لو عاد محمد عليه السلام
من الأماثيل التي تعاد ولا تمل أمثولة للكاتب الروسي (ديستيفسكي) عن السيد المسيح ومحكمة التفتيش في قصة الإخوة كرامزوف.
وخلاصة الأمثولة: أن السيد المسيح عاد إلى الأرض، وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه، واستمعوا له، وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين، فأشفق هؤلاء على مكانتهم، وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش فاعتقله وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه لتضليله الشعب والانحراف به عن تعاليم السيد المسيح! … وقال له: إن هؤلاء الذين يقبلون عليك اليوم هم أول الثائرين عليك، وأسبق المبادرين إلى تنفيذ القضاء فيك.
أمثولة تعاد ولا تمل؛ لأن العبرة بها لا تنقضي في حقبة واحدة، ولا تزال عبرة الدهر كله في أحاديث المصلحين والمفسدين.
ولم يبالغ الكاتب العظيم في تخيله، فإنما يكون مبالغًا لو كان ما تخيله بعيدًا أو غريبًا في بابه، ولكنه في الواقع أقرب شيء إلى الاحتمال مع هذه البشرية التي تختلط فيها الشيطانية والخنزيرية والحمارية في وقت واحد، فلا تزال حربًا على من ينفعها، وألعوبة في أيدي العابثين بها، وإن كرروا العبث بها كلَّ يوم مرات بعد مرات.
لو عاد السيد المسيح لأنكره كثيرون ممن يعيشون باسمه وينتحلون هدايته.
ولو عاد محمد عليه السلام لكان له نصيب كذلك النصيب ممن يرفعون العقيرة بهداية الإسلام، والإسلام بريء منهم، وكل ما هنالك من خلاف أن المسألة لا تمر بتلك السهولة التي توهمها رئيس محكمة التفتيش، أو من يتصدى في الإسلام لمثل عمله، وأنه سيندم على فعلته ندمًا يكفر عن سيئاته، إن كانت سيئاته مما يقبل التكفير.
وأسأل نفسي كيف ينتفع المسلمون على أحسن وجوه النفع بعودة النبي عليه السلام فترة قصيرة من الزمن؟ وما هي المسائل التي يرجعون بها إلى شخصه الكريم، فيسمعون منه فصل الخطاب فيها؟
أسأل نفسي فتخطر لي مسائل خمس يرجع فيها إلى شخصه الكريم، ويغني جوابه فيها كل الغَنَاء، فلا لجاجة ولا اختلاط، ولا حاجة إلى الاجتهاد والتأويل من مجتهد أو مقلد، وما أشبه الاجتهاد والقليد في هذا الزمن!
تلك المسائل الخمس هي: مسألة الأحاديث النبوية، ومسألة الروايات في قراءة الكتاب المجيد، ومسألة الخلافة والملك، ومسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، ومسألة المذاهب الاجتماعية الحديثة وحكم الإسلام عليها وقول نبي الإسلام فيها.
مسألة الأحاديث النبوية
إن رجال الحديث قد بلغوا الغاية من الاجتهاد المشكور في جمع الأحاديث وتبويبها وتقسيم رواتها وأسانيدها، وقد جعلوا من أقسامها الثابت والراجح والحسن والمقبول والضعيف والمشكوك فيه والمرفوض، وجعلوا لكل قسم شروطه وعلاماته، فأصبح الحديث بفضل هذه الشروط والعلامات علمًا مستقلًا يتفرغ له علماء مستقلون.
وبعد كل هذا الجهد المشكور لا تزيد الأحاديث الثابتة على عشر الأحاديث المتداولة في الكتب وعلى الألسنة.
وكلمة واحدة من فمه الشريف عليه السلام ترد الأمور جميعًا إلى نصابها: «لم أقل هذه الأحاديث!» وينتهي القيل والقال، ويبطل الخلاف والجدال، ويبطل معهما بلاء أولئك المحدثين الذين يستندون إلى الحديث الكاذب في التضليل وترويج الأباطيل.
قراءات القرآن
ومسألة الروايات القرآنية دون مسألة الأحاديث في أشكالها ونتائج الاختلاف عليها، فإن الروايات التي لم يتفق عليها القراء لا تغير شيئًا من أحكام القرآن، ويمكن الأخذ بها جميعًا، ولا ضرر في ذلك ولا ضرار.
إلا أنها لا تحتمل أقل اختلاف مع وجود النبي الذي تنزل عليه القرآن، فما يقوله فيها فهو مجتمع القراءات ومرجع الروايات، ومتى استمع الناس إلى تلاوته — في عصر التسجيل — فتلك ذخيرة الأبد في ذاكرة الأجيال، وسيبقى صوته بتلاوة القرآن أول ما يسمعه السامعون في مجالس الذكر الحكيم.
الخلافة والملك
وتأتي مسألة الخلافة، بل معضلة الخلافة.
تلك المعضلة التي سالت فيها بحور من الدماء وجداول من المداد، وبقيت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام حين نذكر السنة والشيعة والإماميين والزيديين والإسماعيليين والنزاريين، وحين نذكر الهاشميين والأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم وغيرهم من المنقسمين وأقسام المنقسمين، بم أوصيت يا رسول الله في أمر الخلافة؟ وهل أوصيت بها دينية أم دنيوية؟ وهل تريدها اليوم على هذه أم على تلك من صفاتها وأحكامها؟
فإذا قال عليه السلام أوصيت بكذا ولم أوص بكذا، فكأنما مسح بيده الشريفة على تلك الصفحات والمجلدات؛ فإذا هي بيضاء من غير سوء، وإذا هي بقية من بقايا الماضي تحال إلى دار المحفوظات للعبرة والحذر، أو يلقي بها حيث لا حس ولا خبر.
وكفى الله المؤمنين شر القتال، وذكرى القتال.
الرسالة بعد خاتم المرسلين
والخطب أهون من ذلك جدًّا في مسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، فإن المخالفين للإجماع في هذه المسألة واحد من كل خمسمائة مسلم، وسينتهي خلافهم عما قريب.
ولكن إذا انتهى بكلمة من الرسول الذي يؤمن به المسلمون جميعًا فتلك هي النهاية الفاصلة، وقد تمنع في المستقبل أضرارًا لا يقاس عليها ضررها في الوقت الحاضر، وخير من واحد ينشق على خمسمائة أن يتفق الخمسمائة فلا ينشق منهم واحد!
المذاهب الاجتماعية الحديثة
وما قولك يا رسول الله في دعاة المذاهب العصرية من اجتماعية أو غير اجتماعية؟
لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية، فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة.
ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية، فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين.
ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية، فإنها ملعونة في كل دين.
وإنما يسأل النبي عليه السلام في الاشتراكية، فيقول ما قاله القرآن حيث نهى أن تكون الثروة دُولة بين الأغنياء، ثم يسأل عن شرحها، فيتلقاه منه المسلمون على أقوم المناهج وأسلم الحلول.
وتأتي على الهامش أسئلة عن ترجمة القرآن، وعن حقوق المرأة، وعن دعاوى المدعين في الأحكام والقوانين باسم الدين، وعن أحاديث شتى مما يتحدث عنه الصحفيون وأشباه الصحفيين.
ويُسمع من النبي عليه السلام في أولئك كله جواب يغني عن ألف جواب أو عن كل جواب.
ونعود إلى محكمة التفتيش، وما يشبه محكمة التفتيش بين المسلمين.
إن كاتب هذه السطور آخر من يؤمن بإقناع العقول، أو بسلطان البرهان في الإقناع.
إن كاتب هذه السطور قد رأى بعينيه أناسًا أغرب وأصفق ممن ينكرون الشمس في رائعة النهار.
وليس بالمستحيل عندي أن يعاندك المعاند ويكابرك المكابر في «اثنين واثنين يساويان أربعة، وفي واحد وواحد يساويان اثنين».
بل ليس بالمستحيل عندي أن يكابرك المكابرون في معنى الواحد ومعنى الاثنين، وأن هذا خمسة وليس بواحد، وذلك صفر وليس برقم من الأرقام.
فإذا عاد النبي عليه السلام وقضى قضاءه في أحكام الإسلام، فلا والله لا يعدم الناس من يشكك في كلامه وبيانه، وفي ملامح وجهه، وعلامات جثمانه، ولا والله لن يسلس المقاد ممن يلجُّ في العناد، ويضيع عليه الجاه أو الغنى بما قضاه الرسول، وتلقاه الناس منه بالتسليم والقبول.
غير أنه، فيما نحسب، عناد لا ينفع أصحابه، ولا يطمعون في الرجاء منه حتى تفجأهم الحوادث بالندم عليه، وصلى الله على محمد في الأولين والآخرين، فما هو إلا أن يعود فلا تعز عليه هداية المهتدين ورياضة الذين لا يهتدون، فلا يصدون أحدًا عن الدنيا ولا عن الدين!