيمي. تعرَّفاه من فورهما؛ وعبَّرا عن سعادتهما بإطلاقِ أصواتهما التي تردَّد صداها في السماء المظلِمة. ثم قدَّم تامي وتيمي ريتشارد إلى مجموعةٍ جديدة من أفرخ المخلوقات الطائرة. كانت خجولة للغاية ولم تدَعْه يلمسها. ولكن كان لا يزال كلٌّ من تامي وتيمي يحبَّان أن يربِّت الرجل الذي ربَّاهما منذ أن خرجا إلى العالم على أسفل بطنهما الناعم. اجتاحت ريتشارد مشاعرُ قويةٌ وهو يتذكَّر الأيام التي كان هو فيها المصدرَ الوحيد للأمان لهما في المخبأ أسفل نيويورك.
ثم ودَّع ريتشارد الطائرين واستقلَّ العربة مع آرشي وحارس الحديقة. وفي منتصف طريقهم عائدين إلى مدخل الحديقة سمِع ريتشارد صوتًا جعل عقلَه يتأهَّب ويعلن حالةَ الطوارئ، واقشعر له جسدُه بالكامل. فلزم السكون التام وركَّز حواسَّه. فتكرَّر الصوت مرةً أخرى قبل أن تتوقَّف العربة التي لا تصدر صوتًا.
•••
أصرَّ ريتشارد قائلًا لنيكول: «من المستحيل أن أكونَ مخطئًا. لقد سمِعته مرتين. فلا يوجد صوتٌ آخر يشبه صوت بكاء طفل بشري.»
فقالت نيكول: «لا أشكِّك فيما تقول يا ريتشارد. إنني أحاول فقط أن أستبعدَ جميعَ المصادر الممكنة الأخرى للصوت الذي سمِعته على نحوٍ منطقي. فصغار المخلوقات الطائرة يصدِرون صوتًا دقيقًا يشبه قليلًا صوتَ بكاء الأطفال … وعلى أي حال، لقد كنتُ في حديقة حيوان. ومن الممكن أن يكون ذلك صوتَ حيوان آخر.»
فقال ريتشارد: «كلا. أنا أعرفُ ما سمِعت. لقد عشت مع عددٍ كبير من الأطفال وسمِعت كثيرًا من بكائهم على مدار حياتي.»
فابتسمت نيكول. وقالت: «الآن تبادلنا الأدوارَ والمواقف، أليس كذلك يا حبيبي؟ هل تذكر ما أجبتني به حين أخبرتك أنني رأيت وجهَ امرأة في تلك اللوحة الجدارية في الليلة التي ذهبنا فيها لمشاهدة مسرحية كائنات الأوكتوسبايدر؟ لقد سخِرت مني وأخبرتني أن ما أقوله «مضحك» إذا كنت أتذكَّر جيدًا.»
«إذن فما هو التفسير المحتمل؟ هل اختطفَت كائنات الأوكتوسبايدر بشرًا آخرين من أفالون بطريقةٍ ما؟ ولم يخبرونا عنهم قط؟ ولكن كيف يمكن …»
فسألته نيكول: «هل قلت شيئًا لآرشي؟»
«كلا. لقد كنت مصعوقًا بشدة. وفي البداية كنت مندهشًا أنه أو حارس الحديقة لم يعلِّقا على الصوت، ثم تذكَّرت أن كائنات الأوكتوسبايدر صمَّاء.»
خيَّم عليهما الصمت ثوانيَ ثم قالت نيكول: «لم يكن من المفترض أن تسمع تلك الصرخة يا ريتشارد. لقد وقع مضيِّفونا المثاليون في خطأ لا يتفق مع مثاليتهم.»
فضحِك ريتشارد. وقال: «إنهم بالطبع يسجِّلون هذا الحوار. وبحلول الغد سيعرفون أننا نعرف …»
فقالت نيكول: «دعنا لا نقُل شيئًا للآخرين. ربما يقرِّرون أن يشاركونا سرَّهم، وبالمناسبة … متى ستبدأ عملك؟»
فأجابها ريتشارد: «وقتما يحلو لي. لقد أخبرت آرشي أن لديَّ بضعَ مهامَّ خاصةٍ بي عليَّ الانتهاء منها أولًا.»
فقالت نيكول: «يبدو أن يومك كان رائعًا. أما نحن فكان كلُّ شيء هادئًا هنا، فيما عدا شيئًا واحدًا. لقد حدَّد باتريك وناي موعدَ زفافهما … ثلاثة أسابيع من الغد.»
فقال ريتشارد: «ماذا؟ لماذا لم تخبريني قبل ذلك؟»
فضحِكت نيكول. وقالت: «إنك لم تُتِح لي فرصةً لقد … أتيتَ إلى هنا تتحدَّث دون توقُّف عن بكاء طفل في حديقة الحيوانات، وعن المخلوقات الطائرة، والطفيليات، وبنك الأجنة … وقد علِمت من خبرتي بك أنه يجب أن تنتظر أخباري حتى تنتهي من حديثك.»
فقال ريتشارد بعد بضع ثوانٍ: «حسنًا يا أمَّ العريس، ما هو شعورك؟»
فقالت نيكول: «بأخذ كل شيء في الاعتبار، أنا سعيدة … فأنت تعرف شعوري تجاه ناي … ولكن ما يؤثِّر فيَّ حقًّا هو أنهما في وقت غريب ومكان غريب لبدء حياة زوجية.»
١٢
كان البشرُ يجلسون في غرفةِ معيشةِ منزل ريتشارد ويكفيلد ينتظرون ظهورَ العروس. وكان باتريك يفرُك يديه في عصبية. فقال له ماكس وهو يقطع الغرفةَ متجِهًا إليه ويطوِّقه بذراعه: «تحلَّ بالصبرِ أيها الشاب. ستصل عروسك إلى هنا قريبًا … فكلُّ امرأةٍ تَود أن تبدوَ في أفضل زينتها يوم زفافها.»
فقالت إيبونين: «أنا لم أكن في أفضلِ زينتي. إنني حتى لا أتذكَّر ماذا كنت أرتدي يوم زفافي.»
فقال ماكس وابتسامةٌ عريضة تزيِّن وجهه: «أنا أتذكر جيدًا يا فرنسيتي الجميلة، لا سيما ما كنت ترتدينه في الكوخ. أتذكَّر أنكِ كنت عاريةً معظم الوقت.»
انفجر الجميع ضاحكين. ودخلت نيكول الغرفة. وقالت: «ستكون ناي هنا في غضونِ دقائق قليلة. فإيلي تساعدها في إدخالِ بعض التحسينات الأخيرة على فستانها.» ثم نظرت حولها. وسألت: «أين آرشي والدكتورة بلو؟»
فأجابتها إيلي: «لقد ذهبا إلى منزلهما وسيعودان سريعًا. فلديهما هديةٌ خاصة للعروس.»
فقال جاليليو في امتعاض: «لا أحبُّ وجودَ هذين الكائنين. إنني أقشعر خوفًا لرؤيتهما.»
قالت إيلي له برفق: «بدءًا من الأسبوع القادم يا جاليليو ستكون معك إحدى كائنات الأوكتوسبايدر في المدرسة طوال الوقت تقريبًا … وستساعدك على تعلُّم لغتهم.»
قال الصبي بتحدٍّ: «أنا لا أريد تعلُّم لغتهم.»
اتَّجه ماكس ليقف إلى جوار ريتشارد. وقال: «كيف يسير العمل يا صديقي؟ إننا لم نكن نراك كثيرًا في الأسبوعين السابقين.»
فأجابه ريتشارد بحماسة: «إنه يستغرق وقتي بالكامل. فأنا أعمل في مشروع دائرة معارف، حيث أساعدهم على تصميمِ مجموعة جديدة من البرامج لعرض جميع المعلومات الحيوية عن مئاتِ الآلاف من أنواع الكائنات التي يحتفظون بها في بنك الأجنة … فكائنات الأوكتوسبايدر تختزن هذه الثروةَ الهائلة من البيانات في مختبرهم، ولكنهم محدودو المعرفة بصورةٍ تثير الدهشةَ فيما يخص كيفيةَ التعامل مع هذه البيانات بصورة فعَّالة. وقد بدأتُ أمس فقط أعمل على بعضِ بياناتِ اختبارٍ حديثٍ أُجري على مجموعةٍ من الكائنات الميكروبيولوجية التي صُنِّفت، طبقًا لتصنيف كائنات الأوكتوسبايدر للكائنات الحية، تبعًا لمجموعة النباتات والحيوانات التي تعتبر هذه الكائنات الميكروبيولوجية قاتلة لها …»
توقَّف ريتشارد عن الحديث عندما دخل آرشي والدكتورة بلو معًا، وهما يحملان صندوقًا يصل طوله مترًا، مغلَّفًا بالورق الفاخر الذي يستخدمونه. وضع كائنا الأوكتوسبايدر هديتَهما في أحد الأركان ووقفا في الجهة الأخرى من الغرفة. وبعد دقيقة وصلت إيلي وهي تدندن لحنَ الزفاف الشهير من تأليف مينديلسون. وتبِعتها ناي.
كانت عروس باتريك ترتدي زيَّها التايلاندي الحريري. كانت تزيِّنه بالزهور الصفراء والسوداء الرائعة التي أعطتها كائناتُ الأوكتوسبايدر لإيلي. وقد ثبَّتتهم باستخدام دبابيسَ في أماكنَ تُبرِز فتنتَها في فستانها. فنهَض باتريك ليقف إلى جانب ناي أمام والدته. وأمسك العريس بيد عروسه.
طلب الجميع من نيكول أن تتولَّى هي القيامَ بمراسم الزفاف، وأن تجعلها بسيطةً قدْرَ الإمكان. وبينما كانت تستعد لتبدأ إلقاء كلمتها الموجزة، تدفَّقت فجأةً على ذهن نيكول ذكرياتُ احتفالات زواج أخرى مرَّت بها في حياتها. فرأت ماكس وإيبونين، ومايكل أوتول وابنتها سيمون، وروبرت وإيلي … وارتعد جسدُ نيكول لا إراديًّا وصوتُ الطلقات النارية يدوي مرةً أخرى في ذهنها. وقالت نيكول لنفسِها وهي تجبر نفسَها على العودة إلى الحاضر: «مرةً أخرى، تجمَّعنا هنا معًا.»
لم تستطِع نيكول التحدُّث. وسيطرت مشاعرها عليها. وقالت لنفسها بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا: «هذا آخرُ زفاف أحضُره. لن يكون هناك آخرُ.»
سالت دمعةٌ على وجنتها اليسرى. فسألتها العروس المرهفة الحس دومًا بهدوء: «هل أنتِ بخير يا نيكول؟» فابتسمت نيكول وأومأت برأسها بالإيجاب.
قالت نيكول: «أصدقائي؛ لقد تجمَّعنا اليوم لنشهد زفافَ باتريك رايان أوتول وناي بواتونج واتانابي ونحتفل به. فدعونا نشكِّل دائرةً حولهم ونشبك أذرعنا لنعبِّر لهم عن حبِّنا وتأييدنا لزواجهما.»
وبينما البشر يكوِّنون دائرةً أومأت نيكول إلى كائنَي الأوكتوسبايدر حتى يشتركا فيها، فوضعا لوامسهما حول البشر الذين يقفون إلى جوارهم.
قالت نيكول بصوتٍ متهدِّج: «هل تقبَل يا باتريك أن تكونَ السيدة ناي زوجتَك وشريكةَ حياتك وتحبَّها وترعاها؟»
فقال باتريك: «نعم، أقبل.»
واستأنفت نيكول: «وهل تقبلين يا ناي هذا الرجل، باتريك، زوجًا لك وشريكًا لحياتك وتحبينه وترعينه؟»
فقالت ناي: «نعم، أقبل.»
«إذن أُعلِنكما زوجًا وزوجة.» تعانَق باتريك وناي وأطلق الجميعُ صيحاتِ السعادة. وضمَّ العروسان الجديدان نيكول إلى أول عِناق لهما وهما زوجان.
•••
سألت نيكول ريتشارد بعد أن انتهى الحفل ورحل الضيوف: «هل سبق أن تحدَّثت إلى باتريك عن الجنس؟»
فقال ريتشارد: «لا. ماكس تطوَّع لهذا … ولكن هذا لن يكون ضروريًّا. فناي كانت متزوجة من قبل … عجبًا! لقد كنت متوترة للغاية الليلة. لمَ كل هذا؟»
ابتسمَت نيكول. وقالت: «لقد كنت أفكِّر في حفلات الزفاف الأخرى. زفاف سيمون ومايكل، وزفاف إيلي وروبرت …»
فقال ريتشارد: «هذا الأخير أودُّ أن أنساه حقًّا. للعديد من الأسباب.»
«في أثناء الاحتفال، ظننت أنني بكيت لأنه سيكون على الأرجح آخرَ حفلِ زفاف أحضُره. ولكن بعدها في أثناء الحفل، فكَّرت في شيءٍ آخر. هل شعرتَ بالضيق من قبلُ يا ريتشارد لأننا لم نحظَ بحفل زواج رسمي؟»
فقال ريتشارد وهو يهزُّ رأسه نافيًا: «كلا. لقد احتفلت بزفافي مع سارة من قبل؛ وهذا يكفي …»
«لكنك حظيت بزفافٍ ولو مرة. أما أنا فلم أحظَ بذلك قط. لقد أنجبت أطفالًا من ثلاثةِ رجالٍ مختلفين، ولم يُقَمْ لي عرسٌ قط.»
صمت ريتشارد عدة ثوانٍ. ثم قال: «وهل تظنين أنك بكيتِ لهذا السبب؟»
فقالت نيكول: «ربما. لست متأكدة.»
أخذت نيكول تتجوَّل في المكان بينما كان ريتشارد غارقًا في أفكاره. ثم قالت: «ألم يكن تمثال بوذا الذي أهداه كائنا الأوكتوسبايدر لناي رائعًا؟ إنه مصمَّم بمهارة فنية مذهلة … وكنت أظن أن آرشي والدكتورة بلو يستمتعان بوقتيهما بالفعل معنا. لا أدري لمَ جاء جيمي يستدعيهما في وقت مبكر …»
سألها ريتشارد فجأة: «هل تودين أن نقيمَ حفل زفاف لنا؟»
فضحِكت نيكول. وقالت: «في سنِّنا هذا؟ إن لدينا أحفادًا.»
«ومع ذلك، لو أن هذا سيجعلكِ سعيدة …»
«هل تطلب يدي يا ريتشارد ويكفيلد؟»
فقال: «نعم. إنني لا أريدك أن تكوني غيرَ سعيدة لأنك لم تكوني عروسًا قط.»
اجتازت نيكول الغرفةَ وقبَّلت زوجها. وقالت: «سيكون هذا الأمر ممتعًا. ولكن دعنا لا نخطِّط لشيء الآن حتى يستقر باتريك وناي. فلا أريد أن أخطف الأضواء منهما.»
ثم سار ريتشارد ونيكول باتجاه غرفة نومهما وكلٌّ منهما يحيط الآخر بذراعه. ثم تفاجآ بظهور آرشي والدكتورة بلو في طريقهما.
•••
قال آرشي: «يجب أن تأتيا معنا حالًا. هناك حالة طوارئ.»
فردَّت نيكول: «الآن؟ في هذه الساعة؟»
فقالت الدكتورة بلو: «نعم. أنتما الاثنان فقط. مسئولة الأمثلية تنتظركما … ستشرح لكما كل شيء.»
شعرت نيكول بضرباتِ قلبها تتسارع والأدرينالين يتدفَّق في عروقها. فقالت: «هل سأحتاج إلى معطف؟ هل سنغادر المدينة؟»
لسببٍ ما، كان أولُ ما تبادر إلى ذهن نيكول هو أن ذلك الاستدعاء يرتبط ببكاء الطفل الذي سمِعه ريتشارد بعد زيارته الأولى لبنك الأجنة. فهل ذلك الطفل مريض؟ ربما يحتضر؟ ولكن لمَ لا يتجهون مباشرةً إلى حديقة الحيوان القابعة خارج القبة في الموطن البديل؟
وبالفعل كانت مسئولة الأمثلية ومساعداها ينتظران. وكان بالغرفة مقعدان. وبمجردِ أن جلس ريتشارد ونيكول، بدأت قائدة كائنات الأوكتوسبايدر تتحدَّث بلغة الألوان.
قالت: «إننا على وشْك أن نواجه أزمةً كبيرة قريبًا؛ أزمةً قد تؤدي للأسف إلى حربٍ بين جنسينا.» ثم لوَّحت بإحدى لوامسها وبدأت لقطاتُ الفيديو تظهر على الحائط. فاستأنفت حديثَها: «في وقتٍ مبكر من اليوم، بدأت طائرتا هليكوبتر تنقل قواتٍ بشرية من جزيرة نيويورك إلى أقصى شمال مستوطنتنا، بجوار البحر الأسطواني مباشرةً. وتشير المعلومات التي تنقلها إلينا طفيليات التصوير إلى أن جنسكم لا يُعِدُّ لشن هجوم علينا فحسب؛ ولكن أيضًا إلى أن قائدكم، ناكامورا، قد أقنع الجماهيرَ بأننا أعداؤكم. وقد حصل على تأييد مجلس الشيوخ للإعداد للحرب، وأعد في فترةٍ قصيرة نسبيًّا ترسانةَ أسلحة يمكن أن تسبِّب أضرارًا جسيمة لموطننا.»
سكتت مسئولة الأمثلية بينما كان ريتشارد ونيكول يشاهدان لقطات الفيديو التي توضح القنابل ومدافع بازوكا والمدافع الآلية التي تُصنع في عدن الجديدة.»
ثم واصلت حديثَها قائلة: «قامت مجموعةٌ صغيرة من البشَر بغارات استطلاعية في الأيام الأربعة الماضية على الأرض واستخدمَت طائرتَي الهليكوبتر. وقد اخترقت هذه الحملاتُ الاستطلاعية مجالنا الجوي في عمقِ الجزء الجنوبي حتى وصلت إلى حاجز الغابة، وغطَّت النطاق الأسطواني لموطننا بالكامل. وهناك ما يقرُب من ثلاثين بالمائة تقريبًا من إمدادات الطعام والطاقة والمياه في المنطقة التي نفَّذ فيها البشر عملياتهم الاستطلاعية.
لم تحدُث أيُّ اشتباكات؛ إذ إننا لم نقاوم على الإطلاق الأنشطةَ الاستطلاعية. إلا أننا وضعنا لافتاتٍ في مناطقَ حيوية نخبر بها القوات البشرية، باستخدامِ ما نعرفه من لغتكم، أنَّ نصفَ الأسطوانة الجنوبي بالكامل هو أرضٌ مملوكة لجنسٍ آخرَ متقدِّم ولكنه مسالم، ونطلب منهم العودةَ إلى موطنهم. ولكنهم تجاهلوا هذه اللافتات.»
وقبل يومين، وقعَت حادثة مزعجة. فبينما كنا نحصُد الحبوب من أحد حقولنا الكبيرة، مرَّت طائرة هليكوبتر فوق الحقل. وهبطت في مكان قريب ليترجَّل عنها أربعة جنود. وأعدَم الجنود الحيوانات الثلاثة التي كانت تحصد الحبوب، دون أي عمل استفزازي من جانبها، وهي الحيوانات ذات الأذرع الست نفسِها التي رأيتماها أنتما — الاثنين — في جولتكما الأولى في موطننا، ثم أضرموا النيران في حقل الحبوب. ومنذ ذلك الحادث، تغيَّر محتوى اللافتات، وأوضحنا أن أيَّ سلوك مماثل من جانبهم سيُعدُّ إعلانًا للحرب.
ومع ذلك، فقد أوضحت تصرُّفاتهم في وقتٍ مبكر من اليوم أنهم لم يعيروا تحذيراتنا اهتمامًا، وأن جنسكم يخطِّط لبدء حرب لا يمكن أن ينتصر فيها. وقد كنت أفكِّر اليوم في إعلان الحرب، وهو حدَث جلل في موطن من مواطن كائنات الأوكتوسبايدر، وله عواقبُ غير متوقَّعة على جميع مستويات المجتمع. إلا أنني قبل إصدارِ هذا القرار الذي لا رجعةَ فيه، استشرت القادةَ الذين أحترم آراءهم.
وقد فضَّل الغالبية العظمى منهم إعلانَ الحرب؛ لأنهم لا يرون أن هناك سبيلًا آخرَ لإقناع إخوانكم البشر بأن الحرب ضدنا ستكون كارثةً عليهم. ولكنَّ الأوكتوسبايدر الذي تطلقون عليه آرشي قدَّم لمجلسي اقتراحًا نرى أن أمامه فرصةً ضئيلة للنجاح. ومع أن المحلِّلين الإحصائيِّين لدينا يقولون إن النتيجة الأرجح هي نشوب حرب، فإن مبادئنا تملي علينا أن نفعل كلَّ ما بوسعنا لتجنُّب الحرب … ولمَّا كان اقتراح آرشي يتطلَّب اشتراككم في الخطة وتعاونكم، فقد استدعيناكم إلى هنا الليلة.»
توقَّفت مسئولة الأمثلية عن الحديث بالألوان وسارت بخطواتٍ ثقيلة إلى جانب الغرفة. فنظر ريتشارد ونيكول أحدهما إلى الآخر نظرةً عجلى. وسألته هي: «هل تابع المترجِم الخاص بك الحديثَ كلَّه؟»
فأجابها ريتشارد: «أغلبه. وبالطبع أفهم مجملَ الموقف … هل لديك أسئلة؟ أم نقترح أن يمضوا في تنفيذ اقتراح آرشي؟»
أومأت نيكول لآرشي، فتحرَّك صديقهم إلى منتصف الغرفة. وقال: «لقد تطوَّعت للتفاوض شخصيًّا مع قادة البشر في محاولةٍ لمنع هذا الصراع قبل أن يتحوَّل إلى حربٍ شاملة. ولكن لتنفيذ هذا، سأحتاج إلى قدْر من المساعدة. إذا ظهرتُ فجأةً في معسكر الجنود البشر، فسيقتلونني. وحتى إذا لم يفعلوا، فلن يكون لديهم سبيلٌ لفهْمِ ما أقوله لهم. لذا يجب أن يصحبني بشريٌّ يفهم لغتنا لترجمةِ ما سأقوله بالألوان، وإلا لن تكون هناك طريقةٌ لبدء حوارٍ جادٍّ بيننا …»
•••
بعد أن أخبر ريتشارد ونيكول مسئولةَ الأمثلية أنهما لا يختلفان مع الفكرة التي يقترحها آرشي، تركت مسئولةُ الأمثلية ومساعداها البشريَّين وصديقَهما الأوكتوسبايدر وحدَهم لمناقشةِ التفاصيل. كانت فكرةُ آرشي بسيطة. سيقصد هو ونيكول المعسكرَ القريب من البحر الأسطواني معًا ويطلبان عقْدَ اجتماع مع ناكامورا وقادة البشر الآخرين. وفي ذلك الاجتماع سيشرح آرشي ونيكول أن كائنات الأوكتوسبايدر جنسٌ مُسالِم لا يطالب بأي أطماع إقليمية بالنصف الشمالي من البحر الأسطواني. وسيطلب آرشي أن ينسحب البشرُ من معسكرهم ويوقفوا غاراتهم الجوية. وكدليل على حسنِ نيةِ كائنات الأوكتوسبايدر — إذا دعتِ الضرورة إلى ذلك — سيعرض عليهم آرشي إمدادَهم بكميات من الطعام والماء لمساعدتهم على تجاوُز الأزمات الحالية التي يمرُّون بها. وستنشأ علاقةٌ طيبة مستمرة بين الجنسين، وسيتم صياغةُ مسوَّدةِ معاهدة لتقنين الاتفاق.
فقال ريتشارد بعد أن انتهى من ترجمةِ ما يقوله آرشي: «يا إلهي. وأنا الذي كنت أظن أن نيكول مثالية!»
لم يفهم آرشي تعليقَ ريتشارد. فشرحت له نيكول بصبرٍ أن قادةَ عدن الجديدة على الأرجح لن يكونوا على الدرجة نفسِها من العقلانية التي يفترضها آرشي فيهم. وقالت لتأكيدِ مدى خطورةِ ما يقترحه آرشي: «من الممكن جدًّا أن يقتلونا نحن الاثنين قبل أن يعطونا فرصةً لنقول أيَّ شيء.»
ظل آرشي مصرًّا على أنهم سيوافقون في نهاية الأمر على ما يقترحه؛ فمنِ الواضح أنه في مصلحةِ البشرِ الذين يعيشون في عدن الجديدة. فقال له ريتشارد بنبرةِ إحباط: «اسمع يا آرشي، ما قلته الآن ليس صحيحًا بتاتًا. هناك كثير من البشر، ومنهم ناكامورا، لا يلقون بالًا على الإطلاق لِما هو في مصلحة المستوطنة. وفي الحقيقة، فإن المصلحةَ العامة للمستوطنة ليست عاملًا في سلسلة الأولويات في عقلهم الباطن الذي يملي عليهم أفعالهم، إذا استخدمت مصطلحك. كلُّ ما يأبهون به هو أنفسهم. كلُّ قرار يتخذونه يتدبرون فيه ليعرفوا ما إذا كان سيضيف إلى سلطتهم ونفوذهم أم لا. وفي تاريخنا، كثيرًا ما تسبَّب قادةٌ في تدمير بلادهم أو مستوطناتهم بسبب محاولاتهم الحفاظ على سلطانهم.»
ولكن كان الأوكتوسبايدر متمسكًا برأيه. إذ أصرَّ قائلًا: «إن ما وصفتموه لتوكم لا يمكن أن ينطبِق على جنسٍ متقدم من الكائنات. فالقوانين الأساسية للتطور تشير بوضوحٍ إلى أن تلك الكائناتِ التي تمثِّل مصلحةُ مجتمعاتها الأهميةَ الكبرى لها؛ تستمر في الوجود أكثرَ من تلك التي يكون فيها الفردُ هو الكيانَ الأهم. فهل تقولان إن البشر حالةٌ شاذة من نوعٍ ما؛ حالةٌ استثنائية أنجبتها الطبيعة وخرقت بها القوانين …»
قاطعته نيكول قائلة: «حسنًا، هذا مثيرٌ جدًّا للاهتمام. ولكن لدينا عملٌ أكثر إلحاحًا. يجب أن نضع خطةَ عمل محكَمة تخلو من المخاطر … ريتشارد! إذا كنت لا تؤيد خطةَ آرشي فماذا تقترح؟»
فكَّر ريتشارد عدةَ ثوانٍ. ثم قال: «أعتقد أن ناكامورا قد ورَّط مدينةَ عدن الجديدة في هذه الحرب ضد كائنات الأوكتوسبايدر لعدة أسباب، أحدها هو الحيلولة دون النقد بسبب إخفاق حكومته في القضايا المحلية. ولا أظن أنه سينصرف عن هذا الأمر إلا إذا كان المواطنون جميعًا ضد الحرب، ويؤسفني القول أن هذا لن يحدُث إلا إذا اقتنع المواطنون بأن وقْعَ الحرب عليهم سيكون كارثيًّا.»
فقالت نيكول: «إذن، هل تعتقد أن التهديدات ستكون ضرورية؟»
أجابها ريتشارد: «لن يكون تأثيرها كبيرًا. ولكن ما سيُحدِث التأثيرَ المطلوب هو إظهار القوة العسكرية لكائنات الأوكتوسبايدر.»
فقال آرشي: «أخشى أن يكون هذا مستحيلًا، على الأقل في ظل الظروف الحالية.»
فسأل ريتشارد: «لماذا؟ إن مسئولة الأمثلية تتحدَّث بمنتهى الثقةِ عن الانتصار في الحرب التي قد تنشَب. فإذا هاجمتم ذلك المعسكرَ ودمرتموه تمامًا …»
فقال آرشي: «الآن أنتم مَن لا يفهمنا. لأن الحرب، أو أي صراع قد يؤدي إلى حالاتِ قتلٍ عَمدٍ ليس هو الطريقة المثلى لحل النزاعات، فإن مستعمرتنا لديها قواعدُ صارمة للغاية تحكُم التصدي للأنشطة العدوانية المنظَّمة. وقد وُضعت ضوابطُ في مجتمعنا تجعل من الحربِ آخرَ حلٍّ يمكن أن نلجأ إليه. فعلى سبيل المثال، ليس لدينا جيشٌ مستعد ولا مخزون من الأسلحة … وهناك قيودٌ أخرى أيضًا. إذ تُنهَى حياة جميع القادة الذين شاركوا في اتخاذِ قرار الحرب، وكذلك كائنات الأوكتوسبايدر الذين شاركوا في الصراع المسلَّح، بعد انتهاء الحرب مباشرة.»
فقال ريتشارد وهو لا يصدِّق الترجمة: «ماذا؟ هذا غير ممكن!»
فقال آرشي: «بل ممكن. فكما ترى، هذه العوامل تمثِّل عائقًا كبيرًا يمنع المشاركةَ في أي أعمال عدائية غير دفاعية. ومسئولة الأمثلية تعرِف أنها قد وقَّعت على حكمٍ بإعدامها قبل أسبوعين عندما أمرَت ببدء التجهيز للحرب. وكائنات الأوكتوسبايدر الثمانون الذين يعيشون الآن في المكان المخصَّص للإعداد للحرب ويعملون هناك، سيتم إنهاءُ حياتهم إما بعد أن تضع الحربُ أوزارها أو بعد انتهاء التهديد بنشوبها رسميًّا … أنا نفسي سأُدرَج في قوائم إنهاء الحياة إذا ما أُعلنت الحرب، نظرًا لأنني شاركت في المناقشة اليوم.»
صعِق ريتشارد ونيكول فلم يتفوَّه أيٌّ منهما بكلمة. فاستأنف آرشي: «التبرير الوحيد الممكن للحرب في نظر الأوكتوسبايدر هو تهديدٌ صريح لبقاء المستوطَنة. وبمجرد اكتشافِ ذلك التهديد والتسليم بخطورته، فإن جنسنا يتحوَّل تحولًا تامًّا ويشعل نيرانَ الحرب، دون رحمة، حتى يُقضى على التهديدِ تمامًا أو تُدمَّر المستوطنة … وقبل أجيال كثيرة مضت، أدرك بعضُ القادة الحكماء أن كائنات الأوكتوسبايدر التي تشترك في القتل والتخطيط للقتل، تتغيَّر نفسيًّا تمامًا نتيجةً للتجارب التي مرَّت بها حتى إنها تصبح خطرًا محدِقًا على إقامة مجتمع سِلمي. ولهذا سنَّت قوانين بإنهاء حياة مَن يشاركون في الحرب.»
كان الصمت لا يزال يخيِّم على ريتشارد ونيكول حتى بعد أن انتهى آرشي من حديثه. وبعد صمتٍ، همَّ ريتشارد بأن يطلب من آرشي الخروجَ من الغرفة حتى يتحدَّث مع زوجته على انفراد، ولكنه سريعًا ما تذكَّر الطفيليات المنتشرة في كل مكان. فقال في النهاية: «نيكول يا حبيبتي، لا أعتقد أن خطةَ آرشي مناسِبة؛ لعدة أسباب. أولها يجب أن أذهب أنا بدلًا منك …»
وعندما بدأت نيكول تتحدَّث لتقاطعه، أشار هو إليها بيده كي تظلَّ صامتة واستأنف: «لا تقاطعيني. فطَوال فترة زواجنا، خاصة منذ أن غادرنا النود، كنتِ أنتِ دائمًا في المقدمة وتكرِّسين وقتك وجهدك لمصلحة العائلة أو المستوطَنة. والآن حان دوري. وفي هذا الموقف تحديدًا أعتقد أنني مناسبٌ لهذه المهمة المقترحة أكثرَ منك. فيمكنني أن أخيفَ إخواننا البشرَ بأن أقصَّ عليهم مشاهدَ للحروب المبيدة التي شنَّتها كائنات الأوكتوسبايدر.»
فاعترضت نيكول قائلة: «ولكنك لا تتقن لغتَهم. ومن دون مترجِمك الآلي …»
فقال ريتشارد: «لقد فكَّرت في هذا أيضًا. وأظن أن إيلي ونيكي ينبغي أن تذهبا معي أنا وآرشي. فأولًا، وجودُ طفلة معنا يقلِّل من احتمال أن تقتلنا القواتُ المتقدِّمة بنسبةٍ كبيرة. وثانيًا، إيلي تتقن لغةَ الأوكتوسبايدر جيدًا ويمكن أن تساعدني في حالة عدم وجود المترجِم الخاص بي أو عدم فعاليته. وثالثًا، ولعل هذا هو السبب الأهم، الجريمة الوحيدة التي يمكن أن ينسِبها ناكامورا وأتباعه لكائنات الأوكتوسبايدر هي اختطاف إيلي. فإذا ظهرت وهي بخيرِ حال وتمدح العدوَّ الفضائي، فسنفسِد عليهم جهودَهم لإعداد الحرب.»
قطَّبت نيكول ما بين حاجبيها. وقالت: «أنا لا أحبِّذ فكرةَ ذهاب نيكي معكم. إنه لخطرٌ شديد عليها. ولن أسامح نفسي أبدًا إذا وقَع مكروه لتلك الطفلة …»
فقال ريتشارد: «ولا أنا أيضًا، ولكني لا أظن أن إيلي ستذهب من دونها … ليس أمامنا خططٌ جيدة يا نيكول … إنما نحن مضطرون لاختيار أقل الخيارات ضررًا.»
وفي توقُّف قصير للحوار بينهما، تحدَّث الأوكتوسبايدر بلغة الألوان. قال لنيكول: «إن ريتشارد مصيب جدًّا في النقاط التي تحدَّث عنها. وهناك سببٌ آخر يجعل من الأفضل بقاءك هنا في مدينة الزمرد؛ فبقيةُ البشر الموجودين هنا سيحتاجون إلى قيادتك في الأيام الصعبة القادمة.»
كان عقل نيكول يعمل بسرعةٍ رهيبة. لم تكن تتوقَّع أن يقترح ريتشارد أن يتطوَّع هو للذهاب. فقالت: «أتقول يا آرشي إنك تؤيد اقتراحَ ريتشارد، بما في ذلك اصطحابُ إيلي ونيكي معكما؟»
فأجابها الأوكتوسبايدر: «نعم.»
فقالت نيكول وهي تلتفت إلى زوجها: «ولكنك يا ريتشارد تعرف مدى كراهيتك لما تُطلِق عليه الهراء السياسي. هل أنت واثق من أنك فكَّرت في هذا الأمر جيدًا؟»
أومأ ريتشارد برأسه. فهزَّت نيكول كتفَيها. وقالت: «حسنًا. سنتحدَّث إلى إيلي. إذا وافقت، فسنبدأ في تنفيذ الخطة.»
•••
رأت مسئولةُ الأمثلية أن الاقتراح المعدَّل أمامه بعضُ فرص النجاح، ولكنها شعرت أنها مجبرة أن تذكِّر الجميع بأنه طبقًا للتحليل المفصَّل الذي قامت به كائنات الأوكتوسبايدر للنتائج المحتملة، فإنه لا يزل هناك احتمالٌ كبير أن يقتل البشريون ريتشارد وآرشي، ولا توجد فرصة كبيرة لنجاة إيلي ونيكي أيضًا. وهنا كاد قلب نيكول يقفز من صدرها عندما ترجمت هذا الجزء من حديث القائدة. فهي لم تقُل شيئًا لا تعرفه نيكول بالفعل، ولكن الأخيرة كانت مستغرِقة في التخطيط والمناقشات حتى إنها لم تفكِّر بعدُ في أيٍّ من النتائج المحتمِلة لقراراتهم.
ولم تتحدَّث نيكول كثيرًا في الوقت الذي كان فيه كبارُ القادة يتَّفقون على خطةٍ زمنية مبدئية. وعندما سمِعت ريتشارد يقول إنه هو وآرشي، سواء صحِبتهما إيلي ونيكي أم لا، سيغادران مدينةَ الزمرد بعد تيرت من فجر اليوم التالي؛ ارتجف جسدها. وقالت في نفسِها سريعًا: «غدًا. غدًا ستتغيَّر حياتنا مرةً أخرى.»
ظلَّت نيكول صامتةً والعربة تُقِلُّهم عائدين إلى المنطقة المخصَّصة لهم. وفي حين كان ريتشارد وآرشي يتحدَّثان عن كثيرٍ من الموضوعات المختلفة، حاولت هي أن تكبح الخوفَ المتزايد بداخلها. وقد كان هناك صوتٌ بداخلها، صوتٌ لم تسمعه منذ سنوات، يقول لها إنها لن ترى ريتشارد مرةً أخرى بعد الغد. فسألت نفسَها بتأنيب: «هل من المحتمل أن يكون هذا ردُّ فعلٍ غريب من جانبي؟ هل أواجه صعوبةً في أن أترك ريتشارد يلعب هو دور البطل هذه المرة؟»
ورغم محاولات نيكول مقاومةَ هذا الهاجس، فقد ظل يزداد قوةً بداخلها. وتذكَّرت تلك الليلة المريعة قبل سنوات كثيرة وهي في العاشرة من عمرها، عندما كانت في غرفة نومها في المنزل الصغير في شيلي مازاري. واستيقظت من نومها تصرُخ من كابوس عنيف داهمها. كانت تصرخ: «لقد ماتت أمي.»
فحاول والدها أن يهدئها قائلًا إن أمَّها كانت في رحلةٍ تزور عائلتها في ساحل العاج. إلا أنه بعد سبع ساعات وصل إلى منزلهم تلغراف يخبرهم بموت والدتها بالفعل.
في تلك اللحظة، كان ريتشارد يقول: «إذا لم يكن لديكم مخزون من الأسلحة أو جنود مدرَّبون فكيف يمكنكم بحقِّ السماء الإعدادُ لحربٍ بسرعة كافية للدفاع عن أنفسكم؟»
فأجابه آرشي: «لا يمكنني أن أخبرك بهذا. ولكن صدِّقني أنا أعلم يقينًا أن أيَّ صراع في هذا الوقت بين جنسينا قد ينتج عنه الإفناءُ التام لحضارة البشر على متن راما.»
لم تستطِع نيكول تهدئةَ روحها المعذَّبة. فمهما حاولت أن تقنع نفسها بأنها تبالغ في ردِّ فِعلها، فإن المخاوف من الهاجس بداخلها لم تهدأ على الإطلاق. فمدَّت يدَها لتمسك بيدِ ريتشارد. شابك أصابعه بين أصابعها، واستمرَّ في حديثه مع آرشي.
أخذَت نيكول تحدِّق فيه بشدة. وقالت لنفسها: «أنا فخورةٌ بك يا ريتشارد، ولكني خائفة جدًّا أيضًا. ولست مستعدة لفقدانك.»
•••
أوت نيكول إلى فِراشها في ساعة متأخرة جدًّا من الليل. وقد كانت أيقظت إيلي برفقٍ دون أن تزعج نيكي والتوءمين اللذين كانا يبيتان في منزل عائلة ريتشارد ويكفيلد حتى يحظى باتريك وناي بليلةِ زفافهما وحدَهما. وبالطبع كان لدى إيلي الكثيرُ من الأسئلة، فشرح ريتشارد ونيكول لها الخطة، وفي ذلك كلُّ شيء مهم عرفاه من آرشي ومسئولة الأمثلية في وقتٍ مبكِّر من تلك الليلة. وقد تملَّك الخوف من إيلي أيضًا، ولكنها وافقت في النهاية على أن تصحبَ ريتشارد وآرشي في اليوم التالي.
لم تستطِع نيكول النومَ بعمق في تلك الليلة. وبعد التقلُّب في الفِراش ساعةً تقريبًا بدأت سلسلةً من الأحلام العشوائية القصيرة تداهم عقلها. وفي حُلمها الأخير رأت نيكول نفسَها وهي فتاة في السابعة من عمرها في ساحل العاج، في وسط احتفال بورو الخاص بها. كانت شبه عارية في البحيرة، وأنثى الأسد تطوف خلسةً حول حافتها. فالتقطت نيكول الصغيرة نفَسًا عميقًا وغاصت في الماء. وعندما صعِدت إلى السطح كان ريتشارد يقف على الشاطئ في المكان الذي كانت أنثى الأسد تقف فيه. وقد كان ريتشارد يظهر في حُلمها وهو لا يزال شابًّا وكان يبتسم لها في البداية. ثم رأته نيكول وهو يَشيب بسرعةٍ ليصبح ريتشارد نفسه الذي ينام إلى جوارها في تلك اللحظة. وسمِعت صوتَ أومه في أذنها يقول: «انتبهي جيدًا يا روناتا. وتذكَّري …»
استيقظت نيكول من نومها. كان ريتشارد نائمًا إلى جوارها في هدوء. فجلست على الفِراش ونقرت بيدها على الحائط نقرةً واحدة. فظهرت يراعةٌ واحدة على الباب لتمدَّ الغرفةَ ببعض الضوء. أخذت نيكول تحدِّق في زوجها. نظرت إلى شعره ولحيته اللذين وخَطَهما الشيبُ فأصبحا رماديي اللون، وتذكَّرت كيف كانا سوداوين. ومرَّ على خاطرها، وقد غمرتها مشاعرُ الحنان، حبُّه لها، وخِفةُ ظلِّه عندما كان يتقرَّب إليها في نيويورك. ثم عبست والتقطت نفسًا عميقًا، وقبَّلت سبابتها. ثم وضعت الإصبع نفسَه على شفتي ريتشارد. لم يشعر بها. ظلَّت نيكول جالسةً في هدوء عدةَ دقائق أخرى تنظر بتمعُّن لكل قَسَمة من قسمات وجهِ زوجها. ثم انهمرت دموعها الهادئة تُغرِق وجنتيها وتسقط من وجهها على الملاءة. قالت: «أحبك يا ريتشارد.»