أمم غير مستقلة
وهكذا تطورت الحوادث بالدول الإسلامية المستقلة خلال القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين.
أما الأمم التي كانت في حكم غيرها خلال هذا القرن؛ فشأنها في حاضر الإسلام ومستقبله لا يقل عن شأن الدول المستقلة، سواء بكثرة عددها ومواقع بلادها ومكانتها من عالم الحضارة، وأكثر المسلمين عددًا على هذا الترتيب هم: مسلمو الهند ومسلمو الجزر الشرقية (إندونيسيا) ومسلمو الصين.
الهند
في أوائل القرن التاسع عشر ثبت حكم الإنجليز في الهند، وخيل إلى الأكثرين أنه قد صار فيها معلمًا من معالم الإقليم كالجبال والأنهار، وتندر المتندرون بموعد خروجهم منها، فرددوا تلك الكلمات المشهورة عن المواعد التي تضرب لوقوع المستحيل، ومنها: أنهم يخرجون في الثلاثين من شهر فبراير، أو يخرجون حين يلتقي أحدان، أو حين يلتقي المشرق والمغرب، وهيهات يلتقيان.
وإذا كان ثمة أحد في الهند كان يؤمن بخروج الإنجليز منها لا محالة فهم مسلموها؛ لأنهم على يقين بوعد كتابهم أنهم هم الأعزة إذا استقاموا من أمورهم، ولا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ثم زاد المسلمين ضعفًا: أنهم حرموا وسائل التعليم الحديث؛ لأن المدارس الحديثة كانت في أيدي المبشرين، وأن البراهمة بالغوا في عزلة الطوائف والطبقات بعد انتشار الإسلام بين صفوفهم، وشرح ذلك أحدهم الأستاذ لونيا مدرس التاريخ وعلم السياسة بكلية هولكار فقال: «إن المسلمين أول قوم أغاروا على الهند، ولم تستوعبهم حياة القارة الهندية المرنة التي لا تني تمتد وتنطوي على المغيرين، وقد أغار قبلهم كثيرون كالإغريق والسيثيين والمغول والمجوس وغيرهم، وانطووا في الغمار بعد أجيال قليلة انطواءً تامًّا بأسمائهم ولغاتهم وعاداتهم وعقائدهم وأزيائهم وآرائهم، وفنيت جموعهم في الواقع خلال المجتمعات الهندية إلا المسلمين؛ فإنهم لم يزالوا في الهند طائفة منفصلة، ورفضت نياتهم المتشددة في الوحدانية كل هوادة في قبول الشرك والأرباب المتعددة، ومن ثم عاش المسلون والبرهميون في أرض واحدة دون أن يمتزجوا، ولم تفلح محاولة من المحاولات في وضع القنطرة على الفجوة، وما برح المسلمون خلال القرون التالية يولون وجوههم شطر الكعبة بمكة، وينفردون بشريعتهم ونظام إدارتهم ولغتهم وأدبهم وأضرحتهم وأوليائهم.»
وشهد المؤلف بفضل المسلمين في تعليم أهل الهند مبادئ المساواة، ولكنه قرن هذه الشهادة بقوله: «إن إحدى النتائج التي نجمت من حكم المسلمين في الهند أن المجتمع قد انقسم في عهدهم قسمة رأسية، وكان قبل القرن الثالث عشر ينقسم ولكن قسمة غير رأسية، ولم تستطع البوذية ولا الجينية أن تحدثا مثل هذا الانقسام؛ لأنهما ما عتَّمتا أن اندمجتا في المجموع بسهولة وسرعة، على حين أن الإسلام قد شق المجتمع من الأسفل إلى الأعلى شطرين متقابلين: براهمة ومسلمين. فنشأ في أرض واحدة مجتمعان متوازيان متغايران في جميع طبقاتهما قل أن تصل بينهما علاقة في المعيشة أو معاشرة، واشتدت محافظة البرهميين أمام غيرة الإسلام في نشر دعوتهم الدينية، فاندفعوا مع خوفهم وحرصهم على حماية مجتمعهم، والمبالغة في قيود الطبقات والطوائف وما إليها من القيود الاجتماعية.»
وهذه القيود الاجتماعية تشمل الطعام والشراب والأعراس والمآتم بما فيها من مباحات عند قوم محرمات عند آخرين.
وازدادت هذه العزلة بعد شيوع المقاومة الوطنية بين الهنديين؛ لأن زعيمها الأكبر طيلاق بنى دعوته صراحة على تخليص الهند من الغرباء، وإلغاء اللغة الأردية، وإبطال القوانين التي تحترم شعائر المسلمين، ونظر إلى المسلمين نظرته إلى الإنجليز، ثم نهجت على سنته جماعة الغلاة الذين جهروا بضرورة القضاء على كل أثر للإسلام في الهند، وندبوا أحدهم لقتل غاندي؛ لأنه كان يوصي بغير هذه الخطة في معاملة المسلمين.
إن الأستاذ لونيا الذي اقتبسنا ما تقدم من كلامه لم يعلل نجاح الإسلام حيث أخفقت البوذية والجينية، ولو أنه علل هذا النجاح بعلته الصحيحة لأظهر الخطأ البيِّن في قول القائلين: إن الإسلام قد شاع بين المنبوذين؛ لأنه خولهم حقوق المساواة بينهم وبين سائر الطبقات؛ فإن البوذية كانت خليقة أن تنجح مثل هذا النجاح لو كان مرجعه إلى معاملة المنبوذين، وإنما يتجلى هنا سر نجاح الإسلام الذي أجملنا بيانه فيما تقدم من هذه الرسالة؛ وهو شمول العقيدة الإسلامية وعلاجها النفس الإنسانية من داء الفصام الذي يقلقها، ولا يريحها إلا باعتزال الدنيا، وحل المشكلات بتجاهلها والخروج منها، فهذا الشمول هو مصدر القوة الغالبة والقوة الصامدة في المسلمين، وهو هو البقية التي بقيت لهم في الهند بعد زوال الدولة، وزوال المناصب الكبرى والوظائف الصغرى، والحرمان من ثروة الأرض والمال، ومن زاد العلم الحديث والخبرة العملية، والعزلة أمام الحكومة المسيطرة وأمام الكثرة التي تربو على ثلاثة أضعاف، ومن أعماق هذه العقيدة الشاملة نجمت لهم عدة الخلاص حين لم يبق للهندي المسلم من عدة غير أنه مسلم وكفى، وتحركت بينهم أقدر دعوة للإصلاح برعاية السيد أحمد خان، ويرجع مبدؤها إلى إنشاء جماعته العلمية في عليجرة (سنة ١٨٦١) ثم إنشاء صحيفته «تهذيب الأخلاق» وكلية عليجرة بعد رحلته إلى إنجلترا (سنة ١٨٧٠).
وتشعبت حركات الدعاة الإسلاميين في الهند خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر على حسب اتساع الأقاليم والمشارب، فظهر فيها من اتخذ من ابتداء القرن الرابع عشر للهجرة حجة للظهور بدعوة الإصلاح، ثم دعوة المهدية على قول من قال: إنه يظهر على رأس كل مائة سنة داعٍ يجدد شباب الدين، ومن هؤلاء غلام أحمد خان القادياني الذي نشر في أوائل القرن الهجري كتابه «براهين الأحمدية» ثم ادعى أنه المسيح المنتظر بعد بضع سنوات، ثم ادعى (سنة ١٩٠٤) أنه أقنوم كرشنا وأقنوح الروح الإلهي كله؛ فاتبعه في أول الأمر طائفة من المصدقين، ثم انقسم أتباعه فريقين؛ فريقٌ يدين بنبوته، وفريق يحسبه من المصلحين ويرفض ما يروى عنه من دعوى النبوة والحلول، وقد أحيط ظهور القادياني بالشبهات؛ لأنه لقي من تشجيع الحكام البريطانيين ما لم يكن مألوفًا منهم في معاملة أمثاله، ثم جاءت فتواه بقبول الحكم الأجنبي وتفسير أمر الجهاد على هوى الحكومة مرجحة عند الأكثرين لتلك الشبهات، وإنما استحق الخلاف عليه أن يقوى؛ لأن هذه الفتوى حملت على محمل التقية، وهي مقبولة في اعتقاد بعض الفرق من الشيعة منذ لقي الدعاة إلى أهل البيت ما لقوا من عسف الأمويين والعباسيين.
على أن الهند — مع بُعدها في المشرق — كانت تتجاوب بكل صدى قريب أو بعيد من الدعوات الإسلامية في بلاد العرب، فسرعان ما ظهرت دعوة ابن عبد الوهاب بجزيرة العرب حتى تردد صداها في البنغال (سنة ١٨٠٤) واتبعتها طائفة الفرائضية بنصوصها الحرفية. فاعتبرت الهند دار حرب إلى أن تدين بحكم الشريعة، ثم تردد صدى الدعوة الوهابية بعد ذلك بزعامة السيد أحمد الباريلي في البنجاب، وأوجب على أتباعه حمل السلاح لمحاربة السيخيين، وتقدمهم في القتال حتى قتل (سنة ١٨٣١) ونهض من بعده تلميذه «كرامة علي» فاتصل بطريقة الفرائضية، وأفتى بأن البلاد الإسلامية تجب فيها صلاة الجمعة ولا تحسب من ديار الحرب وإن كان الحكم فيها لغير المسلمين.
وترامت إلى الهند أنباء الدعوة المهدية في السودان، وبخاصة بعد وقعة «هكس» المشهورة، وانهزام القائد الإنجليزي فيها، فقد حذر الإنجليز مغبة هذه الدعوة، ونشروا في أرجاء الهند مئات الألوف من فتاوى العلماء المنكرين لها، وذهب بعض ساستهم إلى الزعيم المصري «أحمد عرابي» في منفاه بسيلان يسألونه عن مهدي السودان، فكان جوابه لهم من جنس السؤال، وقال لهم: إن المهدي في الإسلام هو كل من هداه الله.
وقد تطلعت الهند إلى دعوة جمال الدين الأفغاني كما تطلعت إلى الدعوات التي سبقتها، وصح فيها أنها كانت لاتساعها وتعدد بيئاتها أصلح الميادين لتجربة النافع والضار من حركات العاملين باسم الدين، فثبت من تجاربها جميعًا أن أصلح الحركات وأدومها أثرًا هي حركات التجديد التي تجاري العصر ولا تنقطع عن أصول الدين، وأخفقت فيها حركات الجامدين المتشبثين بالحروف، كما حبطت فيها حركات المبتدعين الذين انقطعوا عن الأصول، وخرقوا في العقيدة خرقًا يخالف جوهر الإسلام.
ولقد بدأ القرن العشرون والمسلمون في الهند يتطلعون إلى دولة الخلافة، ثم أسفرت الحرب العالمية الأولى عن شدة في الحركة الوطنية لم تكن معهودة من قبلها، ثم بلغت هذه الشدة قصواها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتعاقبت التجارب التي يراد بها تسليم الوطنيين زمام الحكم حتى استقرت على التجربة الأخيرة بقيام دولتي الهند والباكستان.
إندونيسيا
وإذا كانت الهند أوفى الميادين بتجارب الحركات الدينية فالجزر الإندونيسية أوفى الميادين بتجارب الاستعمار بأنواعه ومشتقاته؛ لأنها كابدت ضروب الاستعمار التجارية والزراعية والثقافية والسياسية، واختبرت أساليب البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والإنجليز، واليابانيين، وعاصرت الاستعمار من أيامه الأولى في الشرق إلى أيامه الأخيرة على النحو الذي صار إليه في القرن العشرين، ولا نظن أن خطة من خطط الاستعمار اتبعت في ناحية من أنحاء العالم لم يتبع لها شبيه في هذه الجزر التي تعد بالألوف.
ولعل هذه الجزر أصلح مكان لتقرير الحقائق عن سر انتشار الإسلام بين الأمم التي كانت تدين بغيره قبل وصوله إليها. ففي كل موضع فيها تصحيح لأوهام من يزعمون أنه دين ينتشر بالسيف ولا ينتشر بغيره، وفي كل موضع دليل من الواقع على فعل القدوة الحسنة في انتشاره بغير عنف؛ بل بغير اجتهاد في الدعوة أكثر الأحيان، وحيثما وجد التجار والرحالون من العرب على شواطئ هذه الجزر فهناك مسلمون على المذهب الذي يأتمون به من مذاهب الأئمة الأربعة، وإذا كان الترك على الأغلب يأتمون بمذهب أبي حنيفة، وكانت للعشائر التركية دولة في الهند، فالدولة لم تصل إلى الجزر بسلطانها وقوتها، بل وصلت إليها بالمسافرين من تجارها، ومهاجريها، ولهذا يوجد الحنفيون حيث وجد هؤلاء التجار والمهاجرون، ويوجد إلى جانبهم أتباع المذهب الشافعي الذين اقتدوا بالعرب القادمين من بلادهم غرباء بغير دولة ولا صولة تكره الناس على مذهبها في شئون العقيدة، وهي أعصى الشئون على الإكراه. ومع هؤلاء وهؤلاء يوجد الشيعة حيث لم توجد قط دولة ذات سلطان تدين بمذهب من مذاهبها، ولم يزد عدد العرب في القرن التاسع عشر على ثلاثين ألفًا في جميع جزر الأرخبيل، ولكن المسلمين يقاربون سبعين مليونًا من أبناء البلاد الأصلاء وبعض الهنود.
وهذه البلاد من أغنى أقطار العالم بالمحصولات الزراعية، ينمو فيها القصب والبن والشاي والأرز والبطاطس، وتنبت فيها الأشجار التي تخرج الأصماغ المختلفة ومنها صمغ المطاط، وأشهر محصولاتها: الأبازير والتوابل التي تهافتت عليها أوروبا، ومن أجلها حاول الرحالون في القرن الخامس عشر أن يصلوا إلى منابتها من المغرب، فانكشفت لهم القارة الأوروبية على غير انتظار، وسميت جزرها بجزر الهند الغربية مقابلة لهذه الجزر التي كانت تعرف باسم جزر الهند الشرقية.
لا جرم كانت قِبْلة المستعمرين الأول، وصحبت الاستعمار من أول بعثاته إلى عهده الأخير.
وأبناء هذه البلاد يتكلمون لغة واحدة هي لغة الملايا، وشيوع هذه اللغة بينهم مع شيوع الإسلام هو الذي وحدهم وعودهم الشعور بقومية واحدة، على الرغم من الجهود التي بذلت للتفرقة بينهم بإحياء اللهجات الإقليمية، وتشجيع «الأبجديات» التي تلائم كل لهجة منها، ومن مفارقات الزمن أن الاستعمار قد زود هذه اللغة، على غير قصد منه، بالأبجدية اللاتينية التي رسمت لها كتابة واحدة لا يسهل تنويعها وتفريقها على حسب اللهجات في معاهد التعليم الحديث.
جاءها البرتغاليون عند ختام القرن الخامس عشر، ولم يعرفها الهولنديون إلا بعد قرن كامل، ثم تبعهم الإنجليز والفرنسيون، وظفر الهولنديون بمعونة أبناء البلاد؛ لأنهم جاءوهم بعد البرتغاليين، فحالفهم الوطنيون للخلاص من هؤلاء وإقصائهم عن أسواق المشرق، وتكاثرت شركات التجارة الهولندية تنافسًا على الربح الغزير الذي استأثرت به الشركة الأولى، فوحدت حكومة هولندا بين هذه الشركات، وجمعتها إلى شركة واحدة هي شركة الهند الشرقية الهولندية، وقد تعاقدت هذه الشركة في مطلع القرن السابع عشر مع مملكة بنتام على احتكار التجارة في موانئها وأسواقها، وإعفائها من الضرائب، وإمدادها بالجند والعدة اللازمة لصد الشركات الأوروبية الأخرى، إذا أدى إغلاق الموانئ دون سفنها إلى الاعتداء على بلاد المملكة.
ولما وفد التجار الإنجليز على الجزر كان الهولنديون قد أسرفوا في مطالبهم، فرحب القوم بالإنجليز، وأعانوهم على الشركة الهولندية، ولكن هذه لم تلبث أن عادت بقوة بحرية كبيرة، وحاصرت الموانئ، ومنعت خروج السفن منها، ثم تغلبوا على جزيرة جاوة، وافتتحوا عهد استعمارهم بإنشاء مدرسة في العاصمة «جاكرتا» تتبعها كنيسة، واغتنموا فرصة النزاع بين الأمراء، فضربوا بعضهم ببعض، وكادوا ينهزمون لولا المعونة الوطنية التي أسعفتهم مرارًا في أشد أوقات الحاجة إليها.
إلا أن التنافس التجاري بين المستعمرين قد اضطر الشركة إلى التحول من التجارة إلى الزراعة، واضطرها التنافس كذلك إلى الإكثار من بناء السفن الحربية، والاستعداد بالأسلحة والذخائر، ووقعت الحرب بين الدولتين الهولندية والإنجليزية؛ فكسدت تجارة الشركة، ولجأت إلى الاستدانة، ونزلت على كره منها عن عقود الاحتكار التي اتفقت عليها مع الوطنيين، ثم احتلت فرنسا أرض هولندا في أثناء الحرب الفرنسية الإنجليزية، فاستولى الإنجليز على مستعمرات هولندا جميعًا، وآلت البلاد إلى شركة الهند الشرقية الإنجليزية حتى أوائل القرن التاسع عشر، فسعى بعض الأمراء والمصلحين إلى الحاكم الإنجليزي لإقناعه بتوحيد الإمارات الإندونيسية في شبه ولايات متحدة تتولاها هيئة نيابية، فلم يقبل مجلس الشركة في لندن هذا الاقتراح! واستعاض عنه بالإكثار من الحكومات المحلية، وإلغاء قوانين السخرة، وتخفيف بعض الضرائب، واحتكار تجارة الملح لتعويض خزانة الشركة عن الضرائب الملغاة.
ولما عاد إلى هولندا استقلالها بعد انهزام نابليون أمام الجيش الإنجليزي الهولندي في وقعة «واترلو» طالبت بمستعمراتها المختلفة فرُدَّت لها، وأظهر القادة العسكريون المسيطرون على تلك المستعمرات عصيانًا «متفقًا عليه» حتى تم الاتفاق بين الدولتين (سنة ١٨٢٤) على تسوية تحفظ لإنجلترا جزءًا من المستعمرات، وتعيد سائرها إلى الحكومة الهولندية.
وعادت الإدارة الهولندية إلى السخرة، وزيادة الضرائب، وحرمان البلاد من غلاتها ومحاصيلها، فتعاقبت الثورات مع المجاعات والأزمات الاقتصادية، وكاد السخط على الحكومة المستعمرة أن يعصف بها لولا استغلال الوقيعة بين أمراء الممالك، وتأليب صغارهم على كبارهم، وانقياد صغارهم للدسيسة الأجنبية خوفًا على سلطانهم المحدود من غلبة الأمراء الكبار عليهم، ولم تهدأ هذه القلاقل إلا في السنوات الأولى من القرن العشرين، ثم أذعنت هولندا كما أذعن غيرها من دول الاستعمار لمطالب النهضات الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى، فاستجابت للشعب الإندونيسي إلى بعض حقوق الحكومة الذاتية، وقامت المجالس النيابية في هذه البلاد لأول مرة في ظل الاستعمار.
وأكثر القائمين بهذه الدعوة من تلاميذ الشيخ محمد عبده، وقراء تفسيره بمجلة المنار؛ لأنهم استفادوا من تجارب الإصلاح السابقة على مقربة منهم في الهند، واتفق نشاطهم للإصلاح بعد توافر أسبابه في إبان دعوة الأستاذ الإمام بالديار المصرية، وهي دعوة تعول على تعزيز الجامعة الإسلامية من الوجهة الثقافية، ولا تشتد في طلبها من الوجهة السياسية على طريقة جمال الدين، وقد تمحصت التجارب خلال النصف الأخير من القرن التاسع عشر بعد حركة الجامعة الإسلامية الأولى، وبعد حركة الخلافة في الهند، فأسفرت عن رجحان المنهج القويم الذي اختاره الأستاذ الإمام رحمه الله.
الصين
ومسلمو الصين لهم تاريخ يتناقلونه عن السلف وتغلب عليه الصحة، وإنما يرجع الخطأ فيه إلى تعديل التقاويم الصينية من حين إلى حين، بحيث تتسع في بعض العصور لفرق عشرين أو ثلاثين سنة تزيد تارة وتنقص أخرى، وعلى حسب التاريخ الذي يتناقلونه يكون الإسلام قد دخل إلى الصين بعد الهجرة النبوية بقليل، وقد هزم المسلمون الفرس والروم معًا بعد الهجرة النبوية بجيل واحد، فأرسل كلاهما إلى الصين يستغيثون بابن السماء، ويهولون له في خطب هذا العدو الظافر؛ ظنًّا منهم أن هذا التهويل يحفزه إلى المبادرة بإغاثتهم في الطريق حرصًا على حدود الصين، فكان هذا العاهل أحذر مما حسبوه، ودعته استغاثة الروم بعد استغاثة الفرس إلى مسالمة هذه القوة الجديدة، فأوفد رسله إلى الخليفة عثمان، وقابل الخليفة هذا التقرب بمثله، فأوفد إليه بعثة قوبلت بالحفاوة والترحاب.
وقبل أن يمضي قرن واحد على هذه الزيارات عرضت لبلاط الصين تلك المشكلة التي حيرت سفراء الغرب وقهارمة البلاط في مملكة ابن السماء بعد أكثر من عشرة قرون، حين اشترط ابن السماء على السفراء أن يتقدموا إليه راكعين، وعز على هؤلاء السفراء أن يحيوه بتحية أكبر من تحياتهم لملوكهم فإن العاهل «سوان تسنج» غره ما سمعه عن اضطراب أحوال الدولة الإسلامية، فجرد على تخومها جيشًا كبيرًا يريد أن يدحر به جيش قتيبة بن مسلم الرابض على تلك التخوم. فانهزم، وأمر قتيبة الرسل الذين أنفذهم إلى بلاط ابن السماء أن يعرضوا عليه الإسلام أو الجزية أو مواصلة القتال. فدخل هؤلاء الرسل على ابن السماء لأول مرة مترفعين عن السجود منذرين متوعدين، ثم مات الخليفة الوليد، وقتل قتيبة، وأجزل العاهل عطاء الجيش الإسلامي، وأذن لهم بالبقاء في بلاده، فسموا باسم القبيلة الصينية التي كانت إلى جوارهم ودانت بالإسلام مقتدية بهم، وهي قبيلة هوى شوي، ولا يزال المسلمون جميعًا يعرفون باسم «هوى هوى» في جميع بلاد الصين.
ويؤخذ من سجلات أسرة تانج أن الدولة كانت تمنح الأسر الإسلامية المقيمة في «سيانغو» خمسمائة ألف أوقية من الفضة كل سنة، وهو عطاء فرضته الدولة على نفسها مكافأة لهم على نجدتهم للعاهل «سوتسنج» الذي ثار به الجند بعد إكراه أبيه على النزول عن العرش، فاستنجد بالخليفة العباسي أبي جعفر فأمده ببضعة آلاف جندي هزموا الثوار، وأقروه على عرشه، فاستبقاهم في أرضه (سنة ٧٥٧) ومن هؤلاء ومن سبقهم من جنود قتيبة تناسل المسلمون في غرب الصين.
إلا أن المسلمين قد دخلوا الصين من غير طريق الغرب، ولم ينقطع تجارهم وسياحهم والملاحون منهم عن زيارة موانئ الجنوب في كانتون وما جاورها، وأوغل بعضهم إلى داخل البلاد من الجنوب والغرب والشمال مع القبائل الرحل، فلم يخل منهم إقليم في الأقطار الصينية على الإجمال، ويسمى المسلمون في الشمال الغربي عند قانصوه وشنسي بالتنجان، أي: المنتقلين إلى الدين الجديد، ويسمون في سنكيانج بالترك؛ لأنهم من السلالات التركية في التركستان، ويسمون في يونان بالبنشاي، وهم من سلالة الترك والعرب وأهل الصين الأقدمين، وليس هؤلاء جميعًا من سلالة المسلمين الأولين، بل منهم أناس من أبناء الصين آثروا الإسلام إعجابًا بأهله، ومنهم من كان آباؤهم يبيعونهم في أعوام المجاعة فينشئون بين المسلمين على عقيدتهم، ولم يَحُلْ تحريم المسلمين أكل الخنزير وتعاطي الخمر والمخدرات دون اجتذاب جيرانهم إلى دينهم بالقدوة الحسنة والمعاملة المرضية والأمانة في التجارة والزراعة، فأسلم كثيرون بغير إكراه على قلة اكتراث الصينيين بالتحول من دين إلى دين؛ لأنهم لا يبالون ما يعتقدون إذا تركت لهم عبادة الأسلاف ورعاية التقاليد في الشعائر وآداب السلوك.
وقد شقي المسلمون في الصين بحكم أسرة المانشو في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلمت هذه الأسرة الواغلة تاريخ المسلمين في نصرة الأسرة المخذولة، فأشفقت من ثورتهم، وتعللت لهم بالعلل التي تصطبغ بصبغة الدين لتنفير البوذيين منهم، فحرمت عليهم ذبح البقر (سنة ١٧٣١) مع أنها تبيح ذبح الخنازير، وظنت أنها ترضي بذلك طوائف البوذيين، وترضي سائر أهل الصين الذين يبيعون الخنزير، ويسرهم أن يضطر المسلمون إلى أكله بعد تحريم لحوم البقر عليهم، فثار المسلمون، وتتابعت ثوراتهم، وهزموا جنود الحكومة في معارك كثيرة؛ ومنها معركة في التركستان الصينية قتل فيها ألفان وانتحر الوالي خوفًا من القصاص (سنة ١٨٦٣)، وفي هذه الآونة استقل البطل التنجاني يعقوب بك بحكم التركستان، وأوشك أن ينفصل بها وبالإقليم المجاور لها لولا أنه مات فجأة (سنة ١٨٧٧) واختلف أتباعه وقادة جنده، فتلاحقت بعده المذابح والثورات، إلى أن سقطت دولة المانشو، وكان لثورات المسلمين في الغرب والشمال أثر في إسقاطها، وتحريض الناقمين منها على مهاجمتها.
وقد أحس المستعمرون الشرقيون والغربيون وطأة الصينيين المسلمين في حروب تلك الدول مع الصين، وكانت اليابان أول من تعرض لبأسهم في حربها مع الصين (سنة ١٨٧٥) فخطبت ودهم وتقربت منهم جهرة وخفية، ثم أوفدت سفراءها من أمراء البيت المالك إلى دار الخلافة؛ لتستميل إليها المسلمين الصينيين في خصوماتها مع أسرة المانشو ومع الروس في وقت واحد، وكانت أسرة المانشو قد حرمت على المسلمين الاتصال بالعالم الخارجي؛ فتعذر عليهم أداء فريضة الحج، ولكنهم كانوا يتحايلون على الخروج لأداء هذه الفريضة بمختلف الحيل، فلما أحست بمساعي الدول بينهم، وتسلل الدعاة إليهم من اليابان والروس والترك وحكومة الهند — ضربت حولهم السدود، وحظرت العودة على من يغادر منهم البلاد للحج أو لطلب العلم، فنشأت بينهم عادة غريبة وهي عادة الحج بالنيابة، وتوافد عليهم فقراء المسلمين من الأمم القريبة؛ لينوبوا عنهم في الحج بأسمائهم، خوفًا من النفي الدائم إذا غادروا البلاد بغير إذن الحكومة، ولم تخل القيود من أثرها المحمود. فإنها ضاعفت عنايتهم بدراسة الدين وحفظ القرآن؛ فكثر بينهم من يعرفون لغته، ويقرءون بها قراءة المجتهد في أرض معزولة عن الثقافة العربية، وتعزى إلى هذه الفترة نهضة التجديد بين مسلمي الصين الغربية، وهي كسائر النهضات مقبولة عند فريق، مستنكرة أو مشتبه فيها بين فريق المحافظين على كل قديم.
ولا يزال مسلمو الصين في غمرة من جرائر الظلم الذي حاق بهم على عهد الأسرة المنشوية، ولم يرتفع عنهم كثيرًا بعد قيام الجمهورية، ولكنهم على أية حال كانوا في مطلع القرن العشرين قوة لا تهمل في حساب أحد يعنيه أمر الصين كلها، ولهذا جعلتهم الجمهورية عنصرًا من العناصر الخمسة التي يقوم عليها بناء النظام الجديد.