الدعوات ونهضات الإصلاح في منتصف القرن العشرين
تتعدد المقاييس التي يقاس بها تقدم الأمم، ويأتي في طليعتها مقياس الحرية، ومقياس الحضارة، ومقياس الحالة النفسية.
وبهذه المقاييس جميعًا تبدو دلائل التقدم على الأمم الإسلامية عند المقابلة بين ما كانت عليه في منتصف القرن التاسع عشر وما صارت إليه في أواسط القرن العشرين، وتبدو هذه الدلائل كذلك بارزة بينة عند المقارنة بين ما هي عليه الآن وبين ما كانت عليه في أوائل القرن منذ خمسين سنة.
فالمسلمون الذين يعيشون في بلاد مستقلة أو شبيهة بالمستقلة، يزيدون على خمسة أضعاف المسلمين الذين يخضعون لحكم دولة أجنبية.
ومهما يكن من شأن الاستقلال الواقعي أو الشكلي فمن الغباء أن يقال: إن الاستقلال كعدم الاستقلال كائنًا ما كان، ومن الحذلقة أن يستشهد على ذلك بخضوع الأمم المستقلة كثيرًا أو قليلًا لسلطان الدول القوية بحكم الضعف أو الاضطرار.
فالصبي القاصر يخضع لوصاية وليه، والرجل الراشد لا يفعل كل ما يريد، ولا يزال في حياته الراشدة خاضعًا لذوي السلطان عليه بحكم الضعف أو الاضطرار، ولكن لا يقال — من أجل هذا — إن الصبي والرجل الراشد سواء لأنهما، كليهما، لا يعملان كل ما يريدان.
وقد خرج معظم الأمم الإسلامية من ربقة السيادة الأجنبية، وأصبحت لها مشيئة إلى جانب مشيئة الأقوياء. أو أصبح الأقوياء مضطرين إلى التماس الحيلة والذريعة للتوفيق بين المشيئتين، وهذه خطوة في الطريق لا بد منها قبل ما يليها من الخطوات.
أما الأمم التي لا تزال خاضعة للسيطرة الأجنبية ففي كل منها نهضة قومية، ووعي متيقظ يقلق المسيطرين عليها، وتنبئنا حوادث الماضي القريب أن السيطرة ترجع إلى الوراء مع الزمن، ولا ترجع اليقظة بعد المسير ولو إلى غير شوط بعيد.
في آسيا ظفرت إندونيسيا باستقلالها، ولا تزال أمامها مشاكلها الكثيرة، ومنها: ازدحام السكان، وشيوع الأمية، وحاجة الأمة إلى الخبراء الكثيرين في الإدارة وتدبير الثروة، وانفصال بعض أجزائها، وتنازع الآراء والأحزاب على سياستها.
وقد ظفرت الباكتسان بكيانها السياسي، ولا تزال أمامها مشاكلها الكثيرة، ومنها تباعد شطريها وحاجتها إلى موارد الماء في كشمير، وخلافها مع الهند ومع الأفغان.
وفي الصين عشرات الملايين من المسلمين متيقظون يشعرون بخطر واحد وحقوق واحدة، وعلى التخوم بين الصين والهند ملايين آخرون خاضعون لسلطان الدولة الروسية يخشون على ضمائرهم كما يخشون على ديارهم ومعالم أوطانهم، وتقوم الأفغان وإيران مستقلتين إلى جانب هذه الأمم، وفي كل منهما كفايتها، وفوق كفايتها من مشكلات السياسة والمعيشة.
ولا خطر من جميع هذه المشكلات.
ولن يجيء اليوم الذي تستريح فيه الأمم من أمثال هذه المشكلات أو تعيش في حقبة من الزمن بغير مشكلة كبيرة أو صغيرة.
إنما الخطر الأكبر أمة بغير إيمان وبغير معرفة، فإذا بقي للأمة إيمانها، ومعرفتها فكل ما أصابها بعد ذلك هين مأمون العاقبة بعد حين.
ولس الخطر كله من الأعداء، وليس الأمان كله من الأصدقاء أو الأبناء.
فقد يجيء الخطر على الإيمان من غلاة التجديد، وقد يجيء الخطر على المعرفة من غلاة الجمود، قد يتقابل هؤلاء وهؤلاء على قوة واحدة فيسري إلى الأمة شلل لا تنفع معه معرفة ولا إيمان.
ومن وجوه الرجاء، أو العزاء، بين المشكلات الجسام التي تستقبلها الأمم الإسلامية أنها لا تحمل العبء كله، ولا تنفرد بالعمل على دفعه أو تخفيفه؛ لأن سنن الحوادث أن تأتي بالنجدة كما تأتي بالعقبة، وأن العامل لا ييأس من مفاجآت الغيب، وإن كان لا يأمن الغدرات من تلك المفاجآت.
لقد كان على إندونيسيا شوط بعيد مع هولندا، وشبكة الاستعمار التي تمكن لها في مستعمراتها، ثم ابتليت هولندا باليابان فأخرجتها، ثم ابتليت اليابان بالهزيمة فخرجت مكرهة، وتركت سلاحها للثوار في سبيل الحرية، ثم اضطر المنتصرون من الأمريكيين والإنجليز إلى مداراة الشعوب الآسيوية، ونفس بعضهم على بعض أن تخلف هولندا على تلك الغنيمة الضخمة، فإذا بالاستقلال يسعى إلى أندونيسيا كما سعت إليه، ثم تبقى الكفاية لمشكلات الحكم والمعيشة، وهي لا تعضل قومًا كأبناء تلك الأمة كادوا أن يستأثروا بالتجارة والملاحة في بحار الهند قبل زحف المستعمرين عليها.
وكان على الباكستان شوط بعيد مع الدولة البريطانية والكثرة البرهمية، ثم تغير الموقف في القارة الآسيوية بعد هزيمة اليابان، وبعد كساد التجارة البريطانية في المشرق، وبعد التزاحم الجديد بين الروسيين والأمريكيين على القارة في شرقها الأقصى، فإذا بالاستقلال يسعى إلى الباكستان كما سعت إليه، ثم تبقى مشكلة كشمير، وتبقى بإزائها صناعة في الهند تتوقف على الباكستان وصناعة في الباكتسان تتوقف على الهند، ومصلحة مشتركة تلجئ الجانبين إلى المصالحة، وخطر من جانب الصين الشيوعية يفتح الأعين هنا وهناك.
وثمة عامل جديد في سياسة الدول القوية، لم يكن له خطر قبل منتصف القرن العشرين، وذلك هو عامل العقيدة في المجتمع.
فلم تكن دولة من دول الاستعمار تبالي شيئًا بعد غلبتها العسكرية والسياسية على بلد من البلاد المستضعفة، ولكنها اليوم تبالي ما يعتقده الشعب، وتعلم أن هذه العقيدة عامل هام في الترجيح بين المستعمرين من كتلة المشرق وكتلة المغرب، وقد تعودوا المبالاة بالإسلام، وما تحتويه عقيدته من المقاومة أو المسالمة للمذاهب الاجتماعية، فليست السطوة بقوة السياسة أو بقوة السلاح هي كل ما تباليه الدول الكبرى في منازعاتها، وقد يخافون من هذه السطوة أن تدفع بالمسلمين إلى جانب وتصرفهم عن جانب، فيبنون علاقاتهم بهم على هذا الأساس.
والفرق بين الكتلتين: أن الأمريكيين والإنجليز لا يستطيعون أن يجعلوا الأمة المسلمة أمريكية أو إنجليزية، أما الكتلة الشرقية فإذا جعلت أمة من الأمم شيوعية لم تكترث بعد ذلك بجنسها وعقيدتها؛ لأن الشيوعية تبطل الأوطان والأديان.
وفي آسيا دولتان قديمتان هما إيران وتركية، وكلتاهما في شقة الصدام بين الكتلتين يحميهما هذا الصدام أن تقعا في قبضة هذه أو تلك، ولكنها حماية مانعة وليست بالحماية العاملة، فلا بد من سند لها في بنية الأمة، ولا بد من قيام هذا السند من الإيمان والمعرفة.
ويقال اليوم: إن تركية تعود إلى الدين بعد ثورة مصطفى كمال على تقاليدها الدينية، ولكن تركية في الواقع لم تفارق الدين حتى يقال: إنها تعود إليه، وكل ما حدث إنما هو تغيير في مراسم الحكم لم يتغلغل قط إلى ضمير الأمة، وقد يكون الاعتدال بين ثورة مصطفى كمال وتقاليد الجامدين أصلح لتركية من أيام الخلافة المتداعية وأيام الثورة الكمالية الأولى.
أما الأمم العربية فقد وضع لها الغرب إسفينًا في صميم بنيتها يوم أقيمت بينها دولة إسرائيل، ولن تؤمن العقبى ما بقي فيما بينها هذا الصدع الوبيل، وتتسلل منه المفاسد والمطامع إلى جوفها.
ولكن إسرائيل على قوة الدول التي تسندها لا تعيش ولا تتمكن في موضعها بين أمم تقاطعها وتبعد المسافة بين مواردها ومصادرها، وباب الأمل في هذا الجانب أن المصير لا يعدو حالة من حالتين: إما أن تسيطر إسرائيل على أمم العرب ونهضتها، وإما أن تنخذل دون هذا المطلب العصي فتنهار أو تقبع في أضيق حدودها، وأصعب هاتين الحالتين: سيطرة إسرائيل على أمم ناهضة تتقدم ولا تنكص على أعقابها.
والإسلام في القارة الأفريقية يشغل شواطئها على البحرين الأبيض والأحمر، وعلى المحيطين الأطلسي والهندي. فكل الشواطئ الأفريقية يقطنها مسلمون ما خلا الجانب الغربي إلى الجنوب، ويتخللها المسلمون في جوف الصحراء الكبرى كما يتخللونها في أواسطها من السودان إلى أعالي النيل.
وتنصب قوة الاستعمار كلها على القارة الأفريقية في الوقت الحاضر، فعلى الإسلام عبء كبير ينهض به في وجه هذا الاستعمار.
ومهما يكن من تفاوت القوى المتنازعة في هذه القارة فليس السؤال هنا: من يقدر على الغلبة؟ بل هو من يقدر على البقاء بعد طول الصراع؟
ونخال أن الجواب لا يقبل الخلاف، فلن يبقى المستعمرون ويزول أبناء البلاد، ولن يستطيع المستعمرون مهما عملوا أن يخرجوا أبناء البلاد عن أجناسهم وعقائدهم ليدمجوهم في غمارهم أفريقيين «مغتربين».
وقد تطول المسافة على الشعوب الأفريقية قبل بلوغ المرحلة التي تخرج الاستعمار، ولكن الاستعمار يحمل من جراثيم الفناء ما يعاون المنكوبين به على الخلاص منه، وليس اللازم أن يتساوى الأفريقيون والمستعمرون في العلم والثروة والحول والحيلة، وإنما اللازم أن يضيق المستعمرون بقهر الأفريقيين، وقد يضيقون بهم قبل أن يتساوى الفريقان في هذه الصفات بزمن طويل.
ومصر — في طليعة الأمم الأفريقية — تمضي قدمًا إلى هذه المرحلة، وتقترب منها حقبة بعد حقبة منذ أوائل القرن العشرين. فلم تمض من هذا القرن عشر سنوات متعاقبة دون أن تتدرج فيها من حالة إلى حالة أفضل منها، فخرجت من السيادة العثمانية، ثم خرجت من الحماية البريطانية، ثم تخلصت من حكم الملكية الرثة التي صار بها الزمن إلى أسوأ أطوارها في عهد فاروق ربيب الفساد، ابن أحمد فؤاد صنيعة الحماية، ابن إسماعيل رائد الخراب والاحتلال، وإذا اطردت مراحلها عشر سنوات بعد عشر سنوات على هذه الخطى فليس الرجاء في مرحلتها التي تقود فيها القارة الأفريقية ببعيد.
وعلى شواطئ البحرين الأبيض والأحمر أمم من هذه القارة تتيقظ وتتحفز، وتوشك أن تبلغ المرحلة التي تعنت فيها الاستعمار كما يعنتها، ومن آمالها: وحدة المغرب ووحدة وادي النيل، وأيًّا كان مآل هذه الآمال في عالم السياسة فمناط الأمر كله أن يتم لها حظ الأمم المستقلة في المعرفة والكرامة، وكل وضع من أوضاع السياسة بعد ذلك مرضيٌّ ومقبول.