المصلحُون والمعلِّمُون
السيد أحمد خان
تقدم أن النهضة الإسلامية في القرن التاسع عشر قد اتسعت لكل تجربة من تجارب الإصلاح: إصلاح بالعودة إلى القديم، وإصلاح بالتجديد، وإصلاح بإحياء الحماسة الدينية، وإصلاح بمجاراة الحضارة العصرية، ودعوات يقوم بها الثائرون وأخرى يقوم بها المتطهرون المعتكفون، وغير هذه وتلك دعوات يقوم بها المعلمون والمهذبون، وسنرى أن هذه الدعوات — دعوات المعلمين المهذبين — كانت ألزم دعوات الإصلاح، وأبقاها أثرًا، وأوفقها لكل زمان ومكان، وأبعدها من أن تضيع عبثًا كيفما كانت أحوال الأمم التي تنجم فيها، وتنمو بين ظهرانيها.
وقد ظهرت في أهم البيئات التي ينبغي أن تظهر فيها، وفي الزمن الذي ينبغي أن تظهر فيه.
ظهرت في الهند وفي مصر وفيما بينهما من بلاد الشرق الأوسط، وكان قادتها على هذا الترتيب الزماني: السيد أحمد خان الهندي، والسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري، وهو المصلح المخضرم بين عصر الجمود وعصر اليقظة والتقدم.
ولد السيد أحمد خان سنة ١٨١٧ بمدينة دلهي بالهند، ولا تزال للدولة المغولية بقية فيها، وكانت أسرته لأبيه وأمه من كبار المتصلين بها، وخاله فريد الدين أحد وزرائها، وقد أنعم عليه بهادر شاه — آخر ملوكها — بلقب «أستاذ الحرب» بعد وفاة والده، ولما يبلغ العشرين.
وكان التقليد المرعي بين مسلمي الهند مقاطعة الوظائف في ظل الحكم الإنجليزي، ولكن نشأة أحمد خان بين رجال الدولة رشحته لولاية الوظائف، فلم يرفض الوظيفة التي عرضت عليه في سلك القضاء.
وانفجرت ثورة الهند «١٨٥٧» وهو قاضٍ في بجنور، فحال جهده بين الثوار وقتل المسالمين والنساء، ولم يمنعه ذلك أن يؤلف كتابه في أسباب الثورة فيلقي تبعتها على الإدارة الإنجليزية، ويدحض ما قيل من تدبير هذه الثورة في بلاد الأفغان بإيعاز من الحكومة الروسية؛ «لأن أسبابها الوطنية كافية لنشوبها مغنية عن كل تدبير يتسلل إليها من خارج البلاد الهندية»، روي عن السيد أحمد خان، وهو طفل صغير، أنه دعي مع أنداده وأهليهم إلى بلاط بهادر شاه فنودي عليه مع التلاميذ الذين استدعاهم الملك لتشجيعهم ومكافأتهم فلم يجب، وتكرر النداء ولا جواب، ثم وجده رجال الحاشية منزويًا في مكان قريب، فسألوه: لِمَ لمْ تجب حين نودي باسمك بين زملائك، فلم يحجم أن يذكر السبب الصحيح، وهو أنه انتظر وطال انتظاره فاستسلم للنوم!
وضحك رجال الحاشية، وظنوا أنه سبب لا يقال في حضرة ملك، فلم يشأ الصبي الصغير أن يتلطف في الاعتذار، ويتعلل بسبب غير هذا السبب الصحيح.
ولم يتغير أحمد خان بعد أن جاوز الأربعين، فإنه كاشف أبناء قومه بعلة جمودهم، ولم يقبل قط أن يتملقهم، ويخفي عنهم أسباب قصورهم وعجزهم، وصارح الدولة الحاكمة بأسباب الثورة، وما يقع عليهم من تبعاتها، وصارح أبناء قومه بتبعاتهم، فكانت خلاصة هذه التبعات في رأيه أنهم «نائمون».
وقد وصف السيد أحمد خان بالأناة والحذر، وكاد المترجمون له أن يصفوه بالمبالغة في أناته وحذره، ولكنهم لو وصفوه بالإقدام أو الهجوم لوجدوا الدلائل على ذلك أظهر وأكثر من دلائل الأناة إن كان معنى الأناة أن يتخلف المستأني عن العمل في حينه، فما توانى أحمد خان عن مصارحة الإنجليز بتبعاتهم وعيوب إدارتهم، وما توانى عن مصارحة قومه بجمودهم وعجزهم ووسائل الخلاص من نكبتهم، وما توانى بعد ذلك عن مصارحة الهند كلها بتنظيم الحياة النيبابية فيها على النحو الذي يصلح لجميع أبنائها مع تعدد النحل وتفاوت النسبة في توزيع السكان، ولكنه كان يتأنى حين يخشى مغبة العجلة ولا يؤمن بجدواها، وكانت هذه الأناة منه أدل على الشجاعة من الهجوم السريع؛ لأنه كان يغضب بها أضعاف من يرضيهم بالتعجل في غير جدوى.
وقد عرف مكامن الضعف في قومه، ولم تخف عليه مكامن القوة في الدولة الغالبة على وطنه، فجزم بضرورة التعليم الحديث، ثم بدأ بإرسال ابنه إلى الجامعات الإنجليزية، واعتزم أن يصحبه إليه ليطلع بنفسه على حقائق الحضارة الأوروبية في بلادها، وقد لخصها في جوهرها أحسن تلخيص، فجمع حقائقها النافعة في كلمتين: وهما العلم والخلق، ورأى أن الشباب المسلم لا يكسب الخلق المتين بغير دين، فلخص برنامج الإصلاح عنده في الدين المستنير، وجعل شعاره كله كلمة واحدة يعيدها مرات وهي: علم، ثم علم، ثم علم، أو تعلم، ثم تعلم، ثم تعلم، بغير انقطاع عن التعلم أو التعليم.
ولما توفي وهو في الحادية والثمانين كان للمسلمين في الهند مدرسة كلية عالية ومدارس حديثة متفرقة، وكان لهم ما هو أهم من ذلك وألزم؛ وهو الوجهة المرسومة، ومعالم الطريق التي لا تخفى على ذي عينين، وقد خطا السيد أحمد خان هذه الخطوة التي أحجم عنها معاصروه؛ لأنهم لا يعرفونها ولا يجسرون عليها، فعرفها ولم يحجم عنها، وقال من قال: إنها لخطوة عظيمة واستصغرها آخرون، فقالوا: إنه قد أطال الأناة فيها، ولكنهم مجمعون على أنها هي الخطوة التي لا بد منها في البداءة، فلا تتأتى الخطوات التالية إلا بعد الإقدام عليها، وقد أقدم عليها، فاتبعه في الطريق من يؤثر العجلة ومن يؤثر الأناة.
جمال الدين
والمعلم الأكبر جمال الدين من أبناء الأقاليم الوسطى، بين الهند والبلاد العربية وبلاد الدول العثمانية، وكأنما شاءت العناية أن يولد حيث يتوسط العالم الإسلامي، ويتولى فيه دعوة الإصلاح والتعليم من أقصاه إلى أقصاه.
والقول المشهور إنه هو وآباؤه وأجداده من أبناء الأفغان، ويقال غير هذا إنه ولد بقرية «أسد أباد» في جوار همذان من بلاد فارس، ثم انتقل إلى الأفغان، وتعمد إخفاء نسبته الفارسية بعد أن تجرد لدعوة الإصلاح في العالم الإسلامي كافة، وتوقع من شاه العجم أن يطالب بتسليمه؛ لأنه من رعاياه، فضلًا عن غلبة المذاهب السنية على البلاد التي خاطبها بدعوته، ومنها بلاد الترك ومصر وسائر البلاد العربية.
إلا أنه لا خلاف في نشأته منذ صباه في بلاد الأفغان، وفيها تعلم الفقه على مذهب أبي حنيفة، ودرس علم الكلام وهو خلاصة الفلسفة الدينية، كما أحاط بالميسور من علوم الرياضة والهندسة في كتب الأقدمين، وكان في أخريات أيامه يعرف الفرنسية والتركية وقليلًا من الإنجليزية، عدا الفارسية والعربية التي كان يتكلم الفصيح منها بلهجة الفرس المستعربين.
وإذا لخصت رسالة جمال الدين في كلمتين فرسالته بالإيجاز هي «الجامعة الإسلامية»؛ ولكن الجامعة الإسلامية كما أرادها جمال الدين شيء غير الجامعة الإسلامية التي يراد بها توحيد الحكومات، وضمها جميعًا إلى حكومة واحدة، وإنما يتوقف فهم هذه الجامعة على مراجعة أحوال الأمم التي درج جمال الدين، وهو يستمع إلى أخبارها، ويشترك في شئونها، وهي بلاد الأفغان وإيران، وقبائل الترك ومن ورائهم دولة بني عثمان، ومن حولهم مطامع الاستعمار ودسائسه في أوج سلطان المستعمرين من البريطان والروس بعد اجتياحهم للهند، وأواسط آسيا بزمن قليل.
فقد فتح السيد عينيه على بلاد الأفغان وفارس، وهي على أعنف ما يكون من التنازع والبغضاء، وكانت حكومة الهند البريطانية تستغل الخلاف بين الأمتين في المذهب والخلاف بينهما على الحدود كما تستغل حاجتهما إلى المال والسلاح، فتغري إحداهما بالأخرى، وتبذل لها من مالها وسلاحها ما تقوى به على جارتها، وتشترط عليها ألا تعقد الصلح معها حتى تأذن لها، وإلا قطعت عنها المدد والمعونة، وكانت حكومة الهند لا تأذن بالصلح إلا أن تكون الدولة المغلوبة قد نزلت عن دعواها في الحدود الهندية.
وربما سكن القتال بين الأفغان والفرس على مقربة من الهند لينشب بين الفرس والترك من قبل العراق وبحر الخزر بإيعاز من الروس أو طلاب الرخص الاقتصادية، وينتهي القتال من هنا وهناك بغنيمة للإنجليز أو للروس، وخسارة على الأفغان والفرس والترك أجمعين.
وقد وضع جمال الدين يده على الداء كله حينما أدرك أن العلاج السريع لهذه المحنة إنما يبدأ بالتوفيق بين الأمم الإسلامية، وكف المطامع والدسائس عن بلادها، وكان يشق عليه كثيرًا أن يرى هذه الأمم كما قال: «متحدين على الخلاف مختلفين على الاتحاد مطاوعين للمستعمرين والمستغلين جادين في خدمتهم كأنها فريضة من فرائض الدين.»
فعقد عزيمته على رسالة واحدة يتحراها مدى الحياة، وهي حسم الخلاف بين الأمم الإسلامية، وإيصاد الأبواب على المستعمرين والمستغلين حتى تنقطع المطامع التي تسول لهم العدوان على الأمم الإسلامية، وإيقاع الفتنة والشقاق بين حكوماتها وطوائفها.
وهذه هي الجامعة الإسلامية كما أرادها جمال الدين، وفي سبيلها رحل إلى الهند وبلاد العرب والآستانة ومصر وروسيا وفرنسا وإنجلترا، وخرج من الهند مرة، على رواية مستر بلنت المستشرق الأيرلندي، قاصدًا إلى الولايات المتحدة ليتجنس بالجنسية الأمريكية ويستثير الأمريكيين على الإنجليز والروس، وكان قد سمع بمساعي الأمريكيين في الشرق الأقصى فخطر له أن يستخدمها في قضيته، ولكنه أقام أشهرًا في الولايات المتحدة على قول مستر بلنت، فعدل عن عزمه، ولم يتمم ما نواه من رحلته، ولعله عرف بالخبرة الواقعة أنه يعلق الرجاء حيث لا رجاء.
وقد خطر لجمال الدين يومًا أن يرسل تلميذه ومريده الشيخ محمد عبده إلى السودان؛ لتنظيم الثورة المهدية، وتحويلها إلى خدمة الجامعة الإسلامية، وخطر له في مصر أن يسقط الخديو إسماعيل، ويقيم فيها الجمهورية؛ بل خطر له أن يحرض على إسماعيل من يغتاله عسى أن يجد من خليفته توفيق مستمعًا لنصائحه ووصاياه.
وقد توسل جمال الدين في رسالته بكل وسيلة تملكها يداه، فأصدر في أوروبا صحيفة «العروة الوثقى» وصحيفة «ضياء الخافقين» وأنشأ في مصر محفلًا ماسونيًّا بعيدًا من سيطرة المحافل الأجنبية، وقيل: إنه ألف في مكة المكرمة جماعة «أم القرى» وهمَّ بالسفر إلى نجد لقيادة الحركة الوهابية، ولم يهدأ قط في حياته عن عمل مستطاع يحقق به رسالة الجامعة الإسلامية، واتهمه السلطان عبد الحميد بالعمل في الآستانة على استمال الخديو عباس الثاني إلى تنفيذ مساعيه يوم زارها في ضيافة السلطان.
ثم أصيب بالسرطان فمات به (سنة ١٨٩٧) وحظر السلطان الاحتفال بجنازته، فلم يشيعه إلى مقره الأخير غير آحاد معدودين، وفارق الحياة، ولم تتحقق مساعيه؛ لأنها أكبر من أن تحققها جهود جيل واحد، غير أنه أحسن بذر البذور فلم تمت في تربتها الصالحة، وحق لمترجمه أن يقول: إن تاريخ الشرق الإسلامي في ثوراته على الحكم المطلق وعلى مطامع الاستعمار والاستغلال لن ينفصل عن تاريخ الدين.
محمد عبده
هؤلاء المصلحون المعلمون الثلاثة نشئوا كنشأة الإخوة في أسرة واحدة: ولد السيد أحمد خان في سنة ١٨١٧، وولد السيد جمال الدين في سنة ١٨٣٩، وولد الشيخ محمد عبده ١٨٤٩، وكان بينهم من التخصص على غير قصد ما يشبه توزيع الوظائف في المهمة الواحدة؛ فتولى كل منهم عمله الذي يستطيعه حيث يستطاع، ولم يكن للعالم الإسلامي غنى عن واحد منهم في موضعه، أو في مهمته كما فرضتها عليه دواعي الإصلاح.
ولقب الشيخ محمد عبده بحق «الأستاذ الإمام»؛ لأن هذا اللقب يلخص رسالته في الإصلاح بين زميليه أحمد خان وجمال الدين.
فهو مصلح معلم كالسيد أحمد خان، ولكنه يزيد عليه بالإمامة الدينية التي لم يتهيأ لها السيد أحمد، ولم يرشح نفسه لها؛ بل قصر جهوده كلها على إيقاظ المسلمين، وتنبيههم إلى حاجتهم من العلم الحديث.
فالشيخ محمد عبده أستاذ إمام، ورسالته هي التعليم والإمامة في وقت واحد، وفحواها أنه خرج من تجاربه كلها بنتيجة واحدة وهي فساد الجو السياسي من حوله، فلم يبقَ له أمل في إصلاح المسلمين بالوسائل السياسية، وآمن برسالته «العلمية الدينية» كل الإيمان، فانصرف بعزيمته كلها إلى رفع الحجر عن العقول بإجازة الاجتهاد لمن يقدر عليه، وتفسير المسائل الدينية تفسيرًا يطابق العلم الحديث.
وتبدو هذه الكلمات سهلة هينة لمن يقرؤها في العصر الحاضر، ولكنه يعرف صعوبتها — بل خطرها — إذا عرف أن القول بدوران الأرض كان يعرض القائل به لتهمة الكفر والتواطؤ مع أعداء الدين على إفساده، وأن استخدام التليفون حرج شديد؛ لأنه قد يكون من آلات الشيطان، وأفاعيل السحرة «المتشيطنين».
وقد بدا للأستاذ الإمام عبث السياسة، وهو يعاون السيد جمال الدين في مساعيه الأوروبية، فكان يعاود له المشورة بتركها، والإقبال على تعليم المصلحين والمرشدين، وكان يقول له حينًا بعد حين: إننا إذا علمنا عشرة، وأرسلناهم في أرجاء العالم الإسلامي، فعلم كل منهم عشرة من مريديه أصبح في العالم الإسلامي مائة مرشد، فألف مرشد بعد ثلاثين أو أربعين سنة؛ وذلك أوثق وأوفق من عملنا الضائع بين الساسة والأمراء، وكان السيد جمال الدين يستمع إليه مرة، ويحتد في جوابه مرة أخرى فيقول له: إنك لمن المثبطين.
وقد بدأ الشيخ محمد عبده حياته بالتعليم بعد حصوله على درجة العالمية من الجامع الأزهر. فألقى بعض الدروس (سنة ١٨٧٩) في دار العلوم، ثم طاحت به شبهات السياسة، فأخرج منها، وألزم المقام بقريته «محلة نصر» بإقليم البحيرة، ثم أفرجت عنه وزارة رياض، ووكلت إليه الإشراف على تحرير الصحيفة الرسمية فأدركته الثورة العرابية وهو في تلك الوظيفة، وقد اشترك في الثورة حتى أفلت العنان من يديها، فأنف من خذلانها في أحرج مآزقها، وأصابه ما أصاب رجالها من عقوبات السجن والنفي إلى خارج البلاد، فاتخذ من النفي فرصة لنشر الدعوة إلى الحرية الفكرية، وضاق به المقام في بيروت، فلحق بأستاذه جمال الدين في باريس، وتعاونا معًا على إصدار صحيفة «العروة الوثقى» فلم تتم عشرين عددًا حتى ضربت حولها السدود في البلاد الإسلامية، فتعذر المضي في إصدارها، واختار الشيخ محمد عبده أن يشخص إلى تونس عسى أن يتسع لها فيها مجال العمل؛ لما كان بين الدولتين الفرنسية والإنجليزية يومئذ من التنافس على اجتذاب أقطاب المسلمين، فلم يلبث غير قليل حتى خاب ظنه، وأزمع الرحلة إلى بيروت ليقيم فيها مشتغلًا بالدراسات الأدبية، وفي هذه الفترة عكف على شرح نهج البلاغة ومقامات البديع، وترجم من الفارسية رسالة أستاذه جمال الدين في الرد على الدهريين.
ثم عفي عن المنفيين فعاد إلى القاهرة، وتولى القضاء قاضيًا، فمستشارًا بالمحكمة العليا، وشغله في وظيفته بالقضاء الأهلي أن ينظر في إصلاح المحاكم الشرعية، وفي تجديد نظام التعليم بالجامع الأزهر، فأشار بتأليف مجلس من المختصين يشرف على شئونه العلمية والإدارية، وندب للعمل في هذا المجلس عند تأليفه، ثم اختير لمنصب الإفتاء، فلم ينقطع في هذا المنصب عن إلقاء الدروس بالجامع الأزهر، وإصلاح التعليم فيه.
واستفاضت شهرة الشيخ في العالم الإسلامي من تخوم الصين ومراكش إلى إفريقية الجنوبية، واعتمد عليه المسلمون في استجازة ما يجوز وتحريم ما يحرم، وهم بين الحضارة الحديثة وجمود الجامدين حائرون فيما يأخذون وما يدعونه من أمور الدنيا والدين، ويدل على استفاضة هذه الشهرة فتوى «الترنسفال» التي أقامت الدنيا وأقعدتها عدة شهور؛ لأنه أفتى فيها بتحليل طعام أهل الكتاب ولبس ملابسهم، كما أفتى بالإجازة في أمر صناديق التوفير توضيحًا للمقصود من تحريم الربا المضاعف بنص القرآن الكريم، وقد كانت الأسئلة تتقاطر على «المفتي» من أرجاء العالم الإسلامي، فيبادر إلى الإجابة عنها على ما في الجواب أحيانًا من العنت والاصطدام بجهالة الجامدين ومنافعهم الموروثة في كل قطر من أقطار المشرق والمغرب، ولا يغلو من يقول إنه فارق الدنيا — وهو في الخامسة والخمسين من عمره — وله في كل بلد إسلامي دليل ينير الطريق من فتاواه ودروسه وسيرته التي ارتفع بها مكانًا عاليًا من النزاهة النادرة والخلق المتين.