آسيا وأفريقيا
وكل بحث في مستقبل المسلمين يستتبع البحث في مستقبل القارتين آسيا وأفريقيا على الخصوص؛ لأن تسعة أعشار المسلمين يسكنون هاتين القارتين، وحولهما تحوم اليوم مطامع الاستعمار والاستغلال والتبشير.
وجملة ما يقال في آسيا: إن شعوبها أضخم من أن تبتلع في بنية شعب آخر، وجملة ما يقال في أفريقيا: إنها أبعد أصلًا من أن تندمج في الغرب وهي قائمة على تربتها.
إنما ينظر في هذه وتلك إلى عاقبة السيطرة الثقافية، ولا نعني بالسيطرة الثقافية سيطرة العلم الحديث، فإن الأمم التي تتقدم في العلم الحديث لا تقع تحت سيطرة أمة من جراء ذلك، وقد تتغلب بعلمها على السيطرة الأجنبية إن كانت واقعة في قبضتها.
وإنما نعني بالسيطرة الثقافية سيطرة العقيدة من جانب المذاهب الاجتماعية أو من جانب التبشير.
إن الدول الكبرى التي تتجاذب سياسة العالم هي الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وروسيا الشيوعية.
والظاهر من سياسة بريطانيا في القرن العشرين أن تتراجع عن آسيا، وعن الشرق الأقصى خاصة، وتترك ميدان السباق فيه للروس والأمريكيين، ثم تلوذ بمفترق الطرق بين القارات الثلاث في آسيا الغربية، أي في بلاد العرب التي تمتد من العراق إلى البحر الأبيض والأحمر.
أما السيطرة الروسية: فهي تقوم على نشر الشيوعية، وهي مذهب لا يوافق الإسلام في أساسه، ولكن الإسلام يغني عنه إذا اتبع المسلمون قواعد المساواة والإنصاف، وعملوا بأصول دينهم في التوسط بين التهالك على الدنيا والإعراض عنها، وينبغي أن نذكر في هذا المقام أن بلاد الروس وما جاورها هي قطعة من أوروبا أخذتها آسيا من زمن غير بعيد، وقد يحدث في المستقبل تكرار لهذه الظاهرة على صورة أخرى، ويكون للإسلام شأن كبير في هذا التكرار.
وتتسابق الدولتان الروسية والأمريكية على المناجم وينابيع النفط ونقط الاستحكام في هذه القارة الواسعة، ومآل كل ذلك حتمًا إلى أبناء البلاد؛ لأن حبل الزمن أطول من حبل المال وحبال السياسة، وذلك على شرط واحد وهو الاحتفاظ بكيان الأمة وقوامها، وليس في آسيا قوة روحية أقدر من الإسلام على حفظ الكيان والقوام للأمة التي تؤمن بدينه.
أما بلاد العرب حيث تتراجع الدولة البريطانية: فقد أحيطت بحلقات من المشيخات والسلطنات تتعاقد معها بريطانيا على ضروب من الحماية المقنعة، وتحسب من وراء ذلك حساب المواصلات، وآبار النفط، ومواضع الاستحكام العسكري في حالة الحرب العالمية، ولكنها لا تهمل حساب التبشير، ولا تنكر مسعاه في حمايتها، وهذه عبارة في سلسلة السيطرة العالمية تدل على كثير.
ولما كانت ظفار على بعد خمسمائة ميل من مسقط تحت سيادة سلطانها، فكل محاولة لتكوين العمل هنا تستلزم لا محالة رجوعًا إلى العمل الذي تأسس في مسقط نفسها، ويدعو موقف السلطان الودي في الوقت الحاضر إلى الأمل في الانتفاع بهذه الفرصة لإنجاز شيء؛ إذ تتنقل بعثات التبشير بغير عائق في عمان، ويرجى من تعزيز مركز مسقط مزيد من العمل، وهناك في داخل عمان قبائل لا حكم عليها للسلطان نجحت بعثات مسقط في حمل رسالة الإنجيل إليها على نطاق أوسع مما تيسر قبل الآن في أي مكان.
وقد ظهر باللغة الإنجليزية في السنوات الأخيرة أكثر من مائة كتاب عن القارة الأفريقية، وبعض عناوينها ينم على مبلغ الأمل والحذر من هذه الجهة التي أحاط بها الظلام إلى أوائل القرن العشرين.
من عناوين هذه الكتب عنوان: «الأمل في أفريقيا» لمؤلفه آلبورت، وعنوان: «أفريقيا الغربية الجديدة» لأربعة مؤلفين، وعنوان: «الأفريقي اليوم وغدًا» لمؤلفه ديديرنج وسترمان، وعنوان: «قضية الحرية الأفريقية» لمؤلفه جويس كاري، وعنوان: «أفريقيا تنهض» لمؤلفه و. م مكميلان، وعنوان: «قارة الغد» لمؤلفه بطرس بن ولوسي ستريث … وهكذا وهكذا عشرات من التصانيف الجديدة تتلوها عشرات.
وما من كتاب من هذه الكتب خلا من ذكر الإسلام، والتحدث عن سهولة انتشاره بين الشعوب الأفريقية، ونجتزئ بنماذج من هذه الإشارات للدلالة على السياسة التي قد توحيها معلومات القوم عن أثر هذا الدين في مستقبل الأفريقيين.
ويضيف إلى ذلك أن الإسلام متى بدأ في مكان لم ينتظر مددًا من الخارج للتوسع في جوار ذلك المكان، فمعظم التبشير به أفريقي لا يحتاج إلى معونة من غير الأفريقيين.
وبديه أن كل اعتراف من هذه الاعترافات يستتبع وراءه خطة الحذر والحيطة للمستقبل، ولكن المستقبل سيكشف للأفريقيين ولا ريب حيلته في مقاومة هذه الخطط أو محاذرتها، واتقائها من جانبه.
أما الأمل الذي يتخايل أمام المستعمر البريطاني في هذه القارة فهو تأليف دولة شاسعة من ولايات متحدة تتصل كل مجموعة منها مع المجاميع الأخرى بصلة المحالفة، وقد شرح صاحبا كتاب «قارة الغد» برامج هذه الولايات، وقالا: إن مصلحة الأوروبي والأفريقي فيها لا تتعارضان ولا تتناقضان بل تتوازيان، وإن أفريقيا إما أن تحكم على هذا المثال أو تصير في نصفها الجنوبي على الأقل وطنًا مدمجًا في الشعوب الشرقية التي تهاجر إليها وأكثرها من الهنود، وقد تطمع الشيوعية في استخلاصها لها من مصير كهذا أو مصير كذاك.
ويوشك الرأي الغلب على هذه المصنفات أن يتجه إلى غاية واحدة: وهي ادخار أفريقيا لتزويد الأمم الغربية بمواد الغذاء وخامات الصناعة، مع بعض الرجاء في العثور على المعادن والزيوت في باطن أرضها، حيث يتيسر تصنيعها إلى جانب مناجمها.
وقليل من الكتاب الغربيين من يطيب له أن ينظر بعينيه جميعًا مفتوحتين إلى الغد الذي لا مهرب منه في قارة «الغد» كما يسمونها. فمهما يبلغ من نجاح خطط الاستعمار أو التبشير، فلن تكون إفريقيا في النهاية لغير الأفريقيين، ومن داخلها سيخرج لهم من ينتزع سيادتها من أيديهم، ومن يناصبهم العداء؛ لأنهم قد استأثروا دونه زمنًا بهذه السيادة، ولا يسره يومئذ أنهم استعمروه أو بشروه.