العودة إلى النود
١
جاءت أحلامُ نيكول قبل سطوع الضوء. أحلامٌ غير مترابطة، صور عشوائية تمتد أحيانًا إلى مجموعات قصيرة تظهر معًا دون هدف أو معنًى واضح. الألوان والأشكال الهندسية هي أولُ ما شاهدته نيكول في الأحلام التي تذكَّرتها. ولم تستطِع أن تتذكر متى بدأت. وفي لحظة من اللحظات فكَّرت للمرة الأولى: «أنا نيكول. لا بد أني لا أزال حية»، ولكن كان ذلك منذ وقت طويل. وبعدها رأت في عقلها مشاهدَ كاملة تتضمن وجوه بعض الأشخاص. تعرَّفت بعضَهم. قالت في نفسِها: «هذا أومه. وهذا أبي.» وفي كل مرة ترى فيها حُلمًا كانت تتيقظ أكثرَ لِما حدث فتزداد حزنًا. ظهر ريتشارد في أحلامها الأخيرة العديدة. وكذلك كيتي. تذكَّرت نيكول: «لقد ماتا. ماتا قبل أن أنام.»
عندما فتحت نيكول عينيها كانت لا تزال لا ترى شيئًا. كان الظلام مخيَّم على المكان. وأخذت نيكول تعي ببطء ما يوجد حولها. فتركت يديها تسقطان إلى جوارها لتشعر أصابعها بالملمس الناعم للفوم المُستخدَم حاشيةً. وتقلَّبت على جانبها لتجد أنها فعلت ذلك دون أن تبذل مجهودًا كبيرًا. ففكَّرت في نفسها: «لا بد أنني عديمة الوزن.» بدأ عقلها يعمل بعد سنوات من السُّبات، ثم سألت نفسها قبل أن تنام مرة أخرى: «ولكن أين أنا؟»
في المرة التالية التي استيقظت فيها نيكول رأت مصدرًا للضوء في الطرَف الآخر للصندوق المغلَق الذي ترقد فيه. فهزَّت قدميها وحرَّرتهما من حاشية الفوم البيضاء، ورفعتهما أمام الضوء. فوجدت قدميها مغطَّاتين بخفٍّ شفاف. ومدَّت جسمها كي ترى هل بإمكانها أن تمس مصدرَ الضوء بأصابع أقدامها، ولكنه كان بعيدًا جدًّا عنها.
وضعت نيكول يديها أمام عينيها. إلا أن الضوء كان خافتًا للغاية لدرجةِ أنها لم تستطِع أن ترى أي تفاصيل؛ فلم ترَ من يديها سوى ظلٍّ داكن. لم توجد مساحة كافية في الصندوق كي تعتدل جالسة، ولكنها تمكَّنت من الوصول إلى سقف الصندوق بإحدى يديها، عندما استندَت بجسدها على الأخرى. ضغطت نيكول أصابعها على حاشية الفوم الناعمة. كان تحتها سطحٌ صلب، سطح خشبيٌّ أو معدنيٌّ على الأرجح.
ولكن ذلك النشاط الطفيف استنفد قواها. فتسارعت أنفاسها ودقَّات قلبها. وأصبح عقلها أكثر وعيًا. فتذكرت نيكول بوضوح في اللحظات الأخيرة قبل أن تخلُد إلى النوم في راما. تذكَّرت: «جاء الرجل النَّسر فور أن وجدت تلك الفتاة الصغيرة في الموطن البديل … إذن فأين أنا الآن؟ وكم من الوقت نِمت؟»
سمعَت نيكول صوت طرقات خفيفة على الصندوق، فعادت ترقد على حاشية الفوم. وفكَّرت في نفسها: «لقد جاء أحدهم. سأحصل قريبًا على إجابات لأسئلتي.» رُفع الغطاء العلوي للصندوق ببطء. فحجبت نيكول الضوءَ عن عينيها بيديها. ثم رأت وجهَ الرجل النسر وسمِعت صوته.
•••
جلس الاثنان معًا في غرفة كبيرة. كل شيء فيها أبيض اللون. الحوائط والسقف والمنضدة المستديرة الصغيرة أمامهما، وحتى المقاعد والكوب والطَّبق والملعقة كانت جميعًا بيضاء. ارتشفت نيكول رشفةً أخرى من الحَساء الدافئ. إن طَعمه يشبه طَعم مرق الدجاج. وإلى يسارها الصندوق الأبيض الذي كانت ترقد فيه إلى جوار الحائط. لم تحوِ الغرفة أيَّ أغراض أخرى.
كان الرجل النسر يقول: «… في مجملها ستة عشر عامًا تقريبًا، بزمن المسافر عبْر الفضاء بالطبع.» ففكَّرت نيكول: «زمن المسافر عبْر الفضاء! إنه المصطلح نفسه الذي استخدمه ريتشارد.»
«… إننا لم نؤخِّر تقدُّمك في السن بالكفاءة نفسِها التي فعلنا بها ذلك من قبل. فقد نفَّذنا استعداداتنا على عجل.»
ومع أن نيكول كانت عديمة الوزن فقد شعرت أن كل نشاط بدني تبذله مجهودٌ شاقٌّ. فلم تقُم عضلاتها بأي نشاط منذ أمدٍ بعيد. وقد ساعدها الرجل النسر أن تسير — وهي تجرُّ قدميها — الخطوات القليلة الفاصلة بين الصندوق والمنضدة. وقد ارتعشت يداها بعض الوقت وهي تشرب الماء وتتناول الحَساء.
سألت الرجل النسر في صوتٍ متردِّد: «إذن أنا أناهز الثمانين من العمر الآن؟»
أجابها المخلوق الفضائي: «تقريبًا. سيكون من المستحيل أن أحدِّد لك سنًّا بعينها.»
حدَّقت نيكول عبْر الطاولة إلى رفيقها. بدا الرجل النسر كما كان دائمًا. عيناه الزرقاوان المائلتان إلى اللون الرمادي على كلا جانبي منقاره الرمادي البارز لم تفقدا شيئًا من قوَّتهما الغامضة. والريش أعلى رأسه لا يزال ناصعَ البياض، في تناقضٍ واضح مع الريش الرمادي الداكن على وجهه وعنقه وظهره. وأصابعه الأربع في كل يد بيضاءُ كالقشدة وخالية من الريش وملساء مثل أصابع الطفل.
فحصت نيكول يديها للمرة الأولى. إنهما تحملان تجاعيد، وتغيَّر لونهما بفعل البقع التي تظهر مع تقدُّم العمر. فقلبت يدها، ومن مكانٍ ما في ذاكرتها سمِعت ضحكة. كان ريتشارد يقول: «ضامر! أليست كلمةً رائعة؟ إنها تعني ذابلًا أكثرَ من كلمة ذابل نفسِها … أتساءل إن كنت سأعيش حتى تُطلَق عليَّ هذه الكلمة …» ثم خبَت الذكريات. وحدَّثت نيكول نفسها: «يداي ضامرتان الآن.»
ثم سألت الرجل النسر: «ألا تتقدَّم في العمر أبدًا؟»
أجابها: «كلَّا. على الأقل ليس بالمعنى الذي تستخدمون به أنتم هذه الكلمة للتعبير عنه … حيث تُجرى صيانة دورية لي واستبدالٌ للأنظمة الفرعية التي ينخفض مستوى أدائها.»
«ومن ثَم فإنك لا تموت أبدًا؟»
تردَّد الرجل النسر للحظة. ثم قال: «هذا ليس دقيقًا تمامًا. فعلى غرار جميع أفراد مجموعتي، لقد صُنعت لهدفٍ محدَّد. إذا لم تَعُد هناك حاجة لوجودي، وحيث إنه لا يمكن إعادةُ برمجتي من جديد بسهولة للقيام بمهمة ضرورية جديدة، فستُفصل الطاقة عني.»
كادت نيكول تضحك، ولكنها تمالكت نفسها، وقالت: «أنا آسفة، أعلم أنه ليس أمرًا مضحكًا … ولكن اختيارك للكلمات غريب … فتعبير «فصل الطاقة عني» يبدو مثل …»
قال الرجل النسر: «إنها أيضًا الكلمة الصحيحة. فداخلي مصادرُ طاقة عديدة متناهية الصِّغر، بالإضافة إلى نظام توزيع طاقة معقَّد. وجميع عناصر الطاقة في الأساس أجزاءٌ مجمَّعة؛ ولهذا فهي قابلةٌ للنقل من واحد من مجموعتي إلى آخرَ. وإذا لم تَعُد هناك حاجة إليَّ فيمكن استخراج العناصر واستخدامها في كائن آخر.»
قالت نيكول وهي تنتهي من شُرب الماء: «مثل عملية زرع الأعضاء.»
أجابها الرجل النسر: «إلى حدٍّ ما. وهو ما يجعلني أنتقل إلى موضوعٍ آخر … في الواقع لقد توقَّف قلبك مرتين أثناء نومك الطويل، والمرة الثانية كانت بعد وصولنا هنا إلى نظام النجم تاو سيتي مباشرةً … وقد تمكَّنا من إبقائك على قيد الحياة باستخدام العقاقير والتنبيه الميكانيكي، ولكن قلبك الآن ضعيفٌ للغاية … وإذا كنتِ تريدين أن تحيَيْ حياةً نشيطة فترةً طويلة من الزمن فستحتاجين إلى التفكير في إجراء عملية استبدالٍ لقلبك.»
سألته نيكول وهي تشير إلى الصندوق: «ألهذا تركتَني بالداخل تلك الفترة الطويلة؟»
قال الرجل النسر: «ليس لهذا فحسب.» كان قد شرح لها بالفعل أن معظم الآخرين من راما استيقظوا قبَلها بوقت طويل، واستيقظ بعضهم من عام تقريبًا، ويعيشون في مكانٍ آخر مزدحم لا يبعُد كثيرًا عن هنا. ثم استطرد قائلًا: «ولكننا كنا قلقين أيضًا بشأن مدى راحتك في مركبة نجمة البحر المُعدَّلة؛ فقد جدَّدنا تلك المركبة الفضائية على عجل … وهي لا تضم كثيرًا من سُبل الراحة … وكنا قلقين عليك أيضًا لأنك أكبرُ البشر سنًّا لدينا …»
فقالت نيكول لنفسها: «هذا صحيح. لقد قضى هجومُ كائنات الأوكتوسبايدر على كل بشري تخطَّى الأربعين من عمره أو نحو ذلك … أنا العجوز الوحيدة الباقية.»
توقَّف الرجل النسر عن الحديث لحظة. وعندما عادت نيكول تنظر إلى الكائن الفضائي، وقد حملت عيناه اللتان تأسران كلَّ مَن ينظر إليهما انفعالًا. قال: «كما أنك تتمتعين بمكانة خاصة لدينا. فقد لعبت دورًا أساسيًّا في هذه المهمة …»
فكَّرت نيكول فجأة، وهي لا تزال تحدِّق في عيني الرجل النسر الساحرتين: «هل من الممكن أن يكون لدى ذلك الكائن الإلكتروني مشاعرُ حقًّا؟ هل كان ريتشارد محقًّا عندما أصرَّ أنه لا توجد أيُّ سِمة من السِّمات الإنسانية لا يمكن نسخها بالهندسة الوراثية؟»
استأنف الرجل النسر: «… لقد انتظرنا أطولَ فترة ممكنة حتى نوقظك كي نقلل إلى الحد الأدنى طولَ الفترة الزمنية التي سيجب عليك قضاؤها في ظروفٍ أقلَّ من المثالية. إلا أننا الآن نستعد لدخول مرحلة جديدة من عملياتنا … كما ترين، هذه الغرفة قد أُخليت ممن عداك منذ وقت طويل. وفي غضون ثمانية أو عشرة أيام سنبدأ في تفكيك الحوائط. وحتى مجيء ذلك الوقت ينبغي أن تكوني قد تعافيتِ بصورة كافية …»
سألته نيكول مرةً أخرى عن عائلتها وأصدقائها. فأجابها الرجل النسر: «كما أخبرتك من قبل، لقد نجَوا جميعًا من فترة النوم الطويل بسلام. ولكن التكيُّف على العيش فيما يطلِق عليه صديقك ماكس «الفندق الكبير» لم يكن سهلًا على أي شخص. جميع مَن كانوا معك في مدينة الزمرد، بالإضافة إلى الفتاة ماريا وروبرت، زوج إيلي، قد أُنزلوا في البداية في غرفتين كبيرتين متجاورتين في أحدِ أجنحة مركبة نجمة البحر. وقد أُخبر الجميع أن ترتيبات الإقامة هذه مؤقتة، وأنهم سيُنقلون في النهاية إلى أماكنَ أفضل. ومع ذلك لم يستطِع كلٌّ من روبرت وجاليليو التكيُّف بنجاح مع الظروف غير المعتادة في الفندق الكبير.»
سألته نيكول بقلق: «ماذا حدَث لهما؟»
«لقد نُقلا، لأسبابٍ اجتماعية، إلى منطقةٍ أخرى أكثر انضباطًا من المركبة الفضائية. نُقل روبرت أولًا. إذ إنه مرَّ بمرحلة اكتئابٍ حادٍّ بعد أن استيقظ من نومه الطويل مباشرةً، ولم يمكنه قط الشفاء منه. وللأسف فقد توفِّي منذ نحو أربعة أشهر … وجاليليو على ما يرام بدنيًّا، إلا أن سلوكياته غير الاجتماعية قد استمرَّت …»
شعرت نيكول بأسًى عميق عندما سمِعت خبرَ وفاة روبرت. قالت في نفسها: «مسكينة نيكي، لم تحظَ قط بفرصة لمعرفة والدها … وإيلي التي لم يسِر زواجها كما تمنَّت …»
جلست في صمتٍ تسترجع ذكرياتها عن روبرت ترنر. قالت في نفسها: «كنت رجلًا معقدًا يا روبرت؛ موهوبًا ومتفانيًا في عملك. لكنك على مستوى العلاقات الشخصية كنت فاشلًا إلى درجةٍ تثير الدهشة. ربما مات جزء كبير فيك منذ زمن طويل … في قاعة المحكمة تلك في تكساس، على كوكبٍ يسمَّى الأرض.»
هزَّت نيكول رأسها في أسًى.
قالت للرجل النسر: «أظن أن المجهود الذي بذلته لإنقاذ كيتي وروبرت من سلاح كائنات الأوكتوسبايدر قد ذهب هباءً.»
أجابها الرجل النسر ببساطة: «غير صحيح. فقد كان الأمر مهمًّا لك حينها.»
ابتسمت نيكول ونظرت إلى صديقها الفضائي. قالت في نفسها وهي تكتم تثاؤبها: «حسنًا يا صديقي الفضائي. لا بد أن أقر بأني سعيدة أني عُدت إلى رفقتك مرة أخرى … صحيح أنك لست حيًّا لكنك تفهم الكائنات الحية بحكمة بالغة.»
قال هو: «دعيني أساعدك في العودة إلى الفراش. لقد استيقظتِ منذ فترة كافية بالنسبة للمرة الأولى.»
•••
كانت نيكول راضيةً للغاية عن نفسها. فقد نجحت أخيرًا في الدوران دورةً كاملة حول محيط الغرفة دون توقُّف.
قال الرجل النسر وهو يذهب ليقف إلى جوارها: «مرحى! إنك تحققين تقدُّمًا مذهلًا. إننا لم نتوقَّع قط أن تتمكني من السير بهذه الصورة الطيبة في هذه الفترة القصيرة.»
قالت وهي تبتسم: «إنني أحتاج بشدة إلى بعض الماء. فهذا الجسد العجوز يعرَق بغزارة.»
أحضر لها الرجل النسر كوبَ ماء من فوق المنضدة. وعندما انتهت من شربِه استدارت إلى صديقها الفضائي. وقالت: «الآن هل ستنفِّذ الجزء الخاص بك من الاتفاق؟ هل لديك مرآة وملابس بديلة في تلك الحقيبة هناك؟»
أجابها الرجل النسر: «نعم. بل أحضرت لك مستحضرات التجميل التي طلبتِها أيضًا … ولكني أريد أن أفحصك أولًا كي أرى كيفيةَ استجابة قلبك للمجهود.» رفع جهازًا أسودَ صغيرًا أمامها وراقب بعض العلامات التي تظهر على الشاشة الصغيرة. ثم قال: «هذا جيد. كلا! إنه ممتاز … لا توجد أي مؤشرات غير منتظِمة على الإطلاق. ليس إلا إشارة إلى أن قلبك مجهَد بشدة وهو المتوقَّع في البشر في مثل عمرك.»
قالت نيكول وهي تشير إلى جهاز الفحص: «هل لي برؤيةِ هذا؟» أعطاها الرجل النسر إياه. فقالت: «أظن أن هذا الشيء يستقبل إشارات من داخل جسدي … ولكن ما هذه الموجات القصيرة والرموز الغريبة على الشاشة بالضبط؟»
«يوجد أكثرُ من ألف مجسٍّ صغير داخل جسدك، أكثر من نصفها في منطقة القلب. وهذه المجسَّات لا تقيس الأداء الحقيقي لقلبك والأعضاء الأخرى فحسب، بل أيضًا تنظِّم المؤشرات الحيوية الأخرى المهمة مثل تدفُّق الدم وتوزيع الأكسجين. بل إن بعض المجسَّات تحسِّن من أداء الوظائف البيولوجية الطبيعية. وما ترينه على الشاشة بياناتٌ ملخَّصة عن الفترة الزمنية التي كنتِ تتدربين فيها. وقد ضُغطت وجرى قياسها عن بُعد عن طريق المعالِج داخلك.»
قطَّبت نيكول ما بين حاجبيها. وقالت: «ربما كان من الأفضل ألا أسأل. ففكرة وجود تلك الأشياء الإلكترونية كلها داخلي غيرُ مريحة إلى حدٍّ ما.»
قال الرجل النسر: «هذه المجسَّات ليست إلكترونية حقًّا، أو على الأقل ليست كذلك حسب استخدام البشر للكلمة. وهي ضرورية للغاية في هذه المرحلة من حياتك. فلو لم تكن داخلك لمَا عشت يومًا واحدًا …»
حدَّقت نيكول في الرجل النسر. وسألته: «ولمَ لمْ تدعني أموت؟ هل هناك هدفٌ من وجودي يبرِّر كل هذا المجهود؟ وظيفةٌ ما من المؤكد أني لا أزال أقوم بها؟»
قال الرجل النسر: «ربما. ولكن ربما ظننا أنك تودين رؤيةَ عائلتك وأصدقائك مرة أخرى.»
قالت نيكول: «إنني أجد صعوبةً في تصديق أن رغباتي تلعب أيَّ دور مهم في النظام الهرمي لقيمكم.»
لم يُجِبها الرجل النسر. وإنما سارَ إلى الحقيبة التي كانت على الأرض إلى جانب المنضدة، وعاد ومعه مرآة وقطعة قماش رطبة وثوب أزرق بسيط وحقيبة مستحضرات تجميل. خلعت نيكول رداء النوم الأبيض الذي ترتديه، ومسحت جسدها بالكامل بقطعة القماش، ثم ارتدَت الثوب الأزرق. وتنفَّست نفسًا عميقًا والرجل النسر يعطيها المرآة. وقالت بابتسامة باهتة: «لست واثقة أنني مستعدة لهذا.»
لم تكن نيكول لتتعرَّف الوجهَ الذي ظهر في المرآة لو لم تكن قد أعدَّت نفسها نفسيًّا له من البداية. فقد بدا لها وجهها كلحافٍ متغضِّن بفعل الانتفاخات والتجاعيد. وقد تحوَّل شعرها بالكامل، بما في ذلك حاجباها ورموش عينيها، إلى اللون الأبيض أو الرمادي. وأول رغبة اجتاحت نيكول هي البكاء لكنها قاومت دموعها ببسالة. قالت في نفسها: «يا إلهي! لقد هرِمت كثيرًا … أيُعقل أن تكون هذه أنا؟»
وأخذت تبحث، مستعينةً بذاكرتها، في الملامح التي تعكسها المرآة عن بقايا تلك الشابةِ الجميلة كما كانت يومًا. واستطاعت أن تجد هنا وهناك مَسحة من ملامحِ ما كان يُعَد يومًا وجهًا جميلًا، ولكن كان على عينيها أن تعرف أين تنظر تحديدًا. وتألَّم قلب نيكول فجأةً وهي تتذكَّر حادثة بسيطة وقعَت قبل سنوات بعيدة؛ عندما كانت مراهقة تسير في طريق ريفي مع والدها بالقرب من منزلها في بوفوا. كانت هناك امرأةٌ عجوز تتوكأ على عصًا تسير باتجاههما، فطلبت نيكول من والدها أن يعبُرا إلى الجهة الأخرى من الطريق لتجنُّبها.
فسألها والدها: «لماذا؟»
قالت نيكول: «لأنني لا أريد أن أراها عن قُرب. إنها عجوز ودميمة … إنها تجعل جسدي يقشعر.»
رفض والدها أن يجتاز الشارع وقال لها: «أنت أيضًا ستصبحين عجوزًا يومًا ما.»
فكَّرت نيكول في نفسها: «أنا عجوز ودميمة أيضًا. إنني حتى أقشعر لرؤية نفسي.» وأعادت المرآة إلى الرجل النسر. وقالت بحزن: «لقد حذَّرتني. ربما كان يجب عليَّ أن أسمع نصيحتك.»
قال الرجل النسر: «من الطبيعي أن تُصدمي. فأنتِ لم تري نفسك منذ ستة عشر عامًا. أغلب البشر لا يتقبَّلون التقدم في العمر بسهولة حتى إذا كانوا يتابعونه يومًا بيوم.» ثم مدَّ إليها حقيبة أدوات التجميل.
قالت نيكول بإحباطٍ رافضةً الحقيبة: «لا، شكرًا لك. إنه موقف ميئوس منه. فلا مايكل أنجلو نفسه يمكنه فِعل أي شيء حيال هذا الوجه.»
قال الرجل النسر: «كما تشائين. ولكني ظننت أنك قد تودين استخدامَ مستحضرات التجميل قبل أن يصل زائرك.»
قالت نيكول بانزعاجٍ وسعادة في الوقت نفسه: «زائر! هل لديَّ زائر اليوم؟ مَن هو؟» ومدَّت يدها تلتقط المرآة وأدوات التجميل.
قال الرجل النسر: «أظن أني سأتركها مفاجأةً لك. فسيصل زائرك إلى هنا في غضون بضع دقائق.»
استخدمت نيكول طلاء الشفاه ومسحوق التجميل ومشَّطت شعرها الرمادي ثم سوَّت حاجبيها وانتزعت منهما الشَّعر الزائد. وعندما انتهت ألقَت نظرةً مستنكرة على المرآة. وقالت للرجل النسر ولنفسها أيضًا: «هذا هو كلُّ ما أستطيع فِعله.»
وبعد بضع دقائق فتح الرجل النسر البابَ الموجود على الجانب الآخر من الغرفة وخرج. وعندما عاد كان برفقته كائن أوكتوسبايدر.
ومن الجانب الآخر للغرفة رأت نيكول اللونَ الأزرق الذي يميل إلى الأرجواني يتدفَّق حول الأوكتوسبايدر. قال: «مرحبًا يا نيكول. كيف حالك؟»
صرخت نيكول بسعادة: «الدكتورة بلو!»
•••
رفعت الدكتورة بلو جهازَ الفحص أمام نيكول. وقالت الأوكتوسبايدر الطبيبة: «سأمكثُ هنا معك حتى تستعدِّي للانتقال. فالرجل النسر لديه مهامُّ أخرى في الوقت الحالي.»
تدفَّقت شرائط الألوان بسرعة على الشاشة الصغيرة. فقالت نيكول وهي تنظر إلى الجهاز بدهشة: «أنا لا أفهم ما يحدُث؛ عندما استخدم الرجل النسر هذا الشيء كانت البيانات تظهر في شكل موجات قصيرة وغيرها من الرموز الغريبة.»
قالت الدكتورة بلو: «هذه هي لغتهم المبتكَرة للتكنولوجيا خاصة. إنها فعَّالة بصورة لا تُصدَّق، وأفضل بكثير من لغة الألوان التي نستخدمها … ولكن بالطبع لا يمكنني قراءة أيٍّ منها … إن هذا الجهاز في الواقع يدعَم لغاتٍ متعددة. ويوجد تدعيمٌ للغة الإنجليزية أيضًا.»
سألتها نيكول: «إذن ما اللغةُ التي تستخدمينها عند التواصل مع الرجل النسر وأنا غير موجودة.»
أجابتها الدكتورة بلو: «كلانا يستخدم لغةَ الألوان. إنها تتدفَّق من اليسار إلى اليمين برأسه مارَّة بجبهته.»
قالت نيكول وهي تحاول تخيُّل صورة الرجل النسر والألوان على جبهته: «إنك تمزحين.»
أجابت الأوكتوسبايدر: «مطلقًا! فالرجل النسر مذهل. إنه يبقبق مع المخلوقات الطائرة، ويصرخ ويَصْفِر مع كائنات القطنمل …»
لم تكن نيكول قد رأت كلمةَ قطنمل في لغة الألوان من قبل. وعندما سألت عن الكلمة شرحَت لها الدكتورة بلو أن ستة من هذه الكائنات الغريبة تعيش الآن في الفندق الكبير، وأن أربعة أخرى على وشْك الخروج من بطيخ المن النامي.
قالت الدكتورة بلو: «مع أن جميع كائنات الأوكتوسبايدر والبشر قد ناموا أثناءَ الرحلة الطويلة، فقد سُمح لبطيخ المن أن ينموَ إلى كائنات قطنمل ثم إلى كائناتٍ لا سويقية. وهي الآن تطوَّرت بالفعل إلى جيلها الثاني.»
أعادت الدكتورة بلو الجهاز إلى المنضدة. فسألتها نيكول: «إذن كيف أُبلي اليوم يا دكتورة؟»
أجابتها الدكتورة بلو: «إنك تزدادين قوة. ولكنك على قيد الحياة الآن بفضل المجسَّات التكميلية التي أُدخلت إلى جسدك. وفي وقتٍ ما يجب أن تفكري في …»
قالت نيكول: «… استبدال قلبي … أعلم. قد يبدو كلامي هذا غريبًا، ولكن الفكرة لا تروق لي كثيرًا … ولا أدري في الواقع سببَ معارضتي إيَّاها … ربما لأني لم أرَ ما أعيش من أجله … وأعلم لو أن ريتشارد لا يزال حيًّا …»
بترَت نيكول حديثها. وللحظة تخيَّلت أنها عادت إلى غرفة العرض وتشاهد اللحظات الأخيرة في حياة ريتشارد بالعرض البطيء. لم تكن فكَّرت في تلك اللحظة منذ أن استيقظت.
قالت نيكول للدكتورة بلو: «هل تمانعين أن أسألك سؤالًا شخصيًّا.»
قالت الأوكتوسبايدر: «كلا، على الإطلاق.»
قالت نيكول: «لقد رأينا موتَ ريتشارد وآرشي معًا، وقد صُدمت أنا حتى إنني لم أستطِع القيامَ بأي شيء … وقد قُتل آرشي في الوقت نفسه، وكان شريك حياتك كلها. ولكنك جلست إلى جواري تواسينني … ألم تشعري بأي إحساس بالخسارة أو الحزن لموت آرشي؟»
لم تُجِب الدكتورة بلو على الفور. ثم قالت: «إن جميع كائنات الأوكتوسبايدر مُدرَّبة منذ الميلاد على التحكم فيما تطلِقون عليه أنتم البشرَ انفعالات. وسكَّان الموطن البديل بالطبع عرضةٌ إلى حدٍّ ما لهذه الانفعالات. ولكن الأفراد من بني جنسنا الذين …»
قاطعتها نيكول برفقٍ وهي تمسُّ زميلتها الأوكتوسبايدر: «مع كامل احترامي، إنني لم أكُن أسألك سؤالًا تحليليًّا من طبيبة لطبيبة. إنه سؤال من صديقة لصديقة.»
انبثقت ببطء مجموعةٌ قصيرة من الشرائط القرمزية اللون ثم تبِعتها أخرى زرقاء غير مرتبطتين حول رأس الدكتورة بلو. ثم قالت: «نعم، لقد شعرتُ بالخسارة. ولكني كنت أعرف أن هذا سيحدُث عاجلًا أو آجلًا. عندما انضم آرشي إلى المجهود الحربي بات إنهاء حياته أمرًا مؤكدًا … بالإضافة إلى هذا، كان واجبي في تلك اللحظة هو مساعدتك.»
فُتح باب الغرفة ودلف الرجل النسر. كان يحمل صندوقًا كبيرًا مليئًا بالطعام والملابس وغيرها من الأشياء المتنوِّعة. وأخبر نيكول أنه أحضر لها سترةَ فضاء وعليها أن تغامر بالخروج من بيئتها المتحكَّم بها في المستقبل القريب.
قالت نيكول مداعِبة: «تقول الدكتورة بلو إنه يمكنك التحدُّث بالألوان. أريدك أن تريني.»
أجابها الرجل النسر بشرائط ألوان رفيعة منتظِمة بدأت على الجانب الأيسر من جبهته وتدفَّقت إلى اليمين: «ماذا تريديني أن أقول؟»
قالت نيكول ضاحكة: «هذا يكفي. إنك مذهل حقًّا.»
•••
وقفت نيكول على أرضِ المصنع العملاق وحدَّقت في الهرم أمامها. وبعيدًا على يمينها، على مسافةٍ أقل من كيلومتر، مجموعة من الكائنات الآلية المصنَّعة لغرضٍ خاص؛ منها جرَّافتان عملاقتان تبنيان جبلًا شاهقًا. فقالت نيكول عبْر الميكروفون الصغير داخل خوذتها: «لمَ تفعلون هذا كلَّه؟»
أجابها الرجل النسر: «إنه جزء من الدورة القادمة. لقد ارتأينا أن هذه المباني تحديدًا تزيد من إمكانية الحصول على ما نريد من التجربة.»
«إذن فأنتم تعلمون بالفعل شيئًا عن المسافرين الجدد عبْر الفضاء؟»
قال الرجل النسر: «لا أعرف إجابةَ هذا السؤال. فلم تُخَوَّل لي أيُّ مهامَّ مرتبطة بمستقبل راما.»
قالت نيكول وهي غيرُ راضية عن الإجابة: «ولكنك أخبرتنا من قبلُ أنه لا تحدُث أي تغييرات إلا إذا كانت ضرورية …»
قال الرجل النسر: «لا أستطيع مساعدتك في هذه النقطة. تعالي! استقلي المركبة. فالدكتورة بلو تريد إلقاءَ نظرة على الجبل من قُرب.»
بدت الأوكتوسبايدر غريبةَ الشكل في سترة الفضاء الخاصة بها. بل إن نيكول انفجرت ضاحكة عندما رأت الدكتورة بلو أولَ مرة والسترة البيضاء الضيقة تغطي جسدها الرمادي الداكن ولوامسها الثماني. وكانت الدكتورة بلو أيضًا تضع خوذةً شفافة حول رأسها يسهُل عبْرها قراءة ألوانها.
قالت نيكول للدكتورة بلو التي جلست إلى جوارها والمركَبة المفتوحة تتحرك بهم عبْر أرضٍ منبسطة باتجاه الجبل: «لقد كنت مندهشة عندما خرجنا لأول مرة … كلا، هذا ليس وصفًا قويًّا بصورة كافية … لقد أخبرتني أنت والرجل النسر أننا في المصنع، وأنني ينبغي أن أستعد لرحلة أخرى، ولكني لم أتوقَّع هذا كلَّه قط.»
تدخَّل الرجل النسر في حديثهما من مقعد السائق أمامهما: «كان الهرم يُبنى حولكِ وأنتِ نائمة. ولولا أننا استطعنا البناء دون إزعاج بيئتك لكنا أيقظناك في وقتٍ أبكر.»
استمرَّت نيكول في الحديث إلى الدكتورة بلو: «ألا يثير هذا الأمر برُمَّته دهشتك؟ ألا تتساءلين عن المخلوقات التي فكَّرت في هذا المشروع الضخم أولًا؟ وخلقت ذكاءً اصطناعيًّا مثل الرجل النسر؟ إنه أمرٌ من المستحيل تقريبًا تخيُّله …»
قالت الأوكتوسبايدر: «الأمر ليس بهذه الصعوبةِ بالنسبة إلينا؛ تذكَّري أننا لطالما نعلم بوجود مخلوقاتٍ أرقى منَّا. إننا موجودون بصفتنا كائناتٍ عاقلة، لا لسببٍ إلا أن السلف عدَّلوا في جيناتنا. إننا لم نمرَّ بمرحلة في تاريخنا قط اعتقدنا فيها أننا بلغنا قمةَ هرم الكائنات الحية.»
فكَّرت نيكول وهي مستغرِقة في التفكير: «ولا نحن سنعتقد ذلك مرةً أخرى أبدًا. لقد تغيَّر التاريخ البشري بصورة جذرية لا رجوع فيها، أيًّا كانت الأحداث التي آلَ إليها.»
قال الرجل النسر من المقعد الأمامي: «بل ربما تعتقدونه. فقاعدة البيانات لدينا تشير إلى أن بعض الأجناس لم تتأثَّر كثيرًا بالاتصال بنا. لقد صُمِّمت تجاربنا كي تأخذ بعين الاعتبار هذا الاحتمال. فالاتصال معنا يحدُث في أثناء فترة وجيزة من الوقت ومع نسبة ضئيلة من أفراد جنس من الأجناس. ولا يوجد اتصالٌ مستمر إلا إذا اتَّخذ جنسُ الكائنات محلُّ الدراسة خطوةً واضحة لبدئه. وأنا أشكُّ أن الحياة على الأرض في هذه اللحظة تختلف كثيرًا عما كانت ستكون عليه إذا لم تزُر سفينة راما الفضائية نظامَكم الشمسي.»
انحنت نيكول للأمام في مقعدها. وقالت: «هل تعلم ذلك على وجهِ اليقين؟ أم إنك تخمِّن؟»
جاءت إجابة الرجل النسر غامضةً. إذ قال: «لقد تغيَّر تاريخكم بالطبع بظهور راما. فما كان لكثير من الأحداث الجِسام أن تقع لو لم يحدُث أي اتصال. ولكن بعد مائة أو خمسمائة سنة من الآن … ما الاختلاف بين ما ستكون عليه الأرض حينها عما كانت ستكون عليه إذا لم نزُرها؟»
قالت نيكول: «ولكن لا بد أن رأي البشر قد تغيَّر. فمن المؤكد أن معرفة أنه يوجد في الكون، أو على الأقل كان موجودًا في حِقبة مبكرة، كائناتٌ ذكية متقدمة لدرجةٍ تمكِّنهم من بناء سفينة فضاء آلية تسافر بين النجوم أكبر من أضخم مدننا على الأرض، لا يمكن طرْحُ هذه المعرفة جانبًا على أنها معلومات غير مهمة … بل إنها تخلق منظورًا مختلفًا لتجربة البشر على الأرض بالكامل. فلا بد أن تُجرى مراجعة للدين وللفلسفة وحتى المبادئ الأساسية في علم البيولوجيا في ظل …»
قاطعها الرجل النسر وهو يقول: «أنا سعيد لرؤيةِ أنك على الأقل احتفظتِ بقدرٍ ضئيلٍ من تفاؤلك ومثاليتك على مدارِ هذه السنوات كلها … ولكن تذكَّري أنه في عدن الجديدة يعرف البشر أنهم يعيشون داخل موطنٍ صمَّمه لهم خاصة كائناتٌ فضائية. وقد قيل لهم من خلالك أنت وغيرك أنهم مراقَبون باستمرار. ومع ذلك، عندما اتضح لهم أن المخلوقات الفضائية، مهما تكن ماهيتها، لا تعتزم التدخُّل في أنشطتهم اليومية، أصبح وجودُ هذه المخلوقات المتقدِّمة لا يمُتُّ لحياتهم بصلة.»
وصلت المركبة إلى سفحِ الجبل. فقالت الدكتورة بلو: «لقد أردتُ المجيء إلى هنا بدافع الفضول. فكما تعلمون لم يكن لدينا أيُّ جبال في مملكتنا على متن راما. ولم يوجد كثير منها في منطقتي على كوكبي الأصلي عندما كنت شابة … فرأيت أنه سيكون من اللطيف أن أقفَ على قمَّته …»
قال الرجل النسر: «لقد كلَّفت إحدى تلك الجرافات العملاقة بهذه المهمة. وستستغرق رحلتنا إلى القمة عشر دقائق فقط … قد تشعران بالخوف في بعض البقاع بسبب انحدار الجبل، ولكنه آمنٌ تمامًا ما دمتم ترتدون أحزمةَ الأمان.»
لم تكن نيكول قد طعنَت في السن بحيث يفوتها الاستمتاع بالتسلُّق المثير. كانت الجرافة في حجم مبنًى إداري، ولكنها لم تحوِ مقاعدَ مريحة للركَّاب، وكانت بعض الصدمات عنيفة جدًّا، ولكن المَشاهد التي ظهرت أمامهم وثلاثتهم يتسلقون تستحق المشقةَ بالفعل.
كان ارتفاع الجبل يزيد عن كيلومتر، ويبلغ محيطه شبه الدائري نحو عشرة كيلومترات. كانت نيكول ترى بوضوح الهرم الذي أقامت فيه عندما قطعت الجرافة ربع المسافة إلى أعلى الجبل. وفي الأفق في جميع الاتجاهات، كانت السماء تعجُّ بمشروعات بناء منعزلة لأغراضٍ غير معروفة.
ففكرَت نيكول في نفسها: «وهكذا يبدأ الأمر من جديد. فسفينة راما هذه بعد أن أُعيد بناؤها ستدخل قريبًا إلى مجموعة أخرى من النُّظم النجمية. وماذا ستجد؟ مَن هم المسافرون عبْر الفضاء القادمون الذين سيسيرون على هذه الأرض؟ أو يتسلقون هذا الجبل؟»
توقفَت الجرافة على سهلٍ واسع قريب للغاية من القمة وترجَّل عنها الركَّاب الثلاثة. كان المشهد خلابًا من هناك. وبينما كانت نيكول تدرُس المشهد تذكَّرت تعجُّبها في رحلتها الأولى إلى داخل راما، عندما هبطت في التليفريك وعالم الكائنات الفضائية الشاسع يمتد أمامها متراميَ الأطراف. ففكرت نيكول مخاطِبةً الرجل النسر في عقلها: «شكرًا لك لأنك أبقيتني على قيد الحياة. لقد كنتَ محقًّا. هذه التجربة وحدَها والذكريات التي أثارتها في ذهني تُعدُّ سببًا أكثرَ من كافٍ لي كي أستمر.»
استدارت نيكول حولها لرؤية باقي الجبل. ورأت شيئًا صغيرًا يطير يدخل ويخرج بين بعض التكوينات الحمراء اللون التي تشبه الشجيرات تبعُد عنها ما لا يزيد عن عشرين مترًا. سارت إليها وأمسكت واحدةً من الكائنات الطائرة في يدها. كانت في شكلِ الفراشة وحجمِها. كانت أجنحتها مزيَّنة برسومات منوَّعة لا يتطابق بعضها مع بعض أو أي مبدأ تصميمي آخرَ استطاعت نيكول تمييزه. ثم تركت إحداها تطير وأمسكت بأخرى. فوجدت أن الرسومات على الفراشة الرامية الثانية مختلِفة تمامًا عن الأولى. ولكنها لا تزال ثرية بالألوان والزخارف.
سار الرجل النسر والدكتورة بلو إلى جوارها. أرتهما نيكول ما تحمِله في يدها. فلم يزِد الرجل النسر على أن قال: «إنها كائنات آلية طائرة.»
نظرت نيكول بإعجابٍ مرة أخرى إلى الكائن الصغير. وتذكَّرت ريتشارد وهو يقول: «هناك شيء مذهل يحدُث كل يوم. ونتذكَّر دائمًا حينها مدى متعة البقاء على قيد الحياة.»
٢
لم تكد نيكول تفرُغ من الاستحمام حتى دخل اثنان من الكائنات الآلية الغرفة. كان أحدهما سرطانًا آليًّا والآخر يشبه شاحنة صغيرة. استخدم السرطان الآلي كلَّاباته القوية بالإضافة إلى مجموعة الأدوات الملحَقة المخيفة الشكل لتقطيع الصندوق الذي كانت نيكول تنام فيه إلى قِطَع يسهُل التعامل معها. ثم كدَّس القِطَع على ظهر الشاحنة. وفي طريقه إلى خارج الغرفة بعدما أمضى فيها أقلَّ من دقيقة جذب السرطان الآلي حوضَ الاستحمام الأبيض وجميعَ المقاعد المتبقية وكدَّسها فوق الأكوام الموضوعة على ظهر الشاحنة. ثم وضع المنضدةَ على ظهره واختفى من الغرفة الخاوية خلف الشاحنة الآلية.
عدَّلت نيكول من زيِّها. وقالت لرفيقيها: «لن أنسى قط أولَ مرة رأيت فيها سرطانًا آليًّا. كان ذلك على الشاشة الضخمة في مركز التحكُّم في سفينة نيوتن منذ سنوات طوال. وقد ارتعدت فرائصنا جميعًا.»
وبعد عدةِ ثوانٍ قالت الدكتورة بلو: «إذن فاليوم هو اليوم الموعود. هل أنتِ مستعدة للإقامة في فندق جراند؟»
قالت نيكول مبتسِمة: «على الأرجح لا. فمن واقعِ ما قلته أنت والرجل النسر، أظن أنني استمتعت بلحظات العزلة الأخيرة التي قضيتها.»
قال الرجل النسر: «إن عائلتك وأصدقاءك متلهفون للغاية لرؤيتك. لقد زرتُهم أمس وأخبرتهم أنك ستأتين … ستمكثين مع ماكس وإيبونين وإيلي وماريوس ونيكي. أما باتريك وناي وبينجي وكيبلر وماريا فهم يقيمون في الغرفة المجاورة … وكما أوضحت لك من قبل في الأسبوع السابق، كان باتريك وناي يعاملان ماريا كما لو أنها ابنتهما بعد أن استيقظ الجميع بوقت قصير … ويعرفون وقائعَ كيفية إنقاذك لماريا أثناء القصف …»
قالت نيكول وهي تتذكَّر بوضوحٍ الساعات الأخيرة في مركبة راما الفضائية القديمة: «لا أعرف هل كلمة «إنقاذ» هي الكلمة الدقيقة لما حدَث. لقد أخذتُها لأنه لم يكن هناك أحدٌ آخر كي يعتنيَ بها. وكان أيُّ شخص سيفعل ما فعلتُ.»
قال الرجل النسر: «لقد أنقذتِ حياتها. فبعد أن تركتِ حديقة الحيوانات مع الفتاة بما لا يزيد عن ساعة دمَّرت ثلاث قنابل ضخمة مكانها والقطاعين المتاخمين له. ومن المؤكد أن ماريا كانت ستلقى حتفَها لو لم تجديها.»
قالت الدكتورة بلو: «إنها الآن شابةٌ جميلة وذكية. وقد قابلتها مرة واحدة لوقت قصير قبل عدة أسابيع. وتقول إيلي إن ماريا مفعمةٌ بالحيوية والنشاط بصورةٍ لا تُصدَّق. ووفقًا لما تقول فإن الفتاة هي أول مَن يستيقظ في الصباح وآخرُ مَن يأوي إلى الفراش في المساء.»
لم تستطِع نيكول أن تمنع نفسها من التفكير: «مثل كيتي.» وتساءلت في نفسها أيضًا: «مَن أنتِ يا ماريا؟ ولماذا دخلتِ إلى حياتي في تلك اللحظة بالذات؟»
استمرَّت الدكتورة بلو في حديثها قائلة: «… أخبرتني إيلي أيضًا أن ماريا ونيكي لا تفترقان. تذاكران معًا، وتأكلان معًا، وتتحدَّثان باستمرار عن كل شيء … وقد أخبرت نيكي ماريا بكل شيء عنك.»
ابتسمت نيكول وقالت: «كيف يمكن هذا؟! فلم تكن نيكي قد بلغت الرابعة من عمرها عندما رأيتها آخرَ مرة. وأطفال البشر لا يحتفظون بذكرياتٍ من هذا العمر المبكر …»
قال الرجل النسر: «بل يفعلون بالتأكيد إذا ناموا خلال الخمسة عشر عامًا التالية لهذه الذكريات. وكيبلر وجاليليو أيضًا يحتفظان بذكرياتٍ تفصيلية عن طفولتهما المبكرة … يمكننا التحدُّث أثناء تنقُّلنا، فقد حان وقت رحيلنا.»
ساعد الرجل النسر نيكول والدكتورة بلو على ارتداء السترات الفضائية. ثم التقط الحقيبةَ التي تضم أغراض نيكول. وقال: «لقد وضعت حقيبتك الطبية هنا مع ملابسك، وكذلك أدوات التجميل التي كنتِ تستخدمينها في الأيام الأخيرة.»
قالت نيكول: «حقيبتي الطبية؟» وضحِكت قائلة: «يا إلهي! لقد كدتُ أنساها … لقد كانت معي عندما وجدت ماريا، أليس كذلك؟ شكرًا لك!»
سار ثلاثتهم إلى خارج الغرفة التي كانت في الدَّور السفلي من الهرم الكبير. وبعد بضع دقائقَ خرجوا عبْر المدخل الكبير المقوَّس للمبنى. وكانت المركبة تنتظرهم في الخارج في ضوء المصنع الساطع. قال الرجل النسر: «سنستغرق نصف ساعة تقريبًا للوصول إلى المصاعد الفائقة السرعة. والمكُّوك مرابط على منصة الإقلاع في الطابق الأعلى.»
وبينما المركبة تنطلق استدارت نيكول ونظرت خلفها. وخلف الهرم يوجد الجبل الشاهق الذي تسلَّقوه قبل ثلاثة أيام. ثم قالت عبْر الميكروفون المثبَّت في خوذتها: «إذن ليست لديك أيُّ فكرة حقًّا عن سبب وجود الفراشات الآلية هناك؟»
قال الرجل النسر: «كلَّا! فالمهمة المخوَّلة لي تشمل دورتك فقط.»
استمرَّت نيكول في التحديق خلفها. ومرَّت العربة بمجموعة من الأعمدة الطويلة عددها عشرة أو اثنا عشر تقريبًا، مرتبطة بأسلاكٍ في أعلاها ومنتصفها وأسفلها. قالت نيكول في نفسها: «سيكون هذا كلُّه جزءًا من راما الجديدة.» وفجأةً خطر على ذهنها أنها على وشْك أن تغادر عالَم راما للمرة الأخيرة. اجتاح كِيانها حزنٌ جارف. وقالت في نفسها: «لقد كانت راما منزلي، والآن سأرحل عنها للأبد.»
قالت نيكول للرجل النسر دون أن تستدير: «هل سيكون من الممكن أن أرى أيًّا من الأجزاء الأخرى لراما قبل أن نغادر للأبد؟»
سألها الرجل النسر: «لماذا؟»
أجابته نيكول: «لست متأكدة بالضبط … ربما لألبثَ ساعة أخرى في بحر ذكرياتي.»
«لقد تمَّت إعادةُ بناء التجويفين ونصف الأسطوانة الجنوبي بالكامل بالفعل. ولن تتعرَّفي إياها، وجُفِّف البحر الأسطواني وأُزيل. حتى نيويورك يُجرى تفكيكُها …»
فسألته نيكول: «ولكنها لم تُدمَّر تمامًا بعدُ، أليس كذلك؟»
أجابها الرجل النسر: «كلَّا، ليس بعد.»
«إذن فهل يمكننا الذهابُ إلى هناك من فضلك، برهةً قصيرة فقط؟»
قالت نيكول في نفسها: «رجاء سايرْ رغباتِ امرأةٍ عجوز. مع أنها هي نفسها لا تفهم سببًا لها.»
فقال الرجل النسر: «حسنًا، ولكننا سنتأخر. فنيويورك بعيدة عن المصنع.»
•••
كانوا يقفون على حاجزٍ واقٍ بالقرب من قمة إحدى ناطحات السحاب الشاهقة. كان معظم نيويورك قد اختفى؛ فقد تحوَّلت المباني إلى رُكام بفعل القوة الجبارة للكائنات الآلية العملاقة. ولم يتبقَّ سوى عشرين أو ثلاثين مبنًى حول أحد الميادين.
بدأت نيكول تشرح للدكتورة بلو: «كان هناك ثلاثة مخابئ أسفل المدينة. أحدها لنا، والآخر للمخلوقات الطائرة، والثالث سكنَه ذلك الجنس البدائي من أقربائكم … وقد كنتُ أنا بالأسفل داخل مخبأ المخلوقات الطائرة عندما جاء ريتشارد لينقذني …» سكتت نيكول. فقد تذكَّرت أنها أخبرت الدكتورة بلو بالقصة من قبلُ وأن كائنات الأوكتوسبايدر لا تنسى أيَّ شيء قط. سألتها: «هل تمانعين أن أكمل؟»
أجابتها الأوكتوسبايدر: «رجاء أكملي.»
«طوال المدة التي قضيناها هنا، لم يعلم أيٌّ منَّا هنا على الجزيرة أن هناك مداخلَ لبعض هذه البنايات. أليس هذا مذهلًا؟ آه! كم أتمنى لو أن ريتشارد لا يزال حيًّا وأمكنني رؤية وجهه عندما فتح الرجل النسر البابَ المُطلَّ على الشكل الثماني الأسطح … كان سيندهش بشدة …»
وواصلت نيكول: «على أي حال، عاد ريتشارد إلى راما للعثور عليَّ … ثم أُغرمنا ببعض، وتوصَّلنا إلى كيفية الهروب من الجزيرة بالاستعانة بالمخلوقات الطائرة … يا له من وقتٍ رائع! قبل سنوات كثيرة مضت …»
تقدَّمت نيكول للأمام وأمسكت بالحاجز بكلتا يديها، وأخذت تحدِّق فيما حولها. وفي عقلها ترى نيويورك كما كانت. كانت تفكِّر: «هناك كانت الأسوار. وخلفها البحر الأسطواني … وفي مكانٍ ما في منتصف ذلك الرُّكام المعدني القبيح كانت الحظيرة والحفرة اللتان كدتُ ألقى حتفي فيهما.»
ولدهشة نيكول انهمرت الدموع فجأةً من عينيها. تدفَّقت زفات وأغرقت وجنتيها. لم تستدِر. وفكَّرت في نفسها: «ولدتُ خمسة من أولادي الستة هناك أسفل تلك الأرض. وخارج مخبئنا وجدنا ريتشارد بعد أن غاب عامَين. كان في غيبوبة.»
كانت الذكريات تتدفَّق على ذهنها واحدة تلو الأخرى، وكلٌّ منها تستدعي معها ألمًا لا تعرف سببه في قلبها وسيلًا جديدًا من الدموع على وجنتيها. ولم تستطِع نيكول إيقافَ هذه الذكريات. في مرة من المرات نزلت إلى مخبأ كائنات الأوكتوسبايدر لتنقذَ ابنتها كيتي، وفي موقفٍ آخر استعادت الشعورَ بالسعادة والابتهاج وهي تحلِّق فوق البحر الأسطواني مربوطةً بلجام بثلاثة من المخلوقات الطائرة على متن طائرة. وفكَّرت نيكول وهي تمسح عينيها بظهر يدها: «لا بد لنا من الموت في نهاية المطاف؛ لأنه لم يَعُد هناك مكانٌ في الدماغ لمزيدٍ من الذكريات.»
وبينما كانت نيكول تحدِّق في المشهد المشوَّه لنيويورك، تحوَّل في عقلها إلى ما كان عليه قبل سنوات، وجالت بخاطرها ذكرى حية لمرحلة هادئة من حياتها. تذكَّرت أمسيةً باردة من ليالي الخريف في وقتٍ متأخر من الليل في بوفوا في آخرِ أيامها على الأرض، قبل أن تذهب هي وجينفياف إلى التزلج في دافوس مباشرة. كانت نيكول تجلس مع والدها وابنتها أمام المدفأة في الفيلا الخاصة بهم. وقد كانت ذاكرةُ بيير أبيها منتعشةً للغاية في ذلك المساء. فقد قصَّ على مسامعِ نيكول وجينفياف لحظاتٍ خاصة كثيرة عندما كان يتودَّد إلى والدة نيكول.
وفي وقت لاحق، عندما أوَتا إلى الفراش، طرحت جينفياف سؤالًا على والدتها. سألتها: «لماذا يتحدَّث جَدي كثيرًا عما حدَث منذ وقت طويل؟»
أجابتها نيكول: «لأن هذا هو المهم له.»
قالت نيكول في نفسِها وهي لا تزال تحدِّق في ناطحات السحاب أمامها: «سامحوني. فلتسامحوني يا كلَّ العجائز الذين تجاهلت قِصصكم. إنني لم أقصد أن أكون وقحة أو أن أتعالى عليكم. إنني فقط لم أفهم ماذا يعني أن يكون المرء عجوزًا.»
تنهَّدت نيكول، وتنفَّست نفسًا عميقًا واستدارت لمُرافقيها. فسألتها الدكتورة بلو: «هل أنتِ بخير؟»
أومأت بالإيجاب. وقالت للرجل النسر بصوت متهدِّج: «شكرًا لك من أجل هذا. أنا مستعدة للذهاب الآن.»
•••
رأت نيكول الأضواء فور أن أقلع المكُّوك من مربطه. ومع أن الأضواء لا تزال على بُعد يزيد على مائة كيلومتر منها، فإنها شكَّلت مشهدًا رائعًا على خلفية الظلام والنجوم البعيدة.
قال الرجل النسر: «لهذا النود رأسٌ إضافي. فهو يتخذ شكل هرم ثلاثي منتظِم، كما أن النود الذي زرته أنت بالقرب من كوكب الشَّعرى لم يكن به وحدة لتخزين المعلومات.»
حدَّقت نيكول من نافذة المكُّوك وهي تحبس أنفاسها. من بعيد بدا لها مشهد ذلك البناء المضيء يدور ببطء من بعيد كالحلم، مثل شيء اختلقه خيالها. كان في كلٍّ من الرءوس الأربعة للهرم الثلاثي كرةٌ ضخمة، تصل بينها ستة ممراتِ تنقُّل مستقيمة. كانت جميع الكرات في الحجم نفسِه بالضبط. وأيضًا الممرات الستة الرفيعة الطويلة التي تربطها ببعض في الطول نفسه بالضبط. ومن تلك المسافة امتزجت مصادرُ الأضواء داخل النود الشفافة، فبدت المنشأة بالكامل وكأنها مصباح ضوئي رباعي عملاق في ظلام الفضاء.
قالت نيكول وهي لا تستطيع العثورَ على أي كلمات أخرى تعبِّر عن الانبهار الذي تشعر به: «إنه لمشهدٌ جميل!»
قالت الدكتورة بلو من جانبها: «يجب أن تري المشهد من سطح المراقبة في جناح إقامتنا. إنه يَشدَه العقول. ونحن قريبون منه بصورة كافية لنرى الأضواء المختلفة داخل الكرات، بل بإمكاننا أن نتابع المركَبات وهي تتحرك بسرعة جيئةً وذهابًا عبْر ممرات التنقل. وبعض المقيمين في الفندق الكبير يمكثون على السطح ساعاتٍ وهم يُلهون أنفسهم بالتفكير في الأنشطة الدائرة والمتمثلة في حركة الأضواء بالداخل.»
شعرت نيكول بقشعريرة تسري في جسدها وهي تحدِّق بصمت في النود. وسمعت صوتًا يأتي من بعيد، صوت فرانشيسكا ساباتيني يتغنَّى بقصيدة درَستها نيكول للمرة الأولى وهي طالبة في المدرسة:
فكَّرت نيكول: «هل مَن خَلق الحَمَل هو مَن خلقك؟» والجسم رباعي الأسطح الذي يشعُّ الأضواء يستمر في الدوران. وتذكرت حوارًا دار في وقتٍ متأخر من الليل بينها وبين مايكل أوتول عندما كانا يقيمان في النود بالقرب من كوكب الشَّعرى. حيث قال: «لا بد أن نطلق العِنان لمفهومنا حول الإله بعد هذه التجربة. وننفُض عنا قيودَ تصوراتنا البشرية عنه … فالإله الذي خلق مهندسي النود من المؤكد أنه يضحك من محاولاتنا المثيرة للشفقة كي نؤمن به في إطار مفاهيمنا البشرية المحدودة.»
كانت نيكول مفتونة بالنود. حتى من هذه المسافة البعيدة. وبينما كانت النود تدور ببطء، كانت تكوينات الضوء المختلفة التي يعرضها الشكلُ الرباعي الأسطح تجعل مَن ينظر إليها ينبهر بما يرى. وبينما كانت نيكول تتطلع إلى المنشأة، أخذت تغيِّر وضعها بحيث يكون أحدُ المثلثات الأربعة متساوية الأضلاع التي تشكِّل الأوجه الخاوية سطحًا مستويًا في وضعٍ عمودي على مسار طيران المكُّوك. كانت النود تبدو مختلفة تمامًا، كما لو أنها مسطَّحة لا عمقَ لها. بدا الرأس الرابع الذي كان في الواقع وراء السطح المستوي المقابِل لنيكول بمسافة ثلاثين كيلومترًا كشريط من الضوء في مركز المثلث المواجه لهم.
وعندما غيَّر المكُّوك اتجاهه فجأةً لم تَعُد النود بادية في الأفق. وبدلًا منها استطاعت نيكول أن ترى نجمًا أصفرَ مضيئًا وحيدًا على مسافة بعيدة منهم. قال لها الرجل النسر: «هذا هو تاو سيتي؛ إنه نجمٌ يشبه شمسكم إلى حدٍّ بعيد.»
قالت نيكول: «هل من الممكن أن أسأل: لماذا توجد هذه النود هنا بجوار تاو سيتي؟»
أجاب الرجل النسر: «إنه مكانٌ مؤقت مثالي لدعم أنشطة جمْع البيانات في هذا الجزء من المجرَّة.»
وكزَت نيكول الدكتورة بلو. وقالت مبتسِمة: «هل يتحدَّث مهندسوكم في بعض الأحيان بهذه المصطلحات المتخصصة غير المفهومة بالألوان؟ فقد منحنا مضيِّفنا لتوه إجابةً بدون إجابة.»
أجابتها الأوكتوسبايدر: «إننا كجنس من الأجناس أكثرُ تواضعًا من جنسكم. وهذا على الأرجح يرجع إلى علاقتنا بالسلف. إننا لا نطالب بضرورة فهْم كل شيء.»
شعرت نيكول فجأةً بأن جُلَّ اهتمامها كان متمحورًا حول ذاتها، فقالت للدكتورة بلو في أسلوبٍ اعتذاري: «لقد تحدَّثنا قليلًا جدًّا عن جنسكم منذ أن استيقظت، مع أني أتذكَّر أنك أخبرتني أن قائدتكم المثلى السابقة ومجلسها وجميعَ مَن شارك في شن الحرب قد أُنهيت حياتهم بأسلوبٍ منظَّم. فهل القيادة الجديدة تعمل بصورةٍ جيدة؟»
أجابتها الدكتورة بلو: «تقريبًا، بالنظر إلى صعوبةِ ظروفنا المعيشية. فجيمي يعمل في الدرجة الثانية من مجلس القيادة الجديد، ومشغول جدًّا في نهار يومه. ونحن لم نستطِع الوصولَ إلى أي نوع من التوازن في مستوطنتنا نظرًا لوجود احتكاك دائم بالخارج.»
أضاف الرجل النسر: «يرجع سببُ أغلب هذا الاحتكاكِ إلى البشر على متن السفينة. إننا لم نناقش هذا الموضوع من قبلُ يا نيكول، ولكن ربما يكون الآن الوقت المناسب … لقد فوجئنا من فشلِ بني جنسك في التكيُّف مع العيش مع أجناسٍ مختلفة من الكائنات. قلةٌ قليلة منهم فقط يتقبَّلون فكرةَ أن الأجناس الأخرى قد تكون على المستوى نفسِه من الأهمية والمقدرة مثلهم.»
قالت نيكول: «لقد أخبرتك بهذا بعد أن تقابلنا مباشرةً قبل سنوات. وأوضحت لك أنه لعددٍ مختلف من الأسباب التاريخية والاجتماعية، هناك مجموعةٌ كبيرة من الطُّرق التي يستجيب بها البشر للأفكار والمفاهيم الجديدة.»
أجابها الرجل النسر: «أعلم أنك فعلتِ ذلك، ولكن تجربتنا معكِ ومع عائلتك ضلَّلتنا. فقبل إيقاظنا لجميع الناجين توصَّلنا إلى نتيجة مبدئية مُفادها أن ما حدَث في عدن الجديدة، عندما استحوذ العدوانيون والعسكريون من البشر على السلطة، حالةٌ شاذة يفسرها التركيب السكاني الخاص لسكان المستعمَرة. والآن بعد أن راقبنا التفاعلَ في الفندق الكبير مدة عام توصَّلنا إلى أن لدينا بالفعل مجموعةً من البشر تنطبق عليها كافة الصفات البشرية النموذجية في راما.»
قالت نيكول: «هذا يبدو وكأنه تمهيدٌ لأخبارٍ غير طيبة. هل هناك أشياءُ أخرى أحتاج إلى معرفتها قبل أن أصل؟»
قال الرجل النسر: «لا. نحن نسيطر على الموقف الآن. وأنا واثقٌ من أن زملاءك سيطلعونك على أهمِّ التفاصيل عن تجاربهم … فضلًا عن أن الوضع الحالي مؤقَّت فقط، وهذه المرحلة على وشْك الانتهاء.»
قالت الدكتورة بلو: «في البداية كان جميع الناجين من راما متناثرين في كل مكان من مركبةِ نجمة البحر. وفي كل مكان يوجد بعضُ البشر وبعض كائنات الأوكتوسبايدر وعدد قليل من الكائنات الخدمية التي سُمح بإبقائها على قيد الحياة نظرًا للدور الحيوي الذي تلعبه في نظامنا الاجتماعي. ولكن تغيَّر هذا كلُّه بعد بضعة أشهر؛ نظرًا لاستمرار الأعمال العدائية والعدوانية من جانب البشر في المقام الأول … والآن فإن أماكن العيش لكل جنس قاصرةٌ على منطقة واحدة.
قالت نيكول: «الفصل العنصري! إنه أحدُ الخصائص المميزة لنوعي.»
قال الرجل النسر: «يحدُث التفاعل بين أنواع الكائنات المختلفة الآن في المطعم وفي الأماكن العامة الأخرى في منتصف سفينة نجمة البحر فقط. وعلى أي حال أكثرُ من نصف البشر لا يتركون المكانَ المخصَّص لهم إلا لتناول الطعام، ويتجنَّبون تمامًا الاختلاطَ بالأجناس الأخرى حتى في ذلك الوقت … من وجهة نظرنا، فإن البشر يرهبون الغرباء ويكرهون التعاملَ معهم بصورة مذهلة. ولا يوجد كثيرٌ من الأمثلة في قاعدة البيانات لدينا لكائناتٍ مسافرة عبْر الفضاء متخلفة اجتماعيًّا مثل نوعكم.»
انحرف المكُّوك إلى مسارٍ جديد، ومرة أخرى احتل شكلٌ جديد رباعي الأسطح مجالَ الرؤية أمامهم. لقد اقتربوا كثيرًا. كان يمكن تمييزُ مصادرِ ضوءٍ متفرِّقة عديدة داخل الكرات وفي خطوط التنقُّل الرفيعة الطويلة التي تربطها أيضًا. حدَّقت نيكول في المشهد الجميل أمامها وتنهَّدت بعمق. لقد أحبطها الحوار الذي دار بينها وبين الرجل النسر والدكتورة بلو. وفكَّرت في نفسها: «ربما كان ريتشارد محقًّا؛ ربما لا يمكن تغييرُ البشرية إلا إذا مُحيت ذاكرتها بالكامل، وبدأنا من جديد، في بيئةٍ جديدة، وإطار حياة مُحدث.»
•••
كان قلب نيكول يخفق بشدة والمكُّوك يقترب من نجمة البحر، ونصحت نفسَها بألا تقلق بشأن الأمور السخيفة، ولكنها مع ذلك شعرت بعدم الاطمئنان إزاء مظهرها. نظرت إلى المرآة وهي تضع بعضَ اللمسات لتحسين مساحيق التجميل التي تضعها. ولم تستطِع التخفيف من حدةِ قلقها. وحدَّثت نفسها: «إنني عجوز. سيراني الأطفال قبيحة.»
لم تكن سفينة نجمة البحر كبيرة في الحجم مثلما كانت راما. فكان من السهل على نيكول أن تفهم سببَ ازدحامها من الداخل. شرح لها الرجل النسر أن التدخُّل كان خطةً طارئة وأن راما قد وصلت إلى النود، نتيجةً لذلك، قبل عدة سنوات عمَّا كان مخططًا لها مسبقًا. وهذه النجمة بعينها أُعيد بناؤها لتكون فندقًا مؤقتًا لاستضافةِ ساكني راما إلى حين يمكن نقلُهم إلى مكانٍ آخر، وهي مركبة فضائية مهجورة أفلتت بطريقةٍ أو بأخرى من عملية إعادة التدوير.
قال الرجل النسر: «وقد أصدرنا أوامرَ صارمةً أن يكون دخولك سلسًا قدْر الإمكان. فإننا لا نريد إرهاقَ جسدك أكثرَ من اللازم. وقد أعدَّ المكعب الكبير وجيشه الأروقةَ والمناطق العامة التي تقود من محطة إقلاع المكُّوك وهبوطه إلى غرفتك.»
سألت نيكول الرجل النسر: «إذن فإنك لن تذهب معي؟»
أجابها: «كلَّا. لديَّ عملٌ أقوم به في النود.»
قالت الدكتورة بلو: «سأصطحبك عبْر سطح المراقبة حتى مدخل جناح إقامة البشر فقط. بعدها ستواصلين وحدَك. ولحسن الحظ فإن غرفتك ليست بعيدة عن مدخل الجناح.»
ظلَّ الرجل النسر في المكُّوك بينما هبطت نيكول والدكتورة بلو منه. وقد لوَّح لهما الرجل الفضائي الطائر مودِّعًا وهما تدخلان إلى غرفة معادلة الضغط. وعندما انتقلتا بعد بضع دقائق إلى غرفة ملابس كبيرة على الجانب الآخر من الحجرة استقبل نيكول والدكتورة بلو كائنٌ آلي يُطلق عليه المكعَّب الكبير وألقى عليهما التحية.
قال الكائن الآلي العملاق: «مرحبًا يا نيكول دي جاردان ويكفيلد. إننا سعداء بوصولك المرتقب … من فضلك ارتدي سترة الفضاء الخاصة بك الموجودة على المقعد إلى يمينك.»
كان طول المكعَّب الكبير أقلَّ من ثلاثة أمتار قليلًا، وعرضه نحو مترين ويتكوَّن من كتلٍ مستطيلة مشابِهة لتلك التي يلعب بها أطفال البشر، ويشبه تمامًا الآلي الذي أشرف على اختبارات الهندسة الوراثية التي خضعَت لها نيكول وعائلتها في النود بالقرب من كوكب الشَّعرى قبل سنوات، قبل أن يعودوا إلى النظام الشمسي. كان الروبوت أطولَ من نيكول والأوكتوسبايدر الذي كان يصغُره حجمًا بكثير.
قال المكعب الكبير بصوته الآلي: «مع أني واثقٌ من أنكما لن تسبِّبا أي مشكلات، فإنني أريد أن أذكِّركما بأن جميع الأوامر التي أصدرها أنا أو أيٌّ من الكائنات الآلية المشابِهة الأصغر حجمًا يجب أن تنفِّذاها دون تردُّد. هدفنا هو الحفاظ على النظام في هذه المركبة … والآن اتبعاني من فضلكما.»
استدار المكعب الكبير مرتكزًا على المفاصل في منتصف جسده، وتقدَّم إلى الأمام على قدمه الأسطوانية الوحيدة. وقال الآلي: «يطلَق على هذه الغرفة الكبيرة سطح المراقبة. وهي عادةً أكثرُ الغرف العامة ازدحامًا. وقد أخليناها مؤقتًا الليلةَ كي نسهِّل عليك الوصول إلى الجناح الذي ستسكنينه.»
توقَّفت نيكول والدكتورة بلو دقيقةً أمام النافذة الضخمة التي تُطِلُّ على النود. كان المشهد رائعًا بالفعل، ولكن لم تستطِع نيكول التركيزَ على جمال معمار الكائنات الفضائية ونظامها المهيب. فقد كانت متلهِّفة لرؤية عائلتها وأصدقائها.
ظلَّ المكعب الكبير على سطح المراقبة في حين سارت نيكول ورفيقتها الأوكتوسبايدر عبْر الرواق الواسع الذي يحيط بالمركبة الفضائية. وقد شرحت الدكتورة بلو لنيكول كيفيةَ تحديد الأماكن التي تتوقَّف فيها عربات الترام. وأخبرت الأوكتوسبايدر نيكول أيضًا أن البشر يعيشون في الجناح الثالث، إذا تحرَّكت في أيٍّ من الاتجاهين من محطة المكُّوك، وتعيش كائنات الأوكتوسبايدر في الجناحين إلى جوارِ المحطة مباشرةً في اتجاه عقارب الساعة. وقالت الدكتورة بلو بألوانها: «والجناحان الخامس والسادس مصمَّمان بصورة مختلفة. فجميع الكائنات الأخرى تعيش هناك، بالإضافة إلى البشر وكائنات الأوكتوسبايدر التي وُضعت تحت الحراسة.»
سألتها نيكول: «إذن هل جاليليو في سجنٍ من نوعٍ ما؟»
أجابتها الدكتورة بلو: «ليس بالضبط. كلُّ ما في الأمر أن هناك مزيدًا من روبوتات المكعبات الأصغر حجمًا في ذلك الجزء من سفينة نجمة البحر.»
خرجتا الاثنتان من الترام معًا بعد أن قطعتا مسافةً تبلغ نصف المسافة حول سفينة نجمة البحر. وعندما وصلتا إلى مدخل جناح البشر رفعت الدكتورة بلو جهاز الفحص أمام نيكول وقرأت النتائجَ التي ظهرت بألوانٍ على الشاشة. وبالاعتماد على البيانات المبدئية التي رأتها استخدمت الأوكتوسبايدر الأهداب الموجودة أسفل إحدى لوامسها لطلبِ مزيدٍ من المعلومات.
فسألتها نيكول: «هل هناك خطْبٌ ما؟»
قالت الدكتورة بلو: «لقد ازدادت خفقات قلبك عدة مرات في الساعة الأخيرة. لقد أردتُ فقط فحصَ مدى عدم الانتظام في الخفقان وعدد مرات حدوثه.»
قالت نيكول: «أنا منفعلة بشدة. ومن الطبيعي في البشر أن يسبِّب الانفعال …»
قالت الدكتورة بلو: «أعلم، ولكن الرجل النسر طلب مني أن أكون حريصةً للغاية.» توقَّفت الألوان عن التدفُّق حول رأس الأوكتوسبايدر عدة ثوانٍ بينما كانت تدرُس البيانات على الشاشة. ثم قالت في النهاية: «أظن أن الأمور بخير، ولكن إذا شعرتِ بأقلِّ ألمٍ في الصدر أو ضيق مفاجئ في التنفس، لا تترددي في الضغط على زر الطوارئ في غرفتك.»
عانقت نيكول الدكتورة بلو. وقالت: «شكرًا جزيلًا لك. لقد كنتِ رائعة معي.»
قالت الدكتورة بلو: «كان هذا من دواعي سروري. وأتمنى أن يسير كل شيء على ما يرام … غرفتك هي الحادية والأربعون في ذلك الرواق، أعتقد الباب العشرين إلى اليسار. والترام يتوقف كلَّ خمس غرف.»
تنفَّست نيكول نفسًا عميقًا واستدارت. وجدت الترام الأصغر ينتظرها. فجرَّت هي قدمَيها إليه واستقلته بعد أن لوَّحت مودِّعة للدكتورة بلو. وبعد دقيقة أو اثنتين كانت نيكول تقف أمام بابٍ مثل كافة الأبواب مرقوم بواحد وأربعين.
طرقَت نيكول الباب. فُفتح على الفور واستقبلتها خمسة وجوه باسمة. قال ماكس بابتسامة عريضة تزيِّن وجهه وهو فاتح ذراعيه: «مرحبًا بك في الفندق الكبير. تعالي إلى هنا وعانقي فتى المزرعة من آركنسو.»
شعرت نيكول بيدٍ تمسك بيدها بمجرد أن دلفت إلى الغرفة. كانت إيلي التي قالت: «مرحبًا يا أمي.» استدارت نيكول ونظرت إلى ابنتها الصغرى. كان شعر إيلي تحوَّل إلى اللون الرمادي عند صدغيها، ولكنَّ عينيها نقيتان ومتلألئتان مثلما كانتا دائمًا.
فقالت نيكول ودموعها تنفجر من عينيها: «مرحبًا يا إيلي.» ولم تكن تلك آخرَ دموع تذرفها نيكول أثناء احتفالهم بلمِّ الشمل ساعاتٍ عديدة. .
٣
كانت الحجرة التي أقامت فيها مجموعة البشر المربعة الشكل يبلغ طول كل جانب من جوانبها سبعة أمتار تقريبًا. بمحاذاة الجدار الخلفي كان يوجد حمَّام مغلق، به حوض استحمام ودش ومرحاض. وإلى جوار الحمَّام خزانة كبيرة مفتوحة تحتوي على جميع ملابسهم وأغراضهم الأخرى. في وقت النوم تُخرَج فُرش النوم من الخزانة وتُوضع على الأرض، ثم تُطوى كلَّ يوم وتُوضع في الخزانة.
في الليلة الأولى نامت نيكول بين إيلي ونيكي، بينما نام ماكس وإيبونين وماريوس في الجانب الآخر من الغرفة بجوار المنضدة والمقاعد الستة التي لم يحوِ جناحهم السكني أيَّ أثاث سواها. كانت نيكول منهكة القوى تمامًا لدرجة أنها غطَّت في سُبات عميق حتى قبل أن تُطفأ الأنوار ويستعد الجميع للنوم. وبعد أن نامت خمس ساعات تقريبًا استيقظت فجأة، وللحظةٍ لم تعرف أين هي بالضبط.
وبينما كانت ترقد في الظلام والصمت من حولها فكَّرت في أحداث الليلة السابقة. ففي أثناء احتفالهم بلمِّ الشمل اجتاحت نيكول مشاعرُ قوية للغاية حتى إنها لم تجد وقتًا لإدراك ردودِ أفعالها تجاه ما كانت تراه وتسمعه. فبعد أن دلفَت نيكول إلى الغرفة مباشرةً ذهبت نيكي إلى الغرفة المجاورة لتنادي الآخرين. وفي الساعتين التاليتين كان في الغرفة المزدحمة أحد عشر شخصًا، يتحدَّث ثلاثة أو أربعة منهم على الأقل طوال الوقت. ودار حوارٌ قصير بين نيكول وكل شخص على حدةٍ خلال الساعتين، وكان من المستحيل لها أن تناقش أي شيء بالتفصيل.
كان الشباب الأربعة، كيبلر وماريوس ونيكي وماريا، خجولين. شكرت ماريا التي تباينت زرقةُ عينيها بشدة مع بشرتها النحاسية وشعرها الأسود الطويل نيكول بشدة لأنها أنقذتها. واعترفت بأسلوبٍ مهذَّب بأنها لا تحمل أيَّ ذكريات من أي نوع عن الفترة التي قضتها من حياتها قبل أن تخلُد إلى النوم. أما نيكي فكانت قلِقة وخجلى في حديثها المنفرد مع جَدتها. وظنَّت نيكول أنها رأت قدْرًا من الخوف في عيني نيكي، إلا أن إيلي أخبرتها فيما بعد أن ما رأته كان على الأرجح رهبة؛ فقد سمِعت نيكي قصصًا كثيرة عن نيكول فشعرت أنها تقابل أسطورة.
أما الشابان فكانا مهذَّبين ولكنهما متحفِّظان. وقد رأت نيكول في وقتٍ من ذلك المساء كيبلر يحدِّق فيها عبْر الغرفة بحدة شديدة. فذكَّرت نيكول نفسَها أنها أول امرأة عجوز يراها الأولاد. وفكَّرت في نفسها: «يواجه الشباب على وجهِ الخصوص صعوبةً مع النساء العجائز الضامرات. فهذا يحطِّم الصور الجميلة التي رسموها في أذهانهم عن الجنس الآخر.»
أما بينجي فقد رحَّب بوالدته بعِناق قوي. فقد رفعها من فوق الأرض بذراعيه القويتين وهو يصرخ بسعادة: «أمي! أمي!» وأخذ يدور بها ورأسُها مرتفع فوق رأسه. كان بينجي يبدو بخير وقد تفاجأت نيكول عندما رأت أن شَعره قد انحسر عن مقدَّم رأسه وأنه أصبح يشبه الأعمام. ولكنها قالت لنفسها في وقتٍ لاحق إن مظهر بينجي ليس مفاجئًا لهذا الحد؛ فهو في الأربعين من عمره تقريبًا.
وكان استقبال باتريك وناي لها شديدَ الدفء. وبدت إيلي متعَبة، ولكنها قالت إن يومها كان مشحونًا. وشرحت إيلي لنيكول أنها أخذت على عاتقها مهمةَ الحثِّ على إقامة أنشطة اجتماعية بين الأجناس المختلفة من الكائنات في الفندق الكبير. وقالت: «هذا أقلُّ ما يمكنني فِعله لأنني الوحيدة التي أتحدَّث لغة كائنات الأوكتوسبايدر … وأتمنَّى أن تساعديني عندما تستعيدين قواك.»
تحدَّث باتريك بهدوء إلى نيكول عن قلقه على ناي. فقال: «موضوع جاليليو هذا يفطر قلبَها يا أمي. إنها تستشيط غضبًا لأن المكعبات الآلية، كما نُطلِق عليهم، نقلوا جاليليو من أجنحة الإقامة العادية دون تفسير ودون أي شيء يجعلنا نرى أن ما حدَث «إجراء قانوني». وهي غاضبة أيضًا لأنه لا يُسمح لها بقضاء أكثر من ساعتين معه في اليوم … وأنا واثق من أنها ستطلب منك المساعدة.»
لقد تغيَّرت ناي. اختفى من عينيها التألق والهوادة، وكانت سلبية على غير طبيعتها، حتى في أول تعليق لها لنيكول. فقد قالت: «إننا نعيش في أسوأ نوع من أنواع الدول البوليسية هنا يا نيكول. أسوأ كثيرًا من وضْعنا في ظل حُكم ناكامورا. وبعد أن تستقري لديَّ كثير من الأمور لأطلعك عليها.»
أما ماكس باكيت وزوجته الفرنسية الحبيبة، إيبونين، فقد تقدَّما في العمر، مثل الآخرين، ولكن كان واضحًا أن حُب أحدهما للآخر ولابنهما ماريوس أعانهما على الحياة يومًا بيوم. وعندما سألت نيكول إيبونين عما إذا كانت ظروف المعيشة في الغرفة المزدحمة تضايقها، هزَّت الأخيرة كتفيها نافية. وأجابت: «لا. لا تنسي أنني قضيت طفولتي في دار أيتام في ليموج … بالإضافة إلى أنني سعيدة لمجرد أني على قيد الحياة وأن ماكس وماريوس إلى جواري. فلسنوات ظننتُ أنني لن أعيش حتى أرى الشيبَ يَخِطُ شَعري.»
أما ماكس فقد ظل على طبعه العنيد الذي لا يستطيع كبْحَه. وقد أصبح شَعره هو الآخر أبيض، وفقد قليلًا من رشاقة مِشيته. ولكن أدركت نيكول من عينيه أنه يستمتع بحياته. وفي ذلك المساء قال ماكس لنيكول: «هناك شخصٌ أقابله دائمًا في قاعة التدخين، إنه معجب جدًّا بقصتك … وقد نجا بطريقة أو بأخرى من الوباء، مع أن زوجته لم تنجُ …» ثم ابتسم وقال: «على أي حال، أظن أني سأحرص على أن أرتِّب لكما لقاءً عندما يتاح لك وقت فراغ … إنه أصغر منك قليلًا ولكني لا أظن أن هذه مشكلة …»
سألت نيكول ماكس عن المشكلات بين البشر وكائنات الأوكتوسبايدر. فقال: «كما تعرفين، لقد نشبت الحرب قبل خمسة عشر أو ستة عشر عامًا، ولكن لا يوجد لدى أيٍّ من البشر أيُّ ذكريات عن الفترة الفاصلة تهدِّئ من غضبه. فكلُّ شخص هنا فقدَ شخصًا ما؛ صديقًا أو قريبًا أو جارًا، في ذلك الوباء الفظيع. وهم لا يستطيعون أن ينسوا سريعًا أن كائنات الأوكتوسبايدر هي السبب في ذلك الوباء.»
قالت نيكول: «ولكن كان ذلك ردًّا على عدوان جيش البشر.»
«ولكن معظم البشر هنا لا يرون الأمر هكذا. ربما يصدِّقون الدعايةَ التي أخبرهم بها ناكامورا وليس تاريخ وقائع الحرب «الفعلية» الذي عرضه صديقك الرجل النسر بعد أن نُقلنا إلى هنا بفترة وجيزة … والحقيقة هي أن معظم البشر يكرهون كائنات الأوكتوسبايدر ويخافون منها. ولم يقُم سوى عشرين بالمائة فقط من البشر بمحاولاتٍ للاختلاط اجتماعيًّا معهم، أو تعلُّم أي شيء عن كائنات الأوكتوسبايدر، على الرغم من جهود إيلي الشجاعة. ومعظم البشر يمكثون في الجناح المخصَّص لنا … ولسوء الحظ فإن أجنحةَ المعيشة المزدحمة هنا لا تساعد على التخفيف من حدةِ هذه المشكلة.»
تقلَّبت نيكول في فِراشها. كانت إيلي نائمةً بمواجهتها. كانت عينا إيلي تختلجان وهي نائمة، ففكَّرت نيكول: «إنها تحلُم. أتمنى ألا تكون تحلُم بروبرت.» وفكَّرت مرة أخرى في لمِّ الشمل مع عائلتها وأصدقائها. قالت في نفسها: «أظن أن الرجل النسر كان يعرف ما يفعله عندما أبقاني على قيدِ الحياة. حتى إذا لم يكن لديه مهمةٌ محدَّدة لي لأقُم بها … فما دُمت قادرة ولست عبئًا عليهم، يمكنني أن أساعدهم هنا.»
•••
قال ماكس لنيكول: «ستكون هذه هي أول تجربة كبرى لك في الفندق الكبير. في كل مرة أذهب إلى المطعم في أثناء الساعات المفتوحة أتذكَّر يوم الاحتفال بعيد النِّعم في مدينة الزمرد … ستنبهرين بتلك الكائنات الغريبة التي أحضرَتها كائنات الأوكتوسبايدر معها، ولكني أكون أكثرَ ارتياحًا عندما لا تكون موجودة.»
فسأل ماريوس والده: «ألا يمكننا الانتظارُ حتى يحين وقتُنا يا أبي؟ فكائنات الإجوانا تخيف نيكي. إنها تحدِّق فينا بعيونها الصفراء وتصدِر صوتَ قرقرة كريهًا وهي تأكل.»
قال ماكس: «يا بني، يمكنك الانتظار أنت ونيكي مع الآخرين حتى يحين وقتُ غدائنا المنفصِل إذا أردت. نيكول تودُّ تناوُل الطعام مع جميع النزلاء. فهذه مسألة مبدأ لها … وسأصحبها أنا ووالدتك للتأكد من أنها تعلم النظام المتَّبع بالمطعم.»
قالت نيكول: «لا تقلق عليَّ. أنا واثقة من أن إيلي أو باتريك …»
فقاطعها ماكس: «لا تقولي ذلك! سنسعد أنا وإيبونين بصحبتك … إلى جانب أن باتريك ذهب مع ناي لزيارة جاليليو، وإيلي بالأعلى في غرفة الاستجمام، وبينجي يقرأ مع كيبلر وماريا.»
قالت نيكول: «إنني أقدِّر تفهُّمك يا ماكس. إنه لأمرٌ مهم لي أن يكون أولُ انطباع أتركه جيدًا، ولا سيما في البداية … لمْ يخبرني الرجلُ النسر ولا الدكتورة بلو كثيرًا من التفاصيل عن المشكلة …»
فأجابها ماكس: «لا حاجةَ لك أن تشرحي. في الحقيقة بعد أن نِمْت الليلةَ الماضية أخبرتُ فرنسيتي أنني متأكد أنك تودِّين الاندماجَ مع الآخرين.» ثم ضحِك وقال: «لا تنسي أننا نعرفك جيدًا.»
بعد أن انضمَّت إيبونين إليهما خرجوا إلى الرواق. كان خاويًا تقريبًا. وكان عددٌ قليل من البشر يسيرون في الممر على يسارهم، مبتعدين عن مركز مركبة النجم، وهناك رجل وسيدة يقفان معًا عند مدخل الجناح المخصَّص لهم.
انتظر ثلاثتهم وصولَ الترام دقيقتين أو ثلاثة. وعندما اقتربوا من المحطة الأخيرة انحنى ماكس ناحية نيكول. وقال: «هذان الشخصان اللذان يقفان عند مدخل الجناح لا يمضيان وقتًا فحسب … إنهما ناشطان بارزان في المجلس … انتهازيان للغاية ويتشبثان برأيهما لأبعد مدًى.»
اتكأت نيكول على ذراع ماكس عندما عرض عليها ذلك وهم ينزلون من العربة. وهمست عندما بدأ الاثنان يتَّجهان إليهم: «ماذا يريدان؟»
فتمتم ماكس بسرعة: «لا أعلم، ولكننا سنكتشف سريعًا.»
قال الرجل: «يوم سعيد يا ماكس! مرحبًا يا إيبونين!» كان رجلًا بدينًا في بداية الأربعينيات من عمره. ونظر إلى نيكول ورسم على شفتيه ابتسامةً دبلوماسية عريضة. وقال وهو يمُدُّ يده لمصافحتها: «لا بد أنك نيكول ويكفيلد، لقد سمعنا جميعًا كثيرًا عنك … مرحبًا! … مرحبًا أنا ستيفن كوالسكي.»
وقالت السيدة وهي تتقدَّم إليها أيضًا وتمدُّ يدها باتجاهها: «وأنا رونيه دو بون.»
بعد تبادُل بعض عبارات المجاملة سأل السيد كوالسكي ماكس عمَّا يفعله ثلاثتهم. فأجابه ماكس ببساطة: «إننا نصطحب السيدة نيكول لتناول الغداء.»
قال الرجل بابتسامة كبيرة أخرى: «إننا لا نزال في وقت الغداء الجماعي.» ونظر إلى ساعته. ثم استأنف: «لمَ لا تنتظرون خمسًا وأربعين دقيقة أخرى وسأنضم إليكم أنا ورونيه؟ إننا عضوان في المجلس، كما تعلمون، ونود كثيرًا التحدُّث إلى السيدة نيكول عن أنشطتنا … وبالطبع سيودُّ المجلس الاستماعَ إليها في المستقبل القريب.»
قال ماكس: «شكرًا للعرض يا ستيفن. ولكننا جائعون. نريد أن نأكل الآن.»
قطَّب السيد كوالسكي ما بين حاجبيه. وقال: «لو كنت مكانك ما فعلتُ هذا يا ماكس. فهناك كثيرٌ من التوتر في هذا الوقت … فبعد تلك الحادثة بالأمس في حوض السباحة صوَّت المجلس بالإجماع على مقاطعةِ جميع الأنشطة الجماعية لليومين القادمين … فقد استشاطت إيميلي غضبًا لأن المكعب الكبير أخضع جارلاند للمراقبة ولم يتَّخذ أيَّ إجراء تأديبي من أي نوع ضد الأوكتوسبايدر المعتدي … وهذه هي المرة الرابعة على التوالي التي تحكُم فيها المكعبات الآلية ضدنا.»
قال ماكس: «بربك يا ستيفن! لقد سمعت القصة على العشاء ليلة أمس … لقد ظل جارلاند في حمَّام السباحة بعد خمس عشرة دقيقة من انتهاء الوقت المخصَّص للبشر … وهو الذي اعتدى على الأوكتوسبايدر أولًا.»
قالت رونيه دو بون: «إنه استفزاز متعمَّد. فلم يكن هناك سوى ثلاثة كائنات أوكتوسبايدر في حمَّام السباحة … ولم يكن هناك سببٌ لوجود أحدهم في الحارة التي كان جارلاند يسبح فيها قاطعًا الحوضَ من بدايته إلى نهايته.»
قال ستيفن: «بالإضافة إلى هذا، وكما ناقشنا في المجلس الليلةَ السابقة، فإن تفاصيلَ هذه الحادثة بالتحديد ليست هي اهتمامنا الرئيسي. فمن الضروري أن نبعث برسالة لكلٍّ من المكعَّبات الآلية وكائنات الأوكتوسبايدر ليعلموا من خلالها أننا متَّحِدون فيما بيننا … وسيعقد المجلس جلسةً خاصة مرةً أخرى الليلة لوضع قائمة بمظالمنا …»
بدأ ماكس يغضب. قال بفظاظة: «شكرًا لك لإطلاعنا يا ستيفن. والآن هل تسمح بالابتعاد عن طريقنا؛ فنحن نودُّ أن نذهب لتناول الغداء.»
قال السيد كوالسكي: «إنكم ترتكبون خطأ. فستكونون البشر الوحيدين في المطعم … ونحن بالطبع سنقدِّم تقريرًا بشأن ما دار بيننا من حوار في اجتماع المجلس الليلة.»
قال ماكس: «امضِ فيما تريد.»
سار ماكس وإيبونين ونيكول إلى الرواق الرئيسي الذي يشكِّل حلقة حول مركز سفينة نجمة البحر. فسألت نيكول: «ما ذاك المجلس؟»
أجابها ماكس: «مجموعة، يمكن القول إنها عيَّنت نفسَها بنفسها تدَّعي أنها تمثِّل جميعَ البشر. في البداية كانوا مصدَر إزعاج فقط ولكن في الشهور القليلة الأخيرة بدءوا يكتسبون قدْرًا من النفوذ … حتى إنهم جنَّدوا المسكينةَ ناي إلى صفوفهم عندما عرضوا عليها أن يساعدوها في حل مشكلة جاليليو.»
توقَّف الترام الكبير على بُعد عشرين مترًا إلى يمينهم وترجَّل عنه اثنان من الإجوانا؟ فسار إليهما اثنان من المكعبات الآلية، كانا يقفان دون أن يلحظهما أحدٌ على الجانب بعيدًا عنهم، إلى الممر بين البشر والحيوانين الغريبين ذَوَي الأسنان المخيفة. وعندما رجع حيوانا الإجوانا بالقرب منهم وهما يسيران إلى جانب الحائط، تذكَّرت نيكول الهجومَ على نيكي يوم الاحتفال بعيد النعم.
فسألت نيكول ماكس: «لماذا توجد هذه الكائنات هنا؟ أظن أنها تتسبَّب في مشكلات جمة …»
«لقد شرح المكعَّب الكبير والرجل النسر في موقفين مختلفين لجميع البشر أن الإجوانا ضروريةٌ لعملية إنتاج نبات الباريكان، الذي ينهار من غيره مجتمع كائنات الأوكتوسبايدر … لم أتابع جميعَ تفاصيل التفسير المستنَد لعلم الأحياء، ولكني أتذكَّر أن بيض الإجوانا الطازج حلقة مهمة في العملية … وقد شدَّد الرجل النسر مرارًا وتكرارًا على أن الحد الأدنى فقط من حيوانات الإجوانا هو الموجود في الفندق الكبير.»
كان ثلاثتهم بالقُرب من مدخل المطعم، فسألت نيكول: «هل سبَّبت حيوانات الإجوانا مشكلاتٍ كثيرة؟»
قال ماكس: «لا. إنها من الممكن أن تكون خطيرة، كما تعلمين، ولكن إذا نظرتِ سريعًا إلى هذا الهراء كله الذي طرحه المجلس، فستستنتجين أنه لم يكن هناك سوى بضع حوادث فقط بدأت فيها الإجوانا بالهجوم دون أن يستفزَّها أحد … وقد بدأ البشر معظم المشاجرات … وقد قتلَ ابننا جاليليو اثنين منهما في إحدى الليالي في المطعم في إحدى نوباته العنيفة.»
لاحظ ماكس ردَّ فعل نيكول القوي لتعليقه الأخير. فقال وهو يهزُّ رأسه في أسف: «لا أريد أن أكون أنا مَن أفصح عن الأسرار، ولكن موضوع جاليليو هذا مزَّق عائلتنا الصغيرة … وقد وعدت إيبونين أن أدَعكِ تتحدثين إلى ناي أولًا بهذا الشأن.»
كانت المكعبات الآلية الأصغرُ حجمًا قد بُنيت على النمط نفسِه الذي صُمِّم عليه المكعب الكبير. وكان اثنا عشر منهم يقدِّمون الطعام في المطعم، وستة أو ثمانية آخرون يقفون حول منطقة الطعام. وعندما دلفت نيكول وأصدقاؤها كان بالمطعم أربعمائة أو خمسمائة من كائنات الأوكتوسبايدر، بالإضافة إلى مخزنين ضخمين وثمانين تقريبًا من الأقزام يأكلون على الأرض في الزاوية. وقد استدار كثيرون منهم لرؤية ماكس وإيبونين ونيكول يمرون بين الصفوف. وتوقَّف اثنا عشر من كائنات الإجوانا عن تناول الطعام كانوا يجلسون في مكانٍ ليس ببعيد عن صفِّ تقديم الطعام ونظروا إلى البشر بحذر.
فوجئت نيكول لرؤية أصناف الطعام الكثيرة المتاحة. اختارت صِنفًا من السَّمك والبطاطس، بالإضافة إلى بعض ثمار فواكه الأوكتوسبايدر وبعض من عسلهم الذي يشبه طعمُه طعمَ البرتقال لتضعه على خبزها.
وسألت ماكس وهم يجلسون إلى مائدةٍ طويلة لا يجلس إليها أحدٌ غيرهم: «من أين يأتي هذا الطعام الطازج كله؟»
أشار ماكس إلى الأعلى. وقال: «هناك طابَق ثانٍ في سفينة نجمة البحر، وطعام الجميع يُزرع بالأعلى … إننا نأكل جيدًا، مع أن المجلس قد اشتكى من عدم توافر اللحوم.»
قضمَت نيكول قطعتين من طعامها. فقال ماكس بهدوء وهو ينحني على المائدة: «أظن أنه يجب أن أخبرك أن اثنين من كائنات الأوكتوسبايدر يتجهان إليك.»
استدارت نيكول. ووجدت أن كائنَي أوكتوسبايدر يقتربان منها بالفعل. ولمحت أيضًا بطرَف عينها المكعب الكبير يتقدَّم مسرعًا باتجاه مائدتهم. قال الأوكتوسبايدر الأول بالألوان: «مرحبًا يا نيكول! لقد كنتُ أحدَ مساعدي الدكتورة بلو في مستشفى مدينة الزمرد … وأردتُ فقط أن أرحِّب بك وأشكرك مرة أخرى على مساعَدتنا …»
بحثت نيكول دون جدوى عن علامةٍ مميزة في الأوكتوسبايدر. ثم قالت في نبرة ودودة: «أنا آسفة أنا لا أستطيع تذكُّرك بالضبط …»
فقال الأوكتوسبايدر: «لقد أطلقت عليَّ اسم ميلكي (الأبيض) لأنني في ذلك الوقت كنت أتعافى من عملية في عدستي وكنت أعاني زيادةً في إفراز السائل الأبيض …»
قالت نيكول بابتسامة: «آه! أجل. أتذكَّرك الآن يا ميلكي … ألم يدُر بيننا نقاشٌ طويل على الغداء في أحد الأيام عن التقدُّم في العمر؟ وكما أتذكَّر كان يصعُب عليك تصديقُ أننا البشر نظل على قيد الحياة سواء كنا مفيدين أو لا، حتى نموت بأسباب طبيعية.»
أجاب ميلكي: «هذا صحيح. حسنًا إنني لا أريد أن أزعجَك وقتَ تناول غدائك، ولكن صديقي أراد أن يقابلك بشدة.»
قال مرافق ميلكي: «وأشكرك أيضًا لأنك كنتِ عادلة في كل شيء … وتقول الدكتورة بلو إنك كنتِ قدوة لنا جميعًا …»
بدأت كائنات أوكتوسبايدر أخرى تنهض من حيث كانت تجلس في المطعم وتصطفُّ خلف الاثنين الأوَّلين. وبدت الألوان التي تعني: «شكرًا لك» متدفِّقة حول رءوس معظمهم. وقد أثَّر هذا الموقف في نيكول كثيرًا. ووقفت، بناءً على اقتراح ماكس، وتحدَّثت إلى طابور كائنات الأوكتوسبايدر. قالت: «شكرًا لكم جميعًا على هذا الترحيب الحار. إنني أقدِّر هذا حقًّا … وأتمنى أن تُتاح لي فرصةٌ كي أقضيَ وقتًا مع كلٍّ منكم في أثناء إقامتنا هنا معًا.»
اتَّجهت عينا نيكول إلى يمين طابور كائنات الأوكتوسبايدر لترى ابنتها إيلي ومعها نيكي تقف إلى جوارها. قالت إيلي وهي تتقدَّم وتطبع قُبلة على وجنةِ أمها: «لقد أتيتُ فور أن تمكَّنت.» ثم أضافت بابتسامة صغيرة: «كان يجب أن أعرف …» واحتضنت نيكول بقوة وقالت: «إنني أحبك يا أمي. واشتقت إليك كثيرًا.»
•••
قالت ناي: «لقد شرحتُ للمجلس أنكِ وصلت للتو ولا تدركين تمامًا أهميةَ المقاطعة. وأعتقد أنهم مقتنِعون.»
فتحت ناي البابَ وتبِعتها نيكول إلى منطقة غسل الملابس. وقد بنَت الكائنات الفضائية — التي أعدَّت الفندق الكبير على عجالة — غرفةَ التنظيف المجانية في مكانٍ ليس بالبعيد عن المطعم بالاعتماد على الغسالات والمجففات التي رأوها في عدن الجديدة كأساس لها. كانت هناك سيدتان أخريان في الغرفة الكبيرة. فتعمَّدت ناي استخدامَ المغسلة الموجودة في الجانب البعيد حتى تستطيع التحدُّث إلى نيكول دون أن يسمعهما أحد.
قالت ناي وهي تبدأ في تصنيف الملابس: «لقد طلبت منك أن تأتي معي اليوم لأنني أردتُ التحدُّث إليك بخصوص جاليليو …» سكتت محاوِلةً أن تغالب مشاعرها. ثم استأنفت: «سامحيني يا نيكول! هذا الموضوع يثير انفعالي بشدة … لستُ متأكدة …»
فقالت نيكول برفق: «لا بأس يا ناي. إنني أفهم … تذكَّري أنني أمٌّ أيضًا.»
استكملت ناي: «إنني يائسة يا نيكول. وأحتاج إلى مساعدَتك … لم يؤثِّر فيَّ أيُّ شيء حدَث في حياتي ولا حتى مقتل كينجي مثلما أثَّر فيَّ هذا الموقف. إن قلقي على ابني يقتلني … حتى التأمُّل لا يُشعِرني بأي سكينة.»
قسَّمت ناي الملابس إلى ثلاثة أكوام. ووضعتها في ثلاث غسالات ثم عادت إلى جانب نيكول.
قالت: «حسنًا! سأكون أولَ مَن يعترف بأن سلوك جاليليو لم يكن مثاليًّا … فبعد فترة النوم الطويل، عندما نُقلنا إلى هنا كان بطيئًا جدًّا في الانخراط مع الآخرين … ولم يكن يشارك في الفصول التي أعددتها أنا وباتريك وإيلي وإيبونين للأطفال، وعندما فعل لم يكن يؤدي أيًّا من واجباته المنزلية … كان فظًّا وصعبَ التعامل وكريهًا في تعامله مع الجميع فيما عدا ماريا.
ولم يكن يتحدَّث معي قط عما يشعر به … والشيء الوحيد الذي كان يبدو أنه يستمتع به هو الذهاب إلى غرفة الاستجمام للقيام بتدريبات بناء العضلات. وبالمناسبة لقد أصبح فخورًا للغاية بقوَّته الجسمانية.»
توقَّفت ناي لحظة. ثم قالت بلهجة اعتذار: «إن جاليليو ليس إنسانًا سيئًا يا نيكول. كلُّ ما في الأمر أنه متخبِّط … لقد ذهب للنوم وعمره ست سنوات واستيقظ وعمره واحد وعشرون عامًا، بجسدِ شابٍّ ورغباته.»
سكتت ناي. واغرورقت عيناها بالدموع. ثم قالت بصعوبة: «كيف يُتوقَع منه أن يعرف كيف يتصرَّف؟» فمدَّت إليها نيكول ذراعيها، ولكن ناي لم تقترب منها. واستكملت: «لقد حاولت، ولكني لم أستطِع مساعدته. لا أدري ماذا أفعل … وأخشى أنَّ الأوان قد فات الآن.»
تذكَّرت نيكول ليالي الأرق التي سهرتها في عدن الجديدة عندما كانت تبكي من إحساسها بعدم قدرتها على مساعدة كيتي. فقالت برفق: «إنني أفهم ما تعانيه يا ناي. حقًّا أفهمه.»
قالت ناي بعد توقُّف قصير: «مرة واحدة، واحدة فقط، رأيتُ بسرعةٍ ما يكمُن أسفل ذلك القناع البارد الذي يرتديه جاليليو ويتفاخر به … كان ذلك في منتصف الليل بعد مشكلته مع ماريا، عندما عاد من جِلسته مع المكعب الكبير. كنا معًا في الممر، نحن الاثنين فقط، وكان ينتحب ويضرب الحائط … كان يصيح: «إنني لم أكن لأوذيها يا أمي، يجب أن تصدِّقيني. إنني أحب ماريا … ولكني لم أستطِع أن أوقف نفسي.»
سألت نيكول ناي بعد أن سكتت الأخيرة مرةً أخرى بضع ثوانٍ: «ماذا حدَث بين جاليليو وماريا؟ إنني لم أسمع القصة.»
قالت ناي مندهشة: «آه! كنت واثقةً من أن أحدهم قد أخبرك بهذا الأمر.» وتردَّدَت لحظة. ثم قالت: «قال ماكس حينها إن جاليليو حاول اغتصاب ماريا، وكان من الممكن أن ينجح لو لم يَعُد بينجي إلى الغرفة ويبعده عن الفتاة … وفيما بعدُ اعترف لي ماكس أنه ربما بالغ عندما استخدم كلمةَ اغتصاب، ولكنَّ تصرُّف جاليليو بلا شك كان خارجًا عن حدود الأدب …»
وقد أخبرني ابني أن ماريا قد شجَّعته، في البداية على الأقل، لدرجةِ أنهما سقطا على الأرض وهما يُقبِّلان أحدهما الآخر … وطبقًا لما قاله جاليليو لم ترفض ماريا ما فعله حتى بدأ ينزِع ملابسها الداخلية … وهنا بدأ الشجار …»
حاولت ناي تهدئةَ نفسها. ثم قالت: «أما باقي القصة، بصرفِ النظر عمن يقصه، فإنه ليس سارًّا … اعترف جاليليو بأنه ضرب ماريا عدة مرات بعد أن بدأت تصرخ وأنه ثبَّتها على الأرض وظل يحاول نزعَ ملابسها الداخلية … وكان قد أغلق الباب. لذا حطَّمه بينجي بكتفه وألقى بنفسه فوق جاليليو بكل قوَّته … ونظرًا للضوضاء وتحطُّم محتويات الغرفة جاء المكعب الكبير ومتفرجون كثيرون …»
انهمر فيضٌ آخر من الدموع من عينَي ناي. فقالت نيكول: «لا بد أن الأمر كان فظيعًا.»
قالت ناي: «في تلك الليلة تمزَّقت حياتي إربًا. أدان الجميع جاليليو. وعندما وضع المكعب الكبير جاليليو تحت المراقبة وعاد به إلى الجناح المخصَّص للعائلة، رأى كلٌّ من ماكس وباتريك، وحتى كيبلر شقيقه، أن العقاب مخفَّف للغاية. ومتى أشرت إلى أنه ربما، فقط مجرد احتمال، أن تكون ماريا الصغيرة الجميلة مسئولةً جزئيًّا عما حدث، يقول لي الجميع إنني «جائرة» و«لا أرى الحقائق» …»
وواصلت ناي كلامها بقسوةٍ لم تخفِها من صوتها: «لقد أدَّت ماريا دورها ببراعة. وقد اعترفت في وقتٍ لاحق أنها تبادلت القُبَل بإرادتها مع جاليليو — وقد فعلا مرتين قبل ذلك على حدِّ قولها — ولكنها أصرَّت على أنها بدأت ترفض قبل أن يجذبها إلى الأرض. وبعد الحادثة مباشرةً ظلت ماريا تبكي ساعةً. وبالكاد كان بإمكانها التحدُّث. فحاول جميعُ الرجال تهدئتها ومعهم باتريك. لقد كانوا جميعًا مقتنعين حتى قبل أن تقول أيَّ شيء أنه لا لوم على ماريا.»
دقَّ صوت أجراس خافت يعلن أن دورة الغسيل قد انتهت. فنهضت ناي ببطء وسارت إلى الغسالات ووضعت الملابس في مجفَّفين.
استأنفت ناي قائلة: «اتفقنا جميعًا على أن ماريا يجب أن تنتقل إلى الغرفة المجاورة مع ماكس وإيبونين وإيلي. وظننت أن الوقت سيشفي الجِراح. ولكني كنت مخطئة. أصبح جاليليو منبوذًا من الجميع في العائلة، فيما عداي. حتى كيبلر لم يكن يتحدَّث إلى شقيقه. كان باتريك لطيفًا معه ولكن بعيدًا عنه … فانسحب جاليليو أكثرَ وأكثر، وضرب حول نفسه عزلةً، وتوقَّف عن حضور الفصول تمامًا، وبدأ يقضي معظمَ ساعات يومه وحدَه في غرفةِ رفع الأثقال.»
قالت ناي والدموع تعود لتملأ عينيها: «ومنذ خمسة شهور تقريبًا اقتربت من ماريا ورجوتُها أن تساعد جاليليو. وقد كان ذلك مذلًّا يا نيكول؛ وأنا سيدة كبيرة أرجو فتاة مراهقة أن تسدي لي صنيعًا … في البداية طلبت من باتريك وإيبونين ثم إيلي تباعًا أن يتحدَّثوا إلى ماريا نيابةً عني. إيلي فقط بذلت جهدًا محاولةً التوسُّط، وقد أخبرتني بعد محاولتها أنه من الأفضل أن يكون الطلب مني مباشرة.»
قالت ناي بمرارة: «وافقت ماريا في النهاية على التحدُّث إلى جاليليو، ولكن بعد أن أرغمتني على الاستماع إلى خطبةٍ انفعالية عن كيف أنها لا تزال تشعر «بالانتهاك» جرَّاء هجوم جاليليو. واشترطت أنه يجب أن يسبق الاجتماعَ مع جاليليو اعتذارٌ صريح مكتوب، وأيضًا أن أحضُر أنا شخصيًّا ذلك اللقاء لمنع أي مضايقات لها.»
ثم هزَّت ناي رأسها في أسًى. وواصلت: «والآن أنا أسألك يا نيكول، كيف من الممكن أن تصبح فتاةٌ في السادسة عشرة من عمرها متمرِّسة إلى هذا الحد على الرغم من أنها استيقظت عامين فقط في حياتها كلِّها؟ هناك مَن يرشدها — وفي ظني أنهما ماكس وإيبونين — بما يجب أن تقومَ به. لقد أرادت ماريا أن تذلني وتجعل جاليليو يعاني أقصى قدْر ممكن من المعاناة، وقد نجحت في هذا بالفعل.»
قالت نيكول: «أعلم أن هذا يبدو احتمالًا بعيدًا، ولكني قابلت أشخاصًا يتمتَّعون بمواهبَ طبيعية لا تصدَّق، ويعرفون بحَدْسهم منذ عمر مبكر جدًّا كيف يتعاملون مع أي موقف. وقد تكون ماريا أحدَهم.»
تجاهلت ناي تعليقها. وقالت: «جرى اللقاء بصورةٍ جيدة جدًّا. وكان جاليليو متعاونًا. وقبِلت ماريا الاعتذار الذي كتبه لها، وفي الأسابيع القليلة التي تلت بدا أن ماريا تبذُل جهدًا غيرَ عادي كي تشرك جاليليو في أي شيء يقوم به الشباب … ولكنه كان لا يزال غريبًا في مجموعتهم، دخيلًا عليهم. وقد لاحظتُ ذلك. وأعتقد أنه هو أيضًا لاحظ ذلك.
ثم في يومٍ ما في المطعم، بينما كان الخمسة يجلسون معًا، وكنت والآخرون قد تناولنا طعامنا في وقتٍ سابق وعدنا إلى غرفنا، جلس اثنان من كائنات الإجوانا على الطرَف الآخر من مائدتهم. ووفقًا لما قاله كيبلر، كان كائنا الإجوانا مثيرَين للاشمئزاز على نحوٍ متعمَّد منهما. فقد خفضا رأسيهما في طبقيهما وأخذا يمتصان بصوتٍ عالٍ تلك الديدان الملتوية التي يحبانها كثيرًا، ثم حدَّقا في الفتاتين، ولا سيما ماريا بأعينهما الصفراء الدائرية. فقالت نيكي ما يفيد أنها لم تَعُد جائعة ووافقتها ماريا على ذلك.
وعندها نهض جاليليو من مقعده، وتقدَّم خطوتين تجاه كائني الإجوانا، وقال: «هيا! ابتعدا من هنا!» أو شيئًا من هذا القبيل. وعندما لم يتحرَّكا تقدَّم خطوةً أخرى باتجاههما. فقفز عليه أحدهما. أمسك جاليليو ذلك الذي قفز عليه من رقبته ونفضه بشدة. فمات جرَّاء كسرِ رقبته. فهاجم الإجوانا الثاني جاليليو مطبِقًا أسنانه القوية على ساعده. وقبل أن تصل المكعبات الآلية لفض الشجار كان جاليليو قد ضرب الإجوانا الآخر حتى الموت على سطح المنضدة.»
بدت ناي هادئة بصورة مثيرة للدهشة عندما انتهت من سردِها. ثم استكملت: «اصطحبوا جاليليو بعيدًا. وبعد ثلاث ساعات جاء المكعب الكبير إلى غرفتنا ليخبرَنا أن جاليليو قد احتُجز إلى الأبد في جزء آخر من المركبة الفضائية. وعندما سألتُ عن السبب أخبرني كبير المكعبات الآلية الإجابة نفسَها التي أتلقَّاها كل مرة منذ أن بدأت ألقي السؤال: «لقد رأينا أن سلوك ابنك غير مقبول».»
أعلنت دقَّات أجراس أخرى قصيرة أن دورة التجفيف قد انتهت. ساعدت نيكول ناي في طي الملابس على الطاولة الطويلة. وقالت ناي: «يُسمح لي برؤيته ساعتين فقط كلَّ يوم، ومع أن كبرياء جاليليو يمنعه من الشكوى فأنا أعرف أنه يعاني … وقد وضع المجلس اسم جاليليو من بين أسماءِ خمسةِ بشر «محتجزين» دون سببٍ مناسب، ولكني لا أعلم هل ستأخذ المكعبات الآلية مظالمَهم على محمل الجِد.»
توقَّفت ناي عن طي الملابس ووضعت يدها على ساعد نيكول. وقالت: «ولهذا أنا أطلب منك المساعدة. ففي التدرُّج الهرمي للكائنات الفضائية، الرجل النسر أعلى سلطة من المكعب الكبير. ومن الواضح أن الرجل النسر يولِي ما تقولينه عنايةً خاصة … فهلا تتحدَّثين إليه من فضلك، من أجلي، بشأن جاليليو؟»
•••
قالت نيكول لإيلي وهي تُخرِج أغراضها من الخزانة: «لا يصحُّ إلا الصحيح. كان لا بد أن أكون في الغرفة الأخرى منذ البداية.»
قالت إيلي: «لقد تحدَّثنا عن هذا الأمر قبل أن تأتي. ولكنْ كلُّ من ناي وماريا قالتا إنه لا بأس في أن تعود الفتاة إلى الغرفة الأخرى حتى تكوني هنا معي أنا ونيكي.»
قالت نيكول: «وإن يكن …» ووضعت ملابسها على الطاولة ثم نظرت إلى ابنتها. وقالت: «أتعلمين يا إيلي، إنني لم آتِ إلى هنا إلا منذ أيام قلائل، ولكنني أتعجَّب بشدة من مدى استغراق الجميع في أمور الحياة اليومية التافهة … وهو ما أراه غريبًا جدًّا. وأنا لا أتحدَّث فقط عن ناي ومخاوفها. فالأشخاص الذين تحدَّثت معهم في المطعم أو في الغرف العامة الأخرى يقضون نسبةً ضئيلة للغاية من يومهم في مناقشةِ ما يحدُث هنا حقًّا. شخصان فقط هما مَن سألاني عن الرجل النسر. وهناك بالأعلى على سطح المراقبة الليلة السابقة، في حين كان عشرة منَّا يحملقون في الشكل الرباعي الأسطح المذهل، لم يسأل أحدٌ أي سؤال عمن صمَّم هذا الشكل، ولأي غرض صمَّمه.»
ضحِكت إيلي. وقالت: «الآخرون هنا منذ عام يا أمي. وقد سألوا هذه الأسئلة جميعها منذ وقت طويل، ولأسابيع كثيرة، ولكنهم لم يتلقوا أيَّ إجابات شافية. إنها الطبيعة البشرية، فعندما لا نستطيع الإجابةَ عن سؤال تصعُب الإجابة عليه نطرده من أذهاننا حتى نحصل على معلومات جديدة.»
جمعت إيلي جميعَ أغراض والدتها. وقالت: «لقد طلبنا من الجميع أن يتركوك وشأنك حتى تحصلي على قسطٍ من الراحة اليوم. لن يأتي أحدٌ إلى الغرفة خلال الساعتين القادمتين. رجاء يا أمي، استغلي هذه الفرصة للراحة … عندما غادرت الدكتورة بلو أمس أخبرتني أن علامات الإنهاك تظهر على قلبك، رغم جميع المجسَّات التكميلية.»
قالت نيكول: «لم يكن السيد كوالسكي سعيدًا بالطبع لوجود كائن أوكتوسبايدر في جناحنا.»
«لقد شرحتُ له الأمر. وكذلك فعل المكعَّب الكبير. لا تقلقي إزاء هذا الأمر.»
قالت نيكول: «شكرًا لك يا إيلي.» وطبعَت قُبلة على وجنة ابنتها.»
٤
«هل أنت جاهزةٌ يا أمي؟» ألقت إيلي هذا السؤال وهي تدخل من الباب.
أجابتها نيكول: «أظن هذا، مع أني أشعر أني حمقاء. ففيما عدا اللعبة التي لعبتها أمس معك أنت وماكس وإيبونين، فإنني لم ألعب الورقَ منذ سنوات.»
ابتسمت إيلي وقالت: «لا يهمُّ مدى إجادتك للعب يا أمي. لقد تحدَّثنا في هذا الشأن أمس.»
كان ماكس وإيبونين ينتظران في الرواق عند موقف الترام. وقال ماكس بعد تحية نيكول: «سيكون اليوم ممتعًا للغاية. وأتساءل عن عدد مَن سيأتون غيرنا.»
كان المجلس قد صوَّت في الليلة السابقة على مدِّ المقاطعة مرةً أخرى ثلاثة أيام إضافية. ومع أن المكعب الكبير قد استجاب لقائمة المظالم، بل أقنع كائناتِ الأوكتوسبايدر، الذين يزيد عددهم عن البشر بنسبةِ ثمانية إلى واحد، أن يتركوا وقتًا أطولَ في المناطق العامة ليستخدمها البشر فقط، فقد شعر المجلس أن كثيرًا من ردود الفعل تجاه المظالم لا تزال غير مناسبة.
وكان هناك نقاشٌ أيضًا في اجتماع المجلس عن كيفية تفعيل المقاطعة. وقد أراد بعضُ الحضور من أصحاب الصوت العالي فرْضَ عقوبات على الذين يتجاهلون قرار المقاطعة. وقد انتهى الاجتماع بالاتفاق على أن مسئولي المجلس «سيشركون بفاعلية» البشرَ الذين يستمرون في تجاهل توصيات المجلس بتجنُّب التعامل مع جميع الأجناس الأخرى من الكائنات.
كان الترام في الرواق الرئيسي خاويًا تقريبًا. وهناك ستة من كائنات الأوكتوسبايدر في العربة الأولى منه، بالإضافة إلى ثلاثة أو أربعة آخرين إلى جانب اثنين من كائنات الإجوانا جالسَين في العربة الثانية. ونيكول وأصدقاؤها هم البشر الوحيدون على متن الترام.
قالت إيلي: «منذ ثلاثة أسابيع، قبل أن تبدأ تلك المرحلة الأخيرة من التوتر، كان لدينا ثلاثة وعشرون طاولة لدورة لعبة الورق الأسبوعية. كنت أظن أننا نحرز تقدمًا كبيرًا. فقد كان معدَّل حضور اللاعبين الجدد من البشر كلَّ أسبوع خمسة أو ستة.»
سألتها نيكول عندما توقَّف الترام واستقل اثنان من كائنات الأوكتوسبايدر عربتَهم: «كيف طرأت على ذهنك فكرةُ دورة لعبة الورق هذه يا إيلي؟! عندما تحدَّثت إليَّ عن لعب الورق مع كائنات الأوكتوسبايدر أولَ مرة ظننت أنك قد فقدت صوابك.»
ضحِكت إيلي. وقالت: «في البداية، بعد أن استقررنا جميعًا هنا بوقت قصير أدركت أننا نحتاج إلى نشاطٍ ما منظَّم لتشجيع التفاعل بين الأجناس. فالبشر لن يتجهوا إلى أحدِ كائنات الأوكتوسبايدر ويبدءوا الحوار معه من تلقاء أنفسهم، ولا حتى في وجودي أنا أو أحد المكعبات الآلية بوصفنا مترجمين … بدَت فكرة الألعاب طريقةً جيدة لتشجيع الاندماج. وقد نجحت تلك الفكرة برهةً قصيرة، ولكن سريعًا ما اتضح أنه لا توجد لعبةٌ يستطيع فيها أبرعُ إنسان أن يضاهي أيًّا من كائنات الأوكتوسبايدر الذكية. حتى المعاقين منها …»
اقتحم ماكس الحوار قائلًا: «في نهاية الشهر الأول لعبتُ شطرنجًا مع صديقتك الدكتورة بلو … وأغرَتني بأن تركت لي رُخًّا وبيدقَين قبل بدء المباراة، ومع ذلك فقد هزمتني شرَّ هزيمة … كان ذلك محبِطًا للغاية …»
استأنفت إيلي: «كانت الضربة الأخيرة لتلك الجهود هي أولَ دورة في لعبة تكوين الكلمات من الحروف. جميع الجوائز كانت من نصيب كائنات الأوكتوسبايدر، مع أن جميع الكلمات المستخدَمة كانت باللغة الإنجليزية! وهنا أدركتُ أنه لا بد أن أجدَ لعبة لا يتنافس فيها البشر وكائنات الأوكتوسبايدر ضد بعض …
اتضح أن لعبة الورق هي المثالية. ويتكوَّن كل فريق من إنسان وكائن أوكتوسبايدر. وليس من الضروري للشريكين أن يتحدَّثا معًا، فقد أعددت بطاقات لعب موحَّدة باللغتين، وحتى أقلُّ البشر ذكاءً يستطيع تعلُّم أرقام كائنات الأوكتوسبايدر من واحد إلى سبعة في جلسة واحدة، وكذلك رموزها لمجموعات الورق الأربع … وقد نجحت اللعبة بصورةٍ لا تُصدَّق.»
هزَّت نيكول رأسها في تعجُّب. وقالت بابتسامة: «لا أزال أرى أنكِ مجنونة. مع أني أعترف أن الفكرة بها لمسةٌ عبقرية أيضًا.»
كان هناك أربعة عشر شخصًا فقط غيرهم في غرفة لعب الورق في المجمع الترفيهي في وقتِ بدء دورة لعب الورق. وقد تعاملَت إيلي مع الموقف جيدًا؛ حيث قرَّرت أن تكون الدورة دورتين منفصلتين، واحدة «للفِرق المختلِطة» كما أطلقت عليها، ومنافسة أخرى لكائنات الأوكتوسبايدر فقط.
كانت الدكتورة بلو هي شريكة نيكول. وقد اتفقتا على اللعب بأسلوبِ مزايدةٍ كبير بخمس بطاقات — وهو أحد أساليبَ ستةٍ أقرَّتها إيلي للعب بها في الدورة — وجلستا إلى طاولةٍ بالقرب من الباب. ونظرًا لأن المقاعد المخصَّصة لكائنات الأوكتوسبايدر كانت أعلى من تلك المخصَّصة للبشر جلست نيكول وشريكتها متقابلتين، عينًا أمامَ عين. أو بالأحرى عينًا أمام عدسة.
لم تكن نيكول قط لاعبةً متميزة في لعب الورق. وقد تعلَّمت أن تلعب أولَ مرة وهي طالبة في جامعة تور عندما شجَّعها والدها على الاشتراك في أنشطةٍ خارج الدراسة الجامعية، حيث كان قلِقًا لأنه لم يكن لديها أصدقاءُ كُثر. وقد لعبت نيكول الورق أيضًا في عدن الجديدة حيث انتشرت اللعبة بين صفوف السكان في العام الأول بعد الاستقرار. ورغم ميلها الطبيعي للعبة كانت نيكول ترى دائمًا أن اللعبة تستهلك وقتًا طويلًا جدًّا، وأن هناك كثيرًا من الأشياء الأكثر أهمية يمكن القيام بها.
اتضح لنيكول من البداية أن الدكتورة بلو لاعبةُ ورق ممتازة، وكذلك كائنات الأوكتوسبايدر الأخرى التي جاءت إلى الطاولة مع رفاقها من البشر لتشاركَ في الدورة الثنائية. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت الدكتورة بلو تلعب أحدَ أساليب اللعبة الصعبة للغاية، بمهارة وسرعة يد مثل إنسان يحترف لعبة الورق.
قالت نيكول لشريكتها الأوكتوسبايدر بعد أن حقَّقت فوزًا ساحقًا بالإضافة إلى نقطةٍ أخيرة إضافية: «أحسنتِ!»
أجابتها الدكتورة بلو بالألوان: «إنه أمرٌ سهل للغايةِ ما دمت تعرفين مكانَ جميع البطاقات.»
كان من المذهل مشاهدةُ كيف تتعامل كائنات الأوكتوسبايدر مع قواعد اللعبة. إنهم يزيحون البطاقات من فوق طاولات اللعب بآخرِ مِفصلين من لامسة واحدة بمساعدة الأهداب، ثم يرفعون بطاقاتهم أمام عدساتهم بثلاثٍ من لوامسهم، لامسة على كل جانب والثالثة في المنتصف. ولوضع بطاقة على الطاولة يستخدم الأوكتوسبايدر اللامسةَ الأقرب إلى البطاقة التي يريد طرْحَها، ممسكًا بها بين أهدابه وهو يُنزِلها.
اشتركت نيكول والدكتورة بلو في حواراتهما المفعمة بالحيوية والنشاط بين طرحهما للأوراق. وكانت الدكتورة بلو قد أخبرت نيكول لتوها أن مسئولة الأمثلية تشعر بالحَيرة إزاء قرار المجلس الأخير، وذلك في الوقت الذي فُتح فيه بابُ غرفة اللعب ودخل ثلاثة بشر يتبعهم المكعب الكبير وأحد المكعبات الآلية الأصغر.
نظرَت السيدة التي تتقدَّم المسيرةَ نظرةً عجلى حول الغرفة ثم اتجهت نحو طاولة نيكول. عرفت نيكول أنها إيميلي برونسون رئيسة المجلس، وكان قد حان وقتُ دورٍ آخرَ من اللعبة، فانضم إلى نيكول والدكتورة بلو فريقٌ مكوَّن من الأوكتوسبايدر ميلكي وشريكتها وهي سيدة جميلة الملامح في منتصف العمر اسمها مارجريت.
قالت إيميلي برونسون: «عجبي إنها مارجريت يانج! أنا مندهشة لوجودك هنا. لا بد أنكِ لم تعرفي أن المجلس مدَّ المقاطعة الليلة السابقة.»
كان الرجلان اللذان دخلا الغرفةَ مع السيدة إيميلي قد تبِعاها إلى طاولة نيكول، أحدهما هو جارلاند الذي كان طرفًا في حادثة حمَّام السباحة. ووقف ثلاثتهم يحيطون بمارجريت.
أجابت مارجريت وهي تنظر إلى الأرض: «إيميلي … أنا آسفة! ولكنكِ تعرفين كم أحب لعب الورق.»
قالت السيدة برونسون: «ولكن هناك ما هو أكثرُ أهمية من الألعاب هنا.»
نهضت إيلي من طاولةٍ مجاورة وطلبت من المكعب الكبير وقْفَ الشجار. ولكن إيميلي برونسون كانت سريعة جدًّا. قالت بصوتٍ عالٍ: «إنكم جميعًا تُظهِرون عدمَ الولاء بوجودكم هنا. فإن غادرتم الآن فإن المجلس لن يحاسبكم على هذا الموقف … ولكن إذا بقيتم بعد تحذيركم فسوف …»
وهنا تدخَّل المكعب الكبير وأخبر السيدة إيميلي أنها وأصدقاؤها يقاطعون اللعبة. وبينما استدار ثلاثتهم للمغادرة نهض أكثرُ من نصف البشر من مقاعدهم لاتباعهم.
«هذا منافٍ للعقل.» قالتها نيكول بوضوحٍ وقوة مذهلين. كانت تقف في مكانها مستندةً إلى الطاولة بإحدى يديها. استكملت قائلة بالنبرة نفسِها: «عودوا إلى أماكنكم ولا تسمحوا أن يستبدَّ بكم شخصٌ يثير العداء.»
عاد جميع لاعبي الورق إلى أماكنهم. وقالت إيميلي برونسون بغضبٍ من الجانب الآخر للغرفة: «اصمتي أيتها المرأة العجوز. ليس هذا من شأنك.» ثم اصطحبها المكعب الكبير هي ورفاقها إلى خارج الباب.
•••
قالت ماريا: «ليست لديك فكرة عن ماهية هذه الأدوات يا سيدة نيكول، أليس كذلك؟»
أجابتها نيكول: «ظنُّك صحيح يا ماريا. إن لها على الأرجح معنًى خاصًّا لوالدتك. ظننت حينها أن الجسم الأسطواني الفضي المزروع أسفل جلد والدتك نوعٌ من أجهزة التحديد المستخدَمة في حديقة الحيوانات، ولكن نظرًا لأنه لم ينجُ أحدٌ من العاملين بالحديقة، ولم يتبقَّ سوى قليل جدًّا من السجلات، فمن غير المحتمَل أن نستطيع التأكُّد من صحة فرضيتي.»
سألت الفتاة: «ما معنى الفرضية؟»
قالت نيكول: «إنه رأيٌ مبدئي أو تفسير لِما حدَث، عندما لا يكون هناك دليلٌ كافٍ للوصول إلى إجابةٍ شافية. وبالمناسبة يجب أن أخبرك أن لغتك الإنجليزية مثيرةٌ للإعجاب.»
«شكرًا لك يا سيدة نيكول.»
كانتا تجلسان معًا في الرَّدهة العامة بالقرب من سطح المراقبة. وتشربان عصيرَ فواكه. ومع أن نيكول كانت في الفندق الكبير منذ أسبوع بالفعل فتلك هي المرة الأولى التي تتحدَّث فيها على انفراد إلى الفتاة التي وجدَتها وسط أنقاض حديقة الحيوانات قبل ستة عشر عامًا.
سألتها ماريا: «هل كانت أمي جميلةً حقًّا؟»
قالت نيكول: «كانت باهرةَ الجمال، أذكر هذا، مع أني لم أستطِع أن أراها جيدًا في الضوء الخافت. كان لها لون بشرتك نفسُه تقريبًا، أو ربما أفتحُ قليلًا، وكانت متوسطة البِنية. أظن أنها كانت في الخامسة والثلاثين من عمرها تقريبًا، أو ربما أقل قليلًا.»
سألت ماريا: «ولم يكن هناك أيُّ أثر لأبي؟»
قالت نيكول: «لم أرَ له أيَّ أثر. بالطبع في ظل تلك الظروف لم أُجرِ بحثًا دقيقًا … من المحتمل أنه كان هائمًا في مكانٍ ما من الموطن البديل بحثًا عن مساعدة. فقد كان السياج الذي يحيط بالجزء المخصَّص لكم قد سُوي بالأرض في القصف. وقد شعرتُ بالقلق عندما استيقظنا في الصباح التالي أنه ربما يكون والدك يبحث عنك، ولكني اقتنعت بعد ذلك، وفقًا لِما رأيته في المأوى الخاص بكم، أنكِ ووالدتك كنتما تعيشان بمفردكما.»
قالت ماريا: «إذن هل تقول فرضيتك إن أبي قد مات بالفعل؟»
أجابت نيكول: «سؤال رائع! لا، ليس بالضرورة … لم أجزم بهذا في حديثي … ولكن لم يبدُ لي أن أحدًا آخر عاش في الجزء المخصَّص لكم منذ فترة.»
رشفَت ماريا من كوب العصير، وخيَّم صمتٌ مؤقت عليهما. ثم قالت الفتاة: «لقد أخبرتِني في ليلة سابقة يا سيدة ويكفيلد عندما كنتِ تتحدثين مع ماكس وإيبونين أنكِ افترضتِ أن كائنات الأوكتوسبايدر قد اختطفت والدتي، أو ربما والديَّ معًا، قبل ذلك بكثير، من مكانٍ يُطلق عليه أفالون … ولكني لم أفهم جيدًا ما كنتِ تقولين …»
ابتسمت نيكول لماريا وقالت لها: «أنا معجبة جدًّا بأسلوبك المهذَّب يا ماريا. ولكنك ولا شك جزءٌ من العائلة … ويمكنك أن تخاطبيني بنيكول.» انجرف ذهنُ نيكول للتفكير في عدن الجديدة، وبدا ذلك منذ وقتٍ بعيد مضى، ثم أدركت أن الفتاة تنتظر إجابةً عن سؤالها.
فقالت نيكول: «كانت أفالون مستوطَنة خارج عدن الجديدة تقع في ظلمة وبرودة السهل الرئيسي. شيَّدتها حكومة المستوطَنة في الأصل لتكون حَجْرًا صحيًّا للأشخاص المصابين بفيروسٍ قاتل يُطلق عليه «آر في ٤١». وبعد بناء أفالون أقنع ديكتاتور عدن الجديدة، وهو رجلٌ يُطلق عليه ناكامورا، مجلسَ الشيوخ أن أفالون مكانٌ ممتاز للبشر «غير الأسوياء»، بما في ذلك الذين يعترضون على الحكومة وأولئك الذين يعانون أمراضًا عقلية أو معاقين ذهنيًّا …»
قالت ماريا معلِّقة: «لا يبدو أنه مكانٌ لطيف.»
فكَّرت نيكول في نفسِها: «لقد ظل بينجي هناك أكثرَ من عام. إنه لا يتحدَّث عن الأمر قط.» وبدأت تشعر بالذنب لأنها لم تقضِ وقتًا كافيًا مع بينجي على انفرادٍ منذ أن استيقظت. وتواصلت أفكارها: «ولكنه لم يشتكِ قط.»
مرةً أخرى كان على نيكول أن تجبر نفسَها على التركيز في حوارها مع ماريا. وقالت لنفسها: «نحن الكبارَ في السن تنجرف أفكارنا في اتجاهاتٍ مختلفة. هذا لأن كثيرًا من الأشياء التي نراها ونسمعها تثير ذكرياتنا.»
قالت نيكول: «لقد تحقَّقت من الأمر بالفعل. ولسوء الحظ مات جميعُ الإداريين في أفالون قبل وقت طويل في الحرب … وقد وصفتُ والدتَك لبعض الأشخاص الذين قضَوا وقتًا في أفالون، لكن لا يتذكَّرها أيُّ شخص منهم.»
سألت ماريا: «هل تظنين أنها كانت مريضة عقليًّا؟»
أجابتها نيكول: «هذا محتمَل. لكننا لن نعرف يقينًا … وبالمناسبة إن قلادتك هي أفضلُ خيط يوصِّلنا إلى هوية والدتك. لقد كانت ولا شك تابعةً مخلِصة لطائفة الكنيسة الكاثوليكية التي بدأها القديس مايكل قديس سيينا … تقول إيلي إن هناك بعضَ المناصرين لها على متن السفينة أيضًا. وأنا أعتزم التحدُّث إليهم عندما يتاح لي الوقت.»
توقَّفت نيكول عن الحديث والتفتت تجاه سطح المراقبة، حيث بدأ اضطرابٌ هناك. كان بعض البشر ومجموعة كبيرة من كائنات الأوكتوسبايدر يشيرون إلى خارج النافذة ويحرِّكون أيديَهم ورءوسهم بقوة لجذب انتباهِ الآخرين، وأسرع بعضُ الأشخاص باتجاه الممر الرئيسي، على ما يبدو لإحضار الباقين ليروا ما يشاهدونه.
غادرت نيكول وماريا الطاولة، واعتلتا السلالمَ إلى سطح المراقبة ونظرتا إلى خارج النافذة الضخمة. بعيدًا عنهم خلف الهرم الثلاثي المضيء، كان توجد مركبةُ فضاء ضخمة مسطَّحة القمة تشبه حاملةَ طائرات تقترب من النود. راقبت نيكول وماريا ما يحدُث عدة دقائق دون أن تتفوَّها بكلمة ومركبة الفضاء الجديدة تقترب لتظهر أمامهم أكبرَ وأكبر.
سألتها ماريا: «ما هذا؟»
أجابتها نيكول: «لست لديَّ أدنى فكرة.»
سرعان ما امتلأ سطح المراقبة بالمشاهدين. وكانت الأبواب تُفتح باستمرار، والبشر وكائنات الأوكتوسبايدر والإجوانا بل اثنان من المخلوقات الطائرة يدخلون إلى الغرفة. وبدأ الحشد يدفع نيكول وماريا.
كانت المركبة ذاتُ القمة المسطحة طويلةً للغاية، أطول حتى من ممرات التنقُّل التي تربط الكرات في النود. كانت عشرات «الفقاعات» الشفافة متناثرة على سطحها. توقَّفت الحاملة بالقرب من أحدِ القمم الدائرية للنود ومدَّت أنبوبًا شفافًا طويلًا إلى داخل جانب الكرة حيث كان اتساعه مناسبًا لها تمامًا.
ساد الاضطراب سطحَ المراقبة. كانت جميعُ أنواع الكائنات تتدافع، وتتزاحم للاقتراب من النافذة. وثبَ اثنان من الإجوانا إلى أعلى النافذة في ظل انعدام الوزن وسريعًا ما انضم إليهم عشرة أو عشرون من البشر. بدأت نيكول تشعر برُهاب الأماكن الضيقة وحاولت أن تُفسِح لهم الطريق. ولكن لم يكن هناك سبيلٌ تسلُكه وسط الحشود. ظلت تُدفع في جميع الاتجاهات. وأصبحت بعيدةً عن ماريا. وتعرَّضت نيكول لدفعة قوية من مجموعة من الحشد على جانبها جعلتها تصطدم بالحائط. فشعرت بألمٍ حادٍّ في رِدْفها الأيسر على إثر التصادم. وفي الاضطراب الذي نتج، كان من الممكن أن يطأها الحشد أو تتعرَّض لمزيد من الإصابات لولا أن المكعب الكبير والمكعبات الآلية الأخرى اندفعوا بين الحشد المتجمهر واستعادوا النظام.
كانت نيكول تنتفض بقوةٍ عندما وصل إليها المكعب الكبير. كان الألم في رِدْفها لا يُحتمل. ولم تستطِع السير.
•••
قال الرجل النسر: «هذا أحدُ لوازم التقدُّم في العمر. يجب أن تتوخَّي الحذرَ أكثرَ.» كان هو ونيكول وحدهما في شقتها. وكان الآخرون يتناولون إفطارهم.
قالت نيكول: «أنا لا أحب أن أكون ضعيفة. ولا أحب ألا أفعل شيئًا خوفًا من أن أصيبَ نفسي.»
قال الرجل النسر: «سيتماثل رِدْفك للشفاء. ولكنه سيستغرق بعض الوقت. إنك محظوظة أنكِ أُصبتِ بكدمات شديدة فحسب ولم تكن هناك كسور. ففي سنِّك قد يؤدي الرَّدْف المكسور إلى إقعادِ الإنسان للأبد.»
قالت نيكول: «شكرًا للكلمات التي تطمئنني بها.» وارتشفت رشفةً صغيرة من قهوتها. كانت ترقد على حاشيتها ورأسها مرتفع قليلًا فوق عدة وسادات. ثم قالت: «ولكن كفانا حديثًا عني؛ لنتحدَّث عن أمورٍ أهم … ما أمرُ هذه المركبة المسطحة؟»
قال الرجل النسر: «بدأ البشر الآخرون بالفعل يُطلِقون عليها حاملة. وهذا اسمٌ مناسب تمامًا.»
خيَّم الصمت عليهما برهةً قصيرة. ثم قالت نيكول في صوتٍ متذمِّر: «هيا! هيا! لا تكن متحفظًا معي … فأنا أرقد هنا مخدَّرة ولا أزال أشعر بالألم … ليس من اللائق أن أجترَّ منك المعلومات.»
قال الكائن الفضائي: «هذه المرحلة من العملية ستنتهي قريبًا. سيُنقل بعضُكم إلى الحاملة، والبقية إلى النود.»
سألته نيكول: «وماذا سيحدُث عندئذٍ؟ وكيف اتُّخذ القرار بشأن مَن سيُنقل إلى الحاملة ومَن سيُنقل إلى النود؟»
قال الرجل النسر: «لا يمكنني أن أقولَ لك هذا بعدُ، ولكني أخبركِ أنك ستذهبين إلى النود … وإن أخبرتِ أيَّ شخص آخر بما قلتُه لكِ الآن لن أمنحكِ في المستقبل أيَّ معلومات مسبقًا … إننا نريد أن يكون الانتقال منظَّمًا …»
قالت نيكول متألمةً وهي تغيِّر من جِلستها قليلًا: «آي! إنك دائمًا تريد أن تكون الأمور منظَّمة … ويجب أن أخبرك أنك لم تمنحني معلومات مهمة.»
«إنك تعرفين معلوماتٍ أكثرَ من أي شخص آخر.»
عبَست نيكول وهي ترتشف رشفةً أخرى من القهوة: «إنه لشأنٌ مهم حقًّا! وبالمناسبة، هل لديك طبيبٌ حاوٍ هناك في النود يمكنه أن يلوِّح بعصاه السحرية على هذه الكدمة ويجعلها تختفي؟»
قال الرجل النسر: «كلا، ولكن بإمكاننا أن نمنحكِ رِدْفًا جديدًا إذا أردتِ. أو ما أظن أنك ستطلقين عليه رِدْفًا بديلًا.»
هزَّت نيكول رأسها في رفض. وأجفلت عندما صدمَت رِدْفها وهي تضع كوب القهوة على الأرض. وقالت: «إن الكِبَر في السن هذا للعنةٌ.»
قال الرجل النسر: «أنا آسف!» وبدأ يغادر الغرفة: «سأمرُّ بكِ كلما استطعت.»
قالت نيكول: «قبل أن تغادر، هناك مسألةُ عمل أخرى … ناي أرادت أن أطلبَ منك أن تتوسَّط لجاليليو … إنها تودُّ أن يعود إلى العائلة.»
قال الرجل النسر وهو يغادر: «لن يكون هناك داعٍ لهذا. فستخرجون جميعًا من هنا في غضون أربعة أو خمسة أيام … وداعًا يا نيكول! لا تحاولي السير، استخدمي الكرسي المتحرِّك الذي أحضرته لك. فرِدْفك لن يتماثل للشفاء إذا تحاملتِ عليه.»
٥
كان الوقت مبكرًا جدًّا على استيقاظ معظم البشر. كانت نيكول قد قضت بالخارج نصفَ ساعة قبل ذلك الحين في الرواق الطويل تجرِّب أزرارَ التحكُّم على مسند الكرسي المتحرِّك. وقد فوجئت بمدى سرعة الكرسي وهدوء حركته. وبينما تنطلق مسرعةً أمام سلسلة غرف المؤتمرات التي تقع في منتصف الممر الذي يبلغ طوله كيلومترًا، تساءلت نيكول عن ماهية التكنولوجيا المتقدِّمة الموجودة داخل الصندوق المعدني المغلق أسفل الكرسي. وقالت في نفسِها: «كان ريتشارد سيُعجب بهذا الكرسي، وسيحاول تفكيكَه على الأرجح.»
مرَّت نيكول بعدد قليل من البشر في الرُّواق، يحاول معظمهم جرَّ أقدامهم في محاولةٍ منهم لممارسة رياضة السير الصباحية. ابتسمت نيكول واثنان ممن يحاولون ممارسةَ الرياضة يبتعدون بسرعة عن طريقها. وقالت في نفسها: «لا بد أني أبدو غريبةً للغاية؛ امرأةٌ عجوز بيضاء الشعر تقطع الرواق على مقعد متحرك.»
وانعطفت بعد أن وصلت بكرسيها إلى الترام الصغير الذي كان ينقل عددًا قليلًا من الركَّاب باتجاه المناطق العامة لتناول طعام الإفطار مبكرًا. استمرَّت نيكول في الضغط على زرِ زيادة السرعة في مقعدها حتى أصبحت تسير أسرعَ من الترام. فحدَّق فيها ركَّاب الترام بدهشة وهي تسبقهم. فلوَّحت لهم نيكول وابتسمت ابتسامةً عريضة. ولكن بعد بضع لحظات، عندما فُتح باب على بُعد مائة متر أمامها فجأةً وخرجت منه سيدتان إلى الرواق، أدركت نيكول أنه ليس من الآمن لها أن تقودَ بهذه السرعة. فأبطأت من سرعتها، وهي لا تزال تبتسم ابتساماتٍ هادئة جرَّاء الإثارة التي ولَّدتها بداخلها القيادةُ السريعة.
وعندما اقتربت نيكول من غرفتها رأت الرجلَ النسر يقف عند نهاية الجناح حيث يتقاطع مع الممر المحيط بسفينة نجمة البحر. فقادت الكرسي لتقف إلى جواره.
قال الرجل النسر: «يبدو أنك تستمتعين بقيادتك للكرسي.»
قالت نيكول ضاحكة: «أجل. هذا الكرسي لعبةٌ رائعة. لقد كدتُ أنسى الألمَ الذي أشعر به في رِدْفي.»
سألها الرجل النسر: «هل كان نومك أفضلَ ليلة أمس؟»
ردَّت نيكول: «أفضل بكثير، شكرًا لك. كما اتفقنا نِمت على جانبي ورفعتُ رِدْفي المصابَ عن مستوى جسدي. وبالمناسبة، لقد خفَّف أيًّا كان ما أعطيته لي أمس الألمَ كثيرًا.»
لوَّح الرجل النسر باتجاه الرَّدهة على الجانب الآخر من الممر الدائري. وقال: «هيا نذهب إلى هناك. فأنا أودُّ التحدث إليكِ على انفراد.»
قادت نيكول الكرسي عبْر الممر الدائري الرئيسي حتى وصلت إلى الممشى المؤدي إلى الرَّدهة. وأشار إليها الرجل النسر وهو يسير خلفها أن تواصل. كان هناك اثنا عشر كائنًا من الأوكتوسبايدر يجلسون في أنحاء الغرفة. فاختار الرجل النسر ونيكول مكانًا إلى أقصى اليمين، حيث يمكن أن يكونا وحدَهما.
قال الرجل النسر: «لقد أنهت الحاملة تقريبًا مهامَّها في النود. وبعد اثنتي عشرة ساعة من الآن ستتوقف وقتًا قصيرًا بالقرب من هذه المركبة لأخذِ مزيد من المسافرين … وسأعلن بعد الغداء مَن سيُنقل إلى الحاملة.»
استدار الكائن الفضائي ونظر إلى نيكول مباشرةً بعينيه الزرقاوين الحادَّتين. وقال: «قد لا يسعَد بعضُ البشر بما سأعلنه … فبعدما اتُّخذ قرارٌ بتقسيم جنسكم إلى مجموعتين منفصلتين اتضح لي على الفور أنه سيكون من المستحيل الوصولُ إلى تقسيمٍ لا يجعل البعض غير سعداء … وأود أن تساعديني قليلًا في العمل على أن تكون هذه العملية هادئةً قدْر الإمكان.»
تفحَّصت نيكول وجهَ رفيقها الفضائي وعينيه المدهشتين. وتذكَّرت أنها رأت نظرةً مماثلة على وجه الرجل النسر مرةً من قبل. وقالت في نفسها: «هناك في النود عندما طلب مني التصوير بالفيديو.»
سألته نيكول: «ما الذي تريدني أن أقوم به؟»
«لقد قرَّرنا أن نسمح بدرجةٍ من المرونة في هذه العملية. فمع أن جميعَ الأشخاص على قائمة الانتقال إلى الحاملة يجب أن يقبلوا بانتقالهم إلى هناك، فإننا سنسمح لبعضٍ ممن سيُنقلون إلى النود أن يطلبوا إعادةَ النظر في هذا القرار. ولأنه لن يكون هناك أيُّ احتكاك بين سكان المركبتين، في حالة الارتباط العاطفي القوي بين الأفراد، على سبيل المثال، فإننا لا نريد أن نجبر …»
قاطعته نيكول: «هل تقول لي إن هذا التقسيم قد يمزِّق عائلاتٍ للأبد؟»
أجابها الرجل النسر: «نعم، قد يفعل. ففي بعض الحالات قُرِّر نقلُ الزوج أو الزوجة إلى الحاملة، في حين أن الطرف الآخر بقائمة النود. وبالمثل هناك بعض الحالات سينفصل فيها الآباء عن أبنائهم …»
قالت نيكول متعجِّبة: «يا إلهي! كيف يمكنك أنت — أو أي شخص — أن تقرِّر اعتباطًا التفريقَ بين زوج وزوجه اختارا أن يعيشا معًا، وتتوقَّع منهما أن يكونا سعيدين؟ ستكونون محظوظين إذا لم تحدُث ثورة عارمة بعد إعلانك.»
تردَّد الرجل النسر بضع ثوانٍ. وقال بعد صمت: «لا يوجد شيءٌ اعتباطي في هذه العملية. فقد أمضينا شهورًا حتى الآن ونحن ندرُس بدقة بياناتٍ هائلة عن كل كائن يعيش في الوقت الحالي على متن نجمة البحر. وتتضمَّن السجلات معلوماتٍ كاملة من السنوات التي قضوها في راما أيضًا، وأولئك المقرَّر نقلُهم إلى الحاملة لا يستوفون، بطريقة أو بأخرى، المعاييرَ الأساسية التي وضعناها للانتقال إلى النود.»
سألته نيكول بسرعة: «وما تلك المعايير بالضبط؟»
أجابها الرجل النسر: «كلُّ ما يمكنني أن أخبرك به الآن هو أن النود ستكون بيئةَ حياة للتواصل بين الأنواع … والأفراد أصحاب القدرات المحدودة على التكيُّف سيذهبون إلى الحاملة.»
قالت نيكول بعد بضعِ ثوانٍ: «يبدو لي كما لو أن مجموعة من البشر المقيمين بالفندق الكبير قد رُفضوا، لسببٍ ما، ولم «يُقبلوا» …»
قاطعها الرجل النسر قائلًا: «إذا كنتُ أفهم اختيارَكِ للكلمات فإنكِ تستنتجين أن ذلك التصنيف يقسِّم البشر بناءً على الجدارة. ولكن ليس هذا هو المقصود بالضبط. إننا نؤمن أن أغلبَ مَن في المجموعتين سيصبحون على المدى الطويل أسعدَ في البيئة التي اختيرت لهم.»
قالت نيكول: «حتى بدون أزواجهم أو أطفالهم؟!» ثم قطَّبت ما بين حاجبيها. وقالت: «في بعض الأحيان أتساءل هل راقبتم دوافعَ البشر فعلًا! فالارتباط العاطفي، إن استخدمتُ مصطلحاتكِ، عادةً ما يكون أهمَّ مكوِّن من مكوِّنات السعادة البشرية …»
قال الرجل النسر: «إننا نعرف ذلك. لقد راجعنا بصورة خاصة كلَّ حالة ستُمزَّق فيها عائلة من العائلات، وقمنا ببعض الترتيبات نتيجةً لذلك. وفي حكمنا على الموقف، فإن الانقسامات التي ستحدُث في العائلات، والتي ليست كثيرةً كما يبدو من هذا الحوار، لها ما يبرِّرها استنادًا إلى بيانات المراقبة.»
حدَّقت نيكول في الرجل النسر وهزَّت رأسها بقوةٍ في استنكار. وقالت: «لمَ لمْ يُذكر ذلك التقسيم من قبلُ؟ إنك لم تُشِر قطُّ ولو مرةً وحدة في جميع النقاشات عن عملية النقل القادمة إلى أنك ستقسِّمنا إلى مجموعتين …»
«نحن أنفسنا لم نقرِّر هذا الأمر إلا منذ وقت قريب. وتذكَّري أنَّ تدخُّلنا في راما دفعَنا إلى اللجوء إلى خطة طوارئ في مجموعة خططنا الموضوعة … وعندما اتضح أن نوعًا من الانقسام سيكون ضروريًّا، فلم نُرِد إفساد الوضع الراهن …»
قالت نيكول فجأةً: «هذا هراء! إنني لن أصدِّق هذا ولو لحظة. إنكم تعرفون ماذا ستفعلون منذ زمن بعيد … إنكم فقط لم ترغبوا في سماعِ أي اعتراضات …»
استدارت نيكول مبتعِدة عن رفيقها الفضائي باستخدام أدوات التحكُّم على مسند مقعدها، وقالت بقوة وثبات: «كلا! لن أتواطأ معكَ في هذا الأمر … وأنا غاضبة لأنك عرَّضت أمانتي للشبهات عندما لم تخبرني بالحقيقة قبل الآن …»
ضغطت زرَّ السرعة واتجهت نحو الرواق الرئيسي.
قال الرجل النسر وهو يتبعها: «ألا يمكنني فِعل أي شيء لأغيِّر وجهة نظرك؟»
توقَّفت نيكول. وقالت: «أظن أنَّ بإمكاني أن أساعدك في حالة واحدة فقط … لمَ لا تشرح الاختلافاتِ بين البيئتين وتترك كلَّ فرد من كل نوع يختار بنفسه؟»
قال الرجل النسر: «أخشى أنه لا يمكننا فِعل هذا.»
قالت نيكول وهي تعود إلى تشغيل الكرسي المتحرك: «إذن لن أساعدك.»
•••
كانت نيكول في حالةٍ مزاجية سيئة للغاية عندما وصلت إلى باب غرفتها. وانحنت للأمام على كرسيها وأدخلت مجموعةَ الأرقام السرية لغلق الباب على اللوحة في منتصفه.
وما إن دخلت نيكول إلى الغرفة حتى قال كيبلر: «مرحبًا يا سيدة نيكول! لقد خرج باتريك وأمي للبحث عنك. لقد قلقا عندما لم يجداك في الرواق.»
قادت نيكول الكرسي مارةً بالشاب متجهةً إلى غرفتها. فخرج بينجي من الحمَّام وهو يلفُّ مِنشفة فقط حول جسده. وقال بابتسامة عريضة: «مرحبًا يا أمي!» ثم لاحظ نظرةَ الاستياء على وجه نيكول فأسرع إلى جوارها. سألها: «ما الأمر؟ إنك لم تتعرَّضي لإصابة مرةً أخرى …؟!»
قالت نيكول: «كلا يا بينجي. أنا بخير. كلُّ ما في الأمر أن حوارًا دار بيني وبين الرجل النسر ضايقني.»
قال بينجي وهو يمسك يدَها: «عمَّ؟»
قالت نيكول بعد تردُّد لوقت قصير: «سأخبرك فيما بعد. بعد أن تجفِّف جسدك وترتدي ملابسك.»
ابتسم بينجي وقبَّل والدته على جبهتها وعاد إلى الحمَّام. عاد الشعور بالهلع الذي راود نيكول في أثناء حديثها مع الرجل النسر يجتاحها. وفكَّرت فجأة: «يا إلهي! لا ليس بينجي. بالطبع لم يكن الرجل النسر يخبرني أننا سنفترق عن بينجي.» وتذكَّرت تعليقَ الرجل النسر عن ذوي «القدرات المحدودة» وبدأت تهلَع. وقالت في نفسها: «ليس الآن. رجاءً ليس الآن. ليس بعد هذا الوقت كلِّه.»
وتذكَّرت نيكول لحظةً خاصة قبل سنوات كثيرة عندما كانت العائلة في النود للمرة الأولى. كانت وحدَها في غرفتها، دخل بينجي الغرفةَ مترددًا ليعرف هل سيرحِّب به للانضمام إلى العائلة في رحلتها وهي عائدةٌ إلى النظام الشمسي. وقد شعر بارتياح شديد عندما علم أنه لن ينفصل عن والدته. وقالت نيكول لنفسها وهي تتذكَّر أنه انتقل إلى أفالون عندما كانت هي في السجن في عدن الجديدة: «لقد عانى ما يكفي بالفعل. ولا بد أن الرجل النسر يعرف هذا إذا كان درَس جميع البيانات بالفعل.»
رغم محاولاتها المستميتة كي تظلَّ هادئة، لم تستطِع نيكول أن تكبِت مزيجَ الخوف والجزع الذي تصاعد داخلها. وفكَّرت في نفسها بمرارة وهي تخشى الأسوأ من هذا: «كنت أفضِّل أن أموتَ أثناء نومي. لا يمكنني أن أفترق عن بينجي الآن. فهذا سيحطِّم قلبه. وقلبي أنا أيضًا.»
سالت دمعةٌ من عينها اليسرى على وجنتها. سألها كيبلر: «هل أنتِ على ما يرام يا سيدة نيكول؟»
طُرِق الباب. فذهب كيبلر ليفتحه. ودخل باتريك وناي يتبعهما الرجل النسر. قال باتريك وهو يحيِّي أمَّه بقُبلة: «لقد وجدنا صديقك هذا في الرواق يا أمي. وقد أخبرنا أنه كان لديكما اجتماع … لقد قلقت أنا وناي عليكِ …»
اقترب الرجل النسر من نيكول وقال: «ثمَّة موضوعٌ آخر أودُّ أن أتحدَّث إليك بشأنه أيضًا. فهلا تأتين معي إلى الخارج دقيقتين، من فضلك؟»
أجابته نيكول: «أظن أنه لا خيارَ أمامي. ولكني لن أغيِّر رأيي.»
وعندما خرجا من الغرفة مرَّ بجوارهما ترام ممتلئ. سألت نيكول بنفادِ صبر: «ما الأمر؟»
«لقد أردتُ أن أُعلِمك أن جميع أنواع الكائنات اللاسويقية، بالإضافة إلى المخلوقات الطائرة الباقية، ستكون في المجموعة التي ستُنقل إلى الحاملة هذا المساء. فإذا كانت هناك رغبةٌ لا تزال بداخلكِ للتفاعل مع الكائنات اللاسويقية، كما أشرتِ من قبلُ في أثناء حوارٍ دار بيننا بعد أن استيقظتِ هنا مباشرةً، وتمرِّين بما وصفَه ريتشارد …»
قاطعته نيكول وهي تجذب ساعدَه بقوة أدهشته: «أخبِرني شيئًا أولًا.»
وأردفت: «هل ستفرقون بيني وبين بينجي في ذلك التقسيم الذي ستعلِن عنه بعد ظهر اليوم؟»
تردَّد الرجل النسر عدة ثوانٍ، ثم قال في النهاية: «كلا! لن يحدُث هذا. ولكن ليس من المفترض أن أخبرك شيئًا من التفاصيل …»
أطلقت نيكول تنهيدةَ ارتياح. وقالت ببساطة وهي تحاول الابتسام: «شكرًا لك.»
خيَّم عليهما صمتٌ طويل. ثم بدأ الرجل النسر يقول مرةً أخرى: «لن تستطيعي رؤيةَ الكائنات اللاسويقية بعد …»
قالت نيكول: «حسنًا، حسنًا. هذه فكرة رائعة. شكرًا جزيلًا لك. أودُّ أن أعبِّر عن تقديري للكائنات اللاسويقية … بعد أن أتناول إفطاري بالطبع …»
•••
كان وجود المكعبات الآلية الأصغر حجمًا أكثرَ وضوحًا في جناح مركبة نجمة البحر الذي يضم المخلوقات الطائرة واللاسويقية. وكان الجناح مقسَّمًا إلى عدة مناطق منفصلة بجدرانٍ تمتد من الأرض إلى السقف. كانت المكعبات الآلية تحرُس مداخلَ هذه المناطق ومخارجها، وهي متمركزة أيضًا عند كل محطة ترام.
كانت المخلوقات الطائرة واللاسويقية تعيش في نهاية الجناح، في آخرِ المجمعات المنفصلة. وعندما وصل الرجل النسر ونيكول كان أحد المكعبات الآلية وأحد المخلوقات الطائرة يحرُسان المدخل. تحدَّث الرجل النسر بلغة المخلوقات الطائرة وهو يجيب عن سلسلة من أسئلة المخلوق الطائر. وبعد أن دخلوا إلى المجمع اقترب منهما كائن قطنمل. وبدأ يتحدَّث مع الرجل النسر بصوته العالي التردُّد الصادر من الثقب الدائري الصغير أسفل عينيه البيضاويين الوديعتين بلونهما البني الداكن. تعجَّبت نيكول من دقة إجابات الرجل النسر التي على شكل صفير. وراقبت القطنمل بافتتان أيضًا والزوجين الثانيَين من عيونه، أعلى سويقات ترتفع عشرة أو اثني عشر سنتيمترًا فوق جبهته، يستمر في الدوران على محوره واستطلاع البيئة المحيطة به. وعندما انتهى الرجل النسر من حواره مع القطنمل، ذلك المخلوق السداسي الأرجل الذي يشبه نملةً عملاقة وهو يقف ثابتًا، انطلق المخلوق يجتاز الرواق بسرعة ورشاقة قطة.
قال الرجل النسر: «إنهم يعلمون مَن أنت. وهم مسرورون لأنك أتيت لزيارتهم.»
نظرت نيكول أعلى إلى رفيقها. وقالت: «كيف يعرفونني؟! لقد رأيت أحيانًا بعضًا منهم في المناطق العامة ولم أتعامل معهم قط …»
«إن زوجك بمنزلة إلهٍ لهذه الكائنات … فلولاه لما كان أيٌّ منهم موجودًا هنا الآن. إنهم يعرفونك من الصور التي كانت داخل ذاكرته …»
سألته نيكول: «كيف يمكن ذلك؟! لقد توفِّي ريتشارد منذ ستة عشر عامًا …»
قال الرجل النسر: «لكنَّ سجلَّ وقائع بقائه معهم وأحداثه محفوظٌ بدقة داخل ذاكرتهم الجمعية. فكل قطنمل يخرج من بطيخة المن الخاصة به يتمتَّع بقدرٍ كبير من المعلومات عن المكوِّنات الأساسية لثقافته وتاريخه … وعملية تطوُّر الجنين التي تحدُث داخل البطيخة لا تمدُّهم بالتغذية البدنية اللازمة لعملية النمو وتكوين الكائن فقط، بل أيضًا تنقل معلوماتٍ مهمة مباشرة إلى عقول صغار القطنمل أو المقابل لها أيًّا كان.»
قالت نيكول: «هل تقول لي إن هذه الكائنات تبدأ في التعلُّم قبل أن تُولد؟ وإن هناك معارفَ مخزنةً داخل بطيخ المن، التي اعتدتُ أكْلَها، تُزرَع بطريقةٍ ما في عقول القطنمل التي لم تُولَد؟»
أجابها الرجل النسر: «بالضبط. ولا أرى سببًا يجعلك مذهولةً هكذا. فمن الناحية البدنية، هذه الكائنات لا تضاهيكم بأيِّ شكل من الأشكال في التعقيد. وعملية نمو الجنين عند البشر أكثرُ دقةً وتعقيدًا من مثيلتها لديهم. فمواليد البشر يصِلون إلى الدنيا بمجموعة مدهشة من الصفات والإمكانات البدنية. ولكنَّ أطفالكم يعتمدون على الأعضاء الأخرى من جنسِكم لبقائهم على قيد الحياة وتعلُّمهم. أما القطنمل فتُولَد «أذكى» ومن ثَم أكثر استقلالًا، ولكن لديهم إمكانات أقل بكثير للتطوُّر العقلي الإجمالي.»
سمِعا صوتَ صيحة حادة من قطنمل في الرواق على بُعد خمسين مترًا تقريبًا منهما. فقال الرجل النسر: «إنه ينادينا.»
تحرَّكت نيكول للأمام ببطء بكرسيِّها المتحرِّك وثبَّتت السرعةَ على سرعةٍ تساوي سرعةَ خُطى الرجل النسر. وقالت: «لم يخبرني ريتشارد قطُّ أن تلك الكائنات تحتفظ بالمعلومات من جيل إلى جيل.»
قال الرجل النسر: «إنه لم يكن يعلم. لقد اكتشف بالفعل دورةَ التحوُّل لديهم، وأن كائنات القطنمل تنقل المعلومات إلى الشبكة أو النسيج العصبي أو أيًّا كان ما يُطلَق على الشكل النهائي … ولكنه لم يخمِّن حتى أن أهمَّ عناصر تلك المعلومات الجمعية لديها تُخزَّن في بطيخ المن وتُنقَل إلى الجيل التالي … ولا داعيَ لأن أقول إن هذه آلية بقاء قوية.»
كان ما يقوله الرجل النسر يخلُب لبَّ نيكول. وقالت في نفسها: «ماذا لو أن أطفال البشر يمكن بطريقةٍ ما أن يولدوا وهم يعرفون بالفعل مبادئَ ثقافتنا وتاريخنا! ماذا لو أن شيئًا مثل المشيمة احتوى على معلوماتٍ كافية في صورة مضغوطة! يبدو هذا مستحيلًا، ولكنه ينبغي ألا يكون كذلك. فإذا كان بمقدور جنسٍ على الأقل من الأجناس ذلك، إذن في النهاية …»
سألت نيكول وهما يقتربان من القطنمل الذي دعاهما: «ما مقدارُ البيانات التي تنتقل من بطيخ المن إلى المواليد الجدد؟»
«تقريبًا واحد على ألف من واحد بالمائة من المعلومات الموجودة في نموذجٍ ناضج تمامًا كالذي استخدمه ريتشارد. والوظيفة الأساسية للشكل النهائي للنوع هي التحكُّم في البيانات ومعالجتها وضغطها إلى حُزمة لتضمينها في بطيخ المن … ولكننا لا نزال ندرُس كيفيةَ عمل عملية التحكم في البيانات …»
وواصل الرجل النسر: «والشبكة العصبية التي سترينها بعد دقائقَ قليلة كانت في الأساس جزءًا صغيرًا من مادةٍ تحتوي على بيانات مهمة مضغوطة باستخدامِ ما لا بد أنه خوارزمية عبقرية … وقد قدَّرنا أنه كان في تلك الأسطوانة الصغيرة التي حملها ريتشارد إلى نيويورك قبل سنوات معلوماتٌ تساوي في حجمها سعةَ ذاكرة مائة مخ بشري ناضج.»
قالت نيكول وهي تهزُّ رأسها في انبهار: «مذهل!»
قال الرجل النسر: «هذه هي البداية فقط. فكلُّ واحدة من بطيخ المن الأربع التي حملها ريتشارد كان بها مجموعتها الخاصة من البيانات المضغوطة. وقد خرج منها جميعًا كائناتُ قطنمل في حديقة حيوانات كائنات الأوكتوسبايدر. والشبكة العصبية الآن تحتوي على جميع الخبرات التي مرُّوا بها في تلك المرحلة أيضًا … أتوقَّع أنك على وشْك بدء مغامرة.»
أوقفت نيكول الكرسيَّ المتحرك. وقالت: «لمَ لمْ تخبرني بكل هذا في وقتٍ مبكر؟ كان من الممكن أن أقضي مزيدًا من الوقت …»
قاطعها الرجل النسر: «أشكُّ في هذا. لقد كانت إعادةَ بناء علاقتك بأفراد نوعك على رأس قائمة أولوياتك … ولا أظن أنكِ كنت جاهزة لهذا قبل الآن.»
قالت نيكول دون ضغينة منها: «لقد كنتَ تتلاعب بي بالتحكُّم فيما أراه وأمرُّ به.»
أجابها الرجل النسر: «ربما.»
•••
كانت نيكول خائفةً للغاية عندما واجهت الشبكة العصبية عن قُرب. كانت هي والرجل النسر معًا في غرفةٍ لا تختلف عن الغرفة التي تسكن فيها في الجناح المخصَّص للبشر. واثنان من كائنات القطنمل يجلسان خلفهما مستندَين إلى الحائط. وتحتل شبكة الكائنات اللاسويقية ما يقرُب من خمس عشرة بالمائة من الغرفة، خلفهما في الزاوية اليمنى. وتوجد فجوةٌ في وسط المادة البيضاء الكثيفة الناعمة تكفي نيكول وكرسيها المتحرك. وقد انصاعت نيكول لطلب الرجل النسر بأن تشمِّر عن ساعديها وترفع رداءها فوق ركبتيها.
قالت بقدرٍ من الذعر: «أظن أنها تتوقَّع مني أن أحرِّك الكرسي إلى ذلك الفراغ وأنها ستحيط جسدي بخيوطها.»
قال الرجل النسر: «أجل. وسيأمر أحدُ كائنات القطنمل الشبكةَ أن تطلق سراحكِ عندما تطلبين … وسأظل أنا هنا طوال الوقت إذا كان ذلك سيجعلك تشعرين بالراحة.»
قالت نيكول وهي تتباطأ في دخولها: «أخبرني ريتشارد أن الأمر يستغرق وقتًا طويلًا حتى يبدأ أيُّ تواصل فعلي …»
أجابها الرجل النسر: «هذه لن تكون مشكلةً الآن. فمن المؤكد أن بعضًا من المعلومات المخزَّنة في الجزء الأصلي كانت بيانات عن الوسائل التي يمكن أن تستخدم في التواصل بصورةٍ فعَّالة مع الكائنات البشرية.»
قالت نيكول وهي تمرِّر يدَها بعصبية في شعرها: «حسنًا إذن، سأدخل. تمنَّ ليَ التوفيق.»
قادت نيكول الكرسيَ إلى الفجوة في الشبكة الناعمة وأطفأت زرَّ التشغيل في الكرسي المتحرك. وفي أقلَّ من دقيقة أحاط المخلوق بنيكول، فلم تستطِع حتى رؤيةَ ملامح جسد الرجل النسر عبْر الغرفة. حاولت نيكول أن تطمئن نفسَها. حين شعرت بمئات الخيوط الصغيرة في البداية ثم بآلاف منها تلتصق بذراعيها وساقيها وعنقها ورأسها، قالت في نفسها: «لن يؤذيني هذا.» وكما توقَّعت، كانت كثافةُ الخيوط أكبرَ حول رأسها. وتذكَّرت وصْفَ ريتشارد. قال: «كل خيط من هذه الخيوط رفيعٌ إلى حدٍّ لا يُصدَّق، ولكن لا بد أن لها أجزاءً دقيقة للغاية في نهايتها. إنني لم أدرك هل دخلت جيدًا داخل الطبقات الخارجية من جلدي حتى حاولت أن أسحب واحدة منها.»
حدَّقت نيكول في مجموعةٍ معينة من الخيوط على بُعد متر من وجهها. وعندما بدأت تلك العُقدة تتجه نحوها ببطء غيَّرت العناصر الأخرى في الشبكة الرقيقة من وضعها. سرَت قشعريرة في جسد نيكول، وتقبَّل عقلها أخيرًا أن الشبكة المحيطة بها كائن حي؟ وما هي إلا لحظات حتى بدأت الصور.
أدركت نيكول من فورها أن الكائن اللاسويقي يقرأ من ذاكرتها. إذ ومضت صورٌ من مرحلة مبكِّرة من حياتها في ذهنها بسرعةٍ مذهلة، ولم يكن أيٌّ منها يستمر وقتًا يكفي ليثيرَ داخلها أيَّ مشاعر. ولم تكن الصور مرتَّبة؛ فمرَّت على ذهنها ذكرى من الطفولة في الغابة خلف منزلها في الضاحية الباريسية شيلي مازار تتبَعها صورةٌ لماريا وهي تضحك من قلبِها على واحدة من نِكات ماكس.
فكَّرت نيكول في نفسها وهي تتذكَّر تحليلَ ريتشارد للوقت الذي قضاه داخل الشبكة العصبية: «هذه هي مرحلة نقل البيانات. إن الكائن ينسخ ذاكرتي إلى ذاكرته بمعدَّل سريع للغاية.» وتساءلت لوقت قصير عمَّا سيفعله الكائن اللاسويقي بكل الصور في ذاكرتها. ثم فجأةً رأت في عقلها صورةً حية لريتشارد نفسِه في غرفةٍ كبيرة على جدرانها لوحةٌ جدارية كبيرة غير مكتملة. ثم أصبحت الصورة الساكنة في الغرفة مقطعًا متحركًا. كان وضوح الصور المنفردة المكوِّنة للمقطع مذهلًا. شعرَت نيكول كما لو أنها تشاهد تلفازًا ملونًا وُضع في مكانٍ ما في مخِّها. حتى إنها رأت تفاصيلَ اللوحة الجدارية. وبينما تشاهد نيكول المقطعَ جذب كائن القطنمل انتباهَ ريتشارد إلى نقاطٍ محدَّدة في الرسم على الحائط. كان في أنحاء الغرفة اثنا عشر كائن قطنمل أخرى يرسمون أو يَطلون الأجزاء غير المنتهية من اللوحة الجدارية.
كان العمل الفني بديعًا. صُنع كي يمنحَ ريتشارد معلوماتٍ عما يستطيع القيام به لمساعدة المخلوقات الفضائية على البقاء على قيد الحياة. وكان جزءٌ من اللوحة الجدارية كتابًا عن علم الأحياء الخاص بهم، وهو يشرح بالصور الأشكال الثلاثة التي يتخذها نوعُهم (بطيخ المن والقطنمل والكائن اللاسويقي أو الشبكة العصبية) والعلاقات بينها. كانت الصور التي تشاهدها نيكول واضحةً للغاية حتى إنها شعرت أنها قد نُقلت إلى الغرفة التي يوجد بها ريتشارد. ولهذا فقد أجفلت عندما قُطع فجأةً المقطعُ الداخلي الذي تشاهده وقفزت الصورة إلى الوداع الأخير بين ريتشارد وكائن القطنمل الذي يرشده.
كان ريتشارد والقطنمل في نفقٍ أسفل الأسطوانة البنية. وقد تباطأت الصور المتحرِّكة بصورةٍ لم تؤرِّق نيكول عند كل تفصيلة من تفاصيل الوداع الأخير. وبدا وجهُ ريتشارد الذي تزيِّنه لحيةٌ مثقلًا وهو يحمل بطيخات المن الأربع الثقيلة وبيضتين صلبتين للمخلوقات الطائرة، بالإضافة إلى أسطوانة مادة النسيج في حقيبة ظهره. الآن فهمت نيكول لماذا يرون ريتشارد بطلًا عندما رأت التصميم في عينيه وهو يرحل من موطن القطنمل الهالك. وذكَّرت نفسَها: «لقد خاطر بحياته كي ينقذَهم من الانقراض.»
تدفَّق مزيدٌ من الصور على عقلها؛ صور من حديقة حيوانات كائنات الأوكتوسبايدر تسجِّل أحداثًا بعد نمو بطيخ المن الذي حمله ريتشارد معه إلى نيويورك. ورغم وضوح الصور لم تستطِع نيكول التركيزَ على الصور بانتباه؛ فهي لا تزال تفكِّر في ريتشارد. وقالت لنفسها: «إنني لم أسمح لنفسي منذ أن استيقظت أن أشتاق إلى رفقتك، لأني ظننت أن هذا ينِم عن الضَّعف. أما الآن فرؤيةُ وجهك مرةً أخرى بهذا الوضوح وتذكُّري لكل الأشياء التي جمعتنا، يجعلاني أدرك مدى سخفي عندما أجبِر نفسي على عدم التفكير فيك. إذا مات مَن نحب قبْلنا فلمَ لا نجعل استعادةَ ذكرياتِ أهمِّ لحظاتنا مصدرًا مقبولًا للسعادة؟»
برقت صورةٌ لثلاثة من البشر، رجل وسيدة وطفلة صغيرة، في عقل نيكول وأسرَت انتباهها. وكادت أن تصرخ بصوتٍ عالٍ: «انتظر! ارجع إلى هذه الصورة! هناك شيء أودُّ رؤيته.» ولكن الشبكة العصبية لم تقرأ رسالتها. فاستمرَّت في عرض الصور، فأوقفت نيكول أفكارها عن ريتشارد مؤقتًا وركَّزت باهتمام على الصور التي تظهر على التلفاز في مخِّها.
وبعد أقلَّ من دقيقة رأت الثلاثي مرةً أخرى يسيرون مع حارس حديقة الحيوانات بجانب المنطقة التي تضم القطنمل. إنها ماريا بين ذراعي والدتها. كان والدها، وهو رجلٌ أسمرُ البشرة وسيمُ الوجه أشيبُ الفَودين، يجرُّ إحدى ساقيه كما لو أنها مكسورة. وفكَّرت نيكول: «إنني لم أرَ ذلك الرجل من قبل. لو رأيته لتذكَّرتُه.»
لم تظهر صورٌ أخرى عن ماريا ووالديها. وأوضحت مجموعةُ الصور المعروضة بسرعة في عقل نيكول انتقالَ القطنمل إلى مكان آخر، بعيدًا عن حديقة الحيوانات ومدينة الزمرد في وقتٍ ما قبل أن يبدأ القصف. وافترضت نيكول أن المجموعة الأخيرة من الصور التي عُرضت أمامها لأحداثٍ وقعت في الوقت الذي كان فيه جميع البشر وكائنات الأوكتوسبايدر في راما نائمين. وفكَّرت: «لم يمرَّ وقتٌ طويل بعد ذلك، إذا كنت أفهم دورةَ حياة القطنمل بصورة صحيحة، حتى تحوَّلت الكائنات الأربعة الناتجة عن البطيخ الذي أنقذه ريتشارد إلى مادة شبكية. وأصبحت جميع هذه الذكريات مضمَّنة بداخلها.»
ثم أصبحت الصور في ذهن نيكول مختلفة تمامًا. رأت صورًا لمشاهدَ اعتقدت أنها من كوكب الكائنات اللاسويقية الأصلي، صورًا وصفها لها من قبلُ ريتشارد بسعادةٍ أثناء الوقت الذي قضياه سويًّا بعد هروبها من عدن الجديدة.
كانت نيكول قد وضعت يدَها اليمنى عمدًا بجوار لوحة التحكُّم في كرسيِّها المتحرِّك عندما دخلت إلى الشبكة. وعندما ضغطت على زر التشغيل ثم زر الرجوع للخلف رصدَ الكائن اللاسويقي حركةَ الكرسي الطفيفة من فوره. فتوقَّفت الصور على الفور وبعدها سحب الكائن خيوطه.
٦
في اليوم التالي، قبل ساعة من بدء موعد الغداء، تحوَّل جزءٌ من أحد الجدران في كل غرفة من غرف سفينة نجمة البحر إلى شاشة تلفاز كبيرة. ثم أُخبر المقيمون بها أن هناك إعلانًا مهمًّا سيُبثُّ بعد ثلاثين دقيقة.
قال ماكس لنيكول وهما ينتظران: «هذه هي المرة الثالثة فقط التي نتلقى فيها بثًّا عامًّا. كان الأول بعد أن وصلنا إلى هنا مباشرة، والثاني بعد أن تقرَّر فصلُ أجنحة المعيشة.»
سأل ماريوس: «ما الذي سيحدُث الآن؟»
أجابه ماكس: «أظن أننا سنكتشف تفاصيلَ انتقالنا. على الأقل هذه هي الإشاعة السائدة.»
وفي الوقت المحدَّد ظهر وجهُ الرجل النسر على الشاشة. قال وهو ينقل الرسالة نفسَها في الوقت نفسِه بشرائط ألوان تتحرك عبْر جبهته: «العام الماضي عندما استيقظتم جميعًا ونُقلتم من راما، أخبرناكم أن هذه المركبة لن تكون منزلكم الدائم. إننا الآن على وشْك نقلِكم إلى مكان آخر، حيث ستكون الظروف المعيشية أفضلَ كثيرًا.»
سكتَ الرجل النسر بضعَ ثوانٍ قبل أن يستأنف: «لن تُنقلوا جميعًا إلى المكان نفسِه. سينتقل تقريبًا ثلث المقيمين في نجمة البحر في الوقت الحالي إلى الحاملة، تلك المركبةِ الفضائية الضخمة المسطحة التي تمركزت بالقرب من النود أغلبَ الأسبوع المنصرم. وفي أثناء الساعات القليلة التالية ستنهي الحاملة عملَها في النود وتأتي إلينا. وأولئك الذين سيُنقلون إلى الحاملة سيتحركون الليلة بعد العشاء.
أما بقيتكم فسينتقل إلى النود في غضون ثلاثة أو أربعة أيام. لن يبقى أحدٌ هنا على متن نجمة البحر … وأود أن أؤكد مرةً أخرى أن وسائل العيش والراحة في كلا المكانين ستكون ممتازة وأفضلَ كثيرًا من الموجودة على متن هذه المركبة.»
سكتَ الرجل النسر نصف دقيقة تقريبًا كما لو كان يسمح ببعض الوقت للمستمعين كي يعبِّروا عن ردود أفعالهم لِما قاله. ثم قال: «عندما ينتهي هذا الاجتماع ستُظهر شاشة التلفاز في كل غرفة على نحو متكرِّر قائمةً بجميع الكائنات على متن السفينة مرتَّبة برقم الغرفة، وستعرض الأماكن التي من المقرَّر الانتقال إليها. قراءة المعلومات على الشاشات بسيطةٌ للغاية. فإذا ظهر اسمك و/أو كود التعريف الخاص بك على الشاشة بحروف سوداء على خلفية بيضاء، فهذا يعني أنك ستُنقل إلى الحاملة. وإذا كان اسمك بحروفٍ بيضاء على خلفية سوداء فستظل هنا الأيامَ القليلة القادمة، وستُنقل في النهاية إلى النود.
ولمعلوماتكم، على متن الحاملة سيكون لكل جنس من الكائنات منطقةٌ مخصَّصة يعيش فيها. ولن يكون هناك اختلاطٌ بين الأنواع فيما عدا بالطبع حالات العلاقات التكافلية. في المقابل …»
علَّق ماكس بسرعة: «هذا من شأنه أن يسعد قادةَ المجلس. لقد كانوا يثيرون الاضطرابات للفصل التام منذ أشهر …»
«… ستقتضي الظروف المعيشية في النود تواصلًا وتفاعلًا منتظمَين بين الأجناس … وقد حاولنا في توزيعنا للأفراد في المكانين أن نضع كلًّا منكم في البيئة التي تناسب شخصيتَه تمامًا. وقد تحرَّينا الدقةَ في اختياراتنا بالاعتماد على بيانات المراقبة هنا على متن نجمة البحر وفي أثناء السنوات التي قضيتموها في راما …
من المهم أن تدركوا جميعًا أنه لن يكون هناك أيُّ اتصال بين المجموعتين بعد أن يتم الانتقال. سأصيغ ذلك بعبارةٍ أخرى لضمان عدم حدوث أي لَبْس في الفهم. أولئك الذين سينتقلون إلى الحاملة الليلة لن يروا أبدًا أيًّا من المقيمين هنا مرةً أخرى الذين سيُنقلون إلى النود.
مَن اختِير للانتقال إلى الحاملة يجب أن يبدأ في حزمِ حقائبه على الفور ويجب أن يكون مستعدًّا تمامًا للانتقال قبل أن يأتيَ لتناول العشاء. أما مَن وقعَ عليه الاختيار للانتقال إلى النود ولا يرى أن الاختيار مناسب، فيمكنه أن يطلب إعادةَ النظر في القرار. والليلة بعد أن ينتقل جميع المسافرين الذين اختِيروا للانتقال إلى الحاملة، سألتقي في المطعم بأولئك الذين يفكرون في الانتقال من النود إلى الحاملة …
وإذا كان لدى أيٍّ منكم أسئلة فسأكون بالمكتب الكبير في الرَّدهة طَوال الساعة التالية …»
•••
سأل ماكس نيكول: «ماذا قال لك الرجل النسر؟»
أجابته: «الكلام نفسه الذي قاله للعشرين شخصًا الآخرين في الرَّدهة الذين كانوا يسألون السؤال نفسَه. لا يُسمح بتغيير مكان الانتقال لأولئك المقرَّر نقلهم إلى الحاملة … ستكون إعادة النظر مقصورةً فقط على أولئك المقرَّر نقلهم إلى النود.»
سألت إيبونين: «هل هذا ما جعل ناي … تنهار؟»
قالت نيكول: «نعم. حتى ذلك الوقت كانت تتمالك نفسَها جيدًا. عندما جاءت في البداية إلى غرفتنا بعد أن عُرضت القوائم أولَ مرة، رأيتها هادئة بصورة ملحوظة … من الواضح أنها أقنعت نفسَها مبدئيًّا أن اختيار جاليليو كان خطأ كتابيًّا.»
قالت إيبونين: «إنني أفهم ما لا بد أنها تشعر به. وسأعترف أن قلبي كاد يقفز من صدري عندما رأيت أننا جميعًا عدا جاليليو بالقائمة التي ستُنقل إلى النود.»
قال ماكس: «أراهن أن ناي ليست الوحيدةَ الغاضبة من هذا الاختيار.» وقف وبدأ يتجول في أنحاء الغرفة وهو يهزُّ رأسه في أسًى. قال «إنها مشكلة حقًّا. ماذا كنا سنفعل لو كان تقرَّر نقلُ ماريوس إلى الحاملة؟»
أجابته إيبونين بسرعة: «هذا أمرٌ سهل. كنا سنتقدم أنا وأنت بطلب للذهاب مع ابننا.»
قال ماكس بعد صمتٍ لم يدُم طويلًا: «أجل. أظن أنك على حق.»
قالت نيكول: «وهذا ما يناقشه باتريك وناي الآن في الغرفة المجاورة. لقد طلبا من الشباب الخروجَ من الغرفة حتى يستطيعا التحدُّث على انفراد.»
سألته إيبونين: «هل تظن أن ناي يمكنها التعاملُ مع كل هذه الضغوط الإضافية التي ستقع على كاهلها بعد … ما حدَث لها مباشرة؟»
قال ماكس: «ليس لديها خيارٌ في الواقع. فلم يتبقَّ لديهما سوى ساعتين حتى يتخذا قرارهما.»
قالت نيكول: «لقد بدَت لي أفضلَ بكثير منذ عشرين دقيقة. فالمُسكِّن الخفيف بدأ يُحدِث مفعوله … وكان باتريك وكيبلر لطيفين للغاية معها، وأظن أن ناي أخافت نفسَها ولا سيما بعدما انتابتها نوبة الغضب.»
سألتها إيبونين: «هل هاجمت الرجل النسر بالفعل؟»
قالت نيكول: «كلا … لقد قيَّدها أحدُ المكعبات الآلية على الفور عندما صرخت. ولكنها كانت خارجة عن السيطرة … كان من الممكن أن تفعل أيَّ شيء.»
قال ماكس: «اللعنة! إذا أخبرتني عندما كنا نعيش في مدينة الزمرد أن ناي لديها القدرةُ على استخدام العنف، كنت سأعارضك …»
قاطعته نيكول: «فقط مَن كان أبًا أو أمًّا هو مَن يستطيع فقط أن يفهم المشاعر القوية التي تمتلكها الأم عندما يتعلق الأمر بأطفالها. لقد أصيبت ناي بخيبة الأمل شهورًا … أنا لا يمكن أن أتغاضى عن ردةِ فِعلها، ولكني بالتأكيد أتفهَّم …»
سكتت نيكول عندما سمِعت طرقًا على الباب. تكرَّر الطَّرق على الباب، ثم دخل باتريك الغرفةَ بعد بضع ثوانٍ. كان وجهه يفصِح عما يشعر به من قلق. قال: «أمي! أحتاج إلى التحدُّث إليك.»
قال ماكس: «يمكنني أن أخرج أنا وإيبونين إلى الرواق. إذا كان ذلك سيتيح لكما فرصةً للحديث …»
قال باتريك بصعوبة: «نعم، شكرًا لك يا ماكس … سأقدِّر هذا كثيرًا.» لم ترَ نيكول باتريك مضطربًا بهذا الشكل من قبل.
قال باتريك فور أن أصبح وحدَه مع نيكول: «لا أدري ماذا أفعل! فكل شيء يحدُث بسرعة كبيرة … لا أظن أن ناي في كامل قواها العقلية، ولكن لستُ قادرًا على …» خبا صوتُه. ثم قال: «أمي، إنها تريد أن نتقدَّم جميعًا بطلب إعادة نظر في انتقالنا! الجميع! أنت وأنا وكيبلر وماريا وماكس … جميعنا … وتقول إن لم نفعل ذلك فسيشعر جاليليو أننا هجرناه.»
نظرت نيكول إلى ابنها. كان على وشْك البكاء. ففكَّرت نيكول بسرعة: «لم يعِش باتريك فترةً كافية ليتعامل مع أزمةٍ كهذه. لقد عاش مستيقظًا مدةً تزيد قليلًا عن عشر سنوات.»
قالت نيكول برفق: «ماذا تفعل ناي الآن؟»
أجاب باتريك: «إنها تمارس التأمُّل. وتقول إن ذلك سيهدئ روحها وسيضمِّد جِراحها … ويمنحها القوة.»
«وهل من المفترض أن تقنعنا أنت؟»
«نعم، أظن هذا … ولكن يا أمي، إن ناي لم تَضَع في اعتبارها أنه قد لا يوافق أحدُنا على ما تقترحه. إنها تعتقد أن ما يجب أن نفعله جميعًا واضحٌ وضوح الشمس.»
كان الألم باديًا على وجه باتريك. فتمنَّت نيكول لو تقترب منه وتربِّت على كتفيه وتُذهِب عنه آلامه كلَّها. ثم سألته بعد فترة من الصمت: «وماذا ترى أن نفعل؟»
قال باتريك وهو يذرع الغرفةَ جَيئة وذهابًا: «لا أعلم. فأنا على غرار الجميع لاحظت فور أن أُعلنت القائمة أن جميع أعضاء المجلس النشطين سيُنقلون إلى الحاملة، وكذلك معظم البشر الذين أُبعدوا من أماكن المعيشة العادية. أما الأشخاص الذين نحبُّهم ونحترمهم، وكذلك جميع كائنات الأوكتوسبايدر فيما عدا بعض سكان الموطن البديل، فسيذهبون إلى النود … ولكني أتعاطف مع ناي. إنها لا تحتمل فكرةَ عزلِ جاليليو، وإبعاده للأبد عن نظام الدعم الوحيد الذي عرفه في حياته …»
ارتفع صوتٌ داخل نيكول يسألها: «ماذا ستفعلين لو كنتِ في مكان ناي؟ ألم تشعري بالذعر في وقتٍ سابق من اليوم عندما خشيتِ أن تبتعدي عن بينجي؟»
قال باتريك بتضرُّع: «هلا تتحدَّثين إليها يا أمي بعد أن تنتهي من التأمل؟ ستستمع إليك. لطالما تحدَّثت ناي عن احترامها لحكمتك.»
سألته نيكول: «وهل هناك أيُّ شيء محدَّد تريد مني أن أخبرها به؟»
قال باتريك وهو يعتصِر يديه: «أخبريها … أخبريها أنه ليس من حقها أن تقرِّر ما هو الأفضل للجميع. يجب أن تركِّز على قرارها هي.»
قالت نيكول: «هذه نصيحة جيدة.» حدَّقت في ابنها. ثم قالت بعد ثوانٍ: «أخبرني يا باتريك، هل قرَّرت ماذا ستفعل لو أن ناي انتقلت إلى الحاملة ولم يفعل أيٌّ منَّا هذا؟»
قال باتريك بهدوء: «نعم، قرَّرت يا أمي. سأذهب مع ناي وجاليليو.»
•••
أوقفت نيكول كرسيها المتحرك في زاويةٍ أمام نافذة المراقبة. كانت وحدَها كما طلبت. لقد كانت فترة بعد ظهيرة ذلك اليوم مفعمةً بالانفعالات لدرجةِ أنها شعرت باستنزاف قواها تمامًا. لقد ظنَّت نيكول في البداية أن لقاءها مع ناي سارَ على ما يرام. فقد استمعت ناي باهتمام إلى نصيحة نيكول، دون أن تعلِّق. لذا فوجئت نيكول تمامًا عندما جاءت ناي بعد ساعة تستشيط غضبًا وواجهتها هي وماكس وإيبونين وإيلي.
قالت ناي: «إن باتريك يقول إنه لن يأتيَ أيٌّ منكم معنا. الآن أرى جزائي مقابل إخلاصي التام لكم طوال هذه السنوات … لقد جررت ولدَيَّ التوءمين من وطنهما بدافع الولاء لكم، يا أصدقائي … وحرَمتُ جاليليو وكيبلر من أن يمرَّا بطفولة عادية لاحترامي وإعجابي بكِ يا نيكول، يا مَثَلي الأعلى … والآن عندما أطلب منكم خدمة …»
قالت إيلي برفق: «إنك غيرُ عادلة في هذا الموقف يا ناي. إننا جميعًا نحبُّك وتروعنا فكرةُ الانفصال عنك أنت وجاليليو للأبد … صدقيني، كنا سنذهب معك أنت وجاليليو إذا تبيَّن لنا أن …»
فقالت ناي وهي تخرُّ على ركبتيها إلى جوار صديقتها وتجهش ببكاء حارٍّ: «إيلي! إيلي! هل نسيتِ تلك الساعات كلها التي قضيتها مع بينجي في أفالون؟ نعم، أعترف أني فعلت هذا بمحض إرادتي، ولكن هل كنتُ سأولي بينجي هذا الاهتمامَ كلَّه لو لم يكن هو شقيقك وأنتِ أقربَ صديقاتي؟ إنني أحبُّك يا إيلي … وأحتاج إلى مساعدتك … من فضلك، رجاء، تعالي معنا. على الأقل أنت ونيكي …»
بكت إيلي أيضًا. وقبل أن ينفضَّ هذا الموقف، لم تكن هناك عينٌ لم تذرف الدموع. وفي النهاية اعتذرت ناي كثيرًا للجميع.
تنفَّست نيكول نفسًا عميقًا وحدَّقت من النافذة. وكانت تعرف أنها تحتاج إلى راحةٍ من ذلك الإجهاد العاطفي كله. وقد شعرت بعد ظهر ذلك اليوم بوخزٍ حادٍّ مرتين في صدرها. وفكَّرت في نفسها: «حتى تلك المجسَّات السحرية جميعها لا تستطيع حمايتي إذا لم أعتنِ أنا بنفسي.»
كانت الحاملة الضخمة متمركزةً على بُعد عدة مئات من الأمتار فقط من نجمة البحر. كانت بناءً هندسيًّا مهيبًا، أكبرَ كثيرًا مما كانت تبدو عليه عندما كانت إلى جوار النود. كانت المركبة واقفةً في وضعٍ جانبي؛ لذا لم يظهر من نافذة نجمة البحر سوى جزء منها. وكانت قمةُ الحاملة سطحًا منبسطًا طويلًا لا يظهر فيه سوى مجموعات من المعدَّات الصغيرة المتناثرة والقباب الشفافة — أو الفقاعات كما كان يُطلق عليها في البداية — المرتَّبةِ على طولِ السطح المستوي وعرضِه، وبعض القباب الضخمة جدًّا. كانت إحداها، تلك المقابِلة للنافذة مباشرة، ترتفع أكثرَ من مائتي متر فوق السطح المستوي. بينما كانت القباب الأخرى صغيرةً للغاية، وأجزاء من إحدى عشر فقاعة شفافة مرئية من نافذة المراقبة. ومن الممكن رؤيةُ الحاملة بالكامل في وقتٍ مبكِّر من ظهر ذلك اليوم في أثناء اقتراب المركبة، وقد قُدِّر عددُ القباب بثمانٍ وسبعين.
وكان الجزء السفلي من الحاملة مغطًّى بسطح خارجي رمادي لامع. ويمتد أسفل السطح المستوي مسافةَ كيلومتر، وله جوانبُ منحدرة قليلًا وقاعدة دائرية. ومن بعيد بدا الجزء السفلي ضئيلًا مقارنةً بالسطح المستوي الواسع الذي يبلغ طوله أربعين كيلومترًا وعرْضه خمسة عشر كيلومترًا على الأقل. ولكن من مسافة قريبة كان من الواضح أن سَعة ذلك البناء الرتيب الشكل هائلة.
وبينما كانت نيكول تشاهد بافتتانٍ تمدُّدت فجوة صغيرة في جانب الجزء الخارجي الرمادي اللون، أسفل السطح مباشرة، لتتحول إلى أنبوبٍ دائري يخرج من الحاملة. اقترب الأنبوب من سفينة نجمة البحر، ثم بعد بعض التصحيحات الدقيقة الطفيفة التحمَ الأنبوب بحجرة معادَلة الضغط.
ابتسمت نيكول. وقالت في نفسها: «إنه يومٌ آخر مدهش في حياتي المدهشة.» ثم عدَّلت من وضعها على الكرسي فشعرت بألمٍ طفيف في رِدْفها. فكَّرت: «ليت كان بيدي ما أفعله لأجل ناي. لكن إجبار الجميع على التضحية بأنفسهم من أجل جاليليو ليس هو الحل الصائب.»
شعرت نيكول بلمسةٍ على ذراعها فاستدارت إلى جانبها. كانت الدكتورة بلو. قالت الأوكتوسبايدر بالألوان: «كيف تشعرين؟»
أجابتها نيكول: «أفضل الآن. ولكني مررت بلحظاتٍ عصيبة بعد ظهر اليوم.»
فحصت الدكتورة بلو نيكول بجهاز مراقبة نشاط القلب. فقالت لها نيكول: «شعرتُ اليوم بألمٍ شديد مرتين على الأقل. أتذكَّرهما بوضوح.»
درَست الأوكتوسبايدر الطبيبة البيانات التي تظهر بالألوان مضيئةً على الشاشة الصغيرة. وقالت: «لمَ لمْ تتصلي بي؟»
أجابتها نيكول: «فكَّرت في هذا. ولكن كان هناك كثير من الأحداث … ورأيت أنك قد تكونين مشغولة في …»
أعطت الدكتورة بلو نيكول قِنِّينةً صغيرة تحتوي على سائلٍ سماوي اللون. وقالت: «اشربي هذا. سيحدُّ من استجابات قلبك للضغوط الانفعالية خلال الاثنتي عشرة ساعة القادمة.»
سألت نيكول: «هل سنظل معًا؟ أنا وأنت بعد أن ترحل الحاملة؟ إنني لم أفحص الجزءَ الخاص بكم من القائمة جيدًا.»
أجابتها الدكتورة بلو: «نعم. خمسة وثمانون بالمائة من جنسنا سيُنقلون إلى النود. وأكثرُ من نصف كائنات الأوكتوسبايدر التي ستُنقل إلى الحاملة من سكان الموطن البديل.»
قالت نيكول بعد أن تجرَّعت السائل: «حسنًا يا صديقتي ماذا تستنتجين من عملية النقل هذه؟»
قالت الدكتورة بلو: «أفضلُ تخمينٍ توصَّلنا إليه هو أن هذه التجربة بالكامل وصلت إلى نقطةِ تفرُّع مهمة، وأنهم سيستخدمون المجموعتين الآن في أنشطة مختلفة اختلافًا جذريًّا.»
ضحكت نيكول وقالت: «هذا ليس استنتاجًا تفصيليًّا.»
وافقتها الأوكتوسبايدر بهدوء قائلة: «صحيح، ليس كذلك.»
•••
كان هناك اثنان وثمانون شخصًا وتسعة من كائنات الأوكتوسبايدر في المطعم عندما عقَد الرجل النسر اجتماعَ إعادة النظر بعد خمس دقائق من رحيل آخر المقيمين في نجمة البحر الذين تقرَّر انتقالهم إلى الحاملة عبْر غرفة معادَلة الضغط؟ وسُمح فقط لأولئك الذين طلبوا إعادةَ النظر بحضور ذلك الاجتماع. وكان كثيرٌ من الأفراد الآخرين من كل جنس لا يزالون موجودين على سطح المراقبة وفي المناطق العامة يتحدَّثون عن موكب الرحيل أو ينتظرون معرفةَ نتيجة اجتماع الرجل النسر.
عادت نيكول إلى مكانها عند نافذة المراقبة. وكانت تجلس على الكرسي المتحرِّك تحدِّق في الحاملة وتفكِّر مليًّا في المشاهد التي رأتها في الساعة الأخيرة. كان معظم الراحلين من البشر في حالةٍ مزاجية مرحة، ويشعرون بسعادةٍ واضحة لأنهم لن يعيشوا بعد ذلك بين كائنات فضائية. هناك بعضُ لحظات الوداع الحزينة عند باب غرفة معادلة الضغط، ولكنها في الواقع قليلةٌ بصورة تثير الدهشة.
سُمح لجاليليو بقضاء عشر دقائق مع عائلته وأصدقائه في المنطقة العامة. وقد طمأنه باتريك وناي بأنهما سينضمان إليه مع شقيقه كيبلر، الذي لا يزال يُعِدُّ حقيبته، في الحاملة قبل أن ينتهيَ المساء، ولكن الشاب لم يبدُ عليه أنه متأثِّر لأي درجة تُذكَر.
كان جاليليو من ضمن آخرِ البشر الذين غادروا مركبةَ نجمة البحر. وتبِعته مجموعة صغيرة من المخلوقات الطائرة وكائنات القطنمل. وقد وُضعت مادة الشبكة العصبية وبطيخ المن المتبقي في صناديقِ شحنٍ كبيرة وحملتها مجموعةٌ من المكعبات الآلية. وقد فكَّرت نيكول عندما استدار آخر المخلوقات الطائرة وأصدر صيحةَ وداع للمشاهدين: «أظن أنني لن أرى نوعكما مرةً أخرى.»
بدأ الرجل النسر الاجتماعَ في المطعم قائلًا: «لقد طلب كلٌّ منكم إعادةَ النظر في المكان الذي تقرَّر انتقاله إليه، وأن يُسمح لكم بتغيير منزلكم المستقبلي من النود إلى الحاملة … وأود الآن أن أشرح لكم اختلافين إضافيَّين بين بيئتَي المعيشة على متن الحاملة والنود. فإذا كنتم لا تزالون تريدون تغييرَ مكان انتقالكم، بعدما تتدبَّرون في هذه المعلومات الجديدة، فإننا سنستجيب لطلبكم.
كما أخبرتكم بعد ظهر اليوم لن يكون هناك اختلاطٌ بين الأجناس المختلفة من الكائنات على متن الحاملة. سوف يُعزل كلُّ نوع من الكائنات في موطنٍ خاص به، عِلاوة على ذلك، لن يكون هناك تدخُّل من أي نوع من قِبل أي كائنات عاقلة في شئون كل نوع، بما في ذلك الكائنات التي أمثِّلها. الآن أو في أي وقت لاحق. سيكون كل نوع من الكائنات بمفرده تمامًا على متن الحاملة. على النقيض، ستكون الحياة التي تتخالط فيها الأجناس على متن النود خاضعةً للإشراف. ليس إشرافًا قويًّا بقدرِ الموجود هنا على متن نجمة البحر، سيكون هناك قدرٌ من الإشراف. إننا نعتقد أن المراقبة والإشراف ضروريان عندما تعيش الكائنات المختلفة معًا …
ولعل العامل الثاني الإضافي أكثرهما أهميةً على الإطلاق. لن يكون هناك أيُّ تكاثُر على متن الحاملة. فجميع الأفراد الذين يسكنون الحاملة من جميع الأجناس سيُعقَّمون للأبد. ستتوافر جميعُ الوسائل الضرورية لحياةٍ طويلة وسعيدة لأولئك الذين سيعيشون على الحاملة، ولكن لن يُسمح لأحد بالإنجاب. في حين أنه لن تكون هناك أيُّ قيود على التكاثر في النود …»
قال الرجل النسر عندما حاول عديدٌ من الأعضاء مقاطعته بطرح الأسئلة: «رجاءً دعوني أنهي كلامي! لدى كلٍّ منكم ساعتان ليقرِّر … فإذا كنتم لا تزلون تريدون الانتقالَ إلى الحاملةِ ما عليكم سوى إحضار الحقائب التي أعددتموها واطلبوا من المكعَّب الكبير أن يفتح لكم غرفةَ معادَلة الضغط …»
•••
لم تُفاجأ نيكول عندما غيَّر كيبلر فيما بعدُ رأيَه بشأن الانتقال إلى الحاملة. فقد كان الشاب يواجه صعوبةً في اتخاذِ قراره في البداية ولم يطلب إعادةَ النظر إلا بدافع الولاء لوالدته. ومنذ ذلك الوقت قضى معظمَ فترةَ بعد الظهيرة مع ماريا التي من الواضح أنه يعشقها.
وقد طلب كيبلر مساعدةَ كل شخص في العائلة الكبيرة إذا نشِبَ جدالٌ بينه وبين والدته، ولكن لم يحدُث أيُّ خلاف بينهما. فقد وافقت ناي أنه يجب ألا يُحرم كيبلر من متعة الأبوة. بل اقترحت بنبل أخلاقٍ منها أنه ربما يحتاج باتريك إلى إعادة التفكير في قراره، ولكنَّ زوجها سارع بتوضيح أنها تخطَّت سنَّ الإنجاب وأنه أبٌ بالفعل، بطريقةٍ أو بأخرى لجاليليو وكيبلر.
ترك الجميعُ نيكول وباتريك وناي وكيبلر وحدَهم في إحدى الغرفتين للوداع الأخير. لقد كان يومًا من الدموع والمشاعر الجياشة. وكان أربعتهم منهكين مما عانَوه من انفعالات. إنهما أمَّان تودِّعان ابنيهما للأبد. وكان في الكلمات الأخيرة للأمَّين تماثلٌ يمس الوجدان. فقد طلبت ناي من نيكول أن ترشد كيبلر بحكمتها، وطلبت نيكول من ناي أن تستمر في منح باتريك حبَّها غيرَ المشروط وتؤثِره على نفسها.
ثم رفع باتريك الحقيبتين الثقيلتين وألقاهما على كتفيه. وبينما خرج هو وناي من الباب وقف كيبلر إلى جوار كرسي نيكول المتحرِّك يمسك يدَها الضامرة. ولم يتدفَّق نهر الدموع من عينَي نيكول إلا بعد أن أُغلق الباب. وقالت في نفسها بقلبٍ مفطور: «وداعًا يا باتريك! وداعًا يا جنيفياف وسيمون وكيتي! وداعًا يا ريتشارد!»
٧
تعاقبت الأحلام على نيكول واحدًا تلو الآخر، دون أي فواصلَ بينها أحيانًا؛ فهنري ضحِك عليها لأنها سمراء البشرة، ثم زميل متغطرِس من كلية الطب منعَها من ارتكاب خطأ فادح أثناء عملية عادية لاستئصال لوزتين. وبعدها كانت تسير على شاطئ رملي وسُحب داكنة تحوم فوق رأسها. وهناك شخص صامت يرتدي عباءةً ويشير إليها من بعيد. قالت نيكول لنفسها في الحُلم: «إنه الموت.» ولكنها كانت دعابة قاسية من هذا الشخص. فعندما وصلت إليه ولمست يدَه الممدودةَ خلع ماكس باكيت عباءته وضحِك.
ثم كانت نيكول تزحف على ركبتيها العاريتين في أنبوبٍ أسمنتي مظلِم أسفل الأرض. كانت ركبتاها تنزفان. قال صوت كيتي: «أنا هنا!» فسألت نيكول بخيبةِ أمل: «أين أنت؟» قال بينجي: «أنا خلفك يا أمي.» ثم بدأت المياه تملأ الأنبوب. قالت نيكول: «لا أستطيع إيجادَهما. لا أستطيع مساعدتهما.»
كانت نيكول تسبح بصعوبة. أتت موجةٌ قوية في الأنبوب. جرفتها بعيدًا وحملتها إلى الخارج وكوَّنت الموجة خليجًا صغيرًا في غابة. علِقَت ملابس نيكول في شجيرة فوق البحيرة. نهضت وأخذت تنظِّف نفسها. ثم بدأت تسير في طريق من الطرق.
حلَّ الظلام عليها. وسمعت نيكول أصوات بضعة طيور ورأت القمرَ فوقها عبْر الفواصل هنا وهناك بين الأشجار الباسقة. كان الطريق ينعطف يمينًا تارةً ويسارًا تارة أخرى. وصلت إلى ملتقَى طرقٍ. فسألت نيكول نفسَها في الحُلم: «أيَّ طريق أسلك؟» قالت جنيفياف وهي تظهر من بين أشجار الغابة وتأخذ بيدها: «تعالي معي.»
سألتها نيكول: «ماذا تفعلين هنا؟» ضحِكت جنيفياف: «يمكنني أن أطرح عليك السؤال نفسَه.»
كانت كيتي الصغيرة تسير على الطريق متجهةً إليهما. وقالت وهي تمدُّ يدَها إلى يدِ نيكول الأخرى: «مرحبًا يا أمي. هل تمانعين أن أسيرَ معك؟» أجابتها نيكول: «على الإطلاق.»
أصبحت أشجار الغابات كثيفةً من حولهما. وسمِعت نيكول صوتَ خطواتٍ خلفها فاستدارت وهي لا تزال تسير. ابتسم لها باتريك وسيمون ردًّا على ابتسامتها. قالت سيمون: «أوشكنا أن نصل.» فسألت نيكول: «إلى أين نذهب؟» أجابتها ماريا: «أنتِ حتمًا تعرفين يا سيدة نيكول. فأنتِ مَن طلبت منَّا أن نأتي.» كانت الفتاة تسير الآن بجوار باتريك وسيمون.
وصلت نيكول والشباب الخمسة قطعةَ أرض صغيرة خاليةً من الأشجار. كان يتوسَّطها نيرانُ معسكر مشتعلة. ظهر أومه من خلف النيران من الجانب الآخر للنيران ودار حولها ليستقبلهم. وبعد أن شكَّلوا دائرةً جديدة حول النيران ألقى الكاهن رأسَه للخلف وبدأ ينشد بلغة السنوفو. وبينما كانت نيكول تشاهد الكاهن بدأ وجهُ أومه يتساقط ليكشف عن جُمجمته المخيفة. رغم ذلك ظل الإنشاد مستمرًّا. صرخت نيكول: «لا! لا! لا! لا!»
قال بينجي: «أمي! استيقظي يا أمي … إنك تحلُمين حُلمًا مزعجًا.»
مسحت نيكول عينيها. واستطاعت أن ترى مصباحًا على الجانب الآخر من الغرفة. وقالت: «كم الساعة يا بينجي؟»
أجابها بابتسامة: «لقد تأخَّر الوقت يا أمي. ذهب كيبلر لتناول الإفطار مع الآخرين … وأردنا أن ندَعَك تنامين.»
قالت نيكول وهي تتحرَّك برفق على حاشيتها: «شكرًا لك يا بينجي.» شعرت بألمٍ في رِدفها. ودارت بعينيها في أنحاء الغرفة وتذكَّرت أن باتريك وناي قد ذهبا. «للأبد!» حدَّثتها نفسُها وهي تقاوم عودةَ الشعور بالأسى.
سألها بينجي: «هل تودين الاستحمام؟ يمكنني أن أساعدك في خلعِ ملابسك وأحملك إلى مرشة المياه.»
نظرت نيكول للأعلى إلى ابنها الذي بدأ الصلع يجتاح رأسَه. فكَّرت في نفسِها: «كنتُ مخطئةً حين قلِقت عليك. ستكون بخير من دوني.» قالت له: «شكرًا لك يا بينجي. سيكون ذلك لطفًا منك.»
فقال وهو يفكُّ أزرارَ رداء أمه: «سأحاول أن يكون ذلك برفق. ولكن من فضلك أخبريني إذا آلمتُك.»
عندما أصبحت نيكول عاريةً تمامًا حملها بينجي بين ذراعيه وبدأ يسير إلى الحمَّام. ولكنه توقَّف بعد خطوتين. فسألته نيكول: «ما الأمر يا بينجي؟»
ابتسم بينجي في ارتباك وقال: «إنني لم أفكِّر في الخطة جيدًا يا أمي. كان يجب أن أضبطَ حرارةَ الماء أولًا.»
فاستدار وأعاد نيكول مرةً أخرى إلى حاشيتها واتَّجه إلى الحمَّام. سمِعت نيكول صوت تدفُّق المياه.
وناداها: «تحبين المياه دافئةً، أليس كذلك؟»
أجابته نيكول: «هذا صحيح.»
عاد بينجي والتقطها بعد بضع ثوانٍ. وقال: «وضعت منشفتَين على الأرض حتى لا تكون صلبة أو باردة عليك.»
قالت نيكول: «شكرًا لك يا بني.»
كان بينجي يتحدَّث إليها بينما هي جالسة على المنشفتين على أرض الحمَّام، تاركةً الماء المنعش يتدفَّق على جسدها. أحضر لها الصابون والشامبو عندما طلبتهما. وعندما انتهت ساعد بينجي والدتَه في تجفيف جسدها وارتداء ملابسها. ثم حملها إلى كرسيها المتحرك.
قالت نيكول وهي تستقر على كرسيها: «انحنِ إليَّ هنا من فضلك.» ثم طبَعت قُبلة على وجنته وضغطت على يده. وقالت وهي لا تستطيع إيقافَ الدموع التي تتكوَّن في عينيها: «شكرًا لك على كل شيء يا بينجي. لقد كنتَ خير عون لي.»
وقف بينجي إلى جوار والدته متهلِّل الوجه وقال: «إنني أحبُّك يا أمي. ومساعدتك تجعلني سعيدًا.»
قالت نيكول وهي تضغط على يده مرةً أخرى: «وأنا أيضًا أحبُّك يا بني. والآن هل ستنضم إليَّ لتناول الإفطار؟»
قال بينجي وهو لا يزال يبتسم: «هذا ما كنتُ أعتزمه.»
•••
قبل أن ينتهيَ نيكول وبينجي من تناول الطعام اتَّجه الرجل النسر إليهما في المطعم. وقال: «سأنتظرك أنا والدكتورة بلو في غرفتك. فإننا نريد أن نجريَ عليك فحصًا بدنيًّا شاملًا.»
عندما عادت نيكول ومعها بينجي كانت الأجهزة الطبية المعقَّدة قد نُصبت بالفعل في الغرفة. حقنت الدكتورة بلو مزيدًا من المجسَّات الدقيقة مباشرةً في صدر نيكول، وبعدها حقنتها بمجموعة أخرى من المجسَّات في منطقة الكلى. تبادل الرجل النسر والدكتورة بلو الحديثَ بلغة الألوان الأصلية لكائنات الأوكتوسبايدر طَوال الفحص الذي استمر نصفَ ساعة. وكان بينجي يساعد والدته عندما يُطلب منها الوقوف أو الاستدارة. وكان مبهورًا تمامًا بقدرة الرجل النسر على التحدُّث بلغة الألوان.
سأل بينجي الرجلَ النسر في وقتٍ ما من الفحص: «كيف تعلَّمت أن تفعل هذا؟»
أجاب الرجل النسر: «من الناحية الفعلية أنا لم أتعلَّم شيئًا … فقد وضع مصمِّمي نظامَين فرعيَّين متخصصَين في هيكلي؛ أحدهما يسمح لي بترجمة ألوان كائنات الأوكتوسبايدر والآخر يجعل شرائطَ الألوان تتدفَّق على جبهتي.»
أصرَّ بينجي: «ألم تذهب إلى مدرسة أو شيء من هذا القبيل؟»
أجابه الرجل النسر ببساطة: «لا.»
ثم سأله بينجي بعد مرور عدةِ ثوانٍ عندما استأنف الرجل النسر والدكتورة بلو حديثهما عن حالة نيكول: «هل يستطيع مصمِّموك أن يفعلوا بي مثل ذلك؟»
استدار الرجل النسر ونظر إلى بينجي. فقال بينجي: «أنا بطيء للغاية في التعلُّم. سيكون من الرائع لو استطاع أحدهم وضْعَ كل المعلومات في مخي فقط.»
قال الرجل النسر: «إننا لا نعرف تمامًا بعدُ كيف نفعل هذا.»
عندما انتهى الفحص طلب الرجل النسر من بينجي أن يجمع أغراض نيكول كافةً. فسألت نيكول: «إلى أين سنذهب؟»
قال الرجل النسر: «سنذهب في نزهة على متن المكُّوك؛ فأنا أودُّ أن أناقش حالتك الصحية معكِ بالتفصيل وأصطحبك إلى المكان الذي يمكن التعامل فيه مع أي حالة طارئة.»
«ظننتُ أن السائل الأزرق وجميع المجسات داخل جسدي ستكفي ﻟ…»
قال الرجل النسر مقاطعًا إياها: «سنتحدَّث عن هذا الأمر فيما بعد.» وأخذ حقيبةَ نيكول من بينجي وقال: «شكرًا لك على ما قمتِ به لمساعدتنا.»
•••
قالت نيكول عبْر ميكروفون خوذتها بينما المكُّوك يقترب من منتصف المسافة بين سفينة نجمة البحر والنود: «دعني أتأكَّد من أني فهمت النقاش الذي دار في النصف ساعة الأخيرة. لن يستمرَّ قلبي في العمل أكثرَ من عشرة أيام على أقصى تقدير، رغم الوسائل الطبية المتقدمة كافةً، وكليتاي تمرَّان في الوقت الحالي بفشلٍ وظيفي مميت، وكبدي يُظهِر علاماتِ تدهور شديد. هل هذا ملخَّص شامل لِما قلت؟»
قال الرجل النسر: «إنه كذلك.»
أرغمت نيكول نفسَها على الابتسام. وسألت: «ألا توجد أخبارٌ جيدة؟»
«لا يزال عقلك يعمل بصورةٍ مثيرة للإعجاب، والكدمة على رِدْفك ستتعافى، إذا لم تقتلك الأمراض الأخرى أولًا.»
قالت نيكول: «وأنت تقترح عليَّ أن أدخل اليوم إلى المنشأة المناظِرة للمستشفى عندكم هناك في النود، وأستبدل قلبي وكليتيَّ وكبدي بآلاتٍ متقدمة يمكنها القيامُ بالمهام نفسِها؟»
قال الرجل النسر: «قد تحتاج بعض الأعضاء الأخرى إلى استبدالها أيضًا ما دمتِ ستخضعين لعملية كبيرة. فالبنكرياس يتعرَّض للقصور من حين لآخر، وجهازك التكاثري بالكامل غيرُ صالح للعمل تمامًا … ويجب أن تفكِّري في عملية استئصالٍ كاملة للرحم.»
كانت نيكول تهزُّ رأسها في استنكار. قالت: «ومتى يصبح هذا كلُّه لا معنَى له؟! مهما كان ما ستفعله الآن، إنها مسألةُ وقت فحسب حتى تتوقف أعضاءٌ أخرى. ما الأعضاء التي ستتوقف بعد ذلك؟ رئتاي؟ أو ربما عيناي؟ هل ستُجري لي عمليةَ نقلِ مخ إذا لم أعُد قادرة على التفكير؟»
أجابها الرجل النسر: «يمكننا ذلك.»
صمتَت نيكول دقيقةً تقريبًا ثم قالت: «قد لا تجد معنًى لِما سأقوله لك لأنه بالطبع ليس كلامًا منطقيًّا … ولكني لا أشعر بالارتياح تجاه فكرة أن أصبح كائنًا هجينًا.»
سألها الرجل النسر: «ماذا تعنين؟»
قالت: «متى لا أعود نيكول دي جاردان ويكفيلد؟ إذا استُبدِل قلبي ومخي وعينيَّ وأذنيَّ بآلاتٍ، فهل سأظل نيكول؟ أم سأصبح شخصًا آخرَ، أو شيئًا آخر؟»
قال الرجل النسر: «هذه الأسئلة لا تمُتُّ إلى الموضوع بِصلة. إنك طبيبة يا نيكول، تأمَّلي حالة المريض بانفصام الشخصية الذي يجب أن يتناول عقاقير بانتظام لتغيير وظائف المخ، فهل سيظل ذلك الشخص كما كان حقًّا؟ إنه السؤال الفلسفي نفسه، ليست إلا درجة مختلفة من التغيير.»
قالت نيكول بعد صمتٍ قصير آخر: «أفهم وجهةَ نظرك. ولكن هذا لا يغيِّر شعوري … أنا آسفة! إذا كان لديَّ خيار، وأنت جعلتني أعتقد أن لديَّ خيارًا فسأرفض … على الأقل اليوم.»
حدَّق الرجل النسر في نيكول ثواني. ثم أدخل مجموعةً مختلفة من الإحداثيات في نظام التحكم في المكُّوك. فغيَّرت المركبة اتجاهها.
سألت نيكول: «هل سنعود إلى نجمة البحر؟»
قال الرجل النسر: «لا، ليس في الحال. أريد أن أريك شيئًا آخر أولًا.» ثم مدَّ المخلوق الفضائي يدَه إلى الحقيبة المثبَّتة حول وسطه وأخرج منها أنبوبًا صغيرًا يحتوي على سائلٍ أزرق وجهازٍ غيرِ معروف. وقال: «أعطيني ذراعكِ من فضلك. فأنا لا أريدك أن تموتي قبل أن ينقضيَ ظُهر هذا اليوم.»
•••
عندما اقتربوا من «الوحدة السكنية» في النود، اشتكَت نيكول للرجل النسر من الأسلوب «غير الصريح» الذي جرى التعامل به في تقسيم سكان نجمة البحر إلى مجموعتين. فقالت نيكول: «كالعادة، لا يمكن اتهامك بالكذب، ولكن بحجب معلومات خطيرة.»
قال الرجل النسر: «في بعض الأحيان، لا يُتاح لنا طُرق ترضي الجميعَ لإنجازِ مهمة من المهام. وفي هذه الحالات نختار الإجراءَ الذي سينتج عنه أقلُّ قدر من الاستياء … ماذا توقَّعت منَّا أن نفعل؟ نخبر المقيمين من البداية أننا لن نستطيع الاعتناءَ بكل شخص للأبد، جيلًا بعد جيل؟ كانت الفوضى ستعمُّ المكان … بالإضافة إلى هذا لا أظن أنك قدَّرتنا حقَّ قدْرنا. لقد أنقذنا آلاف الكائنات من راما، كان معظمهم سيموت في صراع بين الأجناس لولا تدخُّلنا … تذكِّري أنه سيُسمح للجميع، بما في ذلك أولئك الذين نُقلوا إلى الحاملة، باستكمال حياتهم.»
صمتَت نيكول. وكانت تحاول تخيُّل ما ستكون عليه الحياة على متن الحاملة دون تكاثر. فنقل إليها عقلها سيناريو ما سيحدُث في صورته المحتمَلة في المستقبل البعيد، عندما لن يكون هناك سوى بضعة أشخاص باقين على قيد الحياة. وقالت: «لم أكن لأتمنى أن أكون آخرَ فرد يبقى على قيد الحياة على متن الحاملة.»
قال الرجل النسر: «كان هناك جنسٌ من الكائنات في هذا الجزء من المجرة قبل ثلاثة ملايين عام وازدهرت حضارتهم لكونهم مسافرين عبْر الفضاء مليون عام تقريبًا. كانوا مهندسين عباقرةً وشيَّدوا مبانيَ من أروع المباني التي وُجدت في الكون على الإطلاق. وبسطوا نطاق نفوذهم سريعًا حتى سيطروا على منطقةٍ تغطي أكثرَ من عشرين نظامًا نجميًّا. كان ذلك النوع من الكائنات متعلِّمًا ومرهف الحس وحكيمًا. ولكنه ارتكب خطأً واحدًا فادحًا …»
فسألت نيكول: «وما هو؟»
«كان نظير الجينوم لديهم يحتوي على مقدارٍ من المعلومات أكبرَ من الموجود في الجينوم الخاص بكم بكثير جدًّا. كان نتيجة أربعة مليارات سنة من التطوُّر الطبيعي وشديد التعقيد. وكانت تجاربهم الأولية مع الهندسية الوراثية، على الكائنات الأخرى وعلى أنفسهم، ناجحةً تمامًا. وظنوا أنهم يفهمون ما يفعلون. ولكن دون معرفتهم كانت قوة الجينات التي تنتقل من جيل إلى جيل تتدهور ببطء … وعندما فهِموا أخيرًا ما فعلوه بأنفسهم كان الأوان قد فات. ولم يحتفظوا بأي عينات لخلاياهم قبل أن يتلاعبوا فيها من الأيام الأولى، قبل أن يبدءوا في تعديل جيناتهم. ولم يكن بإمكانهم تصحيحُ ما فعلوا. ولم يكن بوسعهم فعلُ أي شيء.»
ثم قال: «تخيَّلي، ليس أن تكوني آخرَ عضو في مجموعتك على متن سفينة فضاء معزولة مثلما هو الحال على متن الحاملة فحسب، بل أن تكوني آخرَ الناجين من جنس من الكائنات كان ثريًّا في تاريخه وفنه ومعرفته … وتضم دائرةُ معارفنا كثيرًا من القصص المشابهة يحوي كلٌّ منها مثالًا عمليًّا واحدًا على الأقل.»
تحرَّك المكُّوك عبْر منفذ مفتوح في جانب الوحدة السكنية الكروية الشكل، وتوقَّف برفقٍ أمام جدار من الجدران. وانتشرت مساندُ أوتوماتيكية على كل جانب لمنعِ المركبة من الانجراف. وعلى جانب الركَّاب مهبط في المكُّوك يؤدي إلى ممرٍّ يقود بدوره باتجاه مركز مجمع وسائل المواصلات.
ضحِكت نيكول. وقالت: «لقد كنت منهمكةً تمامًا في الحوار حتى إني لم ألقِ نظرةً على هذه الوحدة من الخارج.»
قال الرجل النسر: «ما كنتِ لتشاهدي شيئًا جديدًا.»
ثم استدار الكائن الفضائي إلى نيكول وفعل شيئًا غريبًا. فقد قطعَ المسافة إليها بالمكُّوك وأمسك كلتا يديها المكسوَّتين بقفازين. وقال: «في أقلَّ من ساعة ستمرين بشيء سيذهلك ويثير انفعالك. في البداية خطَّطنا لأن تكون هذه النزهة مفاجأةً تامة لك؟ ولكن في ظل حالتك الصحية الضعيفة، لا يمكن أن نخاطرَ باحتمال تحميل جسدك أكثرَ من طاقته بتعريضه لانفعالات … ولهذا قرَّرنا أن نخبرك أولًا بما أنتِ على وشْك القيام به.»
شعرت نيكول بخفقات قلبها تتسارع، وفكَّرت في نفسها: «ما الذي يتحدَّث عنه؟ ما الأمر الذي قد يكون غير عادي بهذا الشكل؟»
«سنستقل سيارةً صغيرة ستقطع عدة كيلومترات داخل هذه الوحدة. وفي نهاية هذه الرحلة القصيرة ستلتقين مرةً أخرى بابنتك سيمون ومايكل أوتول.»
صرخت نيكول وهي تنزِع يدَيها من يدَي الرجل النسر وتضعهما على جانبي خوذتها: «ماذا؟! هل سمِعت ما قلت بصورة صحيحة؟! هل قلت إنني سأرى سيمون ومايكل؟»
أجاب الرجل النسر: «نعم. يا نيكول من فضلك اهدئي.»
قالت نيكول متعجبة ومتجاهلة تعليقه: «يا إلهي! لا أصدِّق هذا. لا أستطيع أن أصدِّق … أتمنى ألا يكون ذلك مزحة قاسية من نوعٍ ما …»
«أؤكد لك أنه ليس كذلك …»
سألت نيكول: «ولكن كيف من الممكن أن يكون مايكل لا يزال على قيد الحياة؟ لا بد أنه بلغ من العمر مائة وعشرين عامًا على الأقل الآن …»
«لقد ساعدناه بسحرنا الطبي، كما تطلقين عليه.»
بكت نيكول وهي تقول: «سيمون! آه يا سيمون! هل يمكن هذا؟ هل يمكن هذا؟»
تأخَّرت دموع نيكول بسبب صدمتِها. لكنها الآن كانت تنهمر من عينيها. ورغم ألمِ رِدْفها وخوذتها الفضائية الثقيلة، كادت نيكول تقفز من مقعدِها كي تعانق الرجل النسر. وقالت له: «شكرًا لك، شكرًا لك. لا يمكنني أن أخبرك كم يعني لي هذا الأمر.»
•••
ثبَّت الرجل النسر كرسيَّ نيكول على السُّلم المتحرك وهما يهبطان إلى منتصف مجمع وسائل المواصلات الرئيسي. وألقت نظرةً سريعة على محيطها. كانت المحطة مطابِقةً لتلك التي تذكَّرت رؤيتَها في النود بالقرب من كوكب الشَّعرى. كان طولها عشرين مترًا تقريبًا وتمتد في شكل دائرة، وهناك ستة من الأرصفة المتحركة تحيط بمنتصف المجمع. وكلٌّ منها يمتد إلى نفق مقبَّب مختلف يقود بعيدًا عن المجمع، ويوجد مبنيان متعدِّدا الطوابق فوق الأنفاق إلى اليمين.
سألت نيكول وهي تتذكَّر نزهةً لها مع كيتي وسيمون عندما كانتا صغيرتين: «هل تقلع القطارات التي تسافر بين الوحدات هناك بالأعلى؟»
أومأ الرجل النسر برأسه بالإيجاب. ودفع الكرسيَّ المتحرك إلى أحد الأرصفة المتحركة وغادرا مركز المحطة. وقطعا مسافةَ عدة مئات من الأمتار في نفقٍ من الأنفاق قبل أن يتوقَّف الرصيف المتحرك. ثم قال الرجل النسر: «يجب أن تكون عربتنا إلى اليمين مباشرةً في الرواق الأول.»
كان هناك مقعدان بالعربة الصغيرة التي تُفتح من أعلى. رفع الرجل النسر نيكول إلى مقعد الراكب، ثم طوى الكرسي المتحرِّك ليتخذ شكلًا مضغوطًا لا يزيد حجمُه عن حجم حقيبة صغيرة ثم وضعه في حقيبة داخل العربة. وبعد ذلك بوقت قصير تحرَّكت العربة للأمام عبْر متاهة من الممرات العديمة النوافذ ذات اللون الأصفر الفاتح. كانت نيكول هادئةً على نحوٍ غير عادي، وتحاول أن تقنع نفسَها أنها بالفعل على وشْك أن ترى ابنتها التي تركتها في نظام نجمي آخر قبل سنوات طويلة.
بدت الرحلة داخل الوحدة السكنية كما لو أنه لا نهاية لها. وفي نقطةٍ ما توقَّفت العربة، وأخبر الرجل النسر نيكول أنه بإمكانها أن تخلع خوذتها؟ وسألته: «هل نحن قريبان؟»
أجابها: «ليس بعد، ولكننا بالفعل في المجال الجوي المخصَّص لهم.»
وصادفا مرتين كائناتٍ فضائية مذهلة في مركباتٍ تتحرَّك في الاتجاه المقابل، ولكن نيكول كانت منفعلة بشدة لدرجة أنها لم تستطِع أن توليَ أيَّ شيء انتباهَها فيما عدا ما يحدُث داخل ذهنها. كانت لا تصغي تقريبًا إلى ما يقوله الرجل النسر. تعالت داخلها أصواتٌ تقول: «اهدئي!» ولكن ردَّ عليه صوتٌ آخر: «لا تكن سخيفًا، أنا على وشْك أن أرى ابنةً لم أرَها منذ أربعين عامًا. لا يمكن أن أبقى هادئة.»
كان الرجل النسر يقول: «كانت حياتهم غيرَ عادية مثلما كانت حياتك بالضبط. وكانت مختلفة، بالطبع، مختلفة تمامًا. عندما اصطحبنا باتريك لرؤيتهما في وقتٍ مبكِّر من صباح اليوم …»
سألته نيكول فجأة: «ماذا قلت؟! هل قلت إن باتريك رآهما هذا الصباح؟ اصطحبت باتريك لرؤية والده؟»
قال الرجل النسر: «نعم. لطالما خطَّطنا للمِّ الشمل هذا، ما دام كل شيء يسير وفقًا لما هو مخطَّط له … ونظريًّا لم يكن أيٌّ منكما سيرى سيمون ومايكل وأبناءهما …»
تعجَّبت نيكول: «أبناؤهما! لديُّ مزيد من الأحفاد!»
«… إلا بعد أن تستقروا في النود، ولكن عندما طلب باتريك إعادةَ النظر في انتقاله … كان الأمر سيصبح شديدَ القسوة إذا تركناه يرحل للأبد دون أن يرى أباه الذي أنجبه …»
لم تستطِع نيكول السيطرةَ على نفسِها أكثرَ من هذا، فاتجهت إلى الرجل النسر وقبَّلته على وجنته المكسوة بالريش. وقالت: «وكان ماكس يقول إنك لا تعدو أن تكون آلةً باردة. يا له من مخطئ! شكرًا لك … نيابةً عن باتريك، أشكرك …»
كانت نيكول ترتعش من فرطِ السعادة. وبعد دقيقة لم يَعُد بإمكانها التنفس. فأوقف الرجل النسر العربةَ الصغيرة بسرعة.
•••
قالت نيكول وهي تستيقظ من سُبات عميق: «أين أنا؟»
قال الرجل النسر: «إننا نقف بالعربة داخل المنطقة المغلقة التي يعيش فيها مايكل وسيمون وعائلتهما.»
«إننا هنا منذ أربع ساعات، وأنتِ كنتِ نائمة.»
سألته نيكول: «هل تعرَّضت لأزمة قلبية؟»
«ليس بالضبط … ما هو إلا قصورٌ حادٌّ في وظائف القلب. فكَّرت في اصطحابك على الفور إلى المستشفى، ولكني رأيت أن أنتظرَ حتى تستيقظي. إلى جانب أنه لديَّ معظم الأدوية نفسِها الموجودة بالمستشفى هنا …»
نظر الرجل النسر إليها بعينيه الزرقاوين الحادتين. وقال: «ماذا تريدين أن تفعلي يا نيكول: تزورين سيمون ونيكول كما هو مخطَّط؟ أم تعودين إلى المستشفى؟ إنه خيارك، ولكن افهمي …»
قاطعَته نيكول بتنهيدةٍ وقالت: «أعلم، يجب أن أحرص على ألا أنفعل بشدة …» ثم ألقَت نظرة عجلى على الرجل النسر. وقالت: «أريد أن أرى سيمون حتى إذا كان ذلك آخر شيء أفعله في حياتي … هل يمكن أن تعطيني عقَّارًا ما يهدئني ولكن لا يجعلني بلهاء أو يجعلني أنام؟»
قال الرجل النسر: «لن يساعدك سوى مهدئ متوسط القوة فقط لو أنك عملت على احتواء انفعالك.»
قالت نيكول: «حسنًا. سأبذل قصارى جهدي.»
اتجه الرجل النسر بالسيارة إلى طريقٍ ممهَّد تصطف أشجار طويلة على جانبيه. وفي أثناء القيادة تذكَّرت نيكول الخريف الذي قضته مع والدها في نيو إنجلاند عندما كانت مراهقة. كانت الأوراق على الأشجار حمراء وذهبية وبنية.
قالت نيكول: «إنه لمنظر جميل!»
انعطفت السيارة في منحنًى ومرَّت بسياجٍ أبيضَ يحيط بمنقطة مليئة بالأعشاب؟ كان هناك أربعة خيول في المكان المحاط بالسياج. ومراهقان من البشر يسيران بينها؟ فقال الرجل النسر: «الأطفال حقيقيون. أما الخيول فمصطنعة.»
وأعلى تل لم يكن شديدَ الانحدار منزلٌ أبيض ضخم يتكوَّن من طابقين وله سطح أسود مائل. ودلف الرجل النسر بالعربة إلى طريقٍ دائري خاص بالمنزل، وأوقف العربة. وبعد لحظةٍ فُتح الباب الأمامي للمنزل وخرجت منه سيدةٌ طويلة جميلة داكنة البشرة بدأ الشيبُ يزحف إلى شعرها.
وصرخت سيمون وهي تسرع نحو العربة: «أماه!»
لم تكد نيكول تفتح بابَ العربة حتى ارتمت سيمون بين ذراعي والدتها. وأخذت السيدتان تتعانقان وتقبِّل إحداهما الأخرى. وفاضت دموعهما أنهارًا. ولم تستطِع أيٌّ منهما التحدُّث.
٨
قالت سيمون وهي تضع فنجانَ القهوة على الطاولة: «كانت زيارة باتريك حلوةً ومرة في الوقت نفسه. ومكث هنا أكثرَ من ساعتين ولكنهما مرَّتا كدقيقتين.»
كان ثلاثتهم يجلسون إلى طاولةٍ تُطِل على الأرض الخضراء المحيطة بالمنزل وتشكِّل دائرةً حوله. حدَّقت نيكول برهةً من النافذة في المشهد الريفي أمامها. قال مايكل: «إن المشهد يخدع الرائي بصريًّا وينسيه المكان، ولكنه خداعٌ جيد جدًّا … ولولا أنكِ تعرفين الحقيقة لظننتُ أنك في ماساتشوستس أو جنوب فيرمونت.»
قالت نيكول: «قد كان هذا العشاء بأكمله مثل حُلم. إنني لم أتقبَّل بعدُ أن ما مررتُ به يحدُث حقًّا.»
قالت سيمون: «لقد شعرنا بهذا الأمر الليلةَ السابقة عندما قيل لنا إننا سنرى باتريك هذا الصباح … لم يَغمض لي جَفن أنا أو مايكل.» ثم ضحِكت وقالت: «وفي ساعةٍ ما من الليل أقنعنا أنفسنا أننا سنقابل باتريك «مزيفًا»، وفكَّرنا في أسئلة نطرحها لا يمكن أن يجيب عنها أحدٌ غير باتريك الحقيقي.»
قال مايكل: «إن مهاراتهم التكنولوجية عظيمة. وإذا أرادوا أن يصنعوا باتريك آليًّا، وخداعنا بأنه باتريك الحقيقي، فسيصعُب علينا أن نتأكد من الحقيقة.»
قالت سيمون: «ولكنهم لم يفعلوا. لقد عرفتُ في غضون دقائق أنه باتريك الحقيقي …»
سألتها نيكول: «كيف بدا لك؟ ففي خضم الارتباك الذي ساد في اليوم الأخير، لم تتسنَّ لي فرصةُ التحدث إليه كثيرًا.»
قالت سيمون: «إنه متقبِّل للأمر في الغالب، ولكنه كان متأكدًا أنه اتخذ القرارَ الصحيح. وقال إنه سيحتاج على الأرجح إلى أسابيعَ قبل أن يتعافى من كافة الانفعالات التي مرَّ بها في الأربع والعشرين ساعة الأخيرة.»
قالت نيكول: «هذا ينطبق علينا جميعًا.»
خيَّم صمتٌ قصير على الجالسين إلى المائدة. ثم سألت سيمون: «هل أنتِ متعَبة يا أمي؟ أطلعنا باتريك على مشكلاتك الصحية، وعندما تلقينا الرسالة بعد ظهر اليوم بأنك تأخرتِ …»
قالت نيكول: «نعم، إنني متعبة بعض الشيء. ولكني لم أستطِع النوم … على الأقل ليس على الفور …» ثم أبعدت كرسيها المتحرك عن المائدة وخفضت مستوى مقعدها. وقالت: «أودُ استخدام حمَّام السيدات.»
قالت سيمون وهي تقفز من مكانها: «بالطبع. سآتي معك.»
اصطحبت سيمون والدتها عبْر رواق طويل له أرضية من خشب مصطَنع. وقالت نيكول: «إذن فلديك ستة أطفال يعيشون معك هنا، منهم ثلاثة حملتهم بنفسك؟»
قالت سيمون: «هذا صحيح، أنجبت أنا ومايكل ولدين وفتاتين «بالطريقة الطبيعية» كما تطلقين عليها … توفِّي أول الأولاد، دارين، وهو في السابعة من عمره … إنها قصة طويلة، إذا كان لديكِ وقتٌ فسأخبرك بها غدًا، والطفلان الباقيان نشآ من أجنةٍ في المعامل …»
وصلتا إلى باب حمَّام السيدات. وسألت نيكول: «هل تعلمين عددَ الأطفال الذين أنتجهم الرجل النسر وزملاؤه من بويضاتك؟»
أجابتها سيمون: «لا. ولكنهم أخبروني أنهم أخذوا أكثرَ من ألف بيضة سليمة من مبيضيَّ.»
وفي طريقهما عائدتين إلى غرفة الطعام شرحت سيمون أن جميع الأطفال الذين وُلدوا «بالطريقة الطبيعية» عاشوا حياتَهم بالكامل معها هي ومايكل. وجاء أزواجهم من منيِّ مايكل وبويضاتها، وقد اخْتِيروا بناءً على تقنية مضاهاة شاملة للجينات طوَّرتها الكائنات الفضائية.
سألت نيكول: «إذن فقد كانت زيجاتٍ مرتَّبة؟»
قالت سيمون: «ليس بالضبط.» ضحكت. ثم قالت: «قُدِّم كلُّ طفل طبيعي إلى عدة أزواج محتملين، جميعهم اجتازوا الفحص الجيني.»
«ولم تقابلي أنتِ مشكلات مع أحفادك؟»
أجابت سيمون: «لا شيء «ملحوظ إحصائيًّا» على حدِّ تعبير مايكل.»
وعندما وصلتا إلى غرفة الطعام كانت المائدة خاوية. فأخبرهما مايكل أنه نقل ركوةَ القهوة والفناجين إلى غرفة المكتب. شغَّلت نيكول أزرار التحكم في كرسيها المتحرك وتبِعتهما إلى غرفة مكتب ضخمة مصمَّمة على الطراز المفضَّل لدى الرجال، لها أرففٌ خشبية سوداء للكتب ومدفأة بها نيران مشتعلة.
سألت نيكول: «هل النيران حقيقية؟»
قال مايكل: «نعم، إنها حقيقية بالفعل.» وانحنى للأمام في مقعده المريح. وقال: «كنتِ تسألين عن الأبناء، إننا نود أن تقابليهم بالطبع، ولكننا لم نشأ أن نثقل عليك …»
قالت نيكول وهي ترتشف رشفةً من فنجان قهوة معدٍّ لتوه: «إنني أفهم، وأوافقكما … وبالطبع ما كنا لنحظى بذلك العشاء الذي تناولناه بروية وتبادلنا فيه المعلومات لو أن هنا ستة أشخاص آخرين …»
قالت سيمون: «ولا تنسي الأربعة عشر حفيدًا.»
نظرت نيكول إلى مايكل وابتسمت. وقالت: «أنا آسفة يا مايكل، ولكنك أكثرُ جزء من هذه الأمسية لا أستطيع تصديقه. وكلما نظرت إليك توقَّف عقلي عن العمل. إنك تكبُرني بأربعين عامًا، ولا يبدو أنك تجاوزت الستين عامًا بيوم واحد، وبالطبع تبدو أصغرَ مما تركناك على النود! كيف يمكن هذا؟!»
قال: «إن تقنياتهم سحرٌ بمعنى الكلمة. لقد أعادوا كلَّ جزء مني للعمل: قلبي ورئتيَّ وكبدي والجهازين الهضمي والإخراج، واسْتُبْدِل معظم الغدد الصماء بنظائرَ أصغر حجمًا وأكثر كفاءة وظيفية، وقد استُبدل بعضها عدة مرات. وقد دعموا عظامي وعضلاتي وأعصابي وأوعيتي الدموية جميعها بملايين الأجهزة الميكروسكوبية المزروعة، التي لا تضمن القيامَ بالوظائف الحيوية فحسب، بل أيضًا في الكثير من الحالات، تضمن تجديدَ شباب الخلايا الهرِمة من الناحية الكيميائية البيولوجية. وجِلدي ما هو إلا مادة خاصة أتقنوا صنْعَها حديثًا وتتمتع بجميع الخصائص الجيدة لجِلد البشر الحقيقي، ولكنها لا تشيخ أو تكوِّن بَثرات أو شامات … أذهب مرةً كلَّ عام إلى مستشفاهم وأغيب عن الوعي يومين، وعندما أستيقظ أصبح رجلًا جديدًا بمعنى الكلمة.»
قالت نيكول ضاحكة: «هل تمانع أن تأتيَ إلى هنا وتدعني ألمسك؟ لن أَشبِك يدي في يدك أو شيئًا من هذا القبيل، ولكن بالطبع بإمكانك أن تفهم أن ما تخبرني به يصعُب تصديقه.»
اجتاز مايكل أوتول الغرفةَ ونزل على ركبتيه إلى جانب الكرسي المتحرِّك. فمدَّت نيكول يدَها ولمست الجِلد على وجهه. كانت بشرةُ وجهه ناعمة ولينة مثل بشرة شاب. وكانت عيناه صافيتين ومشرقتين. فسألت نيكول: «ومخُّك يا مايكل؟ ماذا فعلوا لمخِّك؟»
ابتسم. لاحظت نيكول أنه لا توجد تجاعيدُ في جبهته. قال: «كثير من الأشياء. عندما بدأت ذاكرتي تخونني جدَّدوا الحُصين بدماغي. بل أضافوا إليه نسيجًا صغيرًا من عندهم، كي يزيدني قدرةً على حد قولهم … وقبل عشرين عامًا وضعوا بدماغي أيضًا ما وصفوه بأنه «نظام تشغيل أفضل» لتحسين عمليات التفكير لديَّ …»
كان مايكل على بُعد أقلَّ من متر منها. انعكس ضوء نار المدفأة على وجهه. وفجأة اجتاح سيلٌ من الذكريات عقلَ نيكول. وتذكَّرت كيف كانا صديقين مقرَّبين على متن راما، وعلاقتهما الحميمة أيضًا عندما رحل ريتشارد وظنَّا أنه فُقِد. ثم مسَّت وجهه مرةً أخرى.
وسألته: «وهل لا تزال مايكل أوتول. أم إنك أصبحت شيئًا آخر: نصف بشري ونصف كائن فضائي؟»
وقف دون أن يقول أيَّ شيء وسار عائدًا إلى مقعده. كان مايكل يتحرَّك كرياضي وليس كرجلٍ يزيد عمره عن مائة وعشرين عامًا. وقال: «لا أعلم كيف أجيب عن سؤالك. إنني أتذكَّر بوضوح جميعَ تفاصيل طفولتي في بوسطن، وكلَّ مرحلة مهمة في حياتي أيضًا. على حدِّ علمي لا أزال كما أنا تقريبًا …»
وأضافت سيمون: «ما زال مايكل مهتمًّا للغاية بالدِّين وخلْق الكون أيضًا. ولكنه تغيَّر بعض الشيء؛ فجميعنا نتغير نتيجةً لتجاربنا في الحياة …»
قال مايكل: «لا أزال متمسكًا بالمذهب الكاثوليكي، وأتلو صلواتي اليومية … ولكن بطبيعة الحال تغيَّرت نظرتي إلى الإله، والبشرية أيضًا، تغييرًا جذريًّا بما رأيته أنا وسيمون … في المقابل لقد زادت قوة إيماني … في المقام الأول بسبب الحوار المستنير مع …»
توقَّفَ وألقى نظرة عبْر الغرفة إلى سيمون. قالت: «في السنوات الأولى يا أمي عندما كنت أنا ومايكل فقط على متن النود بالقرب من كوكب الشَّعرى، كانت هناك صعوباتٌ كثيرة … فلم يكن لدينا شخصٌ آخر للتحدُّث إليه فكنا نتحدث معًا فقط … كنت لا أزال فتاةً وكان مايكل رجلًا ناضجًا … لم أستطِع مناقشة الفيزياء أو الدِّين أو موضوعاته العديدة المفضَّلة الأخرى معه …»
قال مايكل: «لم تكن هناك مشكلاتٌ كبيرة، كما تفهمين. ولكننا كنا نشعر بنوعٍ غريب من الوحدة … كانت حياتنا معًا رائعة ومحفوفة بالسعادة … لكننا نحن الاثنين أردنا شيئًا آخر، شيئًا إضافيًّا …
وقد شعرَت المخلوقاتُ الذكية — أو أي اسم يمكن أن نطلقه على القوة التي كانت تعتني بنا — التي تحكم النود بالمشكلةِ التي نواجهها. وأدركت أيضًا أن الرجل النسر لا يستطيع الإيفاءَ باحتياجات كلٍّ منا. لذا فقد صنعت لكلٍّ منَّا رفيقًا أشبهَ بالرجل النسر نوعًا ما.»
قالت سيمون: «لقد كانت لمحةً عبقرية خلَّصتنا من التوتر العاطفي الذي كان يهدِّد زواجنا المثالي. فالقديس مايكل …»
قاطعها مايكل قائلًا: «دعيني أنا أخبرها رجاء. ذات ليلة بعد عامين تقريبًا من رحيلك أنت والآخرين، كانت سيمون في غرفة نوم بالشقة تُرضِع كاتيا، سمعنا طرقاتٍ على الباب … ظننت أنه الرجل النسر … ولكن عندما فتحت الباب وجدتُ شابًّا أسودَ الشعر مموَّجه، أزرق العينين يقف عند الباب، ويشبه القديس مايكل قديس سيينا تمامًا. وأخبرني أن الرجل النسر لن يتواصل معنا بعد ذلك، وأنه سيكون الوسيط الجديد بيننا وبين الكيان الذكي الذي يحكم النود …»
قالت سيمون: «جاء القديس مايكل وفي جَعبته مجموعةٌ ضخمة من المعلومات عن تاريخ الأرض والمذهب الكاثوليكي وعلم الفيزياء وجميع الموضوعات الأخرى التي كنت أجهلها تمامًا …»
قال مايكل وهو ينهض من مقعده: «بالإضافة إلى هذا، كان مستعدًّا للإجابة عن الأسئلة عما يدور حولنا في النود … هذا لا يعني أن الرجل النسر لم يكن كذلك، ولكن القديس مايكل كان أكثرَ حميمية وأقرب لنا. كان يبدو كما لو أنهم أرسلوه، أو أرسله الله، ليكون رفيقًا لي نتفكر معًا.»
نقلت نيكول عينيها بسرعة جَيئة وذهابًا بين مايكل وسيمون. وكان وجه مايكل مشرقًا بإيجابية. فكَّرت في نفسها: «لم تخبُ حماسته الدينية. إنما أعاد توجيهه فقط.»
سألت نيكول وهي ترتشف آخرَ رشفة في فنجان القهوة: «وهل لا تزال شخصية القديس مايكل هنا؟»
قال مايكل: «بالطبع. إننا لم نعرف باتريك عليه، فكما قالت سيمون كان الوقت ضيقًا للغاية، ولكننا نريدك ولا شك أن تقابليه.» اجتاز مايكل الغرفة، دبَّت فيه الحماسة فجأة. وقال: «هل تذكرين تلك الأسئلة الوجودية كلها التي اعتاد ريتشارد أن يطرحها عن بناة النود وراما، والهدف من هذا وذاك؟ القديس مايكل يعرف الإجاباتِ جميعها. ويشرح كلَّ شيء بالتفصيل.»
قالت نيكول بمَسحة تهكمية خفيفة في صوتها: «يا إلهي إنه لأمر رائع! لا أكاد أصدِّق هذا! متى سأحظى بشرف مقابلة القديس مايكل؟»
قال مايكل أوتول الذي ترقَّب طلبها: «الآن إذا أردت.»
قالت نيكول وهي تكبِت تثاؤبها: «حسنًا. ولكن تذكَّر أنني امرأة عجوز متَعبة ومريضة وأغضب سريعًا … ولا أستطيع البقاء مستيقظة للأبد.»
سار مايكل بنشاطٍ إلى باب غرفة المكتب البعيد. ونادى: «يا قديس مايكل! هلا تأتي إلى هنا من فضلك، وتقابل نيكول، والدةَ سيمون؟»
وبعد بضع ثوانٍ دلَف إلى الغرفة كائنٌ يشبه قديسًا بشريًّا شابًّا في بداية العشرينيات من عمره يرتدي رداءً كهنوتيًّا أزرقَ اللون غامقًا، واجتاز الغرفةَ إلى كرسي نيكول المتحرِّك. وقال بابتسامةٍ توحي بسعادته لرؤيتها: «أنا مسرور للقائك. لقد سمِعت عنك سنوات.»
مدَّت نيكول يدَها وتفحَّصت الكائن الفضائي باهتمام. ولم تجِد فيه على الإطلاق أيَّ شيء قد يشير إلى أن هذا الواقف أمامها أيُّ شيء آخر غير بشري. ففكَّرت نيكول بسرعة: «يا إلهي! إن التكنولوجيا التي يستخدمونها ليست مدهشة فحسب، بل معدَّل تعلُّمهم مذهل.»
قالت نيكول للقديس مايكل بابتسامةٍ مازحة: «دعني أوضِّح شيئًا مهمًّا من البداية: هناك كثيرٌ ممن يحملون اسمَ مايكل هنا. وأنا لا أعتزم أن أخاطبك دائمًا باسم القديس مايكل. استخدام الألقاب ليس من شيَمي. فهل أناديك قديسًا فحسب، أو مايك أو حتى مايكي، ماذا تفضِّل؟»
قالت سيمون: «عندما يكون كلاهما هنا أنادي زوجي ﺑ «مايكل الكبير». ويبدو هذا حلًّا ناجحًا.»
قالت نيكول: «حسنًا. كما كان ريتشارد يقول دائمًا: «عندما تكون في روما …» اجلس يا مايكل هنا بالقرب من كرسيِّ المتحرِّك … لقد أغدقك مايكل الكبير بالثناء، وأنا لا أودُّ أن يتسبَّب ضَعف سمعي في أن أفوِّت أي شيء من دُرر الحِكَم التي ستقولها.»
قال القديس مايكل وهو يبتسم: «شكرًا لكِ يا نيكول! أشاد مايكل وسيمون بفضائلك أيضًا، ولكن من الواضح أنهما قد بخسا حسَّ دُعابتك حقَّ قدره.»
فكَّرت نيكول في نفسها: «لديه شخصية أيضًا! ألن تنتهيَ العجائب؟»
•••
بعد مُضي ساعة كانت نيكول راقدةً على جانبها تحدِّق باتجاه النوافذ بعد أن ساعدتها سيمون على أن تتَّخذ لها فِراشًا في غرفة الضيوف في نهاية الرواق. ومع أنها كانت متعَبة للغاية فلم يَغمض لها جَفن. وكان عقلها شديدَ النشاط يراجع مرارًا وتكرارًا ما مرَّ من أحداث في ذلك اليوم، مما منعها من النوم.
فكَّرت نيكول ويدها تبحث عفويًّا عن زرِّ الجرس على المنضدة التي بجوار فِراشها: «ربما يجب أن أقرع الجرس وأطلب شيئًا يساعدني على النوم. قالت سيمون إن القديسَ مايكل سيأتي إذا ضغطتِ على الزر. ويمكنه أن يفعل أيَّ شيء يفعله الرجلُ النسر.» وبعد أن طمأنت نفسَها إلى أنها تستطيع استدعاءَ المساعدة إذا ما استمرَّ الأرق، عادت نيكول إلى أكثر وضعٍ يريحها في النوم، وتركت عقلَها يحلِّق بِحرية.
تركَّزت أفكارها على ما رأته وسمِعته منذ أن وصلت إلى هذه الأرض المعزولة التي يعيش عليها مايكل وسيمون وعائلتهما. وقد شرح لها القديس مايكل أن هذا المكان الشبيهَ بنيو إنجلاند جزءٌ صغير داخل الوحدة السكنية بالنود، وأن هناك عدةَ مئات من الأجناس الأخرى المقيمة بصورة شبه دائمة بالقرب منهم. فسألت نيكول عن سببِ اختارِ مايكل وسيمون حياةً يومية منفصلة عن الآخرين.
تذكَّرت نيكول «مايكل أوتول» وهو يجيب: «عشنا سنواتٍ في بيئة تتعدَّد فيها أنواع الكائنات. في الواقع أثناء وبعد ولادة أطفالنا الأربعة الذين وُلدوا بصورة طبيعية، كنا نُنقل سريعًا، أو هكذا بدا الأمر، من مكانٍ إلى آخر لاختبارِ قدرتنا على التكيُّف والتلاؤم مع عدد كبير من أنواع النباتات والحيوانات الأخرى. وقد أكَّد القديس مايكل حينَها صحةَ شكوكنا، وهي تحديدًا أنَّ مضيِّفينا يعرِّضوننا عن عَمدٍ لمجموعة مختلفة من البيئات لجمع المزيد من المعلومات عنَّا … وكان كل مكان جديد تحديًا آخرَ لنا …»
سكتَ مايكل الكبير دقيقةً كما لو أنه كان يكبَح انفعالاته. ثم قال: «كانت المشاقُّ النفسية جسيمةً في تلك الأيام الأولى. وكنَّا ما إن نتكيَّف مع ظروفٍ معيشية معينة حتى تتغير فجأة … ولا أزال أعتقد أن موت دارين ما كان ليحدُث لو أن كل شيء لم يكن غريبًا بهذا الشكل في هذا العالم الخفي … وكدنا نفقد كاتيا عندما كانت في الثانية من عمرها تقريبًا، فقد أخطأ كائنٌ بحري يشبه الحبَّار في الحُكم على فضولها واعتبره فعلًا عدائيًّا …»
قالت سيمون: «بعد أن رقدنا في سُبات عميق للمرة الثانية، ونُقلنا هنا إلى النود، كنت أنا ومايكل منهكَين تمامًا من سنوات الاختبار. كان الأطفال قد كبِروا حينها وبدءوا يكوِّنون عائلاتٍ خاصة بهم. فطلبنا قدرًا من الخصوصية وحصلنا عليه …»
أضاف مايكل: «ولكننا لا نزال نخرج إلى العالم خارج منطقتنا، ونتعامل مع كائناتٍ غريبة من نُظمٍ نجمية بعيدة لأننا نريد هذا، وليس لأن هذا ضروري … ويطلِعنا القديس مايكل دائمًا على أخبار الكائنات التي تشبه كرةَ السلة وحشرات السماء النطاطة والسلاحف الطائرة. إنه نافذةُ معلوماتنا التي نُطِلُّ منها على بقية النود.»
فكَّرت نيكول: «القديس مايكل خارقٌ للعادة، وأكثرُ تقدُّمًا حتى من الرجل النسر نفسِه. إنه يجيب عن الأسئلة كلها بثقة كبيرة. ولكنَّ هناك شيئًا فيه يجعلني أتعجَّب. هل هذه الإجابات المباشرة التي يمنحها عن الخالق، وأصل الكون ومصيره، صحيحةٌ بالفعل؟ أم إن القديس مايكل مبرمَج بصورةٍ ما، استنادًا إلى ولعِ مايكل بطرح الأسئلة الدينية والبحث عن إجاباتها، كي يكونَ رفيقه الفضائي الأمثل؟»
تقلَّبت نيكول في فراشها وأخذت تفكِّر في علاقتها بالرجل النسر. وقالت في نفسِها: «ربما أنا غيرى فقط لأن مايكل قد تعلَّم كثيرًا جدًّا … بينما الرجل النسر غيرُ راغب أو غير قادر على الإجابة عن أسئلتي … ولكن مَن الأفضل: طفلٌ لديه معلِّم يعرف كلَّ شيء ويخبر الطفل به، أم طفل يساعده مدرِّسه على العثور على الإجابات بنفسه؟ لا أعلم … لا أعلم … ولكن كان أداء القديس مايكل مثيرًا للإعجاب عند لوحة العرض.»
قفز مايكل الكبير من مقعده للمرة الألف وقال: «ألا تدركين ذلك يا نيكول؟ إننا جميعًا نشارك في تجربة الخالق العظيمة. هذا الكون بأسرِه، ليس مجرَّتنا فقط، ولكن كل المجرات التي تمتدُّ إلى نهاية السموات، لا يمثِّل له سوى نقطة بيانات واحدة … وهو يبحث عن الكمال، عن تلك المجموعة الصغيرة من الظروف الأولية التي ما إن يبدأ الكون في الحركة نتيجة تحوُّل الطاقة إلى مادة، سيتطوَّر على مدى مليارات السنوات إلى كونٍ واحد محكَم التناغم يشهد على عظمة إبداع الخالق …»
كانت نيكول تعاني بعضَ الصعوبة في فهمِ العمليات الرياضيات المعقَّدة، ولكنها فهِمت بالتأكيد النقاطَ الرئيسية وراء الرسم البياني الذي رسمَه القديس مايكل على لوح العرض في غرفة المكتب. قالت نيكول للكائن الفضائي ذي الشعر المموَّج والعينين الزرقاوين: «إذن ففي هذه اللحظة ثمَّة عددٌ لا يُحصى من الأكوان التي تنشأ، بدأ كلٌّ منها في ظروفٍ أولية مختلفة، وقد وُضعتَ أنت والرجل النسر والنود وراما داخل عملية التطوُّر هذه من أجل جمعِ المعلومات؟ والهدف من كل هذا هو تحديد بعض النماذج الرياضية المرتبطة بالخلق التي سينتج عنها دائمًا نتائجُ تؤلِّف بين المخلوقات؟»
علَّق القديس مايكل: «بالضبط.» وأشار مرةً أخرى إلى الرسم البياني على اللوحة وهو يقول: «تخيَّلي أن هذا النظام المُناظر الذي رسمتُه أنا تمثيلٌ رمزي ثنائي الأبعاد للسطح الفائق المتاح للمتغيرات التي تحدِّد لحظةَ الخلق، تلك اللحظةَ التي تحوَّلت فيها الطاقة إلى مادة للمرة الأولى. وأي قوة موجَّهة تمثِّل مجموعةً محدَّدة من الظروف المبدئية التي تشكِّل الكونَ يمكن تصويرها نقطةً واحدة على الرسم البياني. ما يبحث عنه الإله هو مجموعةٌ كثيفة مغلقة خاصة جدًّا توجد في هذا السطح الفائق الرياضي. هذه المجموعة الخاصة التي يجري البحث عنها تمتلك خاصية أن أيًّا من عناصرها — بمعنى أي نسق من الظروف المواتية للحظة الخَلق المختارة من داخل هذه المجموعة — ستنتج كونًا ينتهي إلى حالة التناغم المطلَق.»
قال مايكل الكبير: «إنَّ خلق كون تكون المحصلة النهائية فيه أن تعلن جميعُ كائناته الحية تمجيدَها للإله مشكلةٌ يكاد يكون حلُّها مستحيلًا. فإذا لم توجد مادة كافية فإن الانفجار والتضخم الخاصَين بلحظة الخلق سينتج عنهما كونٌ تتسع جنباته للأبد، دون تفاعل كافٍ للعناصر المشكَّلة أثناء التطور لتكوين الحياة واستمرارها. وإذا كانت هناك مادةٌ أكثر مما ينبغي، فلن يكون هناك إذنْ وقتٌ كافٍ لتطور الوجود والحياة العاقلة تطورًا كاملًا قبل أن تتسبَّب الجاذبية في الانسحاق العظيم الذي ينهي الكون.»
قال القديس مايكل موضحًا: «الفوضى أمرٌ محيِّر للإله أيضًا. فالفوضى هي محصِّلة لجميع القوانين المادية التي تحكم عمليةَ التطور لأي كون مخلوق. فهي تحول دون التنبؤ الدقيق بنتائج عملياتٍ واسعةِ النطاق؛ لذا لا يستطيع الإله أن يحسُب مسبقًا ما سيحدُث في المستقبل، ومن ثَم تحديد مواطن التناغم … التجربة هي الطريقة الوحيدة الممكنة لإيجادِ ما يبحث عنه …»
أضاف مايكل الكبير: «النظام المخالف لتصميمِ الإله كبير. كي ينجح الإله في مسعاه، لا يكفي أن تتطوَّر الحياة من الجسيمات الأولية دون الذرية عن طريقِ حوادثَ كونية عظيمة، إنما يجب أيضًا أن تصل هذه الحياة إلى مستوًى من الوعي الروحاني بذاتها والقدرة التكنولوجية اللذين يمكِّنانها من المشاركة بفاعلية في تغيير كل شيء حولها …»
فكَّرت نيكول في غرفتها وهي تتذكَّر المناقشة: «إذن فالإله هو المصمِّم الأساسي والمهندس الأساسي للكون. وهو يصمِّم لحظةَ الخلق بطريقة تجعل الكائنات الحية بعد مليارات السنوات شاهدةً على بديع خلقه …»
قالت نيكول لمايكل الكبير والقديس مايكل بالإضافة إلى سيمون قُرب نهاية الأمسية: «هناك جزءٌ من هذا ما زلت لا أفهمه. ما فائدة وجود كثير من الأكوان؟ ألا تصبح المهمة سهلةً بمجرد التأكد من وجود نتائج متناغمة؟ ألا يمكن استنساخ الظروف المبدئية لهذا الكون المتناغم ببساطة؟»
أجابها القديس مايكل قائلًا: «تلك ليست مشكلةً تستعصي على الإله. هو يريد أن يحدِّد حيزَ التناغم في السطح الفائق للظروف الأولية للخلق، إضافة إلى جميع الخواص الرياضية لذلك الحيز … لا أظن أنكِ تُلمِّين بجميع جوانب المشكلة التي يواجهها الإله. فجزءٌ ضئيل فقط من جميع الأكوان المحتمَلة يمكن أن تئول في النهاية إلى التناغم. والناتج الطبيعي لتحوُّل الطاقة إلى مادة هو كون لا توجد على ظهره حياةٌ على الإطلاق، أو على أفضل تقدير كائنات حية عدوانية تعيش حياةً مؤقتة، وتكون هدامةً أكثر من كونها بناءة. وحتى وجود حيِّز تناغم صغير داخل كون في طَور التطور يُعد معجزة … لهذا تُعد المهمة برُمَّتها تحديًا صعبًا بالنسبة إلى الإله.»
ثم قفز مايكل الكبير مرةً أخرى. وقال: «ما يبحث عنه الإله هو كونٌ يبلغ نقطةَ التناغم المطلَق قبل أن يصل إلى نقطة الانسحاق العظيم. وهذا يستلزم أن تعمل معًا جميعُ أجناس الكائنات الحية في جميع العوالم من أجل المصلحة العامة، وأن يشارك أيضًا كلُّ جُسيم أدنى من الذرة صنَعه الإله بنشاط في هذا التوافق … ظلِلتُ مدةً طويلة عاجزًا عن استيعابِ عظمة هذا المفهوم. ثم أخبرني القديس مايكل عن جنسٍ لديه القدرةُ على خلقِ كائنات حية من التراب والصخر كما فعل إلهُنا المذكور في الكتاب المقدَّس عن طريق عمليات التحويل النووي وإعادة ترتيب العناصر. يستلزم التناغم التام أن تَستخدم الأنواع المتقدِّمة مثلنا أدواتِها التكنولوجية لتحويل الجماد والأشياء غير الحية إلى كائنات تسهِم في تحقيق ذلك التناغم …»
تذكَّرت نيكول أنها أعلنت، عند هذه النقطة من الحوار تقريبًا، أن عقلها مثقلٌ بالمعلومات وتريد الذهاب إلى الفراش. فطلب منها القديس مايكل أن تنتظر بضعَ دقائق فقط حتى يلخِّص لها ما شعر أنه غيرُ منظَّم بعض الشيء من النقاش. فوافقت نيكول.
قال القديس مايكل: «بالعودة إلى سؤالك الأصلي: فإن كلَّ نود جزءٌ من ذكاء متسلسل يجمع المعلومات من جميع أنحاء هذه المجرة بالتحديد. ولدى معظم المجرات، بما في ذلك مجرةُ درب التبانة، محطةٌ فائقة نطلق عليها «المراقب الرئيسي»، تقع في مكانٍ ما بالقرب من مركز المجرة. وقد صمَّم منشآتِ النود والحاملاتِ وجميعَ المنشآت الهندسية الأخرى التي رأيتها المراقبون الرئيسيون بدورهم. والهدفُ من وراء ذلك السعي بأكمله، بما في ذلك ما حدَث كله منذ أن دخلت مركبةُ راما الأولى نظامكم الشمسي قبل سنوات، تطويرُ المعايير الكمية التي ستمكِّن الأكوانَ التالية من الوصول إلى التوافق، رغم النزعات الفوضوية للقوانين الطبيعية.»
صفَرت نيكول إعجابًا. ثم قالت في النهاية وهي تشغل كرسيها المتحرك: «إن هذه المناقشة تشدَه العقول تمامًا. وأنا منهكة للغاية الآن.»
فكَّرت في نفسها: «ولكني لست منهكةً بالدرجة التي تجعلني أنام. كيف يستطيع أيُّ شخص النومَ بعد أن شُرح له الهدف من الكون؟» ثم ضحِكت نيكول وهي في فراشها وتفكَّرت: «لا يمكن أن أتخيَّل ما كان ريتشارد سيقوله بعد هذه المناقشة … ربما يقول إنها نظرية جيدة ولكن كيف تشرح سيطرةَ الفِرق الأفريقية على كأس العالم بين عامي ٢١٤٠ و٢١٦٠؟ أو أن الإجابة عن جميع الأسئلة الوجودية لم تَعُد ٤٢؟» ضحِكت مرةً أخرى. وقالت في نفسها: «كان ريتشارد سيقدِّر القديس مايكل ولا شك، ولكن كان سيطرح مئات الأسئلة … وكنا سنقيم علاقةً حميمة عندما نعود إلى الغرفة، ثم نتحدَّث طَوال الليل …»
تثاءبت نيكول وتقلَّبت على جانبها. وعندما أخلَدت إلى النوم كانت رؤى أكوان تنفجر لتعمُرها كائنات تتقافز إلى عقلها.
٩
استيقظت نيكول وقد تجدَّد نشاطها وطاقتها. وكانت على وشْك أن تضغط على زر جرسٍ بجانب فراشها، لكنها تراجعت. وجاهدت لتصل إلى كرسيِّها المتحرك وجلست عليه. ثم تحرَّكت به حتى وصلت إلى النوافذ وأزاحت الستائر.
كان الجو في الخارج جميلًا صباحًا. فهناك خليجٌ صغير يجري إلى يسارها وثلاثة أطفال، تتراوح أعمارهم غالبًا ما بين ثماني وعشر سنوات، يقفزون على الأحجار عبْر بِركة صغيرة في الخليج. وبينما تحدِّق من النوافذ إلى الحقول والأشجار المصنوعة لتحاكي الطبيعية وأيضًا التلال المحيطة بالأرض، شعرت حينها أنها شابة ومليئة بالحيوية.
فكَّرت نيكول في نفسها: «ربما ينبغي أن أتركهم يرممِّون جسدي. ويستبدلون جميعَ أعضائي التالفة التي أعياها الزمن … يمكنني أن أعيش هنا مع سيمون ومايكل. وربما يمكنني أن أعلِّم أحفادي بعضَ دروس الحياة.»
غادر الأطفال الثلاثة الخليجَ وجرَوا عبْر الحقل الأخضر إلى المنطقة المغلقة الخاصة بالخيول. كان الصبي يركض أسرعَ من الفتاتين الأخريين، ولكنه لم يسبق أصغرهما.
ضحك ثلاثتهم معًا وأخذوا ينادون الخيولَ من فوق السياج.
قال مايكل الكبير من ورائها: «الصبي يُدعى زاكري. والفتاتان كولين وسيمون … زاكري وكولين أبناء كاتيا، أما سيمون فهي الابنة الكبرى لتيموثي.»
لم تسمع نيكول مايكل وهو يدخل إلى الغرفة. وحين رأته استدارت إليه بكرسيِّها المتحرك. وقالت: «صباح الخير يا مايكل!» ثم عادت لتتطلَّع من النافذة. وقالت: «إن الأطفال رائعون.»
قال مايكل وهو يسير إلى النافذة: «شكرًا لك. إنني رجل محظوظ جدًّا. فقد حبَاني الإله بحياة رائعة، وأنعم عليَّ بنعمٍ جمَّة.»
وأخذا يشاهدان الأطفالَ في صمت وهم يلعبون. امتطى زاكري حصانًا أبيضَ وبدأ يستعرض مهاراته. قال مايكل: «شعرت بالأسف لسماع خبر موت ريتشارد. باتريك أخبرَنا القصة أمسِ … لا بد أن الأمر كان صعبًا للغاية عليك.»
أجابته نيكول: «كان كذلك بالفعل. لقد توطَّدت علاقة صداقة رائعة بيني وبين ريتشارد …» ثم تبادلا النظرات. وقالت: «كنت ستفخر به كثيرًا يا مايكل … لقد كان رجلًا مختلفًا في سنواته الأخيرة.»
قال مايكل: «ظننتُ هذا. فريتشارد الذي عرفته لم يكن ليتطوَّع البتة ليضع نفسَه في قلب الخطر، خاصة كي ينقذ حياة آخرين …»
«كان لا بد أن تراه مع حفيدته نيكي، ابنة إيلي الصغيرة. كانا لا يفترقان، وكان بمنزلة الوالد لها … لقد اكتسب الحنان في وقتٍ متأخر للغاية من حياته …»
لم تستطِع نيكول استئنافَ حديثها. شعرَت بألمٍ مفاجئ شديد في قلبها. فقادت كرسيَّها إلى المنضدة بجوار الفراش وتناولت جرعةً من السائل الأزرق.
ثم عادت إلى النافذة ورأت في الخارج الفتاتين وهما على صهوة جوادٍ أيضًا، وتلعبان لعبة.
قال مايكل: «أخبرنا باتريك أيضًا أن بينجي أصبح رجلًا بالغًا رائعًا، وبالطبع محدود القدرات نوعًا ما، ولكنه مثير للإعجاب بالنظر إلى قدراته البسيطة والفترات الطويلة التي قضاها نائمًا … وقال أيضًا إن بينجي مثال حيٌّ ينِمُّ عن مواهبك جميعها، وأنكِ عملتِ معه دون كلل أو ملل، ولم تدعيه قط يتذرَّع بإعاقته …»
وجاء الدور على مايكل كي تختنق الكلمات في فيه. استدار إلى نيكول والدموع تتساقط من عينيه ووضع يديه في يديها. وقال: «لا يوجد ما أستطيع فِعله لأشكركِ شكرًا كافيًا على تربية هذين الولدين بهذا القدرِ من العناية. لا سيما بينجي.»
تطلَّعت إليه نيكول وهي جالسةٌ على كرسيها المتحرك. وقالت: «إنهما ابنانا. وأنا أحبُّهما كثيرًا.»
مسح مايكل أنفه وعينيه بمنديل. وقال: «بالطبع أريدك أنا وسيمون أن تقابلي أطفالنا والأحفاد، ولكننا اتفقنا أن هناك شيئًا يجب أن نخبرك به أولًا … ولم نعلم يقينًا كيف سيكون ردُّ فِعلك، وعلى أي حال لن يكون من العدل ألا نخبرك، وإلا فلن تفهمي سببَ ردة فعل الأطفال …»
قاطعته نيكول بسؤالها: «ما الأمر يا مايكل؟» ثم ابتسمت. وقالت: «من الواضح أنك تواجه صعوبةً في الدخول إلى الموضوع مباشرة.»
فقال وهو يجتاز الغرفةَ ويضغط على الزر إلى جوار فراشها مرتين متتاليتين بسرعة: «بالفعل. ما سأقوله لك الآن يا نيكول أمرٌ حسَّاس إلى حدٍّ ما … أتذكرين الليلةَ الماضية عندما أخبرناك أنني وسيمون لدينا رفيقان فضائيان؟»
قالت نيكول: «نعم يا مايكل.»
كانت لا تزال تتطلَّع من النافذة. اتجه مايكل ليقف إلى جوارها وأمسك بيدها. وحدَّقت هي في المشهد خارج النافذة. خرجت من المنزل امرأةٌ في أواخر الأربعينيات من عمرها، رياضية ذات بشَرة نحاسية داكنة، وكانت تسير بسرعة باتجاه إسطبل الخيول. بدت هيئة المرأة ومِشيتها مألوفتين لنيكول. وعندما رأى الأطفال السيدة لوَّحوا لها، واتجهوا نحوها بخيولهم.
انتبهت نيكول لزاكري وهو يصيح باسم المرأة، وفجأةً فهِمت نيكول الأمر. وقعت المفاجأة عليها كالصاعقة. استدارت المرأة لحظةً فرأت نيكول نفسها، مثلما كانت بالضبط عندما غادرت النود قبل أربعين عامًا. كان من الصعب على نيكول أن تسيطر على مشاعرها.
قال مايكل وهو يرى الذهولَ على وجهها: «كنتِ أنتِ أكثرَ شخص افتقدَته سيمون. لذا كان من الطبيعي أن يصنع الفضائيون رفيقًا لها على صورتك … إنها محاكاةٌ لكِ مثيرةٌ للإعجاب. ليس في شكلها الخارجي الذي ترينه بنفسك فحسب، بل في شخصيتها أيضًا. كنت أنا وسيمون مذهولين، ولا سيما في البداية، من النسخة المثالية التي صنعوها، وهذا الكائن الفضائي يتحدَّث مثلك، ويسير مثلك، بل يفكر مثلك … وفي غضون أسبوع أصبحت سيمون تناديها «أمي» وأنا أناديها «نيكول». وهي معنا منذ ذلك الحين.»
حدَّقت نيكول في الصورة المقلَّدة لها دون أن تتفوَّه بكلمة. وفكَّرت في نفسها: «لا خطأ في تعبيرات وجهها أو حتى ملامحها.» واستمرَّت تحدِّق فيها بانتباه والمرأة تقترب من المنزل ومعها الأطفال الثلاثة.
«ظنَّت سيمون أنكِ قد تتضايقين بعضَ الشيء، أو تشعرين أننا قد استبدلنا أحدًا غيرك بك عندما تكتشفين أن صورتك المقلَّدة هذه تعيش مع العائلة طوال هذه السنوات. ولكني طمأنتها وقلت لها إنك ستكونين بخير، ولن يعدوَ الأمر أن تستغرقي بعض الوقت لاستيعاب الفكرة … وعمومًا، على حدِّ علمي، لم تُستبدَل نسخةٌ آلية بإنسانٍ من قبلُ.»
التقطت نيكول الفضائية إحدى الفتاتين وأخذت تدور بها في الهواء. ثم صعِد الأربعة درجاتِ السُّلم واجتازوا مدخل المنزل.
فكَّرت نيكول: «إنهم ينادونها جَدتي. وبإمكانها الركضُ وامتطاء الخيول وتلعب معهم بقذفهم في الهواء … إنها ليست ضامرةً وحبيسةَ كرسي متحرِّك.» بدأ شعور لم تحبَّه نيكول ينمو داخلها، كان شعورًا بالشفقة على نفسها. قالت لنفسها: «ربما لم تفتقدني سيمون كثيرًا. «فوالدتها» معها هنا طوال هذه السنوات تعتني بها، لا تكبَر قط، ولا تطلب منها أيَّ شيء …»
شعرت نيكول أنها على وشْك أن تبكي. ولكنها استجمعت قواها. وقالت وهي تجبر نفسَها على الابتسام: «مايكل، لمَ لا تمنحني دقيقةً كي أعُدَّ نفسي لتناول الإفطار؟»
فسألها: «هل أنتِ واثقة أنك لا تحتاجين إلى مساعدة؟»
«كلا، كلا … سأكون بخير … أريد فقط أن أغسل وجهيَ وأضعَ قليلًا من مستحضرات التجميل.»
بعد أن أغلق مايكل الباب خلفه بثوانٍ قليلة بدأت الدموع تنهمر من عينيها، وقالت لنفسها: «ليس لي مكان هنا أيضًا. جَدتهم هنا بالفعل، جَدةٌ أفضلُ مما يمكن أن أكون أنا عليه في أي وقت، حتى لو كانت مجرَّدَ آلة …»
•••
لم تقُل نيكول سوى كلمات قلائلَ في طريق العودة إلى مركز وسائل المواصلات. وظلَّت ملتزِمة بالصمت بعد أن غادر المكُّوك الوحدةَ السكنية وانطلق في الفضاء.
قال الرجل النسر: «ألا تودين الحديثَ عن الأمر؟»
قالت نيكول عبْر الميكروفون في خوذتها: «كلا.»
سألها الرجل النسر بعد عدة ثوانٍ: «هل أنت سعيدة أنك قمت بهذه الزيارة؟»
أجابته: «نعم … بكل تأكيد. لقد كانت واحدةً من أروع التجارب التي مررت بها في حياتي … شكرًا جزيلًا لك.»
ضبط الرجل النسر إحداثيات رحلة المكُّوك فبدأ يرجع إلى الخلف ببطء. ملأ شكل الهرم الثلاثي الضخم نافذةَ المكُّوك.
فقال الرجل النسر: «يمكن إجراءُ عملية استبدال الأعضاء بعد ظهر اليوم. وقبل بداية الأسبوع القادم ستبدين أصغرَ من مايكل الكبير.»
قالت نيكول: «كلا، شكرًا!»
خيَّم عليهما صمتٌ طويل مرة أخرى. ثم قال الرجل النسر: «إنك لا تبدين سعيدة.»
استدارت نيكول لتنظر إلى رفيقها الفضائي. وقالت: «أنا سعيدة، ولا سيما من أجل سيمون ومايكل … من الرائع حقًّا أن تكون حياتهم مُرضية بهذا القدْر …» التقطت نفَسًا عميقًا. وقالت: «ربما أكون متعبةً فقط. فقد وقع كثيرٌ من الأحداث في فترة زمنية قصيرة.»
قال الرجل النسر: «أجل، على الأرجح ذلك هو السبب.»
كانت نيكول مستغرِقة في أفكارها، تُراجع كلَّ شيء حدَث لها بالترتيب منذ أن استيقظت. سيطر على عقلها وجوهُ أولاد سيمون ومايكل الستة وأحفادهم الأربعة عشر. وقالت في نفسها: «عائلة بديعة، ولكن تسير حياتهم على وتيرة واحدة.»
ثم جاءها وجهٌ آخر كثيرًا، وجهٌ تتذكَّره بوضوح من مرآتها. كانت توافق سيمون ومايكل في أن نيكول الأخرى كانت صورةً مطابِقة لها على نحوٍ لا يصدَّق، إنها إنجازٌ جليٌّ للتكنولوجيا المتقدمة. ولكن ما لم تستطِع نيكول حتى مناقشتَه معهم هو مدى غرابة الموقف عندما قابلت نفسها وهي شابة ودار بينهما حديث. أو مدى الشعور الغريب الذي راودها عندما علِمت أن آلة قد حلَّت محلَّها في قلوب أفراد عائلتها وعقولهم.
شاهدت نيكول بصمتٍ نيكولَ الأخرى تضحك مع سيمون على نقاشٍ دار بين سيمون وأختِها الصغرى كاتي قبل سنوات على متن النود. وعندما تذكَّرت المخلوقة الفضائية تفاصيلَ القصة انتعشت ذاكرة نيكول أيضًا. وفكَّرت في نفسها: «حتى ذاكرتها أفضلُ من ذاكرتي … يا له من حلٍّ مثالي لمشكلتَي الشيخوخة والاحتضار … تصنيع صورة لشخصٍ في ريعان حياته، وهو لا يزال محتفظًا بكامل طاقته، ثم الاحتفاظ بها للأبد كأسطورة، في عيون أحبائها على الأقل.»
سألت نيكول الرجل النسر: «كيف أتأكد يقينًا من أن مايكل وسيمون اللذين تحدَّثت إليهما أمس وصباح اليوم هما بشريان حقيقيان وليسا محاكاةً أكثرَ دقة من نيكول الأخرى؟»
قال الرجل النسر: «ذكرَ القديس مايكل أنكِ سألتِ عدةَ أسئلة محدَّدة عن السنوات الأولى من حياة مايكل الكبير. ألم تكن الإجابات التي حصلت عليها شافية؟»
«ولكني أدركت عندما كنا في العربة قبل ساعة أن بعض تلك المعلومات ربما كانت مُخزنة في ملف حياة مايكل على السفينة الفضائية نيوتن، وأعلم أن تلك البيانات متاحة لكم …»
قال الرجل النسر معقِّبًا: «ما الهدف من بذل هذا المجهود كلِّه لخداعك؟ وهل عهدتِ ذلك منَّا؟»
سألت نيكول بعد بضع دقائق مغيِّرة موضوعَ الحوار: «كم من أطفال سيمون ومايكل الآخرين لا يزالون على قيد الحياة؟»
أجابها الرجل النسر: «هناك اثنان وثلاثون آخرون هنا على منشأة النود تلك. وأكثر من مائة في أماكنَ أخرى.»
هزَّت نيكول رأسها في استنكار. وتذكَّرت أساطيرَ السينوفو: «وسيعمُر نسلها النجوم … كان أومه سيسعد بهذا.»
قالت نيكول: «هل أتقنتم إذنْ عمليةَ إنماء البشر خارج الرحم من البويضات المخصَّبة؟»
أجابها الرجل النسر: «تقريبًا.»
ومرةً أخرى خيَّم عليهما الصمت فترة طويلة وهما يحلِّقان. ثم سألت نيكول: «لمَ لمْ تخبرني من قبل عن المراقبين الرئيسيين؟»
«لم يكن مسموحًا لي، إلى حين استيقاظك على الأقل … ومنذ ذلك الحين لم يُطرح الموضوع.»
«وهل كلُّ ما قاله القديس مايكل صحيح؟ عن الإله والفوضى والأكوان المتعددة؟»
قال الرجل النسر: «على حدِّ علمنا. هذه هي المعلومات المبرمجة في أنظمتنا … لم يرَ أيٌّ منا مراقبًا رئيسيًّا قط.»
سألت نيكول: «وهل من الممكن أن تكون القصة بأكملها خرافةً من نوعٍ ما، ألَّفتها كائناتٌ أذكى منكم في الترتيب الهرمي للكائنات الذكية، ليكون التفسير المقرَّر تقديمه للبشر؟»
تردَّد الرجل النسر. ثم قال: «هذا احتمالٌ وارد … ولكن لا سبيل لديَّ لأعرف يقينًا.»
«هل ستعرف إذا كان هناك سردية مختلفة، تفسير آخر، قد جرَت برمجته في أنظمتك من قبل؟»
قال الرجل النسر: «ليس بالضرورة أن أعرف ذلك. فأنا مسئول فقط عما هو محفوظ في ذاكرتي.»
ظلَّت نيكول على سلوكها غيرِ المعتاد. كانت تقطع أوقات الصمت الطويلة التي تستغرق فيها بسلسلة من الأسئلة المفاجئة التي تبدو غيرَ مترابطة. في لحظة سألت عن سببِ وجود أربع وحدات في بعض منشآت النود وثلاث في أخرى. فشرح لها الرجل النسر أن كلَّ نود يكون ترتيبها العاشر أو الثاني عشر تقريبًا تحوي وحدةَ معرفة، وأن وجودها في أي نود يجعلها هرمًا ثلاثيًّا. أرادت نيكول أن تعرف السببَ الذي يجعل وحدةَ المعرفة مميزة بهذا الشكل. فأخبرها الرجل النسر أنها مخزن لجميع المعلومات المكتسَبة عن هذا الجزء من المجرة.
وقال: «جزءٌ منها مكتبة والجزء الآخر متحف، وتحتوي على كمٍّ هائل من المعلومات في أشكالٍ مختلفة.»
سألته نيكول: «هل دلَفت من قبل إلى داخل وحدة المعرفة هذه؟»
أجابها الرجل النسر: «لا، ولكن تحتوي أنظمتي الحالية على وصفٍ كامل لها …»
قالت نيكول: «هل بإمكاني الذهابُ إلى هناك؟»
قال الرجل النسر: «يجب أن يحصُل أي كائن حي على تصريح خاص لدخول وحدة المعرفة.»
عندما تحدَّثت نيكول مرة أخرى سألته عما سيحدُث للبشر الذين سيُنقلون إلى النود في غضون يوم أو اثنين. أخذ الرجل النسر يجيب عن سؤال قصير لها تلو الآخر، وشرح لها بصبرٍ أن البشر سيعيشون في الوحدة السكنية في بيئة اختبار مع أجناس عديدة أخرى، وأنهم سيُراقَبون عن قرب، ويمكن أن تنضم سيمون ومايكل وعائلتهما إلى البشر الذين سينتقلون إلى النود، وقد لا ينضمون.
اتخذت نيكول قرارها قبل دقائقَ عدة من وصولها إلى سفينة نجمة البحر. قالت ببطء: «أريد أن أبقى هنا الليلة فقط. حتى أودِّع الجميع.»
نظر الرجل النسر إليها والفضول يرتسم على وجهه. فاستكملت: «ثم غدًا، أريدك أن تصحبني إلى وحدة المعرفة إذا استطعت الحصولَ على تصريح … وبمجرد أن أغادر نجمةَ البحر أريد إيقافَ جميع صور العلاج الطبي … ولا أريد أي محاولات نبيلة منكم إذا ما توقف قلبي عن العمل.»
نظرت نيكول أمامها مباشرةً عبْر مقدِّمة خوذتها الفضائية إلى خارج نافذة المكُّوك. وقالت في نفسها: «هذا هو الوقت المناسب تمامًا. أتمنى أن أتحلَّى بالشجاعة كي لا أتزحزح عن موقفي.»
•••
قالت إيلي وهي تمسح دموعها: «نعم يا أمي، أفهمك، حقًّا أفهمك … ولكني ابنتك. وأنا أحبك. ولا يمكن أن أكون سعيدة لأني لن أراك مرةً أخرى، بصرف النظر عن منطقية كلامي هذا لك.»
قالت نيكول: «إذن ما المفترض أن أفعله؟! أدَعهم يغيِّروني إلى امرأة من نوعٍ ما ذات أعضاء آلية وأعيش للأبد؟ وأصبح سيدة المجتمع رفيعة المقام، متكلِّفة ويملؤها الغرور؟ بالطبع لا يروق لي هذا.»
قالت إيلي: «ولكن الجميع هنا يُكنُّ لك الإعجاب يا أمي. عائلتك هنا تحبُّك. ويمكنك أن تقضي سنواتٍ لتتعرفي على جميع أفراد عائلة سيمون ومايكل. ولن تكوني عبئًا أبدًا على أيٍّ منا …»
قالت نيكول: «ليس هذا هو السبب الأساسي.» ثم أدارت كرسيَّها المتحرك لتواجه أحدَ الجدران الخاوية. وقالت لنفسها ولإيلي أيضًا: «الكون كله في تجدُّد مستمر. فكل شيء — الأفراد والكواكب والنجوم وحتى المجرَّات — له دورة حياة، له لحظة ميلاد ولحظة موت أيضًا. لا شيء يخلد للأبد. ولا حتى الكون نفسه … فالتغيير والتجدُّد جزءٌ أساسي من سير الحياة كلها. وكائنات الأوكتوسبايدر تعرف هذا جيدًا. لهذا تَعُدُّ عمليات إنهاء الحياة المخطَّط لها جزءًا لا يتجزأ من المفهوم العام لسد النقص في المجتمع لديهم.»
قالت إيلي من خلفها: «ولكن يا أمي، تضع كائنات الأوكتوسبايدر على قائمة إنهاء الحياة الأفرادَ الذين لم تَعُد مساهماتهم في مجتمعهم كافية على نحوٍ يبرر المصادرَ التي يستهلكونها، فيما عدا حالة نشوب حرب … وإبقاؤك على قيد الحياة لا يكلِّفنا أي شيء … ولا تزال حِكمتك وخبرتك لهما قيمة.»
دارت نيكول بكرسيِّها. وقالت مبتسمة: «إنك امرأة ذكية جدًّا يا إيلي. وسأعترف أن ثمة شيئًا من الحقيقة فيما تقولينه، ولكنكِ تتجاهلين عن عمدٍ العنصرين الرئيسيَّين اللذين أقمتُ عليهما قراري، واللذين شرحتهما بالفعل بإسهاب … أولًا: لأسبابٍ قد لا تفهمينها أنت أو أي شخص آخر، من المهم لي أن أكون قادرةً على اختيارِ وقتِ موتي. وأريد أن أتخذ ذلك القرار قبل أن أصبح عبئًا أو أن أعجز عن الإتيان بالأنشطة الأساسية، أريد أن أتخذه وأنا لا أزال أتمتَّع باحترام عائلتي وأصدقائي. ثانيًا: أشعر أنني ليس لي أي مكان محدَّد في عالمِ ما بعد الانتقال. لهذا لا يستطيع عقلي أن يبرِّر لي التدخُّل الطبي الضخم في أعضائي الذي يتطلبه الأمر قبل أن أصبح قادرةً على أن أؤديَ وظائفي دون أن أمثِّل عبئًا للآخرين … من وجهات نظر عديدة مختلفة، أرى أن الآن هو وقتٌ ممتاز لي لأترك هذه الحياة.»
قالت إيلي: «كما قلتُ لك في البداية، يجب ألا يكون تحليلك العقلاني الخالي من المشاعر، سواء أكان صحيحًا أم لا، هو الاعتبارَ الوحيد. ماذا عن الشعور بفقدانك الذي سأعانيه أنا وبينجي ونيكي والآخرون؟ وما سيزيد من أسانا هو معرفة أنه كان من الممكن تجنُّب موتك الآن …»
قالت نيكول: «إيلي، إن أحدَ الأسباب التي جعلتني أعود لأودعك أنت والآخرين هو محاولة أن أخفِّف أيَّ شعور بفقداني قد تشعرون به بعد وفاتي … ومرة أخرى انظري إلى كائنات الأوكتوسبايدر. إنها لا تحزن على فقدان أحدها.»
قاطعتها إيلي وهي تقاوم انهمارَ دموعها مرة أخرى: «أمي، نحن لسنا كائنات أوكتوسبايدر، إننا بشر … نحزن … ونشعر بالوحدة عندما يذهب عنَّا شخصٌ نحبُّه. ندرك عقلًا أن الموت لا مفرَّ منه وأنه جزء من النظام الكوني، ولكننا نبكي ونشعر بإحساس شديد بالفقدان …»
سكتت إيلي دقيقةً. ثم قالت: «هل نسيتِ ما شعرتِ به عندما مات ريتشارد وكاتي؟ لقد انهرتِ تمامًا.»
ابتلعت نيكول لُعابها ببطء ونظرت إلى ابنتها. وفكَّرت في نفسها: «كنت أعرف أن هذا لن يكون سهلًا. ربما ما كان يجدُر بي أن أعود … ربما كان من الأفضل حقًّا لو كنتُ طلبتُ من الرجل النسر أن يخبرَ الجميع أنني مِتُّ جرَّاء أزمة قلبية.»
قالت إيلي بحنان: «أعلم أنكِ تضايقتِ عندما وجدتِ أن كائنًا آليًّا فضائيًّا حلَّ محلَّك في عائلة مايكل وسيمون … ولكن يجب ألا تبالغي في ردة فعلك. فعاجلًا أو آجلًا سيكتشف جميعُ أبنائهم وأحفادهم أنه لا يمكن أن يكون هناك بديلٌ لنيكول دي جاردان ويكفيلد الحقيقية.»
تنهَّدت نيكول. شعرت أنها تخسِر المعركة: «لقد بُحتُ لكِ يا إيلي أنني شعرت أنه لم يَعُد لي مكان في عائلة مايكل وسيمون. ولكن ليس من العدل أن تُلمِّحي إلى أن ردةَ فعلي لوجود نيكول الأخرى هو السبب الوحيد، أو حتى السبب الرئيسي، لقراري.»
بدأ الإنهاك يتملك من نيكول. كانت قد خطَّطت أن تتحدَّث في البداية إلى إيلي، ثم إلى بينجي، ثم إلى باقي المجموعة قبل أن تأوي إلى فراشها. ولكن كان الحديث مع إيلي أصعبَ كثيرًا مما توقَّعت. سألت نيكول نفسها: «هل كنتِ واقعية؟ هل ظننتِ حقًّا أن إيلي ستقول: «رائع يا أمي، إنه تفكير عقلاني منك. أنا آسفة لرحيلك، ولكني أتفهَّم تمامًا».»
سمِعا صوت طرقات على باب الغرفة. وبعد أن فُتح الباب نظر الرجل النسر إلى السيدتين. وسأل: «هل أتطفَّل عليكما؟»
ابتسمت نيكول. وقالت: «أظن أننا مستعدتان لاستراحة قصيرة.»
استأذنت إيلي للذهاب إلى الحمَّام، فسار الرجل النسر إلى نيكول. وقال وهو ينحني إلى مستوى الكرسي المتحرك: «كيف تسير الأمور؟»
أجابته نيكول: «ليس جيدًا.»
قال الرجل النسر: «فكَّرت أن أمُرَّ بك وأخبرك أنه تمَّت الموافقة على طلب زيارة وحدة المعرفة. على افتراض أن القرار الذي اتخذتِه في المكُّوك لا يزال قائمًا.»
أشرق وجهُ نيكول. وقالت: «جيد. الآن أحتاج فقط إلى استجماع شجاعتي لإنهاء ما بدأتُه.»
ربَّت الرجل النسر على ظهرها. وقال: «يمكنكِ ذلك. إنكِ أكثر إنسان خارق للعادة صادفناه.»
•••
أراح بينجي رأسه على صدر نيكول. كانت تستلقي على ظهرها وتحيطه بذراعيها. فكَّرت والنوم يغلبها: «قد تكون هذه هي آخر ليلة في حياتي.» سرَت رجفةُ خوف صغيرة في جسدها، ولكنها دفعتها عن نفسها. ثم قالت في نفسها: «أنا لست خائفةً من الموت، ليس بعد ما مررتُ به في حياتي.»
أعادت زيارةُ الرجل النسر قوَّتها إليها. وعندما استأنفت حوارها مع إيلي اعترفت أن النقاط التي أثارتها إيلي جديرةٌ بالاعتبار، وأنها لم تقصد أن تسبِّب ألمًا لأصدقائها وعائلتها، ولكنها عاقدةٌ العزمَ على المضي قُدمًا في قرارها. ثم أوضحت حينها لإيلي أنها هي وبينجي والآخرين سيحظون بفرصةٍ أكبر لتنمية استقلاليتهم في غيابها، لأنه لن يكون هناك شخص يمثل السلطة التي يحتكمون إليها.
قالت إيلي لنيكول إنها «امرأة عجوز عنيدة»، ولكنها، بسبب حبِّها واحترامها لها، ستحاول دعْمَها في قرارها في الساعات القليلة الباقية. وسألت إيلي نيكول أيضًا هل تعتزم فِعلَ شيء معيَّن لتعجيل موتها. فضحكت نيكول وأخبرت ابنتها أنه لا توجد حاجة لأي خطوات غير عادية؛ فالرجل النسر أكَّد لها أنه دون الدعم الطبي سيتوقف قلبها في غضون ساعات.
لم يكن الحوار مع بينجي بهذا القدْر من الصعوبة. فقد تطوَّعت إيلي للمساعدة في شرح كل شيء، وقبِلت نيكول عرضَها. كان بينجي يعرف أن والدته تعاني، وحالتها الصحية ليست على ما يرام، ولكنه لم يكن يعرف أن الكائنات الفضائية تمتلك القدرات الطبية لعلاج مشكلاتها. وطمأنت إيلي بينجي أن ماكس وإيبونين ونيكي وكيبلر وماريوس وماريا سيكونون جزءًا من عالمه اليومي كما هم.
ومن بين المجموعة كلِّها كانت إيبونين فقط هي مَن دمِعت عيناها عندما أخبرتهم نيكول بقرارها. أما ماكس فقال إنه لم يفاجأ بقرارها. وأبدت ماريا حزنَها أنها لم تقضِ مزيدًا من الوقت مع السيدة التي «أنقذت حياتي». أما كيبلر وماريوس وحتى نيكي فكانوا مرتبكين ولم يعرفوا ماذا يقولون.
وبينما كانت نيكول تستعد للنوم وعدَت نفسها بأن أول شيء ستفعله في الصباح هو أن تعثر على الدكتورة بلو وتودِّع صديقتها الأوكتوسبايدر وداعًا لائقًا. وقبل أن تطفئ النورَ مباشرة، دنا بينجي من والدته وطلب منها، بما أن هذه هي آخرُ ليلة لهما معًا، أن ينام في حِضنها «مثلما كنت أفعل وأنا صبي صغير». وافقت نيكول وبعد أن استكان بينجي بين ذراعيها على السجادة انهمرت الدموع على وجنتيها وأغرقت أذنيها.
١٠
استيقظت نيكول مبكرًا. وكان بينجي قد استيقظ بالفعل وارتدى ملابسه، ولا يزال كيبلر نائمًا في الجانب القصي من الغرفة. ساعد بينجي نيكول على الاستحمام وارتداء ملابسها دون أن ينفد صبره كما فعل من قبل.
جاء ماكس إلى الغرفة بعد بضعِ دقائق. وبعد أن أيقظ كيبلر اتَّجه إلى كرسي نيكول المتحرِّك وأمسك بيدها. وقال: «إنني لم أقُل الكثير ليلة أمس يا صديقتي، لأنني لم أستطِع إيجادَ الكلمات المناسبة … حتى الآن، لا تسعفني الكلمات بالمرة …»
أشاح ماكس بوجهه بعيدًا عنها. وقال في صوتٍ متقطِّع دون أن يواجهها: «اللعنة يا نيكول! إنك تعرفين ما شعوري حيالك … إنك إنسانة رائعة، رائعة حقًّا.»
توقَّف ماكس عن الحديث. وكان الصوت الوحيد في الغرفة هو صوت الماء المتدفَّق وكيبلر يستحم. اعتصرت نيكول يدَ ماكس. وقالت بحنان: «شكرًا لك يا ماكس، هذا يعني لي الكثير.»
قال ماكس بتردُّد وهو يعود لينظر إلى نيكول: «عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري مات والدي بنوع نادر من مرض السرطان … كنا جميعًا نعرف أن الموت قادم له. شاهدته أنا وكلايد وأمي يذبل شهورًا عدة … لكني لم أصدِّق الأمر، حتى بعد أن كان يرقد جثةً هامدة في التابوت … أقمنا مراسمَ تأبين بسيطة في المقبرة، ولم يحضُرها سوى أصدقائنا من المزارع المجاورة، بالإضافة إلى ميكانيكي سيارات من مدينة دي كوين يُدعى ويلي تاونزند كان يحتسي الخمر مع أبي في بعض ليالي السبت.»
ابتسم ماكس وتحرَّر من التوتر العصبي الذي كان يشعر به. فهو يحب روايةَ القصص. استأنف يقول: «كان ويلي وغدًا عجوزًا طيبًا، لم يتزوج، كان صلبًا صلابةَ الحديد ظاهرًا ولكنه لينٌّ كالأطفال باطنًا … كانت الفتاة الأولى في حفلةِ لمِّ الشمل لطلاب مدرسة دي كوين الثانوية قد نبذته عندما كان شابًّا، ولم يرتبط بعدها بحبيبةٍ البتة … وعلى أي حال، طلبت مني أمي أن ألقيَ كلمة عن أبي في جنازته، فوافقتها … وكتبتها بنفسي وحفظتها جيدًا حتى إنني تدرَّبت على إلقائها مرةً أمام كلايد …
عندما حان وقت مراسم التأبين كنت مستعدًّا لإلقاء كلمتي … وبدأت قائلًا: «كان والدي هنري آلان باكيت رجلًا رائعًا.» ثم سكتُّ قليلًا كما خطَّطت، ونظرت حولي. كان ويلي يبكي بالفعل بصوتٍ مكتوم وينظر إلى الأرض … وفجأة لم أستطِع تذكُّر ما كان من المفترض أن أقوله بعد ذلك! فوقفنا جميعًا تحت شمس آركنسو الحارقة لِما بدا دهرًا كاملًا، ولكنه على الأرجح لم يدُم إلا ثلاثين ثانية أو نحو ذلك … ولم أتذكَّر مطلقًا باقي الكلمة التي ألقيتها. وفي النهاية جعلني الإحباط والخجل أقول: «آه، اللعنة!» فدوَّى صوت ويلي كالأجراس الجنائزية وهو يقول: «آمين!»»
ضحكت نيكول ثم قالت: «ماكس باكيت، أنت شخص لا مثيلَ له في أي مكان في هذا الكون.»
ارتسمت على وجهِ ماكس ابتسامة عريضة. وقال: «أمس عندما أويت أنا وفرنسيتي إلى الفراش كنا نتحدَّث عن نيكول الأخرى التي صنعتها المخلوقاتُ الفضائية لسيمون ومايكل، وتساءلت إيب هل بإمكانهم صُنْع ماكس باكيت آليٍّ لها. راقت لها فكرةُ أن يكون لها زوجٌ مثالي يفعل دائمًا ما تطلبه … حتى في الليل … ضحِكنا حتى تعِبنا ونحن نحاول تخيُّل، تعرفين، ما يستطيع الإنسان الآلي فِعله وما لا يستطيع فِعله في الفراش …»
قالت نيكول: «عيبٌ عليك يا ماكس.»
قال ماكس: «في الواقع كانت فرنسيتي هي مَن أطلقت العِنان لخيالها … وعلى أي حال، لقد أُرسِلت إلى هنا لهدف محدَّد وهو أن أخبرك أنه سيُقدَّم الإفطار لنا في الغرفة المجاورة، في لفتة جميلة من المكعبات الآلية، وهذا جزءٌ من محاولتنا أن نودِّعك، أو نتمنى لك رحلةً سعيدة أو أيًّا كان التعبير المناسب. وأنه سيبدأ بالضبط بعد ثماني دقائق.»
•••
سعِدت نيكول لرؤيتها الجو العام على الإفطار مبهجًا وسارًّا. وقد أكَّدت عدةَ مرات الليلة السابقة أن رحيلها يجب ألا يكون حدثًا يدعو للأسى، وأنه يجب الاحتفال به كنهاية لحياة رائعة. ويبدو أن عائلتها وأصدقاءها قد أخذوا ملاحظتها بصورة جِدية؛ إذ إنها لم ترَ الحزن مرتسمًا على وجوههم إلا من حين لآخر.
جلس إيلي وبينجي جانَبي نيكول إلى المائدة الطويلة التي أعدَّتها المكعبات الآلية. وإلى جوار إيلي نيكي ثم ماريا والدكتورة بلو. وعلى الجانب الآخر ماكس وإيبونين إلى جوار بينجي ثم ماريوس وكيبلر والرجل النسر. وفي أثناء تناول الطعام دهشت نيكول لملاحظتها أن ماريا تتحاور مع الدكتورة بلو. فقالت نيكول بنبرةِ مديح واضحة في صوتها: «لم أكن أعلم أنكِ تستطيعين قراءةَ الألوان يا ماريا.»
قالت الفتاة وقد شعرت بالخجل بعضَ الشيء من مجاملتها: «قليلًا. فقد كانت إيلي تعلِّمني.»
قالت نيكول معلِّقة: «هذا رائع.»
قال ماكس: «بالطبع إن الخبير اللغوي الحقيقي في هذه المجموعة هو ذلك الرجل الطائر الغريب الجالس إلى نهاية المائدة … حتى إننا رأيناه أمس يتحدَّث إلى الإجوانا بطقطقات وصيحات حادة غريبة.»
قالت نيكي: «يا إلهي! لن أودَّ التحدُّث إلى أيٍّ من هذه الكائنات الكريهة …»
قال الرجل النسر: «إن لديها طريقةً مختلفة تمامًا للنظر إلى العالم. نظرة بسيطة للغاية وبدائية للغاية.»
قالت إيبونين وهي تنحني للأمام وتخاطب الرجلَ النسر مباشرة: «ما أريد أن أعرفه هو ماذا عليَّ أن أفعل كي أحصلَ على رفيقٍ فضائي آلي. أريده يشبه ماكس، على ألا يكون عنيدًا ولديه بعض الصفات الأخرى الحسنة …»
ضحِك الجميع. وابتسمت نيكول وهي تنظر حول المائدة. وفكَّرت: «يا له من جوٍّ مثالي! ما كنت لأتمنى وداعًا أفضلَ من هذا.»
•••
بينما كانت نيكول ترتِّب حقيبتها أعطاها الرجل النسر والدكتورة بلو جرعةً أخيرةً من السائل الأزرق. كانت نيكول سعيدة لأنها حصلت على لحظة خاصة مع الدكتورة بلو لتودِّعها فيها. فلم تقُل نيكول وهي تعانق زميلتَها الأوكتوسبايدر إلا: «شكرًا لك على كل شيء!»
قالت الدكتورة بلو بالألوان: «سنفتقدك جميعًا. أرادت مسئولة الأمثلية الجديدة أن تنظِّم حفلَ وداعٍ كبيرًا … لكني أخبرتها أني لا أرى هذا مناسبًا … طلبت مني أن أودعك نيابةً عن باقي جنسنا.»
رافقوها جميعًا إلى حجرة معادلة الضغط. وكانت هناك جولةٌ أخيرة من العِناق التي توَّجتها ابتسامات وهي جالسة على كرسيها المتحرك، ثم عبَر الرجل النسر ونيكول حجرةَ معادلة الضغط.
تنهَّدت نيكول عندما رفعها الرجل النسر إلى مقعدها في المكُّوك وطوى الكرسي المتحرك.
قالت نيكول: «كانوا رائعين، أليس كذلك؟»
أجابها الرجل النسر: «إنهم يحبُّونك ويحترمونك كثيرًا.»
فور أن غادرا سفينةَ نجمة البحر كان الهرم الثلاثي المضيء يدور ببطء مرةً أخرى أمامهما. سألها الرجل النسر: «بمَ تشعرين؟»
قالت نيكول: «بالارتياح، وشيء من الخوف.»
قال الرجل النسر: «هذا متوقَّع.»
سألته نيكول: «كم تعتقد لدي من الوقت؟» وأضافت بعد ثوانٍ: «قبل أن يتوقف قلبي؟»
«من الصعب تحديدُ هذا.»
قالت نيكول بنفاد صبر: «أعلم، أعلم. ولكنكم علماء … لا بد أنكم أجريتم بعض الإحصاءات …»
قال الرجل النسر: «ما بين ست وعشر ساعات.»
فكَّرت نيكول في نفسها: «من ست إلى عشر ساعات سأكون ميتة.» أصبح إحساسها بالخوف أقوى. ولم تستطِع دفعه عن نفسها تمامًا.
سألت نيكول: «كيف هو الموت؟»
أجابها الرجل النسر: «ظننا أنكِ قد تسألين هذا السؤال. وقيل لنا إنه يشبه عمليةَ فصل الطاقة.»
قالت نيكول: «يصبح المرء عدمًا، للأبد؟»
«أظن هذا.»
قالت: «وعملية الاحتضار نفسها؟ هل هناك شيء استثنائي بها؟»
قال الرجل النسر: «لا نعرف. كنا نأمُل أن تمدينا بأكبر قدرٍ يمكنك من المعلومات.»
حلَّقا في صمتٍ فترةً طويلة من الوقت. وأمامهم كان حجم النود يكبُر بسرعة مع اقترابهما منها. وفي لحظةٍ غيَّرت مركبة الفضاء اتجاهها تغييرًا طفيفًا فاحتلت وحدةُ المعرفة منتصف النافذة. وفي أثناء اقترابهما الأخير منها كانت الرءوس الثلاثة الأخرى للنود أسفلهما.
قال الرجل النسر: «هل تسمحين لي أن أسألكِ سؤالًا؟»
أجابته: «بالطبع.» التفَتت إلى الفضائي وابتسمت له من وراء خوذتها. وقالت: «آمُل ألا تكون قد أصبحت خجولًا بعد كل ذلك الوقت.»
سأل الرجل النسر وهما يقتربان أكثرَ من الهرم الثلاثي المهيب: «لمَ تودين قضاءَ لحظاتك الأخيرة في وحدة المعرفة؟»
ضحكت نيكول. وقالت: «ها أنت ذا تلقي سؤالًا مبرمجًا لديك من قبل. وأستطيع بالفعل رؤيةَ إجابتي محفوظة في ملف ضخم يحمل اسم «الموت: الكائنات البشرية» والملفات الأخرى المرتبطة.»
لم يقُل الرجل النسر شيئًا.
قالت نيكول: «عندما احتُجِزتُ أنا وريتشارد في نيويورك قبل سنوات، ولم نظنَّ أن لدينا فرصةً للهرب، تحدَّثنا عما نود أن نفعله في اللحظات الأخيرة قبل موتنا. واتفقنا أن خيارنا الأول هو إقامة علاقة معًا. والخيار الثاني هو أن نتعلم شيئًا جديدًا، أن نشعر بإثارة الاكتشاف مرةً أخيرة …»
قال الرجل النسر: «هذا مفهوم متطوِّر للغاية!»
قالت نيكول: «وعملي أيضًا. ستثير وحدة المعرفة الخاصة بكم اهتمامي، إلا إذا خانني الظن، بصورةٍ كافية حتى إنني لن أدرك أن عقارب الساعة تشير إلى الثواني الأخيرة من حياتي … وإذا كنت منهمكة تمامًا في شيءٍ ما حتى النهاية، فربما لن يسيطر عليَّ الخوف من الموت.»
أصبحت وحدة المعرفة تملأ مجال رؤيتهم من النافذة بالكامل. فقال الرجل النسر: «قبل أن ندخل أودُّ أن أمنحك بعض المعلومات عن هذا المكان … هذه الوحدة الكروية هي في الواقع ثلاثة نطاقات متَّحدة المركز لكلٍّ منها هدفٌ محدَّد. النطاق الخارجي، وهو الأصغر، معنيٌّ بالمعلومات المرتبطة بالحاضر، أو الحاضر القريب. والنطاق التالي إلى الداخل هو المكانُ الذي تُحفظ فيه جميع المعلومات التاريخية عن هذا الجزء من المجرَّة. وتحوي الكرةُ الداخلية الضخمة جميعَ نماذجِ توقُّع المستقبل، وكذلك السيناريوهات الإحصائية المحتمَلة للدهور القادمة …»
قالت نيكول: «ظننت أنك لم تدخل إلى هناك قط.»
أجابها الرجل النسر: «لم أدخل بالفعل. ولكن جرى تحديثُ قاعدة البيانات لديَّ عن وحدة المعرفة وتوسيعها أمس …»
انفتح بابٌ في السطح الخارجي من الكرة وبدأ المكُّوك في الدخول. فقالت نيكول: «دقيقة من فضلك! هل أستنتج أنني لن أغادر هذه الوحدة على قيد الحياة أبدًا.»
قال الرجل النسر: «نعم.»
«إذن هلا تدور من فضلك بهذه المركبة ببطء لتدعني ألقي نظرةً أخيرة على العالم الخارجي؟»
ناورَ المكُّوك مناورةً بطيئة لينحرف عن مساره، وحدَّقت نيكول وهي تشرئب إلى الأمام في مقعدها إلى خارج النافذة بثبات. رأت الوحدات الكروية الأخرى للنود، وممرات الانتقال، وعلى بُعد سفينة نجمة البحر حيث كانت عائلتها وأصدقاؤها يَعُدون حقائبهم للانتقال. وفي أحدِ الاتجاهات كان النجم الأصفر تاو سيتي الذي يشبه الشمس كثيرًا هو الكيانَ الكبير الوحيد البادي من النافذة، ومع تألقُّه والضوء الذي تبثُّه النود، لم تستطِع نيكول أن تتبيَّن سوى عدد قليل من النجوم الأخرى في ظلام الفضاء.
فكَّرت نيكول في نفسها: «لا شيء في هذا المشهد سيتغيَّر بموتي. كلُّ ما في الأمر أنه سيقل عدد الأعين التي تشاهد روعته بمقدار اثنتين. وسيقل عددُ الكائنات الواعية التي شكَّلتها موادُّ كيميائية والتي تتساءل عن فحوى هذا الأمر برُمَّته.»
قالت نيكول بعد أن انتهى الرجل النسر من دورته بالكامل: «شكرًا لك! يمكننا الآن أن نواصل تقدُّمنا.»
١١
كانت المركبات التي تدخل وحدةَ المعرفة من الفضاء وأنابيب الانتقال التي تصل من الوحدات الثلاث الأخرى، تنتهي جميعها في محطة طويلة غير متَّسعة تقع على أحدِ جانبي الممر الحلقي المحيط تمامًا بالكرة الضخمة في منتصفها.
قال الرجل النسر ورصيف متحرِّك ينقلهما بسرعة على طول الممر الحلقي: «هناك مدخلان فقط لكلٍّ من النطاقات الثلاثة المتحدة المركز لوحدة المعرفة يبعُد كلٌّ منهما عن الآخر مائة وثمانين درجة.» كان على يمينهما السطح الخارجي الشفاف للوحدة. وعلى يسارهما جدار أصفر اللون يخلو من النوافذ.
سألت نيكول على كرسيها المتحرك: «هل سأتمكَّن من نزع سترتي وخوذتي قريبًا.»
أجابها الرجل النسر: «نعم، بعد أن ندخل المعارض. كان عليَّ ترتيب جولة من نوعٍ ما، وفي هذه الأماكن لن تحتاجي إلى سترة الفضاء، فإنهم لم يستطيعوا تغييرَ مناخ الوحدة بالكامل بين عشية وضحاها.»
«إذن فقد اخترتَ بالفعل ما سنراه؟»
قال الرجل النسر: «لم يكن هناك مفرٌّ من هذا. فهذا المكان ضخم، أكبرُ بكثير من أحد نصفي الأسطوانة في راما، وهو يعجُّ بالمعلومات … حاولت أن أصمِّم برنامجًا لرحلتنا اعتمادًا على معرفتي بالأشياء التي تثير اهتمامك والوقت المتاح لنا … إذا اتضح أن هناك أشياءَ أخرى …»
قالت نيكول: «كلا، كلا. أنا لا أعرف ماذا كنت لأطلب رؤيته. وأنا واثقة من أن ما فعلتَه مناسب …»
اقترب من مكانٍ توقَّفت فيه الأرصفة المتحركة، وبه ممشًى واسع يمتد إلى اليسار. فقال الرجل النسر: «وبالمناسبة لم أشرح لك أن جولتنا محصورةٌ في المنطقتين الخارجيتين فقط … فمنطقة التنبؤات غير مسموح لنا بدخولها.»
سألت نيكول وهي تشغِّل كرسيها المتحرك وتتحرَّك في الرواق إلى جوار الرجل النسر: «ولمَ ذلك؟»
قال: «لا أعلم عن يقين. ولكن هذا لا يهم، إذا كنتُ أفهم غرضك من الوجود هنا. فستكون هناك أشياءُ أكثر من كافية لتشغَلك في المنطقتين المتاحتين لنا.»
كان أمامهما جدارٌ عالٍ ليس عليه أي شيء. وما إن اقترب الرجل النسر ونيكول حتى فُتح بابٌ كبير في الجدار للداخل كاشفًا عن غرفة دائرية مرتفعة السطح في منتصفها كرةٌ يبلغ قطرها عشرة أمتار. كان جدار الغرفة وسقفها ممتلئين بتجهيزات أو أدوات صغيرة مثبَّتة وكثير من العلامات الغريبة. أخبر الرجل النسر نيكول أنه ليست لديه أيُّ فكرة عما يعنيه أيٌّ منها.
قال الفضائي: «ما قيل لي هو أنكِ ستحصلين على معلوماتٍ تمهيدية عن زيارتك لهذا النطاق داخل هذه الكرة أمامنا.»
انقسمت الكرة اللامعة إلى نصفين من منتصفها. وارتفع الجزء العلوي من الكرة المفرَّغة إلى الأعلى لمستوًى يسمح للرجل النسر ونيكول بالمرور أسفله إلى داخل الكرة. وفور أن دخلا عاد الجزء العلوي من الكرة إلى مكانه الأصلي وأحاطت الكرة بهما تمامًا.
لم يخيِّم الظلام أكثرَ من ثانية أو اثنتين. ثم أُضيئت أنوارٌ صغيرة متفرقة من جانب الكرة الذي يواجههما. فقالت نيكول معلِّقة: «تحوي هذه الكرة كثيرًا من التفاصيل.»
قال الرجل النسر: «ما ننظر إليه الآن هو نموذجٌ لهذا النطاق بالكامل. ونحن نراها وكأننا نقف في مركز وحدة المعلومات بالضبط، وكما أنه لا وجودَ لأي من المنطقتين الأخريين … ستلاحظين من الطريقة التي ستُعرض بها الأشياء على طول السطح وأمامه، ليس فقط أمامنا وخلفنا وإنما أيضًا فوقنا وتحتنا، أنه لا شيء يدخل إلى المساحة الخاوية في المنتصف أكثرَ من مسافة ثابتة. ويقع الجدار الخارجي للنطاق المتَّحد المركز القادم في تلك النقطة من الوحدة «الحقيقية» … والآن ستريك الأضواء على هذا النموذج إلى أين سنذهب في الساعات القليلة القادمة.»
فجأةً أصبح قطاعٌ كبير من سطح الكرة الداخلي المواجه لهما منارًا بأضواءٍ هادئة، نحو ثلاثين بالمائة من مساحة الكرة بالكامل.
قال الرجل النسر وهو يشير بحركة دائرية بيده: «كل شيء في المنطقة المضاءة يرتبط بالسفر عبْر الفضاء. وستقتصر رحلتنا على هذا الجزء من النطاق … والأضواء الحمراء الوامضة على السطح أمامنا تبيِّن موضعنا الحالي …»
وبينما كانت نيكول تشاهد تحرُّك شعاعٍ أحمر من الأضواء بسرعة إلى السطح وتوقف عند نقطة تعلو رأسها، حيث كانت هناك صورةٌ لمجرة درب التبانة. قال الرجل النسر وهو يشير إلى حيث توقَّف شعاع الضوء: «سنذهب أولًا إلى قسم الجغرافيا ثم إلى الهندسة وأخيرًا إلى علم الأحياء … وبعد استراحة قصيرة سنستأنف رحلتنا إلى النطاق الثاني … هل لديك أيُّ أسئلة أخرى قبل أن نبدأ؟»
صعِدا لأعلى ما بدا أنه سطحٌ منحدِر في عربة صغيرة مشابهة لتلك التي استخدماها في الوحدة السكنية في أثناء زيارة نيكول لمايكل وسيمون. ومع أن الطريق أمامهما وخلفهما كان مضاءً فقد كان كل شيء إلى جوار العربة في ظلام دامس.
سألت نيكول بعد أن أمضيا عشر دقائق تقريبًا بالعربة: «ماذا يوجد حولنا؟»
قال الرجل النسر: «الجزء الأغلب مخازن بيانات، بالإضافة إلى بعض المعارض. ومحيطنا مظلِم حتى لا يتشتَّت انتباهك دون داعٍ.»
في النهاية توقَّفا إلى جوار بابٍ طويل آخر. فقال الرجل النسر وهو ينصب كرسيَّ نيكول المتحرك: «الغرفة التي على وشْك أن تدخليها هي أكبر غرفة في هذا النطاق. يبلغ عرضُها عند أكبر نقطة نصف كيلومتر. وبداخلها حاليًّا نموذجٌ لمجرة درب التبانة؟ وفور أن ندخل سنقف على منصةٍ متحركة يمكننا أن نأمرها لتأخذنا إلى أي نقطة في الغرفة … وستكون مظلمة في الغالب بالداخل، وستكون هناك عروض وتصميمات فوقنا وتحتنا. قد تشعرين أنك ستسقطين، ولكن تذكَّري أنك ليس لك وزن …»
كان المشهد من فوق المنصة بديعًا. حتى قبل أن يبدآ التحرك باتجاه منتصف الغرفة الشاسعة، كانت نيكول مبهورة تمامًا. كانت الأضواء التي تمثل النجوم متناثرةً في كل مكان في الظلام المحيط بهما. كانت توجد نجومٌ مفردة وفي مجموعات ثنائية وأخرى في مجموعات ثلاثية متَّحدة. ونجوم صفراء صغيرة ثابتة، وأخرى حمراء ضخمة، وكذلك أخرى بيضاء قزِمة، حتى إنهما مرَّا فوق نجم مستعِر أعظم ينفجر. في كل مكان وفي كل اتجاه حولهما كانا يريان شيئًا مختلفًا ومبهرًا.
بعد بضع دقائق أوقف الرجل النسر المنصة. وقال: «فكَّرت أن نبدأ من هنا، حيث تكون هذه المنطقة مألوفة لك.»
كان الرجل النسر يستخدم عصًا تشعُّ منها خيوطُ ضوء متعددة، فأشار بها إلى نجمٍ أصفر قريب. وقال: «هل تعرفين هذا المكان؟»
كانت نيكول لا تزال تحدِّق في الأضواء اللامتناهية في جميع الاتجاهات. فسألت: «هل توجد نماذج للمائة مليار نجم في المجرة جميعها في هذه الغرفة؟»
أجابها الرجل النسر: «لا. ما ترينه هنا هو جزء كبير من المجرة … وسأشرح لك المزيد في غضون بضع دقائق عندما نذهب إلى قمة الغرفة حيث يمكننا النظرُ لأسفل على السطح المستوي في منتصف المجرة … لقد أتيتُ بك إلى هذه النقطة بالتحديد لهدفٍ آخر.»
تعرَّفت نيكول الشمسَ، ومجموعةَ نجوم قنطورس الثلاثية أقرب جيرانها، وحتى نجم برنارد ونجم الشَّعرى اليمانية. ولم تستطِع تذكُّر أسماء معظم النجوم الأخرى المجاورة للشمس. لكنها تمكَّنت من تحديد نجم أصفر وحيد ليس ببعيد.
فسألت: «هل هذا تاو سيتي؟»
قال الرجل النسر: «نعم، بالفعل.»
فكَّرت نيكول في نفسها: «يبدو تاو سيتي قريبًا للغاية من الشمس، ولكنه في الحقيقة بعيدٌ جدًا عنها. وهذا يعني أن المجرة أكبرُ بكثير مما يمكن أن يتخيل أيٌّ منَّا.»
قال الرجل النسر كما لو أنه يقرأ أفكارها: «تبلغ المسافة من نجم الشمس إلى نجم تاو سيتي واحدًا على عشرة آلاف من كامل المسافة عبْر المجرة.»
هزَّت نيكول رأسها والمنصة تبدأ في التحرُّك بعيدًا عن الشمس وتاو سيتي. وفكَّرت: «هناك أكثرُ مما تخيَّلت بكثير في الكون، حتى رحلاتي كانت في منطقة صغيرة ضئيلة من الفضاء.»
سلَّط الرجل النسر الضوء بعيدًا عن المنصة المتحركة إلى يمين نيكول على خطٍّ ثلاثي الأبعاد يتَّخذ شكلَ مجسَّم على شكل مثلَّث. وبالتحكم بالجهاز الأسود الذي يحمله في يده جعل حجمَ المجسَّم أكبر وأصغر بالتعاقب.
قال الرجل النسر: «هناك كثيرٌ من الطُّرق المختلفة للتحكم فيما يُعرض في هذه الغرفة. وباستخدام هذا الجهاز يمكننا تغييرُ حجم الأجرام المعروضة، والاقتراب من أي منقطة معينة من المجرة … دعيني أريك. افترضي أني وضعتُ الضوء الأحمر هنا، في منتصف سديم الجوزاء. هذا يمثِّل الموضع المبدئي المطلوب للمنصة. والآن دعيني أبسِط هذا الشكل الهندسي ليضمَّ نحو ألف نجم … الآن، فماذا سنرى؟!»
خيَّم ظلام دامس على الغرفة مدة ثانية تقريبًا. ثم فجأة انبهرت نيكول مرةً أخرى، ولكن هذه المرة بمجموعة مختلفة من الأضواء. كانت النجوم المفردة والمجموعات النجمية أكثرَ تحديدًا ووضوحًا. شرح الرجل النسر أن الغرفة بأكملها تنقل صورًا الآن من داخل سديم الجوزاء، وأن أطول بُعد للغرفة يكافئ الآن بضع مئات من السنوات الضوئية بدلًا من ستين ألف سنة ضوئية كما كان من قبل.»
قال الرجل النسر: «تُعَد هذه المنطقة بالتحديد مهدًا للنجوم حيث تُولد النجوم والكواكب.» ثم حرَّك المنصة باتجاه اليمين. وقال: «هنا على سبيل المثال، نظام نجمي وليد، في المراحل الأولى لتكوُّنه، ويتمتَّع بكثير من الخصائص التي كانت لدى نظامكم الشمسي قبل أربعة مليارات عام ونصف.»
ثم رسم شكلًا مجسمًا صغيرًا حول واحد من النجوم وبعد بضعِ ثوانٍ امتلأت الغرفة بضوء شمس صغيرة. شاهدت نيكول عاصفةً شمسية ضخمة تتحرك عبْر السطح المضطرب. وارتفع انفجارٌ على شكل هالة فوق رأسها، وينطلق منه شعاعان من اللونين البرتقالي والأحمر إلى ظلمة الفضاء.
أدار الرجل النسر المنصةَ باتجاه جسم بعيد أصغر كثيرًا من سابقه، يتكوَّن من عشرة تراكمات تقريبًا من الكتلة التي يمكن تعرُّفُها في المناطق التي تحيط بالنجم الصغير عن قُرب. كان هذا الكوكب بالتحديد له سطح متوهِّج يميل إلى اللون الأحمر. وبينما كانا يشاهدان ارتطم جسمٌ ضخم يهوي في السائل الساخن، ليقذف مادةً من السطح ويسبِّب موجةً عنيفة في جميع الاتجاهات.
قال الرجل النسر: «وفقًا لبياناتنا الإحصائية يوجد احتمال لا يُستهان به أن حياةً ستنشأ على هذا الكوكب بعد بضعة مليارات من السنين من التطوُّر، فور أن تنتهيَ فترةُ سقوط الأجسام والتكوين هذه. وسيدور حوله نجمٌ واحد مستقر، ويكون له غلاف جوي يحظى باختلافات مناخية وافية لنشوء حياة، بالإضافة إلى جميع المقوِّمات الكيميائية … انظري بنفسك، هنا. أبقي عينيك على ذلك الكوكب. سأشغِّل برنامجًا خاصًّا سيمر بسرعة على النصف السفلي من الجدول الدوري، وسيعرض بياناتٍ كمية عن العدد النسبي للذرات من كل العناصر الموجودة في تلك الكتلة المستعرة …»
ظهر عرضٌ بصري مبهر في الظلام فوق الكوكب الوليد. كان مشارًا إلى كل ذرة منفصلة موجودة في كتلة الكوكب بلونٍ محدَّد، وعدد النيترونات والبروتونات بها. وحجم الذَّرة يوضِّح مقدارها النسبي في المزيج. قال الرجل النسر: «لاحظي أن هناك كثافاتٍ كبيرة للكربون والنيتروجين والهالوجين والحديد. وهذه هي الذرات المهمة. وقد أوجدها جميعها انفجارٌ نجمي قريب في وقتٍ ليس ببعيد، وأثرى احتمالات تكوُّن هذا الجسم الوليد … فمن دون الكيمياء المعقَّدة لا يمكن أن تكون هناك حياة فعَّالة … فعلى سبيل المثال، إذا لم يكن الحديد متاحًا كي يكوِّن الذرة الأساسية للهيموجلوبين على كوكبكم، فسيكون نظام توزيع الأكسجين لكثير من أشكال الحياة المتقدمة غيرَ فعَّال بصورة أكبر بكثير …»
فكَّرت نيكول في نفسها: «إذنْ فالعملية مستمرة، دهرًا بعد دهر. تتكوَّن النجوم والكواكب من الغبار الكوني، وعدد قليل من الكواكب هي التي تحتوي على المواد الكيميائية الصحيحة التي قد تؤدي في النهاية إلى نشوء الحياة والكائنات العاقلة. ولكن ما الذي ينظِّم هذه العملية؟ ما اليد الخفية التي تجعل هذه المواد الكيميائية تزداد بِنيتُها تعقيدًا وتركيبًا أكثرَ فأكثرَ بمرور الوقت حتى تصل إلى مرحلةِ إدراك الذات؟ هل هناك قانونٌ طبيعي لم يُصَغ بعدُ يتناول تنظيمَ المادة لنفسها وفقًا لقواعد محدَّدة؟»
كان الرجل النسر حينها يشرح كيف أنه من غير المحتمل أن تنشأ حياةٌ في نُظم نجمية تحتوي على ذرات بسيطة فقط مثل الهيدروجين والهليوم، ولا تحتوي على أيٍّ من الذرات الأكثر تعقيدًا والأعلى في الترتيب بالجدول الدوري، التي تكوَّنت بنهاية نجوم في انفجارات نجمية. بدأ يغلب على نيكول شعورٌ قوي بضآلتها. كانت تتوق لشيء بالمقاييس البشرية.
قالت نيكول فجأة: «إلى أي حدٍّ يمكنك أن تجعل هذه الغرفة تنكمش؟» ثم ضحِكت على أسلوبها غير الملائم في التعبير. واستطردت: «كي أكون أكثر دقةً: ما أقصى حدٍّ للدقة في هذا النظام؟»
قال الرجل النسر: «أدقُّ مستوًى ممكن من التفصيل يكون على مقياسٍ يبلغ أربعة آلاف وست وتسعين إلى واحد. وفي المقابل يمكننا عرض مشهد يشمل أكثرَ من مجرة بأقصى بُعد يصل إلى خمسين مليون سنة ضوئية … وتذكَّري أن اهتمامنا بالأنشطة خارج المجرة محدود …»
كانت نيكول تُجري بعض العمليات الحسابية في عقلها. ثم قالت: «نظرًا لأن أطولَ بُعد لهذه الغرفة هو نصف كيلو متر، فعلى أعلى مستوى من التفاصيل يمكن أن تحتلَّ قطعة أرض مساحتها ألفا كيلومتر تقريبًا هذه الغرفة.»
قال الرجل النسر: «هذا صحيح. ولكن لمَ تسألين؟»
ازدادت نيكول حماسةً وسألته: «هل يمكننا الاقترابُ من الأرض؟ هل يمكن أن تجعلني أحلِّق فوق فرنسا؟»
أجابها الرجل النسر بعد التردُّد فترةً قصيرة: «نعم، أظن هذا. مع أن هذا ليس ما خطَّطت له.»
«سيعني هذا كثيرًا لي.»
قال الرجل النسر: «حسنًا، سنستغرق بضع ثوانٍ في إعداد المشهد …»
•••
بدأت الرحلة الجوية فوق القناة الإنجليزية. كان الرجل النسر ونيكول يجلسان على المنصة في قمة الغرفة المظلمة ثلاثَ ثوانٍ تقريبًا عندما انفجرت الأضواء من أسفلهما. بعد أن تكيَّفت عينا نيكول مع الضوء في النهاية، تعرَّفت المياهَ الزرقاء أسفلهما وهيئةَ ساحل نورماندي. وبعيدًا، كان نهر السين يصب في القناة.
طلبت نيكول من الرجل النسر أن يجعل المنصةَ ترتكز فوق مصبِّ نهر السين ثم يتحرَّك ببطء باتجاه باريس. أثار مشهد التضاريس المألوفة مشاعرَ قوية داخل نيكول. تذكَّرت بوضوح أيامَ شبابها عندما كانت تتجول خاليةَ البال في هذه المنطقة مع والدها الحبيب.
كان النموذج أسفلهم بديعًا. بل كان ثلاثيَّ الأبعاد عندما تخطَّت أحجامُ التضاريس الجغرافية والمباني أسفلهم حدودَ وضوح النظام الفضائي. وفي روان كانت الكنيسة الشهيرة التي تخلَّت فيها جان دارك عن تعاليمها مؤقتًا، وكانت الكنيسة تبلغ من الطول سنتيمترين ومن الارتفاع نصف سنتيمتر. وبعيدًا في اتجاه باريس استطاعت نيكول أن ترى الشكلَ المألوف لقوس النصر مرتفعًا من سطح النموذج.
وعندما وصلا إلى باريس حامت المنصة بضع ثوانٍ فوق الحي السادس عشر. ووقعت عينا نيكول هنيهةً على مبنًى بعينه أسفلها. كان قاعة مؤتمرات حديثة، وقد ذكَّرتها رؤيةُ ذلك المبنى بلحظةٍ مؤثِّرة بصورة خاصة من حياتها وهي مراهقة. سمِعت صوتَ أبيها يقول كلماته مرة أخرى: «إلى ابنتي الغالية نيكول، وإلى جميع شباب العالم، أقدِّم لكم فكرة بسيطة.» كان والدها على وشْك الانتهاء من خطابه الذي ألقاه وهو يتسلَّم جائزة ماري رينو. وكان يقول: «لقد أدركتُ في حياتي أن هناك شيئين لا يقدَّران بثَمن: التعلُّم والحب. لا شيء آخر، لا الشهرة ولا النفوذ ولا الإنجاز في حد ذاته، يمكن أن يكون له القيمة الدائمة نفسها.»
وملأت عقل نيكول صورة لوالدها. فقالت في نفسها: «شكرًا لك يا أبي! شكرًا لك للاعتناء بي هذا الاعتناء بعد أن ماتت أمي. شكرًا لك على كل شيء علمتني إياه.»
دفع شعورُ نيكول القوي والمؤلم بالاشتياق بالدموع إلى عيني نيكول. وللحظة عادت طفلةً مرة أخرى وأرادت بشدة التحدُّث إلى والدها عن موتها الوشيك. وببطء قاومت نيكول عن عمدٍ المشاعرَ التي هدَّدت بالسيطرة عليها. وقالت في نفسها بصعوبة: «ليس هذا ما أردت أن أشعر به الآن. أردت أن أترك كلَّ هذا ورائي …»
وأشاحت وجهها بعيدًا عن نموذج فرنسا أسفلها.
فسألها الرجل النسر: «ما الأمر؟»
أجبرت نيكول نفسَها على الابتسام. وقالت: «أريد رؤيةَ شيء آخر … شيئًا مثيرًا … وجديدًا. ما رأيك بمدينة لكائنات الأوكتوسبايدر؟»
قال الرجل النسر: «هل أنتِ واثقة؟»
أومأت نيكول برأسها موافقة.
أظلمت الغرفة على الفور. وبعد ثانيتين، عندما استدارت نيكول لمواجهة الضوء كانت المنصة تحلِّق فوق محيط شاسع لونه أخضر داكن.
سألت: «أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟»
أجابها الرجل النسر: «إننا الآن على بُعد ثلاثين سنة ضوئية تقريبًا من شمسكم، إننا فوق أولِ كوكب محيطي سكنَته كائناتُ الأوكتوسبايدر بعد اختفاء السلف … إننا كما هو واضح فوق البحر على بُعد مائتي كيلومتر تقريبًا من أشهر مدن كائنات الأوكتوسبايدر.»
شعرَت نيكول بالإثارة تموج بداخلها والمنصة تقترب من البحر وتمرُّ فوقه. واستطاعت بالفعل أن ترى بعيدًا ظلالًا غيرَ واضحة لبعض المباني. وتخيَّلت لحظةً أنها مسافِرة في مغامرةٍ عبْر الفضاء تصل إلى هذا الكوكب للمرة الأولى وتتوق لرؤية عجائب المدينة الخرافية التي وصفها مسافرون آخرون بين النجوم.
قالت نيكول في نفسها: «هذا مذهل.» وجَّهت انتباهها مؤقتًا للمحيط أسفلها. وسألت الرجل النسر: «لمَ لون هذه المياه أخضر بهذا الشكل؟»
«يحوي السطح وما تحته بمسافة متر من هذا الجزء من المحيط نظامًا بيئيًّا ثريًّا لا يوجد له مثيل، ويهيمن عليه جنسٌ خاص من النباتات التي تمارس عملية البناء الضوئي، وتوفِّر أنواعه المختلفة، وجميعها خضراء اللون، المسكن والطعام لما يقرُب من عشرة ملايين من الكائنات المنفصلة … وبعض النباتات المنفردة تغطي أكثرَ من كيلومتر مربع من المنطقة … والسلف هم مَن أنشئوا هذه المنطقة في الأساس … وعثرت عليها كائنات الأوكتوسبايدر وأدخلت عليها تحسيناتٍ …»
عندما نظرت نيكول لأعلى كانت المنصة المسرعة على وشْك الوصول إلى المدينة. كانت هناك مئاتٌ من المباني المختلفة الأشكال والأحجام منتشرة أسفلهما. وكانت معظم مباني مدينة كائنات الأوكتوسبايدر مشيَّدةً على اليابسة، وبدا بعضها طافيًا على الماء. وأكثر تجمعات تلك المباني كثافة كانت تلك الموجودة بطول شبه جزيرة صغيرة تمتد مسافةً قصيرة إلى داخل البحر. وتوجد في نهاية شبه الجزيرة ثلاث قباب خضراء ضخمة قريبة جدًّا من بعضها حتى إنها كانت تسيطر على سماء المدينة.
وكان يحدُّ المدينة دائرةٌ خارجية واسعة شكَّلتها ثماني قباب أصغرَ حجمًا، وكلٌّ منها يرتبط بالقباب الرئيسية من خلال أنابيب لوسائل التنقل. وكان لكل قبَّة خارجية لون مختلف يميزها، وكانت جميع المباني تقريبًا في الجزء المحيط بقبة خارجية من المدينة مطليةً باللون نفسه. على سبيل المثال، كان بالقبة الحمراء اللامعة هناك في المحيط ثمانية نتوءات حمراء رفيعة طويلة تمثِّل المباني الأخرى تمتد إلى الخارج منها في شكل هندسي منتظم.
كانت جميع مباني المدينة تقع داخل الدائرة المحدَّدة بالقباب الثماني الملوَّنة. وأول مبنًى أُعجبت به نيكول على الفور هو مبنًى غريبُ الشكل بنِّي اللون يطفو على الماء. بدا تقريبًا في حجم القباب المركزية الضخمة. ومن أعلى كان المبنى مستطيلَ الشكل يبدو محاطًا بعشرين طبقة من الشبكات الكثيفة، مع وجودِ مادة من أعشاش الطيور تملأ المناطقَ المفتوحة داخل كلٍّ من المئات من الخلايا.
سألت نيكول وهي تشير من فوق المنصة: «ما هذا؟»
أجابها الرجل النسر: «كائنات الأوكتوسبايدر هذه تحديدًا أحرزت تقدُّمًا كبيرًا في علم الأحياء الدقيقة. وذلك المبنى — الذي يمتد بالمناسبة عشرةَ أمتار أخرى في أعماق المحيط — يحتوي على أكثرَ من ألف موطن مختلف لأجناسٍ في حجم الميكرومتر … وما تنظرين إليه الآن ليس إلا محطة إمداد تحتوي على الأفراد الزائدين لكلٍّ من هذه المخلوقات الدقيقة. وكائنات الأوكتوسبايدر التي تحتاج أيًّا من هذه المخلوقات تأتي إلى هذا المبنى وتطلب الحصول عليها.»
أخذت عينا نيكول تتأمَّلان المعمارَ غير المألوف أسفلها. وخُيِّل إليها أنها تسيرُ في الشوارع وتنظر حولها في دهشة إلى أجناس مختلفة من الكائنات أكبرَ بكثير من المخلوقات التي رأتها في معرض الحيوانات بمدينة الزمرد. وقالت لنفسها: «أريد أن أذهب إلى هناك. أريد أن أرى …»
طلبَت من الرجل النسر أن يحرِّك المنصة مباشرةً فوق إحدى هذه القباب الخضراء الضخمة. وسألت: «هل داخل هذه القبة يشبه ما كان في مدينة الزمرد؟»
أجابها الرجل النسر: «ليس صحيحًا. فالمقياس مختلف تمامًا … فمملكة كائنات الأوكتوسبايدر في راما كانت عالمًا صغيرًا مضغوطًا. فالأقسام التي كان يفصل بينها في الطبيعة على كوكبهم مئاتُ الكيلومترات أصبحت موجودة في المكان نفسه قسرًا، نظرًا لمحدودية المكان … فعلى سبيل المثال، في المستعمرات المتقدِّمة لجنس الأوكتوسبايدر، سكان الموطن البديل ليس لهم مجتمع خارج أبواب المدينة، إنها تعيش على كوكب مختلف تمامًا.»
ابتسمت نيكول. وفكَّرت في نفسها: «كوكب مليء بسكان الموطن البديل. سيكون هذا شيء جديرًا بالمشاهدة.»
قال الرجل النسر: «هذه المدينة بالتحديد موطنٌ لأكثر من ثمانية عشر مليون أوكتوسبايدر، إذا ما أحصينا جميعَ أشكالها المختلفة. وهي العاصمة الإدارية لهذا الكوكب أيضًا. ويعيش داخل أبواب المدينة ما يقرُب من عشرة مليارات كائن يمثِّلون خمسين ألف جنس … وتساوي مساحة هذه المدينة مساحةَ لوس أنجلوس تقريبًا أو مدينة ضخمة على أرضكم …»
واصل الرجل النسر سردَه لحقائق وإحصائيات عن مدينة كائنات الأوكتوسبايدر أسفل المنصة. إلا أن نيكول كانت تفكر في شيء آخر. فقالت مقاطِعة حديث رفيقها الفضائي المليء بالمعلومات: «هل كان آرشي يعيش هنا؟ أو الدكتورة بلو أو أيٌّ من كائنات الأوكتوسبايدر التي قابلناها؟»
أجابها الرجل النسر: «كلا. في الحقيقة إنهم ليسوا من هذا الكوكب أو من هذا النظام النجمي … فكائنات الأوكتوسبايدر في راما تأتي مما يُعرف باسم «مستعمرة الحدود»، وهي مستعمرة مصمَّمة جينيًّا لتنتج أفرادًا للتعامل مع أشكال الحياة العاقلة الأخرى خاصة …»
هزَّت نيكول رأسها وابتسمت. وقالت في نفسها: «بالطبع، كان لا بد أن أشكَّ أنهم حالةٌ خاصة.»
بدأت نيكول تشعر بالتَّعب. بعد بضع دقائقَ أخرى شكرت الرجل النسر، وقالت إنها رأت ما يكفي من مدينة كائنات الأوكتوسبايدر. وفي لحظةٍ اختفت القباب والمبنى الشبكي البني والبحر الأخضر العميق. وأعاد الرجل النسر المنصةَ إلى قمة الغرفة الضخمة.
وأسفل نيكول كانت مجرة درب التبانة مقصورةً على مساحة صغيرة في منتصف الغرفة. وقال الرجل النسر: «إن الكون سلسلة ستستمر في التوسُّع للأبد من المناطق المجاورة والفراغ. انظري كم هو خاوٍ حول درب التبانة. ففيما عدا سحابتي ماجلان، اللتين لا تعدوان في الواقع أن تكونا مجرات، فإن أندروميدا هي أقربُ مجرة لنا. ولكنها بعيدة جدًّا. فأطول بُعد لمجرة درب التبانة يساوي واحدًا على عشرين من المسافة إلى أندروميدا.»
لم تكن نيكول تفكِّر في أندروميدا. فقد كانت مستغرِقة تمامًا في تفكيرٍ فلسفي ممتع عن الحياة في عوالمَ مختلفة، وعن المدن، وعن العدد المحتمَل للكائنات التي تكوَّنت من ذرات بسيطة مرَّت بتطور، بمساعدة كائناتٍ أعلى منها أو من دونها، إلى كائنات واعية. واستمتعت باللحظة وهي تعرف أنه قريبًا للغاية لن يكون هناك مزيدٌ من تحليق الخيال الذي طالما أثرى حياتها.
١٢
قال الرجل النسر بعد أن انتهى من فحص نيكول: «لقد قضينا وقتًا طويلًا للغاية في ذلك المعرض، وأرى أننا ربما نحتاج إلى مراجعة جدول جولتنا.»
كانا جالسَين متجاورين في العربة. فسألت نيكول وهي تجبِر نفسَها على الابتسام: «هل هذه هي طريقتك الدبلوماسية لتخبرني أن قلبي يتوقف عن العمل أسرعَ مما توقَّعت؟»
فقال الرجل النسر: «لا، ليس صحيحًا. لقد قضينا بالفعل ضِعف الوقت الذي خطَّطت له تقريبًا … فأنا لم أضَع في اعتباري على سبيل المثال، التحليق فوق فرنسا أو زيارة مدينة كائنات أوكتوسبايدر …»
قالت نيكول: «كان ذلك الجزء رائعًا، وأتمنى لو أستطيع الذهابَ إلى هناك مرة أخرى، وتكون الدكتورة بلو هي مرشدتي، وأكتشف المزيد عن طريقة حياتهم …»
«إذن فقد أحببت مدينةَ كائنات الأوكتوسبايدر أكثرَ من مشاهد النجوم المبهرة؟»
أجابته نيكول: «لم أكن لأقول هذا. كان الأمر برُمَّته بديعًا … وما رأيته بالفعل أكَّد لي مرة أخرى، أني اخترت المكان المناسب كي …» لم تنهِ نيكول جملتها. وقالت: «أدركتُ عندما كنتُ على المنصة أن الموت ليس نهاية التفكير والوعي، لكنه أيضًا نهاية الشعور … لا أدري لمَ لمْ يكن ذلك واضحًا لي من قبل.»
خيَّم صمتٌ قصير عليهما. ثم قالت نيكول بابتهاج: «إلى أين نتجه من هنا يا صديقي؟»
«فكَّرت أن نذهب إلى قسم الهندسة، حيث يمكن أن تري نماذجَ لمنشآت النود والحاملات وغيرها من المركبات الفضائية. وبعدها، إذا كان لا يزال لدينا ما يكفي من الوقت، أخطِّط أن أصطحبك إلى قسم الأحياء. فبعض أحفادك الذين وُلدوا خارج الرحم يعيشون في تلك المنطقة، في أحد أفضل المستوطنات التي تشبه الأرض. وبالقرب منه مجمعٌ آخر يضم جماعةً من الإنقليس، أو الثعابين المائية الساحرة، التي صادفناها معًا مرة في النود. وهناك عرضٌ تصنيفي يقارن ويفاضل، من الناحية البدنية، بين جميع الكائنات التي تسافر عبْر الفضاء التي درسناها في هذه المنطقة …»
قالت نيكول: «يبدو هذا عظيمًا.» ثم ضحِكت فجأة. وقالت: «العقل البشري مدهش … خمِّن ماذا طرأ على ذهني الآن؟ إنه أول بيت في قصيدة أندرو مارفيل «إلى حبيبته الخجلى» … قال فيه: «لو أُتيح لنا ما يكفي من الوقتِ ما كان هذا الخجل يا سيدتي ليكون مشكلة،» على أي حال، كنت سأقول نظرًا لأنه ليس أمامنا وقت للأبد، لِنذهب أولًا لنرى عرْض الحاملة. فأنا أود أن أرى المركبة الفضائية التي سيعيش فيها باتريك وناي وجاليليو والآخرون … ثم نرى كم تبقَّى لنا من الوقت.»
بدأت العربة تتحرَّك، ولاحظت نيكول أن الرجل النسر لم يقُل شيئًا عن نتائج الفحص. فعاد الخوف يتسلل إلى نفسها أقوى هذه المرة وتذكَّرت: «القبر مكانٌ خصوصي ومريح. ولكن على ما أظن لن يكون أحدٌ هناك ليعانقني.»
•••
كانا معًا على السطح المستوي لنموذج الحاملة. فقال الرجل النسر: «هذا نموذج بمقياس واحد إلى أربعة وستين، ومن ثَم يمكنك استنتاج حجم الحاملة الحقيقية.»
حدَّقت نيكول في الأفق من كرسيها المتحرك. وقالت: «يا إلهي! لا بد أن طول هذه السفينة كيلومتر.»
قال الرجل النسر: «هذا تخمين جيد. فطول سطح الحاملة الحقيقية يساوي أربعين كيلومترًا تقريبًا وعرضه خمسة عشر كيلومترًا.»
«وتحوي كلٌّ من تلك الفقاعات بيئةً مختلفة؟»
قال الرجل النسر: «نعم. ويجري التحكُّم في الغلاف الجوي والظروف الأخرى عن طريق الأدوات الموجودة هنا على السطح، بالإضافة إلى النُّظم الهندسية الإضافية الموجودة بالأسفل في جسم المركبة الفضائية الرئيسي … وكل موطن لديه معدَّل الدوران الخاص به لإحداث الجاذبية المناسبة … وهناك حواجزُ لفصل الأجناس داخل إحدى الفقاعات، إذا كان ذلك ضروريًّا. وقد وضع السكان القادمون من سفينة نجمة البحر في الجزء نفسِه لأنهم يشعرون بالراحة في البيئة المعيشية نفسِها تقريبًا. ولكنهم لا يستطيعون الوصولَ إلى بعض.»
كانا يتحرَّكان في طريقٍ بين أماكن الأجهزة والفقاعات. فقالت نيكول وهي تفحص نتوءًا بيضاويًّا صغيرًا يرتفع فوق السطح المستوي لمسافة لا تزيد عن خمسة أمتار: «تبدو بعض هذه المواطن صغيرةً للغاية ولا تكاد تكفي لاستيعاب أكثر من بضعة أفراد …»
قال الرجل النسر: «هناك بعض الكائنات الضئيلة الحجم للغاية التي تسافر عبْر الفضاء. إحداها يبلغ طوله ملِّيمترًا تقريبًا، وموطنها نظامٌ نجمي ليس ببعيد للغاية عن نظامكم، بل لا يصل حجم أكبر مركبة فضاء لديهم إلى حجم هذه العربة.»
حاولت نيكول أن تتخيَّل مجموعة عاقلة من النمل أو المن تعمل معًا لبناء مركبة فضاء. وابتسمت على الصورة التي تولَّدت في عقلها.
ثم سألت مغيِّرة دفةَ الحوار: «وجميع هذه الحاملات تسافر من نود إلى نود؟»
قال الرجل النسر: «في المقام الأول. وعندما لا يعود هناك أي كائنات حية في فقاعة من الفقاعات، يُجَدَّد هذا الموطن على واحدة من منشآت النود.»
قالت نيكول: «مثل راما؟»
قال الرجل النسر: «نوعًا ما، ولكن مع كثير من الاختلافات المهمة. إننا دائمًا ندرُس بإمعان الكائنات الموجودة داخل مركبة فضائية بمستوى راما. ونحاول أن نضعها في بيئةٍ واقعية قدْر الإمكان؛ ليكون بإمكاننا مراقبتها في ظل «ظروف طبيعية». وفي المقابل لا نحتاج إلى أي بيانات أخرى عن الكائنات التي تقرَّر نقلُها إلى أسطول الحاملات. لهذا لا نتدخَّل في شئونهم.»
«فيما عدا تدخُّلكم لمنع التكاثر … وبالمناسبة هل منْعُ التكاثر في نسقكم القيمي أكثرُ رحمةً بطريقةٍ ما، أو أيًّا كانت الكلمة النظيرة لها عندكم، من إنهاء حياة الكائنات مباشرة؟»
أجابها الرجل النسر: «هذا ما نراه.»
وصلا إلى موقعٍ على قمة نموذج الحاملة حيث يتفرَّع ممرٌّ إلى اليسار عائدًا إلى منحدراتٍ وأروقة وحدة المعرفة. قالت نيكول: «أظن أني حقَّقت ما أريد هنا.» ثم تردَّدت لحظة. وقالت: «ولكن لديَّ بضع أسئلة أخرى.»
قال الرجل النسر: «تفضِّلي.»
«على افتراض أن وصْفَ القديس مايكل السييني للغرض من وجود راما والنود وكل شيء آخر صحيحٌ، ألا ترى أنك تؤثِّر على العملية التي تشرف عليها وتغيِّر فيها؟ يبدو لي أن مجرد وجودنا هنا وتفاعلنا …»
قال الرجل النسر: «إنك على حق بالطبع. إن وجودنا هنا يؤثِّر بالفعل تأثيرًا طفيفًا على مسار التطور. إنه موقفٌ يشبه مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج في الفيزياء … لا يمكننا المراقبة دون إحداث تأثير … إلا أن المراقب الرئيسي يضع تدخُّلنا في اعتباره، ويحسُب تأثيره في النموذج الشامل للعملية. ولدينا بالفعل قواعدُ تقلل من الطُّرق التي نشوِّش بها على التطور الطبيعي …»
قالت نيكول: «أتمنَّى لو كان ريتشارد معي ليسمع تفسيرَ القديس مايكل لكل شيء. كان سينبهر تمامًا، وأنا واثقة أنه كان سيطرح بعض الأسئلة الممتازة.»
لم يعقِّب الرجل النسر. فتنهَّدت نيكول. وقالت: «إذن ماذا بعد ذلك يا سيدي مُشرِف الجولة؟»
قال الرجل النسر: «الغداء. بالعربة شطيرتان وماء وقطعة لذيذة من فاكهتك المفضَّلة التي تذوقتها لدى كائنات الأوكتوسبايدر في العربة.»
ضحِكت نيكول وأدارت كرسيَّها المتحرِّك إلى الممر. وقالت: «إنك تفكِّر في كل شيء.»
•••
قالت نيكول والرجل النسر يكمل فحصًا آخرَ لها: «لم يكن ريتشارد يؤمن بوجود الجنة. ولكن إذا كان بإمكانه إقامة حياته الآخرة المثالية، فستشمل — ولا شك — مكانًا كهذا.»
كان الرجل النسر يتأمَّل العلامات الغريبة على الشاشة في يده. قال وهو ينظر إلى نيكول: «أظن أنها ستكون فكرةً جيدة أن نفوِّت بعض أجزاء الجولة … ونتَّجه مباشرة إلى أهم المعارض في النطاق التالي.»
قالت نيكول: «وضعي سيئ لهذه الدرجة؟» لم تكن متفاجئة. فالألم المتقطِّع الذي شعرت به في صدرها قبل زيارة فرنسا ومدينة كائنات الأوكتوسبايدر أصبح مستمرًّا.
وأصبح الخوف داخلها مستمرًّا أيضًا. فبين كل كلمة وكل فكرة كانت تدرك بقوة أن الموت ليس ببعيد عنها. سألت نيكول نفسها: «ما الذي تخشينه إذن؟ كيف يمكن أن يكون الانعدام سيئًا إلى هذا الحدِّ؟» ولكن استمر الخوف داخلها.
شرح لها الرجل النسر أنه لا يوجد وقتٌ كافٍ للحصول على رحلة مبدئية للنطاق الثاني. فمرَّا عبْر البوابات إلى الكرة الثانية من الكرات المتحدة المركز وسارا بالعربة عشر دقائق تقريبًا. وقال الرجل النسر وهو يقود: «يُعنى هذا النطاق بالطريقة التي يتغيَّر بها كلُّ شيء بمرور الوقت. هناك قسمٌ منفصل لكل عنصر يمكنك تخيُّله في المجرة ويتأثَّر بالتطور الشامل للمجرة ويؤثِّر فيه … رأيت أنك ستهتمين اهتمامًا خاصًّا بالمعرض الأول.»
كانت الغرفة مشابهة لتلك التي شاهد فيها الرجل النسر ونيكول دربَ التبانة في المرة الأولى، فيما عدا أنها كانت أصغر كثيرًا. ومرة أخرى استقلَّا منصةً متحركة تسمح لهم بالتحرك في الغرفة المظلمة.
قال الرجل النسر: «ما ستشاهدينه يتطلَّب بعض الشرح. إنه ملخَّص بصور مأخوذة على مدار فترة زمنية طويلة لتطوُّر حضارات كائنات مسافرة عبْر الفضاء في المجرة التي تضم شمسكم ونحو عشرة ملايين نظام نجمي آخر. وهذا تقريبًا واحد على عشرة آلاف من المجرة بأكملها، ولكن ما سترينه ممثِّل للمجرة ككل …
لن تري أيَّ نجوم أو كواكب أو أجرام مادية في هذا العرض، مع أن أماكنها مفترضةٌ في النموذج عند صُنْعه. ما سترينه أضواءٌ كلٌّ منها يمثل نظامًا نجميًّا أصبح فيه نوعٌ من الكائنات البيولوجية مسافرًا عبْر الفضاء، بوضع مركبة فضائية في مدارٍ حول كوكبه على الأقل … وما دام النظام النجمي مركزًا قائمًا للمسافرين عبْر الفضاء فسيظل الضوء في تلك المنطقة منيرًا …
سأبدأ العرض بما حدَث قبل عشرة مليارات عام، بعد وقتٍ قصير من تكوُّن الكيان الذي تطوَّر ليصبح حاليًّا مجرةَ درب التبانة. ونظرًا لأنه كان هناك كثيرٌ من الاضطراب والتغيُّر السريع في البداية، فلم تظهر أيُّ كائنات تسافر عبْر الفضاء مدةً طويلة. ولهذا سأدير العرض بسرعة بمقدار عشرين مليون سنة في الثانية بالنسبة للخمسة مليارات عام الأولى تقريبًا وحتى تكوُّن نظامكم الشمسي … وتجدُر الإشارة إلى أن الأرض ستبدأ في التكوُّن ببطء بعد أربع دقائق تقريبًا من هذه العملية. وعندها سأوقف العرض.»
كانا معًا على المنصة في الغرفة الكبيرة. وكان الرجل النسر يقف ونيكول تجلس إلى جواره على كرسيها المتحرك. والضوء الوحيد ضوءٌ صغير على المنصة يسمح لهما أن يرى أحدهما الآخر. وبعد أن أخذت نيكول تحدِّق فيما حولها في الظلام الدامس أكثرَ من ثلاثين ثانية، حطَّمت نيكول حاجزَ الصمت. وسألته: «هل بدأت العملية؟ فلم يحدُث شيء.»
أجابها الرجل النسر: «بالضبط. ما لاحظناه من مراقبة المجرات الأخرى — بعضها أقدمُ من درب التبانة — أنه لا تظهر حياةٌ حتى تستقر المجرة وتتكوَّن بها مناطقُ مستقرة. فوجود الحياة يتطلب نجومًا ثابتة في بيئة معتدِلة نسبيًّا، وكذلك تطوُّر للنجم ينتج عنه إيجاد العناصر الحيوية بالجدول الدوري التي تمثِّل أهميةً كبيرة في جميع العمليات الكيميائية الحيوية. فإذا كانت المادة بأكملها تتكوَّن من جسيمات دون ذرية وذرات بسيطة فسيكون احتمالُ نشأة أي حياة من أي نوع بالنجم ضئيلًا للغاية، فضلًا عن حياة كائنات تسافر بين النجوم. ولا يصبح احتمال ظهور الحياة مقبولًا حتى تمرَّ النجوم الكبرى بدورة حياتها الكاملة وتكوِّن العناصر الأكثر تعقيدًا مثل النيتروجين والكربون والحديد والماغنسيوم.»
وَمَضَ أسفلهما ضوءٌ متقطع، ولكن للدقائق الأربع الأولى لم يظهر أكثرُ من بضع مئات من الأضواء المتناثرة، واحد فقط منها استمر أكثرَ من ثلاث ثوانٍ. قال الرجل النسر وهو يستعد لتشغيل العرض مرةً أخرى: «الآن وصلنا إلى وقتِ تكوُّن الأرض والنظام الشمسي.»
قالت نيكول: «انتظر لحظةً من فضلك. أريد أن أتأكد أني أفهم … هل أريتني لتوك أنه للنصف الأول من تاريخ المجرة، عندما لم تكن هناك أرضٌ ولا شمس، تطوَّرت بضعة كائنات مسافرة عبْر الفضاء فقط في المنطقة حول المكان الذي ستتكوَّن فيه الشمس بعد ذلك؟ … وأنه من بين تلك الكائنات المسافرة عبْر الفضاء كلها، كان متوسط عمر جميعها تقريبًا أقلَّ من عشرين مليون سنة، وواحد فقط نجح في البقاء ستين مليون سنة؟»
قال الرجل النسر: «ما تفهمينه صحيح. الآن سأضيف عاملًا آخرَ لهذا العرض … إذا نجح جنسٌ مسافر عبْر الفضاء في السفر خارج نظامه النجمي وأرسى وجودًا دائمًا له في نجمٍ آخر، وهو ما لم تفعلوه أنتم البشر بعدُ، فإن العرض سيوضِّح هذا التوسُّع بإضاءة النظام النجمي الآخر أيضًا بلون الضوء نفسِه للنجم الأول. وبهذا يمكننا متابعةُ انتشارِ جنس معيَّن من الكائنات المسافرة عبْر الفضاء … أيضًا سأغيِّر سرعةَ العرض إلى النصف، إلى عشرة ملايين سنة في الثانية …»
وبعدها بنصف دقيقة فحسب ظهر ضوءٌ أحمر في أحد أركان الغرفة. وبعد ست إلى ثماني ثوانٍ أخرى أحيط بمئات من الأضواء الحمراء. وتألقت معًا بشدة لدرجةٍ جعلت بقيةَ الغرفة تبدو مظلمة وغير مثيرة للاهتمام، مع وجود شعاع ضوء واحد أو شعاعين متقطعين. ثم اختفت فجأة مجموعةُ الأضواء الحمراء في جزء من الثانية. فأظلم في البداية مركز إشعاع الضوء الأحمر تاركًا مجموعات صغيرة من الأضواء متناثرة على حوافِّ ما كان يومًا منطقة عملاقة، وفي غمضة عين أخرى كانت جميع الأضواء الحمراء قد خبَت.
كان عقل نيكول يعمل بسرعته القصوى وهي تشاهد الأضواء تومض من حولها. وقالت في نفسها وهي تتأمَّل الأضواء الحمراء: «لا بد أن هذه قصة مثيرة. حضارة انتشرت على نطاق منطقة تضم مئات النجوم، ثم فجأة، تختفي … هذا درس حتمي … كما لكل شيء بداية، فله نهاية أيضًا … والخلود يوجد بوصفه مفهومًا معنويًّا فقط وليس بوصفه حقيقةً.»
ثم نظرت في أرجاء الغرفة. كان هناك ضوءٌ متكرِّر ظهوره، وأضواءٌ متقطِّعة تظهر في منطقةٍ تلو أخرى، مما يشيرُ إلى نشوءِ حضارةِ نوعٍ آخرَ من الكائنات المسافرة عبْر الفضاء وزوالها. ولأنَّ تلك الكائنات التي انتشرت واستعمرت نُظُمًا نجميةً متاخِمة عاشت وقتًا قصيرًا، فإنها نادرًا ما كانت تقترب من حضارةِ كائنات أخرى تسافر عبْر الفضاء.
حدَّثت نيكول نفسها قائلة: «لقد كانت هناك كائناتٌ عاقلة، وسفر عبْر الفضاء في الجزء الخاص بنا من المجرة قبل أن توجد الأرض … ولكن قليلًا جدًّا فقط من تلك الكائنات المتقدِّمة أثار حماستَهم إيجادُ قناة اتصال مع أقرانهم … إذن فالوحدة أيضًا من المبادئ الأساسية للكون … على الأقل هذا الكون …»
وبعد ثماني دقائق أوقف الرجل النسر العرضَ مرة أخرى. وقال: «وصلنا الآن إلى نقطة في التاريخ قبل عشرة ملايين عام من زمننا الحاضر. على الأرض كانت الديناصورات قد اختفت قبل وقتٍ طويل حيث دمَّرها عدمُ قدرتها على التكيف مع التغيرات المناخية التي سبَّبها اصطدام كويكب عظيم بالأرض … إلا أنَّ اختفاءها قد سمح للثدييات بالتكاثر، وبدأ أحد مسارات تطور تلك الثدييات في إظهار جذور حياة عاقلة …»
توقَّف الرجل النسر عن الحديث. كانت نيكول تنظر إليه وعلى وجهها تعبيرٌ ينِمُّ عن مشاعرَ قويةٍ تموج داخلها، مشاعرَ أقربَ إلى الألم. فسألها الفضائي: «ما الأمر؟»
سألته نيكول: «هل سينتهي كوننا إلى التناغُم؟ أم إننا سنصير واحدة من نقاط البيانات التي تساعد الإله في بحثه بكوننا مستبعدين من المجموعة التي يبحث عنها؟»
قال الرجل النسر: «ما الذي دفعك إلى طرحِ هذا السؤال الآن؟»
أجابته نيكول وهي تلوِّح بيدها: «هذا العرض بأكمله محفِّز مذهل للتفكير. وفي عقلي عشرات الأسئلة.» ثم ابتسمت. وقالت: «ولكن نظرًا لأنني لا أملك وقتًا لطرحها جميعًا، أظن أنني سأطرح أهمها أولًا …»
ثم استأنفت: «فقط أنظر إلى ما حدَث هنا، حتى الآن بعد عشرة مليارات عام من التطور، الأضواءُ متناثرة على نطاق واسع. ولا واحد من المجموعات التي كانت موجودة أصبح دائمًا أو منتشرًا حتى في هذا الجزء الصغير نسبيًّا من المجرة. وبالطبع إذا كان كوننا سيصل في النهاية إلى نقطة التناغم، فعاجلًا أو آجلًا ستسطع الأضواء التي تشير إلى الكائنات المسافرة عبْر الفضاء والحياة العاقلة في كل نظام نجمي تقريبًا في كل مجرة … أم إنني أسأت تفسير ما قصده القديس مايكل بالتناغم؟»
قال الرجل النسر: «لا أظنك أسأت فهمه.»
سألته نيكول: «أين نظامنا الشمسي في هذا العرض الحالي؟»
قال الرجل النسر وهو يستخدم عصا الأشعة الضوئية: «هناك.»
نظرت نيكول أولًا إلى المنطقة حول الأرض ثم فحصت سريعًا باقي الغرفة. وقالت: «إذن قبل عشرة ملايين سنة كان هناك ما يقرُب من ستين جنسًا مسافرًا عبْر الفضاء يعيشون بين أقرب عشرة آلاف نجم مجاور لنا … ونشأ أحد تلك الأنواع، إذا كنتُ أفهم هذه المجموعة من الأضواء الخضراء الداكنة، في مكان ليس بعيدًا عنَّا وانتشر ليضم عشرين أو ثلاثين نظامًا نجميًّا معًا …»
قال الرجل النسر: «هذا صحيح. هل أقدِّم العرض مرةً أخرى، بسرعة أقل؟»
قالت نيكول: «بعد قليل. لكن أولًا أود أن أدرك هذا الشكل بالتحديد إدراكًا كاملًا … فحتى الآن كان يجري كل شيء في هذا العرض بسرعةٍ تفوق قدرتي على استيعابه …»
حدَّقت نيكول في مجموعة الأضواء الخضراء. وكانت حافتها الخارجية لا تبعُد أكثرَ من خمس عشرة سنة ضوئية من المكان الذي أشار الرجل النسر أنه مكان النظام الشمسي. أشارت نيكول للرجل النسر أن يبدأ العرض مرةً أخرى، وأخبرها أن سرعة العرض ستكون فقط مائتي ألف سنة في الثانية.
تحرَّكت الأضواء الخضراء أقربَ وأقرب إلى الأرض ثم اختفت فجأة. فصاحت نيكول: «توقَّف.»
أوقف الرجل النسر العرض. ونظر إلى نيكول نظرةً متسائلة.
قالت نيكول: «ماذا حدَث لهذه الكائنات؟»
قال الرجل النسر: «لقد أخبرتك عنهم قبل يومين. لقد محَوا أنفسَهم من الوجود جينيًّا.»
فكَّرت نيكول في نفسها: «لقد كادوا يصلون إلى الأرض. كم كان التاريخ سيختلف لو أنهم فعلوا … كانوا سيدركون على الفور الإمكانات الفكرية للإنسان البدائي في أفريقيا وكانوا ولا شك سيفعلون معه ما فعله السلف مع كائنات الأوكتوسبايدر. كنَّا حينها …»
وفي عقلها رأت نيكول فجأةً صورةَ القديس مايكل وهو يشرح لها بهدوء الهدفَ من وجود الكون أمام مدفأة غرفة مكتب مايكل وسيمون.
فسألت نيكول الرجل النسر: «هل يمكن أن أرى البداية؟»
أجابها: «بداية ماذا؟»
قالت نيكول بلهفة: «بداية كل شيء؛ اللحظة التي بدأ فيها هذا الكون وبدأت فيها عمليةُ التطور بأكملها.» أشارت بيدها باتجاه النموذج أسفلهما.
قال الرجل النسر بعد صمتٍ لم يدُم طويلًا: «يمكننا فِعل ذلك.»
ثم قال الرجل النسر بعد لحظةٍ وهو يقف هو ونيكول على المنصة في الظلام الدامس: «ليست لدينا أيُّ معلومات عن أي شيء حدَث قبل خلق هذا الكون. ولكننا نفترض أن نوعًا من الطاقة قد وُجد قبل لحظة الخلق؛ إذ قيل لنا إن مادةَ هذا الكون نتجت من تحوُّل للطاقة.»
نظرت نيكول حولها. وقالت بصوتٍ خفيض جدًّا وكأنما تُحدِّث نفسَها: «الظلام في كل مكان، وفي مكانٍ ما في هذا الظلام، إذا كان لتعبير «مكان ما» أيُّ معنًى، كانت هناك طاقة. وخالق … أم إن الطاقة كانت جزءًا من الخالق؟»
قال الرجل النسر بعد فترةِ صمت قصيرة أخرى: «لا نعرف. ولكن ما نعرفه أن مصير كل عنصر على حدة في الكون قد تقرَّر في هذه اللحظة الأولى. شكَّلت الطريقةُ التي تحوَّلت بها تلك الطاقةُ إلى مادةٍ ثمانين مليار سنة من التاريخ.»
وبينما كان الرجل النسر يتكلم ملأ الغرفةَ ضوءٌ مبهر. أشاحت نيكول بوجهها بعيدًا عن مصدره وغطَّت عينيها. مدَّ الرجل النسر يدَه إلى حقيبته. وقال وهو يناولها نظارةً خاصة: «تفضَّلي.»
سألت نيكول بعد أن ارتدَت نظارتها: «لماذا جعلتَ المحاكاةَ مبهرةَ الإضاءة بهذا الشكل؟»
فقالت نيكول: «بدافع الفضول فحسب، أين أنا وأنت في هذه اللحظة؟»
تردَّد الرجل النسر. ثم قال في النهاية: «في اللامكان ستكون أفضلَ إجابة، ولأغراض توضيحية، إننا خارج نموذج الكون. ولكن يمكن أن نكون في بُعد آخر. فالقوانين الرياضية التي تحكُم الكون في بدايته لا تعمل إلا إذا كان هناك أكثرُ من أربعة أبعاد. وبالطبع كلُّ شيء في المكان والزمان — الذي سيصبح فيما بعدُ كوننا — يوجد في هذه الكتلة الصغيرة التي تُنتِج الضوءَ المبهر. وبالمناسبة الحرارة هناك — إذا كان النموذج تمثيلًا صحيحًا — ستكون أعلى بمقدار عشرة تريليونات مرة من أعلى النجوم حرارةً الذي سينشأ فيما بعدُ.»
حدَّقت نيكول أسفلها في مصدر الضوء. وقالت: «إذن فتلك الكرة الضئيلة المنبعجة من الأشياء الثقيلة الساخنة كانت نواةَ كل شيء؟ ومن ذلك المزيج الضئيل من الجسيمات دون الذرية وُلدت المجرات الكبرى التي أريتني إياها في النطاق الثاني؟ هذا لا يبدو ممكنًا …»
قال الرجل النسر: «ليست تلك المجرات فحسب. فهناك احتمال أنَّ كل شيء في الأكوان مُخزَّن في تلك المادة الغريبة الشديدة السخونة …»
فجأة بدأت الكرة الضئيلة تتسع بمعدَّل هائل. وشعرت نيكول أن إطار الكرة على وشْك أن يمس وجهها في أي لحظة. وأمام عينيها تكوَّنت ملايين من الأشكال الغريبة واختفت. شاهدت نيكول بافتتانٍ والمادة تبدو أنها تُغيِّر طبيعتها عدة مرات، وتمرُّ بحالات انتقالية مؤقتة على الدرجة نفسها من الغرابة مثل الكرة الصغيرة المبدئية الشديدة السخونة.
قال الرجل النسر بعد ثوانٍ: «لقد قدَّمت الوقت في النموذج. ما ترينه هناك الآن، وهو بعد مليون عام تقريبًا من الخلق، سيكون مألوفًا لأي طالب فيزياء متمرِّس. فعلى سبيل المثال، تكوَّنت بعضُ الذرات البسيطة؛ ثلاثة أنواع من الهيدروجين ونوعان من الهليوم. والليثيوم هو أثقل ذرة معروفة لعنصرٍ متوافر … وكثافة الكون الآن مكافئة تقريبًا للهواء على الأرض، وانخفضت الحرارة إلى مائة مليون درجة تقريبًا وهي درجة مناسبة نسبيًّا، أو أقل مما كانت عليه في وقت الكرة الضئيلة الساخنة بعشرين مرة.»
ثم نَشَّط المنصة وقادها بين الأضواء والمجموعات والخيوط. وقال: «لو كنا أذكياء حقًّا، لكنا قادرين على النظر إلى كل هذه المواد الأصلية والتنبؤ بأي من «الكتل» ستصبح في النهاية عناقيدَ مجرات … وفي ذلك الوقت تقريبًا ظهر أولُ مراقب رئيسي، وهو الدخيل الوحيد في عملية التطور الطبيعية … ولم يكن من الممكن فرضُ مراقبة قبل ذلك؛ نظرًا لأن العملية حسَّاسة للغاية؛ فعلى سبيل المثال، أيُّ نوع من المراقبة في أثناء الثانية الأولى للخلق كانت ستشوِّه التطور الناشئ تمامًا.»
أشار الرجل النسر إلى كرةٍ معدنية صغيرة في مركز عدة تكتُّلات ضخمة للمادة. وقال: «هذا المراقب الرئيسي الأول جاء من بُعد آخرَ للكون في بدايته إلى نظامنا الزمكاني الناشئ. وكان الهدف من إرساله هو مراقبةَ ما كان يحدُث وأن يصنع، كما يتطلب الأمر، بذكائه هو، نُظُم المراقبة الأخرى التي ستجمع معًا جميعَ المعلومات المرتبطة بهذا الأمر عن العملية بأكملها.»
قالت نيكول ببطء: «إذنْ فالشمس والأرض وكلُّ بشري نَتج عن عملية التطور الطبيعي غيرِ المتوقَّع لهذا الكون. والنود وراما وحتى أنت والقديس مايكل تم إنتاجُكم من عملية تطور مباشر صمَّمها أساسًا المراقب الرئيسي …»
توقَّفت نيكول ونظرت حولها ثم استدارت إلى الرجل النسر وقالت: «أنت كان يمكن توقُّع وجودك بعد لحظات من الانفجار العظيم … أما أنا، بل حتى الجنس البشري، فنتاجُ عملية بعيدة عن الاحتمال الرياضي إلى حدِّ أنها لم يمكن توقعها حتى مائة مليون عام مضَت، وهو ما نسبته واحد بالمائة من الزمن منذ بداية الكون …»
ثم هزَّت رأسها ولوَّحت بيدها. وقالت: «حسنًا، هذا يكفي … لقد أرهقني التفكيرُ في الأمور المطلَقة.»
أصبحت الغرفة الضخمة مظلِمةً مرة أخرى فيما عدا الأضواء الصغيرة على أرضية المنصة. فقال الرجل النسر وهو يرى نظرةَ أسًى على وجه نيكول: «ما الأمر؟»
قالت: «لستُ واثقة. أشعر بنوع من الحزن كأني فقدت شخصًا عزيزًا. إذا كنتَ فهمتَ كلَّ هذا، فإن البشر أكثرُ خصوصيةً منك، وحتى من راما. وفرص نشأة أي كائنات تشبهنا مرةً أخرى، سواء في هذا الكون أو في أي كون آخر، غيرُ واردة … نحن نتاجُ مصادفة نشأت من الفوضى. أما أنتَ فعلى الأرجح يوجد مثلك أو ما شابهك في كلٍّ من تلك الأكوان الأخرى التي يُفترض أن الإله يلاحظها …»
ساد صمتٌ مؤقت. ثم استأنفت نيكول: «أظن أني تخيَّلت بعد الاستماع إلى القديس مايكل، أنه سيكون هناك بشرٌ مشاركون في ذلك التناغم الذي يسعى إليه الخالق … الآن أدركتُ أنه على كوكب الأرض فقط، في هذا الجزء بالتحديد من الكون …»
شعرَت نيكول بنوبةِ ألمٍ حادة في صدرها. وظل الألم شديدًا. جاهدت كي تلتقط أنفاسها واقتنعت للحظات أن النهاية قادمةٌ على الفور.
لم يتفوَّه الرجل النسر بكلمة، ولكنه راقبها باهتمام. وعندما نجحَت في التقاط أنفاسها، تحدَّثت بعبارات متقطعة قصيرة. قالت: «أخبرتني … أثناء الغداء … مكان شخصي … حيث يمكنني رؤية العائلة والأصدقاء …»
•••
تبادلا أطرافَ الحديث قليلًا في العربة عندما احتملت نيكول الألمَ مؤقتًا. وكان كلاهما يعلم، دون أن يقول أيَّ شيء، أن الأزمة القلبية القادمة ستكون الأخيرة.
دخلا منطقةً أخرى من أماكن العرض في وحدة المعرفة. كانت تلك الغرفة مكتملةَ الاستدارة، وبها مساحة في جزء صغير من الأرض في المنتصف حيث يستطيع الرجل النسر الوقوفَ إلى جوار كرسي نيكول المتحرك. ثم اجتازا إلى المكان المخصَّص لهما في مركز الغرفة، وشاهدا أشكالًا تشبه البشرَ تبدأ إعادةَ عرضِ أحداث من حياة نيكول وهي ناضجةٌ على كلٍّ من المسارح الستة المنفصلة التي كانت تحيط بهما عن قرب.
كانت مصداقيةُ العروض مبهرة. فلم يَبدُ جميعُ أفراد عائلة نيكول وأصدقاؤها بالضبط كما كانوا وقتَ وقوع تلك الأحداث فحسب، وإنما كانت جميع الإعدادات إعادةَ بِناء مثالية. وفي أحد المشاهد كانت كيتي تمارس التزلجَ على الماء بجرأة بالقرب من شاطئ بحيرة شكسبير، وتضحك وتلوِّح بيدها، مندفعةً بطيشٍ كان سِمتها المميزة. وفي مشهدٍ آخر رأت نيكول إعادةَ تجسيد للحفل الذي أقامته الفرقة الصغيرة على متن مركبة راما الثانية للاحتفال بالذكرى الألف لوفاة إليانور الأكويتينية. وعندما رأت نيكول سيمون وهي في الرابعة من عمرها وكيتي في الثانية، ورأت أيضًا نفسها هي وريتشارد في شبابهما وهما لا يزالان يتمتَّعان بالحيوية، اغرورقت عيناها بالدموع.
وقالت في نفسها: «لقد كانت حياةً مذهلة.» ثم أدارت كرسيها المتحرك إلى المشهد من مركبة سفينة راما الثانية، فتوقَّف العرض. وانحنت نيكول والتقطت الإنسانَ الآلي تي بي الذي صنعه ريتشارد لتسلية الفتاتين الصغيرتين. وشعرت بوزنه بالضبط بين يديها.
فسألت نيكول: «كيف أمكنكم فِعل هذا؟»
أجابها الرجل النسر: «تكنولوجيا متقدِّمة. لا يمكنني أن أشرحها لك.»
«وإذا ذهبتُ إلى هناك إلى حيث تتزلج كيتي هل سأشعرُ بالمياه عندما ألمسها؟»
«بالطبع.»
سارت نيكول مبتعدةً عن المشهد وهي تمسك الإنسانَ الآلي غير الحقيقي بين يديها. وعندما ابتعدت، تجسَّد تي بي آخر واستمر المشهد. فقالت نيكول في نفسها: «كنتُ قد نسيت يا ريتشارد كلَّ اختراعاتك الصغيرة العبقرية.»
منحها قلبُها بضعَ دقائق أخرى للاستمتاع بمقتطفاتٍ من حياتها. فشعرت مرةً أخرى بسعادة لحظة ميلاد سيمون، وعاشت من جديد أول ليلة حب لها مع ريتشارد بعد وقت ليس بطويل بعد أن عثر عليها في نيويورك، ومرَّت ثانية بمجموعة المشاهد الرائعة والكائنات التي استقبلتها هي وريتشارد عندما فُتحت أبواب مدينة الزمرد لهما أول مرة.
وسألت نيكول وهي تشعر بانقباضٍ مفاجئ في صدرها: «هل يمكن أن تعيد عرْضَ أي حدَث أريد من حياتي؟»
أجابها الرجل النسر: «ما دام حدَث بعد أن وصلت إلى راما، ويمكنني أن أجدَه في الأرشيف.»
جاهدت نيكول لالتقاط أنفاسها. ها هي ذي الأزمةُ القلبية الأخيرة توشك أن تداهمها. قالت: «من فضلك، هل يمكن أن أرى آخرَ حوار دار بيني وبين ريتشارد قبل أن يغادر؟»
قال صوتٌ من داخلها: «لن يطولَ الأمر.» فأطبقت أسنانها بإحكامٍ وحاولت أن تركِّز على المشهد الذي ظهر أمامها فجأة. كان ريتشارد يشرح لصورة نيكول السببَ الذي يجعله هو مَن يصطحب آرشي إلى عدن الجديدة.
كانت صورة نيكول في المشهد تقول: «أفهم.»
فقالت نيكول الحقيقية في نفسِها: «أفهم. هذه هي أهمُّ جملة يقولها أي شخص … مفتاح الحياة هو الفهم … وأنا الآن أفهم أني مخلوق فانٍ حان وقت موته.»
جاءتها نوبةٌ أخرى من الألم الشديد مصحوبةً بذكرى عابرة لعبارة لاتينية من قصيدة قديمة. كانت تقول: «الخوف من الموت يخيفني … ولكني لن أخاف لأني أفهم.»
كان الرجل النسر يراقبها عن كثَب. قالت بمشقة: «أود أن أرى ريتشارد وآرشي، لحظاتهما الأخيرة … في الزنزانة … قبل أن تأتي الكائنات الآلية.»
حدَّثت نفسَها مرة أخرى: «لن أخاف لأني أفهم.»
«وأبنائي، إذا أمكن أن أراهم بطريقةٍ ما … والدكتورة بلو.»
أظلمت الغرفة مرةً أخرى. ومرَّت الثواني. وأصبح الألم رهيبًا. «لن أخاف …»
عادت الأضواء. وكان ريتشارد وآرشي في زنزانتهما أمام كرسي نيكول المتحرك مباشرة. وسمِعت صوت الكائنات الآلية وهي تفتح بابَ رواق الزنازين …
فقالت نيكول بصعوبة: «أوقفِ الصورةَ هنا من فضلك.» وإلى يسار مشهد ريتشارد وآرشي، كان أطفالها والدكتورة بلو يصطفون في لوحة. فجاهدت نيكول لتقفَ على قدميها وقطعت الأمتارَ القليلة لتقف بينهم. وبدأت الدموع تنهمر من عينيها وهي تمس للمرة الأخيرة وجوهَ أحبائها.
بدأت جدران قلبها تنهار. فسارت بخطواتٍ متعثرة إلى المشهد في زنزانة ريتشارد وعانقت نموذجَ زوجها. وقالت: «أنا أفهم يا ريتشارد.»
سقطت نيكول على ركبتيها ببطء. وعادت لتواجه الرجلَ النسر. وقالت بابتسامة: «أنا أفهم.»
وكان آخر ما دار بعقلها: «والفَهْم هو السعادة.»