قوة غالبة
كان التقليد التاريخي في القرن السادس للميلاد أن تتقاسم العالم المعمور دولتان كبيرتان، كلتاهما حرب للأخرى تنافسها ولا تأمنها، ولا تهدأ عن حربها فترة من الزمن إلا ريثما تستعد لمعاودة الكرة بقوة من الجند والسلاح أعظم من القوة التي جردتها عليها في حروبها الأولى.
وكانت الدولتان المتنافستان في ذلك القرن؛ دولة المشرق وهي دولة الأكاسرة، ودولة المغرب وهي دولة القياصرة: فارس وبيزنطة، ولا ثالثة لهما في العالم المعمور بين القارات الثلاث.
جهدت كل من هاتين الدولتين ألا تدع بقعة من البقاع المعمورة في القارات الثلاث بعيدة من سلطانها أو قادرة على عصيانها.
وكانت بينهما صحراء جرداء تحفل الدولتان بما حولها، ولا تكترثان لما يجري في داخلها، وامتد سلطان كل منهما إلى الجانب الذي يليه؛ فاتخذت فيه أتباعًا يطيعونها، ويحتمون بها، ويلوذون بجوارها: فارس تسيطر على الحيرة واليمن، وبيزنطة تسيطر على أرض غسان والبتراء، وتهم أن تنصب لها أميرًا على الحجاز يدين لها بالولاء، ويحرس لها طريق الشام من أوله في الجزيرة العربية، ثم لا يعنيها الأمر عناية جد تنتهي فيه إلى عمل فاصل تجاوز به التردد والشروع، فليس الأمر من الخطر عندها بحيث تفرغ منه على قرار.
أما الخطر الذي فرغت له كلتا الدولتين: فهو الخطر من إحداهما على الأخرى، والخطر من قبل النهرين في العراق، ومن قبل النهر الكبير في وادي النيل. فلم تكن بقعة من هذه البقاع قد خلت طويلًا من جنود الدولتين منتصرين أو منهزمين، ولم تزل الحرب بينهما سجالًا في هذه الأودية وما جاورها، ولم تزل كل منهما على أمان من قبل الجزيرة الجرداء.
نعم، كان جيش من الفرس قد انهزم في وقعة «ذي قار» على طرف من أطراف تلك الجزيرة، ولكنها هزيمة حرس في ولاية كما تخيلوها، وليست هزيمة دولة تنازل قرنًا لها من دولة أخرى جديرة بالخوف منها وحفز الهمم للتغلب عليها، ومثلها في عصورها الحديثة كمثل الهزائم التي أصيبت بها الدولة البريطانية يوم كانت تدعى سيدة البحار أو يوم كان القائلون عنها يقولون: إن الشمس لا تغيب عن أملاكها؛ هزائم تارة في حدود الأفغان أو عند أعالي النيل أو على طرف القارة السوداء في الجنوب، ولكنها تنهزم فيها وتبقى بعدها سيدة البحار أو غالبة على كرة الأرض بين مشارقها ومغاربها.
وكذلك كانت فارس بعد وقعة ذي قار، فلم تتبع هزيمتها بحذر أو احتراس من تلك الجهة، وظلت على عهدها من الحذر حيث تخشى الخطر، فلا ترفع عينها عن بيزنطة وأتباعها في أودية الأنهار أو بين أرجاء الهلال الخصيب، ولا تحسب هي ولا صاحبتها بيزنطة أن ثمة خطرًا عليهما قط متوقعًا من جهة الجنوب.
فلما جاء كسرى رسول من قبل هذا الجنوب، وسأل عن شأن هذا الرسول، فقيل له: إنه نبي في العرب يدعوه إلى دينه، ضحك غاضبًا أو غضب ضاحكًا، وأمر من يذهب إلى ذلك النبي الجسور فيأتيه به حيًّا أو ميتًا، ليلقى جزاءه على هذه الجسارة التي اجترأ بها على الشاهنشاه ملك الملوك.
ولما تسامع القوم في الجزيرة العربية أن ذلك النبي يهم أن يحارب القيصر في عقر داره سخروا وقالوا فيما بينهم: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية.
لا بل قيل ذلك، أو شبيه ذلك، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من القرن السادس الذي استعظموا فيه ما استعظموا من جرأة النبي العربي على عروش الأكاسرة والقياصرة، فكان من المؤرخين المحدثين من كتب تاريخ الوقائع التي دارت بين أتباع ذلك النبي وبين جبابرة الفرس والروم، ومن كتب في تاريخه هزيمة أولئك الجبابرة أمام أولئك الأتباع، ولكنه حين روى النبأ عن رسل النبي إلى كسرى وقيصر رواه وهو يتعجب، ويقول شبيهًا لما قيل يومئذ قبل النصر والهزيمة: عساه يحسبها غزوة من غزوات البادية، أو عساه قد زهاه النصر في مكة والمدينة فلم يدر ما المدائن وما القسطنطينية وراء الرمال والبحار.
إن أعجب العجائب لما ينقضي على وقوعه مئات السنين، ثم يتعاظم من يرويه حتى ليوشك أن يرتاب فيه.
وكان ما جرى للدولتين — الفرس والروم — يومئذ أعجب العجائب في تواريخ الدول من قديم وحديث؛ فقد هزمت الدولتان معًا في بضع سنوات، ولم يأت الخطر عليهما من مكان تتوقعان خطره إحداهما أو كلتاهما، بل جاء من المكان الذي هان شأنه حتى لم يحسب له حساب.
جاءت القوة التي هزمت الدولتين في وقت واحد من وراء الرمال، أو قل من وراء المجهول، أو من وراء الغيب، ولا تعدو الحق فيما تقول.
قوة غالبة لم تصمد لها قوة.
قوة نجمت من حيث لا مخافة ولا مظنة، فما هي تلك القوة؟ وليست هي قوة دولة ولا قوة سلاح!
قيل فيما قيل: إنها خشونة البادية غلبت ترف الحضارة ونعمة الرخاء، ولكن الدولتين اللتين انهزمتا معًا قد كانتا تحكمان الملايين ممن لا يعرفون من العيش غير خشونته وشظفه، وكانت فارس تحكم من حولها قبائل لم تعرف غير الجبال، والقتال، وكانت بيزنطة تحكم على تخومها أشباه تلك القبائل في خشونتها وقوة مراسها، وظلت تحكمها وتهزمها كلما أغارت عليها من غربها أو شمالها، وبعد أن تلاحقت هزائمها في وقائعها مع أبناء البادية العربية، وسلمت بالهزيمة بعد الهزيمة تسليم الخيبة والاضطرار.
وقيل فيما قيل: إنه احتقار العرب للعجم، وكل الناس عجم عند من ينطقون بالضاد.
ولكنه سلاح كان ينبغي أن يصدق من الجانبين، أو يغلب به العجم في بعض ميادينهم إن لم يغلبوا به في الميادين كافة حيثما التقى الخصمان المتساويان في ذلك السلاح، بل لعل العجم كانوا أشد احتقارًا للعربي في تلك الحقبة على التخصيص، وقد حدث في إحدى وقعات العراق أن زعيمًا عربيًّا ممن يلوذون بدولة فارس عرض على مهران قائد الفرس أن يتولى عنه حرب خالد بن الوليد؛ لأن العرب أعلم بقتال العرب، فغضب جنود مهران؛ لأنهم سمعوه يقول لذلك الزعيم العربي: «صدقت. لأنتم أعلم بقتال العرب، وأنتم مثلنا في قتال العجم»، وثاروا به يستعظمون أن يقول «لذلك الكلب» ما قال، ولم يرضوا عن هذه المجاملة لمن يريد نصره حتى قال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغكم أعداؤكم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء».
ألا إن هذا «الاحتقار» سلاح موفور في المعسكرين، فإن كان للعرب نصيب كبير منه، فما كان عند العجم منه فهو نصيب غير صغير.
على أن العرب الذين حاربوا الفرس والروم وانتصروا عليهم لم يكونوا جميعًا من أبناء البادية ولا من الناشئين على الشظف والشدة، بل كان منهم أبناء نعمة وثراء، وكان قائدهم الأكبر — خالد بن الوليد الذي قال الزعيم العربي لقائد الفرس مهران إنه أعلم بقتاله — مخزوميًّا من أغنى السروات في بني مخزوم ذوي الجاه العريض والثراء المستفيض؛ إذ كان جده — كما ذكرنا في سيرته — المغيرة بن عبد الله الذي كان الرجل من بني مخزوم يؤثر أن ينسب إليه فيسمى المغيرة تشرفًا بالانتساب إلى الفرع الذي أناف على الأصول، وكان أبوه الوليد بن المغيرة الملقب بالعدل وبالوحيد؛ لأنه كان يكسو الكعبة وحده سنة، وتكسوها قريش كلها كسوة مثلها سنة أخرى، وكان عمه هشام قائد بني مخزوم في حرب الفجار، وبوفاته أرخت قريش كما تؤرخ بالأحداث العظام، ولم تُقِم سوقًا بمكة ثلاثًا لحزنها عليه، وكان عمه الفاكه بن المغيرة من أكر العرب في زمانه، له بيت للضيافة يأوي إليه من شاء بغير استئذان، وكان عمه أبو حذيفة أحد الأربعة الذين أخذوا بأطراف الرداء، وحملوا فيه الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة، كما أشار النبي عليه السلام قبل الدعوة الإسلامية. أما الذي فض النزاع بين القبائل على هذا الشرف حين آذن التنافس بينها بالشر المستطير فهو عم آخر من أعمامه، وهو أبو أمية بن المغيرة الملقب بزاد الراكب كما جاء في بعض الروايات، فقد أشار عليهم أن يكلوا الحكم إلى أول داخل من باب المسجد؛ ليختار من بينهم من يرفع الحجر إلى مكانه، فارتضوا مشورته، وتم صواب المشورة بتوفيق البشارة النبوية قبل إهلالها على العالم بسنين، ولقب أبو أمية زاد الراكب؛ لأنه كان يكفي أصحابه في السفر مئونتهم فلا يتزودون بزاد، ولا يتم الكلام على تراث بني مخزوم حتى نضيف إلى مزاياهم المختلفة مزية ملحوظة لها شأنها في كل مجتمع إنساني، وليس شأنها بالقليل في حياة خالد على التخصيص. فقد كانت هذه القبيلة على كثرة الأقطاب بين رجالها مشهورة بجمال النساء بين الحواضر العربية، وبقيت لها هذه الشهرة إلى ما بعد قيام الدولة العباسية؛ إذ كان يقال لأبي العباس السفاح: «إن المخزوميات رياحين العرب، وعندك منهن يا أمير المؤمنين ريحانة الرياحين.»
فإذا كان المقصود بترف الروم والفرس ترف الطبقة التي يخرج منها القادة والسادة فليس في قادتهم من أحاطت به نعمة الثراء كما أحاطت بقائد المسلمين الأكبر في حربهم للدولتين، وهو الذي سماه صاحب الدعوة الإسلامية بسيف الإسلام.
ولا ننسى أن الجيوش الإسلامية لم تصل إلى ميادين العراق وفلسطين حتى كانت قد انتصرت على جيوش عربية من البدو والحضر قد نشأت مثل نشأتها، وتدربت على القتال مثل دربتها، وعرفت من الترف والخشونة مثل ما عرفته في بداوتها وحضارتها.
ولا ننسى أن الظاهرة قد تكررت حيث لا عرب ولا روم، وحيث كان الفرس في صفوف المنتصرين مع أمراء الإسلام، ففي القرن الثاني عشر للميلاد كان السلطان محمد غوري الأفغاني يحارب قبائل «راجبوت» الهندية التي اشتهرت بالشجاعة والفروسية في العالم القديم من أقصى الديار الآسيوية إلى أقصاها، وكان على رأسهم قائدهم «برتوي» الذي قيل عنه: إنه لم يعرف الهزيمة قط في منازلة قرين، فانتصر الجيش الأفغاني بمن فيه من الأفغانيين والأتراك والفرس على جيوش الراجبوت بعد حرب زبون كان النصر فيها سجالًا بين الفريقين، وأوشك الأمير الغوري أن يقع في إحدى معاركها أسيرًا مثخنًا بالجراح في قبضة عدوه العنيد.
وتكررت الظاهرة في المغرب؛ حيث كان المنهزمون من قبائل البربر التي لم تعرف في تاريخها القديم غير الخشونة والقتال، وكان تكرارها في مواطن شتى دليلًا على أن القوة التي انتصر بها دعاة الإسلام لم تنبعث فيهم من خشونة البادية العربية، ولا من هوان شأن العجم على العرب، ولا حاجة إلى قول قائل: إنها لم تنبعث من بأس الملك ولا من عدة السلاح.
فلا مناص إذن من الرجوع بها إلى السبب الذي اتفق عليه المؤرخون أو كادوا بعد التعلل لها بجميع الأسباب.
لا مناصَ إذن من الرجوع بها إلى العقيدة التي حفزت أولئك المجاهدين على اختلاف الأقوام والأزمان.
غير أن الرجوع بها إلى العقيدة لا يختم المطاف، ولا يغني عن مزية في هذه العقيدة تمتاز بها بين العقائد الكثيرة التي سبقتها أو لحقت بها، ولم تنبعث منها قوة كهذه القوة، ولا ظاهرة كهذه الظاهرة بعد تجريدها من العوامل الأخرى.
فما كانت جيوش الروم ولا جيوش الفرس خلوًّا من عقيدة يؤمنون بها ويقبلون على الموت في سبيلها، وما كانت قبائل الهند أو آسيا الوسطى تجهل الدين أو تهمله في معيشتها اليومية فضلًا عن المراسم التي تصحب المتدين من مولده ولا تفارقه مدى الحياة.
أيقال إنها دفعة الدين الجديد ميزت عقيدة الإسلام على سائر العقائد في ذلك التنازع بين الدول والأديان؟
إن دفعة الدين الجديد ولا شك سبب لا يهمل في هذا المقام، وقد يسبق إلى الخاطر لتفسير قوة الدعوة في القرن السابع للميلاد وفي القرن الثاني عشر يوم كان القائمون بالدعوة في آسيا الوسطى أقوامًا من الأفغان والترك دخلوا حديثًا في الدين.
لكن كم عقيدة جديدة صنعت مثل هذا الصنيع؟ وكم ظاهرة كهذه الظاهرة تكررت في تواريخ الدول والأديان؟