الغد
والغد غيب مجهول.
ولا حاجة بنا إلى التنجيم عن حوادثه وصروفه، فإنه بأية حال لن يخلو من الحوادث والصروف، ولن تخلو حوادثه وصروفه من سلم وحرب، ونصر وهزيمة، ودول تعلو ودول تهبط، وعلاقات تتصل وعلاقات تنفصل، وصداقة تنقلب إلى عداوة، وعداوة تنقلب إلى صداقة، وتكرار على نسق الماضي وبدع جديد كأنه من الماضي المتكرر، فما خلا زمن قط من بدع جديد.
إنما نحن آمنون إذا واجهنا الغد المجهول بعدته، وإنما نحن مستعدون له بخير ما نستطيع إذا خرجنا من الماضي الطويل بعبرته الوافية، وعبرته الوافية أن العقائد أثبت من السياسات، وأن الأمم أثبت من الدول، وأن الجاهل أعدى لأمته من أعدى أعدائها، وما نكب الإسلام قط من حرب صليبية أو من حرب استعمار كما نكب من أبنائه الجهلاء.
ولنرجع إلى ألف سنة مضت منذ ابتدأت الحروب الصليبية لنرى مصداق هذه العبر واحدة بعد واحدة.
كفى أن نرجع إلى أول هذا القرن العشرين، ولما ينصرم منه غير نصفه أو أكثر من نصفه بسنوات. فقد كانت في أوله دول يخشى منها على قارة كاملة، وكانت فيه دول تشبثت بكل بقعة من بقاع المشرق أقصاه وأدناه، وكانت فيه دول تعتزل العالم القديم، وتطلب من العالم القديم أن يعتزلها، فتغيرت المواقف، وتغيرت السياسات، وتغيرت الدول، وتغيرت العلاقات، وقاتل الناس في صفوف ثم قاتلوا في غير تلك الصفوف، ولم تتغير معالم الأرض، ولكن تغيرت الحدود، وتغيرت الدول التي تقوم بين تلك المعالم والحدود، فمهما تكن السياسة فالعقيدة أثبت منها.
ومهما تكن الدولة فالأمة هي الباقية.
ومهما يكن الخطر فالجهل في كل معترك ومع كل خصم أو منازع هو أخطر الأخطار.
وإذا بقي للإسلام إيمانه والمؤمنون به على هدى وبصيرة، فلا خطر عليه من أقوياء اليوم ولا من أقوياء الغد المجهول، وأخطر من كل خطر أن يتخلف مكان العلم والبصيرة، ويتقدم مكان الجهل والغباء.
ومثل من أمثلة الجهل والغباء أن يطول اللجاج، ويحتدم الهياج على التحريم والتحليل، ومحصول ذلك كله أهون من خطر اللجاج وخطر الشقاق والهياج.
إن الجهل الذي يغري صاحبه بتحريم البرق، واتهام العاملين في الكهرباء بمحالفة الشيطان لهو أخطر على الإسلام من كل حلال وحرام.
ولقد تطول الأقاويل في حل التماثيل وتحريمها، وفيما هو تمثال وليس بصورة، أو ما هو صورة وليس بتمثال، ولكن التماثيل والصور على اختلاف أوصافها وتعريفاتها قد وجدت بين أبناء الأديان المسيحيين واليهود والبراهمة والبوذيين، ولم نسمع قط أنهم سجدوا لتمثال بطل عظيم، أو تعبدوا لضريح نابغ مشهور، وليست عقيدة المسلم بأضعف من عقائد الأديان عن مدافعة هذه الأخطار إن خيفت منها الأخطار، فلا يمتنعن البحث في الحلال والحرام ولا في الصحيح والباطل من عقائد المعتقدين، ولكنه إذا بذل فيه من الجهد فوق حقه، وأضعاف خطره، فذلك هو الخطر الأكبر، وذلك هو الجهد العقام، واحتفاظ المسلم بإيمانه أمام هذه المحرمات أيسر جدًّا من احتفاظه بالإيمان أمام جاهل يكفر القائلين بدوران الأرض أو تسخير الكهرباء أو الاستماع إلى المذياع من غير ذي صوت منظور، ثم يزعم أنه يفتي بحكم الدين فيصدقه من يجهل الدين، ويكفر بالدين من يحمل عليه جريرة فتواه.
ولا خطر على المسلمين أوبل من هذا الخطر، فإذا اتقوه وعاذوا بالإيمان على علم وبصيرة فلا خطر عليهم من الدول والسياسات، ولا من ذوات اليمين ولا من ذوات اليسار.
ولا ينسين المسلمون أنهم مجموعة من الأمم في عصر المجموعات، وإن لم يكن عصر الجامعات كما عرفت قبل هذا القرن العشرين.
ولا ينسين المسلمون أنهم مجموعة من أمم العالم، فإن العالم لا ينسى هذه الحقيقة، ولا يزال يذكرها ويتذاكرها، ويرتب عليها ما يرتبه من الخطط والمواقف بإزائها.
وعصر المجاميع غير عصر الجامعات، أو هكذا تتمثل لنا المجاميع والجامعات باصطلاح الزمن مع التقارب بينها في مادة اللغة العربية، فالمجموعة قائمة سواء أرادها أصحابها أو لم يريدوها، والجامعة لا تقوم إلا إذا أريدت لغرض مقصود، وغالبًا ما يكون هذا الغرض وحدة في الحكم أو في السياسة أو في مشروع من مشروعات المحالفة والمعاهدة.
والإسلام شاء أو لم يشأ مجموعة بين مجاميع الأمم الكبرى في القرن العشرين، وليست مجاميع الأمم مقصورة على الكتلة الشرقية التي يتزعمها الروس، أو الكتلة الغربية التي يتزعمها الأمريكيون والإنجليز، ولكنها أكثر من ذلك، وأحق أن تعرف جميعًا أو يعرف بعضها على سبيل التمثيل، ثم يقاس عليه.
فالمجموعة الشرقية والمجموعة الغربية معًا تتخللهما مجموعة واحدة يمكن أن تسمى بمجموعة الكنيسة الرومانية، ويظهر موقف المجاميع في هذا العصر من موقف الكنيسة الرومانية بين الكتلتين.
إن الكتلة الغربية يقودها إنجيليون، والكتلة الشرقية يقودها أناس يقضون على الكنيسة الروسية الكبرى، ومن هنا يتميز موقف الكنيسة الرومانية، وتحرص على بقاء أتباعها من أمم العالم على حدة في الشئون الروحية، ومن هنا أيضًا تظهر في أمريكا الجنوبية وفي أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية برامج في السياسة لا تنضوي كل الانضواء إلى الكتلتين، ولا تنفصل عنهما كل الانفصال.
ومجموعة الأمم الإسلامية مقصودة، ولا بد أن تقصد، بخطة واحدة في بعض الأحوال.
فإذا غفلت عن هذا الأمر الواقع أصابها ما يصيب كل غافل عن الأمر الواقع، ولكنها لا تتنبه له بداهة لتجتمع على عدوان في الاستغلال أو على عدوان في التبشير، وإنما تتنبه له لتدفع العدوان من هذه الجوانب كافة، وتجعل لها صوتًا مسموعًا في كل سياسة تصاب بها على سوء النية أو حسنها، وتربأ بنفسها أن تكون بحيث كانت تيم في رأي الشاعر:
ومتى استطاعت هذه المجموعة العالمية أن تسهم في أمانة «الإنسانية» وأن تعطيها من عندها، ولا تعيش عالة عليها، وأن تؤدي رسالتها للحضارة والسلام، وأن تفرض وجودها على من يهملونها، ولا يحسبون حسابها، فذلك حق الإسلام منها، وحقها هي من الإسلام.
وإمامها على الدوام «إيمان على هدى وبصيرة» ولا خذلان لمن يقتدي بهذا الإمام.