وقوة صامدة
إن العقيدة الإسلامية لم تكن قوة غالبة وحسب في إبان النشأة والظهور، ولكنها كانت قوة صامدة بعد مئات السنين، ولا بد من تفسير لهذه القوة الصامدة كما لا بد من تفسير لتلك القوة الغالبة، فإن القوة التي تصمد كالقوة التي تغلب في حاجتهما إلى التفسير، أو لعل القوة التي تصمد أولى بالتفسير من القوة الغالبة؛ لأنها تدافع فتقوى على الدفاع حيث لا عدة عندها للغلبة في معترك الصدام والصراع.
وصمود القوة الإسلامية في أحوال الضعف عجيب كانتصارها في أحوال الشدة والسطوة، ولا سيما الصمود بعد أكثر من عشرة قرون.
ولقد تداولت الدول بقاع الأرض من القرن السابع للميلاد إلى العشرين: قامت دول إسلامية ثم انهارت أمام المنافسين من أبناء دينها أو أبناء الأديان الأخرى، وحدث في فترة من الزمن خروج المسلمين من أوروبا الغربية ودخولهم إلى أوروبا الشرقية، ودالت دولة دمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وقامت دولة الآستانة أو إسلامبول، ثم ظلت وحدها هذه الدولة كفؤًا للدول الأوروبية مجتمعات أو متفرقات حتى تداعت أركانها وتصدع بنيانها، وبقيت قائمة لاختلاف الطامعين في ميراثها على تقسيمها، وتلاحقت الضربات على البلاد الإسلامية بين هزيمة واضطهاد وتمزيق وتفريق حتى تمكن منها المستعمرون فلم تبقَ منها واحدة تنعم بقسط من حرية الحكم وسيادة الاستقلال، ومن كان منها مستقلًّا كالدولة العثمانية أو الدولة الإيرانية أو الدولة الحسينية بالمغرب الأقصى كان افتيات المستعمرين على حقوقها أشد وأقسى من افتياتهم على البلاد التي فقدت حريتها واستقلالها، وانقضى القرن التاسع عشر كله والأمم الإسلامية مخذولة متخاذلة، والدول المستعمرة غالبة متحكمة، وخيل إلى الناظرين أن الحاضر والمستقبل جميعًا للاستعمار، وأنه قد جمع القوة والعلم والحضارة فلا نجاة من قبضته للذين حرموا القوة والعلم والحضارة، وأصبحوا في كل منها عالة على المستعمرين.
ثم انتهى القرن التاسع عشر، فكيف رأى الناس منتهاه؟
الاستعمار يتراجع، ولا يظفر بغناء من سلطان المال والعلم والسلاح.
والإسلام تبرز له دولتان في آسيا عداد المسلمين في كل منهما يزيد على سبعين مليونًا، وهما دولتا إندونيسيا والباكستان، وسائر الدول في آسيا وأفريقيا تقترب من الحرية وتبتعد من ربقة العبودية، وهذه هي قوة الصمود بعد أربعة عشر قرنًا من الدعوة المحمدية، لا ينظر المؤرخ في أطوارها على تعدد ظواهرها وأدوارها إلا وجب عليه أن يفترض لها سرًّا عجيبًا كذلك السر العجيب في صدر الإسلام: سر الغلبة من حيث لا تنتظر الغلبة على دولتي العالم في خمس سنوات.
إن قوة الصمود هنا لعجيبة كقوة الغلبة هناك، ولعلها — كما قدمنا — أعجب من قوة الغلبة؛ لأنها تملك الدفاع، ولا مال لديها ولا سلاح ولا علم ولا معرفة، لا بل تملك الدفاع ولا اتفاق بينها على الدفاع.
وندع الصراع في مجال الدول المتداولة بين السطوة والخضوع وبين النصر والهزيمة، فإن قوة العقيدة الإسلامية قد سرت مسراها في أرجاء العالم بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، وفي أفريقيا اليوم مائة مليون مسلم لا شأن في إسلامهم لدولة أو سياسة، وقريب من هذا العدد مسلمون في السومطرة وبلاد الجاوة، وقريب منه في الباكستان، وقد يكون في الصين وما جاورها عدة كهذه العدة من الملايين.
وهؤلاء جميعًا سرت فيهم عقيدة الإسلام بمعزل عن حروب الدول وسياساتها، وعن عروش العواهل وتيجانها، أو كان للدول والسياسات شأن في إسلامهم من بعيد متقطع غير موصول ولا مقصود، ولعله لو انحصر الأمر فيه لا يكفي لإسلام عدة من الناس تحسب بالألوف والمئات، ولا ترتفع إلى عشرات الملايين فضلًا عن مئات الملايين، ولو حسب جهاد المجاهدين في سبيل إسلامهم بعدد الرءوس التي سقطت في ميدان القتال؛ لكان الرأس الواحد هنا عدلًا في كفة الميزان الأخرى لمئات الألوف.
هذه القوة، غالبة وصامدة، تتطلب تفسيرًا غير كلمة العقيدة مجردة من خواصها ومزاياها، ولا غنى لها عن مزية تهيأت لها ولم تتهيأ للعقائد الأخرى التي لم يعرف عنها مثل هذه الغلبة ومثل هذا الصمود، وتلك حقيقة فطن لها الباحثون في انتشار الإسلام من أصدقائه وأعدائه على السواء، فذهبوا جميعًا يلتمسون الدواعي التي يسرت لهذه الدعوة ما لم يتيسر لغيرها، وهم متفقون على انفرادها بالمزية الخاصة مختلفة في بيان تلك المزية على حسب اختلاف النية واختلاف الرغبة في الحمد أو المذمة، ومنهم مبشرون يلجئون إلى المزايا التي تعينهم على الاعتذار كلما وضح عجزهم عن تحويل المسلمين من دينهم أو وضح عجزهم عن مجاراة الدعاة الإسلاميين في نشر دينهم بغير مشقة وبغير كلفة من المال والعتاد، ووسائل التدريب والتنظيم.
فمن أسباب انتشار الإسلام في القارة الأفريقية — عند فريق من هؤلاء الباحثين أو المبشرين — أنه لا يمنع تعدد الزوجات، ولا يحول بين الرجل الأفريقي وطلاق زوجاته أو الاحتفاظ بما شاء منهن كما يشاء.
ومن أسباب انتشاره عند الباحثين في سرعة الإقبال عليه بين الهنود: أنه سوى بين الطوائف المنبوذة وغيرها من طوائف السادة والأشراف، فأقبل المنبوذون عليه زرافات، وبلغوا به من المكانة الاجتماعية ما لم يكونوا بالغيه بالعقيدة المفرقة بين الطوائف والطبقات.
ومن هذه الأسباب عند الباحثين في سرعة انتشاره بين الأندلسيين: أنه صادف ثمة شعبًا فقيرًا ساءت ظنونه بساداته من رجال الدنيا والدين، وأنكروا من أولئك السادات الدنيويين والدينيين تعاليًا عليهم، واشتغالًا عنهم بلذتهم وأبهتهم، فرحبوا بأصحاب الدين الجديد، ودخلوا في ملتهم؛ لأنها ملة لا تفرق بين السادة والعبيد.
ومن هذه الأسباب أنه دين بسيط سهل القواعد والأصول لا يحوج المتدين به بعد الإيمان بالوحدانية وفرائض العبادة إلى شيء من الغوامض والمراسم التي يدين بها أتباع العقائد الأخرى ولا يفقهون ما فحواها.
وهذه كلها — على أصح ما تكون — أسباب محلية أو أسباب موقوتة تصلح لتعليل انتشار الدين في بيئة معينة أو في زمن معين، ولكنها لا تلازم انتشاره في جميع البيئات والأزمان، ومشكوك مع هذا في صدق تعليل البيئة الواحدة كما قيل عن تعليل شيوع الإسلام بين الأفريقيين وقلة إقبالهم على العقائد التي تحرم تعدد الزوجات.
فليس تعدد الزوجات من اليسر بحيث يقدر عليه من أراده بين أولئك الأفريقيين، ومن كان منهم قادرًا على تعديد زوجاته وسراريه فهو يعددهن حتى الساعة كائنًا ما كان اعتقاده، أو كائنًا ما كان دينه بين الأديان الكتابية، وسائر القوم من غير ذوي القدرة على الجمع بين الزوجات الكثيرات قلما يعنيه السماح له بزوجة أو أكثر من زوجة، وقلما يوجد في بيئته سجل يحصي عليه عقود الزواج والطلاق، وقد أجمع الرحالون على صعوبة الاستعداد للزواج وتدبير المهر المطلوب بين قبائل أفريقيا الوسطى، فلا يتأهل الشاب للبناء بالزوجة الواحدة إلا أن يكون ذا مال يحسب بما عنده من رءوس الماشية والأنعام، ومن المستغرب حقًّا أن يتخيل المرء أفريقيًّا يدخل في الدين ثم يخرج منه؛ لأنه حال بينه وبين البناء بزوجة جديدة غير التي ارتبط بها بعقد من العقود على أيدي رجال الدين، وأغرب من ذلك أن نتخيل الأفريقي الأعزب منتظرًا متسائلًا لا يدخل في الدين حتى يتبين ما يبيحه له أو يحرمه عليه من روابط الزواج.
ومن الواضح أن هذه المسألة بذاتها — مسألة الزواج والمرأة — لم تكن من المسائل التي تسبق الدخول في دين من الأديان، وما من أحد في أفريقيا وفي سائر القارات رأى المسلمين منفردين بإباحة الجمع بين النساء في البيت الواحد، وما من وثني على الفطرة أباح له الإسلام كل ما يستبيحه من الشهوات على دين آبائه، وأولها المسكرات التي تفشو بين البدائيين، ويضيقون بمنعها أشد من ضيقهم بمنع تعدد الزوجات، وما من عقبة قامت في وجه المسيحية بين الشرقيين أو الغربيين؛ لأنها كانت تحض على الرهبانية أو تنظر إلى المرأة نظرتها إلى شيطان أو حبالة شيطان. فإذا آمن المرء بفساد عقيدة آبائه وأجداده فلا مناصَ له من قبول الدين الذي كشف له ذلك الفساد، ثم يعالج بعد ذلك طاقته على احتمال أوامره ونواهيه، ولا يرفض الأوامر لأنه يعصيها، أو النواهي لأنه يقدر على اقترفها، بل يحاول أن يكف عن المعاصي والذنوب، ويرتقي في الدين فوق مرتقاه.
ولو كان الإقناع المنطقي يكفي وحده لتعليل الظواهر الاجتماعية أو التاريخية لصح أن يقال: إن الإسلام قد شاع بين طوائف المنبوذين في الهند؛ لأنه يرفع عنهم لعنة المذلة والحرمان. فهم خلقاء أن يوازنوا بين منزلتهم في دين آبائهم وأجدادهم ومنزلتهم في الدين الإسلامي فيختاروا أفضل المنزلتين، وقد وازنوا واختاروا فدخلوا أفواجًا في الدين الجديد.
غير أن الإقناع المنطقي لا يكفي وحده لتعليل ظواهر الاجتماع وظواهر التاريخ فيما له اتصالٌ بأطوار السرائر على الخصوص، أو لعل الإقناع المنطقي يكفي المؤرخ في تعليل الظواهر الاجتماعية والتاريخية إذا اعتمد عليه في كتابة التاريخ، ولم يجعل الناس جميعًا معتمدين عليه في أعمالهم، منقادين له في أحاسيسهم ودخائل وجدانهم. فمن المنطق الصحيح أن يرجع المؤرخ بالحوادث إلى الأسباب الثابتة والعوامل المقنعة، وليس من المنطق الصحيح أن نتخيل الناس جميعًا منطقيين حين يؤمنون أو حين يكفرون، ومنطقيين في تمييز الحق والباطل من الدواعي والأسباب.
والواقع في أمر المنبوذين الهنديين، وفي أمر المحرومين جميعًا، أنهم لم يكونوا أضعف إيمانًا بعقيدتهم البرهمية من أبناء الطبقات العليا، ولم يثبت قط أن التحول إلى الأديان الأخرى كان بينهم أكثر وأسرع مما كان بين الطبقات العليا، وربما وجد فيهم من يصبر على قسمته؛ لأنه يعتقد أنها شرط من شروط الخلاص الأبدي، وكفارة على المساوئ التي سلفت منه في أدوار الخلق الأولى، وربما كان من المحرومين في كل أمة من هو أثبت إيمانًا على دينه من ذوي النعمة والثراء؛ لأن جانب الوعد والأمل قوي في الدين، ونصيب المحروم من الوعد والأمل أوفر من نصيب القانع المجدود.
إن الله — سبحانه وتعالى — بسابق عنايته، ونور هدايته، قد كان أرشدنا في عنفوان الصبا وريعان الحداثة إلى الإقرار بربوبيته، والاعتراف بوحدانيته، والشهادة لمحمد — عليه أفضل الصلاة والسلام — بصدق نبوته، وحسن الاعتقاد في أوليائه الصالحين من عباده وبريته، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام.
وقد أسلم على هذا النحو بعض زعماء القبائل الأثيوبية، فلم ينحصر إقبال الآسيويين والأفريقيين على الإسلام في طبقة واحدة من الرعية أو الرعاة، وابتدأ التحول من العليا إلى من دونها كما ابتدأ من الأتباع إلى السادة والرؤساء.
ومهما يكن من أثر الأسباب المحلية أو الموقوتة فلا بد من البحث عن سبب عام محيط بجميع هذه الأسباب التي تختلف فيها بيئة عن بيئة وزمن عن زمن وحالة عن حالة، ولا بد من عامل واحد غير هذه العوامل التي تحبب الإسلام تارة إلى الحاكم وتارة إلى المحكوم، وتفتح له السرائر في نفوس الضعفاء وفي نفوس الأقوياء، وتجعله قوة تعين الغالبين على الغلب، وتعين المغلوبين على الصمود والدفاع، ولا تخفى حقيقة هذا العامل بعد هذا الشمول، فإن حقيقته التي تتضح من إحاطته بهذه العوامل كافة أنه عقيدة شاملة، وأنه بذلك حقق الصفة الكبرى للعقيدة الدينية على أتم شروطها، فما كانت سريرة الإنسان لتطمئن كل الاطمئنان إلى اعتقاد يفرقها بددًا، ويقسمها على نفسها، ويترك منها جزءًا لم تشمله بقوته ويقينه، وقد يخرج من سلطانه فيملكه سواه.
قلنا في ختام كتابنا عن عقائد المفكرين: إنه «لا التباس اليوم بين وازع الأخلاق ووازع العقيدة الدينية، وليس اتفاقهما في الإباحة والتحريم أحيانًا بالذي يمنع الباحث أن يعرف لها صبغتها ويميز طبيعتها، فلا يخلط بين أوامر القانون وأوامر الأخلاق وأوامر الدين.»
«والغالب على الأوامر القانونية أنها إرادية تكتفي بتحقيق السلامة، ولا تذهب وراء الأسلم الألزم إلى شوط بعيد، والغالب على الأوامر الأخلاقية أنها لَدُنِّيَّة تعمل فيها الإرادة شيئًا، ولكنها لا تعمل كل شيء، بل يتولى الشعور أهم البواعث في أعمال الأخلاق، ويشاهد فيها كثيرًا نزوع إلى ما وراء السلامة واللزوم، وتفضيل للأجمل الأمثل من الأمور، فصاحب الوازع الأخلاقي لا يقنع بفروض القانون، ولا يزال متطلعًا إلى درجة أعلى من درجات القانعين باجتناب العقاب والتزام أدنى الحدود.»
«أما الغالب على الأوامر الدينية أو آداب العقيدة فهو الشمول الذي يحيط بالإرادة والشعور والظاهر والباطن، ولا يسمح لجانب من النفس أن يخلو منه، ولا يقنع بالسلامة أو بالجمال إلا أن تكون معهما الثقة التي لا تتزعزع في صميم الحياة، بل صميم الوجود، ومن السهل أن يقال: إنَّ حاسة القانون تتولد في الإنسان؛ لأنه عضو في مجتمع، وإن حاسة الأخلاق تتولد فيه؛ لأنه من أفراد النوع الإنساني كله، ولكن ليس من السهل أن يقال: إن الإنسان مهتم بمصيره في الكون؛ لأنه عضو في المجتمع أو فرد من أفراد النوع، وإنما يتدين الإنسان؛ لأنه يهتم بمصيره ومعنى وجوده، ويطلب له قرارًا أوسع جدًّا من علاقاته الإنسانية أو علاقاته بالمجتمع، ويجب أن يطلب عقيدة تحتويه، ولا يكتفي بعقيدة يحتويها ويريدها كما يشاء.»
وعلى هذا الشرط — شرط الشمول في العقيدة — يكون الإسلام هو العقيدة بين العقائد، أو هو العقيدة المثلى للإنسان منفردًا ومجتمعًا، وعاملًا لروحه أو عاملًا لجسده، وناظرًا إلى دنياه أو ناظرًا إلى آخرته، ومسالمًا أو محاربًا، ومعطيًا حق نفسه أو معطيًا حق حاكمه وحكومته، فلا يكون مسلمًا وهو يطلب الآخرة دون الدنيا، ولا يكون مسلمًا وهو يطلب الدنيا دون الآخرة، ولا يكون مسلمًا لأنه روح تنكر الجسد أو لأنه جسد ينكر الروح أو لأنه يصحب إسلامه في حالة ويدعه في حالة أخرى، رهينًا بوساطة بينه وبين السماء يتولاها في المعابد سدنة موكلون بالوساطة بين المخلوق والخالق وبين العابد والمعبود، ولكنما هو المسلم بعقيدته كلها مجتمعة لديه في جميع حالاته وجميع حالاتها، سواء تفرد وحده أو جمعته بالناس أواصر الاجتماع.
إن شمول العقيدة في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هو المزية الخاصة في العقيدة الإسلامية، وهو المزية التي توحي إلى الإنسان أنه «كل» شامل فيستريح من فصام العقائد التي تشطر السريرة شطرين، ثم تعيا بالجمع بين الشطرين على وفاق.