ذو الشفة الملتوية
كان عيسى ويتني، شقيق الراحل إلياس ويتني الحاصل على دكتوراه في علم اللاهوت ومدير كلية سان جورج للاهوت، مدمنًا بشدة للأفيون. وقد أصبح معتادًا على هذه العادة، كما أفهم، عن طريق أحد الحمقى المهووسين عندما كان في الكلية؛ فبعدما قرأ وصف دي كوينسي لأحلامه وأحاسيسه، كان يغمس تبغه في صبغة الأفيون في محاولة منه للحصول على نفس التأثيرات. وجد، مثل أناس كثيرين، أن ممارسة هذه العادة أسهل من التخلص منها، فظل لسنوات عديدة عبدًا لهذه المادة المُخدِّرة، وأصبح يثير خليطًا من الرعب والشفقة لدى أصدقائه وأقاربه. بوسعي الآن أن أراه، بوجهٍ مصفرٍّ شاحب وجفنَين مرتخيَين وبؤبؤَين كرأس الدبُّوس، يجلس منكمشًا على نفسه في أحد المقاعد؛ حُطام رجلٍ نبيلٍ.
في إحدى ليالي شهر يونيو عام ١٨٨٩، دقَّ جرس باب منزلي في الوقت الذي يبدأ فيه الناس بالتثاؤب، فيلقون نظرة سريعة على الساعة استعدادًا للنوم. كنت جالسًا على مقعدي، بينما وضعت زوجتي أدوات شُغْل الإبرة في حجرها وبدا على وجهها قليلٌ من خيبة الأمل.
قالت: «إنه أحد المرضى! سيكون عليك أن تخرج.»
تأوَّهت متأففًا؛ إذ إنني لم ألبث أن عدت إلى المنزل بعد يومٍ مُرهِقٍ.
سمعنا باب المنزل يُفتَح، وبعض الكلمات السريعة، ثم وَقْع خطوات سريعة على مشمع الأرضية. فُتِحَ بابنا على مصراعيه، ودخلت الغرفة سيدة ترتدي بعض الملابس الداكنة ووشاحًا أسود.
استهلَّت حديثها قائلة: «أعتذر عن الحضور في هذا الوقت المتأخر.» وفجأة، فقدت السيطرة على نفسها وهُرعَت إلى الأمام، وألقت بذراعَيها حول رقبة زوجتي وبكت على كتفها. قالت، وهي تبكي: «أوه، إنني في مشكلة كبيرة! أنا في أشد الحاجة إلى المساعدة.»
قالت زوجتي، وهي تُهَندِمُ وشاح السيدة: «يا إلهي! إنها كيت ويتني! كم أفزعتِني يا كيت! لم تكن لديَّ أدنى فكرة عمَّن كنتِ حينما دخلتِ الغرفة.»
«لم أكن أعرف ما يجب عليَّ فعله؛ لذا جئت إليكِ مباشرةً.» كان ذلك ما يحدث دائمًا؛ فكل مَن يُعانون فاجعةً يأتون لزوجتي، كما تلجأ الطيور إلى الفنار.
«أهلًا بكِ في أي وقت. والآن، لا بد أن تحتسي بعض النبيذ والماء، وتجلسي هنا مرتاحة، وتخبرينا بكل شيء ألَمَّ بكِ. أم تفضلين أن أطلب من جيمس الذهاب إلى الفراش؟»
«أوه، لا، لا! أرغب في نصيحة الطبيب ومساعدته أيضًا؛ فالأمر يخصُّ عيسى؛ فهو لم يعد إلى المنزل منذ يومين، وأنا شديدة الخوف عليه!»
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها إلينا عن مشكلة زوجها؛ إليَّ بصفتي طبيبًا، وإلى زوجتي باعتبارها صديقة قديمة وزميلة دراسة. هدَّأنا من رَوْعها، وحاولنا أن نطمئنها بقدر ما أمكننا من كلمات. فهل كانت تعرف مكان زوجها؟ وهل كان من الممكن أن نعيده إليها؟
بدا هذا ممكنًا؛ إذ كان لديها معلومات أكيدة أنه في الآونة الأخيرة كان يرتاد أحد أوكار الأفيون في أقصى شرق مدينة لندن عندما كانت تشتد عليه النوبة. حتى ذلك الوقت، كان انغماسه المفرط في تدخين الأفيون مقتصرًا على يوم واحد في الأسبوع، وكان يعود في المساء مرتعشًا وفي حالة يُرثَى لها. لكن النوبة صارت تأتيه كل ثمانٍ وأربعين ساعة؛ ولذا، فهو كان يرقد هناك بلا شك وسط قاذوراتِ أحواض السفن يُدخِّن تلك المادة السامة أو يَغِطُّ في النوم حتى يزول أثرها. لا بد أنَّه موجودٌ هناك، كانت متأكدة من ذلك، في حانة جولد في زقاق أبَر سواندَم لين. ولكن ما الذي كان يتوجب عليها فعله؟ كيف يمكن لامرأة شابة وخجولة أن تدخل مكانًا كهذا وتُخرِج زوجها من وسط الهَمَج الذين يحيطون به من كل جانب؟!
كان ذلك هو الحال، وبالطبع لم يكن ثمة طريقة للتعامل مع الأمر سوى طريقة واحدة. هل من الممكن أن أصطحبها إلى هذا المكان؟ وبعد إعادة التفكير، لماذا يتعيَّن أن تأتي معي من الأساس؟ لقد كنت المستشار الطبي لعيسى ويتني؛ ومن ثَمَّ كان لي تأثير عليه. يمكنني تدبُّر الأمر بصورة أفضل إذا كنت وحدي. قطعت لها وعدًا بأنني سأُعيده إلى المنزل في عربة أجرة في غضون ساعتَين إن كان موجودًا بالفعل في العنوان الذي أعطتني إياه. وهكذا، بعد عشر دقائق كنت قد تركت ورائي مقعدي وغرفة جلوسي المبهجة، مهرولًا نحو الشرق في عربة أجرة في مهمة غريبة، كما بدت لي في ذلك الوقت، ولكن المستقبل وحده كان كفيلًا أن يبيِّن مدى غرابتها.
ولكن لم يكن ثمة صعوبة كبيرة في أول مرحلة من مغامرتي. أبَر سواندَم لين عبارة عن زُقاق حقير يقبع خلف أرصفة الميناء العالية التي تحُدُّ الجانب الشمالي من النهر حتى شرق جسر لندن. بين محل لبيع الملابس الرخيصة وآخر لبيع نبيذ الجِن، تصل إليهما عبر مجموعة من السلالم المنحدرة التي تقود إلى أسفل نحو فجوة سوداء تشبه مدخل مغارة، وجدتُ الحانة التي كنت أبحث عنها. وبعد أن طلبت من عربة الأجرة أن تنتظرني، نزلتُ درجات السُّلَّم، التي أبلاها من المنتصف وطءٌ لا يتوقف لأقدام سكارى، وعلى ضوءٍ متذبذب لمصباح زيتي موجود فوق الباب، وجدتُ المِزلاج وشققت طريقي داخل غرفة طويلة ومنخفضة مُفعَمة بدخان الأفيون الثقيل الكثيف بنيِّ اللون، ومزوَّدةٍ بأسِرَّةٍ خشبيةٍ مثبتة كالموجودة أعلى مقدِّمة سفن المهاجرين.
يمكن للمرء أن يلمح بالكاد عبر الظلام أجسادًا مستلقية في أوضاعٍ غريبة وغير عادية؛ أكتافًا منحنية، وركبًا مثنية، ورءوسًا ملقاة إلى الوراء، وذقونًا متجهة إلى الأعلى. وهنا وهناك، عيون داكنة قد انطفأ بريقها تلتفت نحو الوافد الجديد. ومن بين الظلال السوداء، لمعت دوائر صغيرة من الضوء الأحمر، الذي يسطع ثم يخفت، بينما كان السُّمُّ المشتعل يتمدَّد وينكمش داخل تجاويف الغلايين المعدنية. كان أغلبهم مستلقين صامتين، ولكن البعض كانوا يتمتمون مخاطبين أنفسهم، بينما تحدَّث آخرون بعضهم مع بعض بصوت غريب منخفض ورتيب، وكان حديثهم يأتي متدفِّقًا، ثم يخفت فجأة حتى يعُمَّ الصمت، ويصير كل واحد منهم مغمغمًا بأفكاره ولا يكترث كثيرًا بكلام مَن يجاوره. في أقصى نهاية الغرفة، كان هناك موقد صغير يحوي فحمًا محترقًا، وبجانبه، على مقعد خشبي ذي ثلاث أَرْجُل، كان يجلس رجل عجوز طويل رفيع يسند فكَّيه على كفَّيه ومرفقَيه على ركبتَيه، محدِّقًا في النار.
لدى دخولي، هُرِع نحوي خادم شاحب من الملايو، وهو يحمل لي غليونًا وكمية من المُخدِّر، مشيرًا نحو سرير فارغ.
فقلت: «شكرًا لك، لم آتِ بهدف البقاء؛ فأحد أصدقائي موجودٌ هنا، إنه السيد عيسى ويتني، وأرغب في التحدث إليه.»
كان ثمة حركة وصوت هتاف عن يميني، ونظرتُ عبر الظلام، فرأيتُ ويتني شاحبًا هزيلًا أشعثَ يُحدِّق بي.
قال: «يا إلهي! إنه واطسون!» كان في حالة يُرثَى لها؛ فقد كانت كل أعصابه ترتعش، وأضاف: «كم الساعة يا واطسون؟»
«الحادية عشرة تقريبًا.»
«من أيِّ يوم؟»
«الجمعة، التاسع عشر من يونيو.»
«يا إلهي! كنت أظن أنه الأربعاء! إنه الأربعاء. لِمَ تريد تخويفي؟» دفن وجهه في ذراعيه وبدأ ينشج بصوتٍ حادٍّ مرتفع.
«قلتُ لك إنه يوم الجمعة يا رجل. إن زوجتك تنتظرك طوال هذَين اليومَين، ينبغي أن تخجل من نفسك!»
«أنا خجلان بالفعل. ولكن الأمر قد اختلط عليك يا واطسون؛ فأنا لم أقضِ هنا سوى بضع ساعات، ولم أدخِّن سوى ثلاثة أو أربعة غلايين — نسيت كم بالضبط. ولكنني سأعود معك إلى المنزل. لن أُخيف كيت، كيت الصغيرة المسكينة. أعطني يدك! هل لديك عربة أجرة؟»
«أجل، لديَّ واحدة تنتظرني.»
«إذن سأذهب فيها، ولكن لا بد أنني أدين ببعض المال للحانة. اسألهم بكم أدين لهم يا واطسون، فأنا متوعِّك ولا يمكنني أن أفعل شيئًا بنفسي.»
مشيتُ عبر الممر الضيِّق بين الصف المزدوج من النائمين، وأنا أحبس أنفاسي حتى لا أستنشق الأبخرة الكريهة المُخدِّرة للأفيون، وأنظر حولي باحثًا عن المدير. وبينما كنت أمرُّ بالرجل الطويل الذي كان يجلس بالقرب من الموقد، شعرت بشدٍّ مفاجئ في ذيل سترتي، وصوت خفيض يهمس: «مُرَّ من أمامي، ثم استدِرْ وانظر لي مرة أخرى.» وقعت الكلمات على مسامعي بوضوح تام، فنظرت إلى أسفل سريعًا. لا يمكن أن تكون هذه الكلمات قد أتت سوى من العجوز الذي إلى جانبي، والذي جلس الآن في شدة الاستغراق، شديد النحول، مليئًا بالتجاعيد منحنيًا بفعل تقدُّم العمر، يتدلَّى من بين ركبتَيه غليون أفيون وكأنه وقع من بين أصابعه في محض تكاسل. تقدَّمت خطوتَين إلى الأمام ونظرت إلى الخلف. احتجتُ إلى استجماع كل ما أملكه من مهارات ضبط النفس؛ لأمنع نفسي من إطلاق صيحة ذهول. كان العجوز قد أدار ظهره حتى لا يتمكن أي شخص سواي من رؤيته، وقد امتلأت هيئته واختفت تجاعيده، واستعادت عيناه الذابلتان توهجهما. لم يكن ذلك الرجل الذي كان جالسًا هناك بجوار نار الموقد ويبتسم ابتسامة عريضة لِما بدا عليَّ من دهشة — سوى شيرلوك هولمز. أومأ لي بحركة خفيفة لأقترب منه، وعلى الفور، عندما أدار وجهه نصف استدارة نحو الجمع مرة أخرى، انغمس في الارتعاش والثرثرة بلا لجام كمَن أعيته الشيخوخة.
همست له قائلًا: «هولمز! بحق الرب، ما الذي تفعله في هذا الوكر؟»
فأجاب قائلًا: «اخفض صوتك بقدر ما تستطيع، فلديَّ حاسة سمع ممتازة. إن تفضَّلت بالتخلص من صديقك المدمن هذا، فسيسعدني غاية السعادة أن أتحدث معك قليلًا.»
«لديَّ عربة أجرة تنتظرني بالخارج.»
«إذن أرجوك أن ترسله إلى المنزل فيها. يمكنك أن تثق به دون خوف؛ فهو يبدو أضعف من أن ينخرط في أي متاعب. كما أقترح أيضًا أن ترسل إلى زوجتك رسالة موجزة مع سائق عربة الأجرة تخبرها فيها بأنك قد انضممت إليَّ. إن انتظرتني بالخارج؛ فسأقابلك في غضون خمس دقائق.»
كان من الصعب أن أرفض أيَّ طلب من طلبات شيرلوك هولمز؛ لأنها دائمًا ما تكون بالغة التحديد وقاطعة ويطرحها مغلَّفة بتلك اللهجة الآمرة بعض الشيء. شعرت، مع ذلك، أنني سأُتمُّ مهمتي بمجرد وضع ويتني في عربة الأجرة، أما فيما يتعلق بالباقي، فلم أكن لأتمنى شيئًا أفضل من أن أكون مع صديقي شيرلوك في واحدة من تلك المغامرات الفريدة التي كانت الوضع الطبيعي لحياته. في غضون دقائق كنت قد كتبت رسالتي ودفعت فاتورة ويتني وقُدْتُه خارجًا إلى عربة الأجرة، ورأيته وهو يرحل في العربة في جُنح الظلام. وبعد وقتٍ قصير، ظهر رجل توحي هيئته بالهرم خارجًا من وكر الأفيون، وكان هذا الرجل هو شيرلوك هولمز. سار متثاقلًا بظهرٍ منحنٍ وخطوات مترددة شارعَين. ثم، وهو يُلقي نظرة سريعة على ما حوله، عَدَّلَ هيئته وانفجر في نوبة ضحك شديدة.
قال: «أظنك يا واطسون تتخيَّل أنني قد أضفت تدخين الأفيون إلى حقن الكوكايين التي أستخدمها، وجميع مواطن الضعف الصغيرة الأخرى التي قد تفضَّلت بإعطائي رأيك الطبي فيها.»
«لقد فوجئت بوجودك هناك بلا شك.»
«لكن ليس أكثر مما فوجئت أنا بوجودك هناك.»
«جئتُ للعثور على صديق.»
«وأنا جئتُ للعثور على عدوٍّ.»
«عدو؟!»
«أجل؛ أحد أعدائي الطبيعيين، أو، يجدر بي أن أقول، فريستي الطبيعية. باختصار يا واطسون، أنا في خِضَمِّ تحقيق استثنائي بحق، وكنت آملُ أن أجد دليلًا وسط الثرثرة غير المترابطة لهؤلاء المدمنين، كما فعلتُ من قبل. لو كان أحدهم قد تعرَّف عليَّ في ذلك الوكر، لكان سرعان ما سيُقضى عليَّ؛ فقد كنتُ أستخدمه من قبل لأغراضي الخاصة، ولقد أقسم البحَّار الهندي الوغد الذي يديره على الانتقام مني. يوجد في مؤخرة ذلك المبنى، بالقرب من كنيسة بول وارف، بابٌ مسحورٌ يمكن أن يحكي قصصًا غريبة عمَّن مروا عبره في الليالي الحالكة.»
«ماذا! أتقصد جثثًا؟»
«أجل، جثث يا واطسون. كنا سنصير أغنياء لو كنا قد تقاضينا ألف جنيه إسترليني مقابل كل ملعون بائس قُتِلَ في ذلك الوكر. إنه أشنع فخ لجرائم القتل على ضفة النهر بأكملها، وأخشى أن يكون نيفيل سانت كلير قد دخله ولم يخرج منه حيًّا أبدًا. أعتقد أن عربتنا لا بد أن تكون هنا.» وضع سبابتَيه بين أسنانه وأطلق صفيرًا حادًّا؛ وهي إشارة أُجيبت بصافرةٍ مشابهةٍ من بعيد، وتبعها بعد وقت قصير صوت قعقعة عجلات وصليل حوافر حصان.
قال هولمز، بينما كانت عربة يجرُّها حصان تندفع مخترقةً الظلام، طارحةً شعاعَين ذهبيَّين من الضوء الأصفر من فوانيسها الجانبية: «والآن يا واطسون، ستأتي معي، أليس كذلك؟»
«إن كان لي نفعٌ.»
«أوه، دائمًا ما يكون الصاحب الموثوق ذا نفع؛ والأهم من ذلك أنه يؤرِّخ الأحداث. غرفتي في «ذا سيدارز» بها سرير مزدوج.»
««ذا سيدارز»؟»
«أجل؛ إنه منزل السيد سانت كلير. إنني أقيم هناك أثناء إجراء التحقيق.»
«أين هو إذن؟»
«بالقرب من «لي» في مقاطعة كينت. أمامنا سبعة أميال سنقطعها بالعربة.»
«ولكنني لا أعلم أي شيء عن الأمر.»
«صحيح. ستعرف كل شيء حالًا. اصعد إلى هنا. حسنًا يا جون، لن نحتاجك. إليك نصف كراون. انتظرني غدًا في حوالي الحادية عشرة. انزل من العربة. إلى اللقاء إذن!»
نكز الحصان بسوطه، فانطلقنا عبر سلسلة لا تنتهي من الشوارع الكئيبة والمهجورة، التي اتسعت شيئًا فشيئًا حتى صرنا ننطلق بسرعة شديدة عبر جسر واسع مُسَوَّر ويتدفَّق تحتنا بتؤدة النهرُ القاتم. بعد ذلك، مررنا بمنطقة كئيبة أخرى من المباني، لم يكسر سكونها سوى وقع الأقدام الثقيلة المنتظمة لأحد رجال الشرطة، أو صوت أغانٍ وصيحات يأتي من بعض مَن يحتفلون في وقتٍ متأخر من العرابيد. وكانت مجموعة من السُّحُب الثقيلة تنجرف ببطء عبر السماء، وتلألأت نجمة أو اثنتان بخفوتٍ هنا وهناك في الفراغات الموجودة بين السُّحُب. قاد هولمز العربة في صمت، ورأسه منخفض على صدره، وكان يبدو في هيئة رجل غارق في خِضَمِّ الأفكار، بينما جلستُ بجانبه، لديَّ فضول لمعرفة طبيعة مغامرته الجديدة التي بدا أنها تستنزف قواه بشدة، ولكنني كنت أخشى أن أقطع حبل أفكاره. كنَّا قد قطعنا عدَّة أميال، وبدأنا نقترب من حدود حزام من منازل الضواحي، عندما انتفض هولمز، وهزَّ كتفيه، وأشعل غليونه بطريقة رجل قد أقنع نفسه أنه يفعل ما فيه الصالح.
كسر الصمت قائلًا: «إنك تنعم بهِبَة الصمت يا واطسون، وهو ما يجعلك رفيقًا لا يُقدَّر بثمن. في واقع الأمر، إنه يمثِّل لي أمرًا عظيمًا أن يكون لديَّ مَن أتحدث إليه، فأفكاري لا تبعث على كثير من السرور. كنت أسأل نفسي عمَّا يتعيَّن قوله لهذه المرأة العزيزة المسكينة الليلة عندما تستقبلني لدى الباب.»
«لقد نسيتَ أنني لا أعرف شيئًا عن الأمر.»
«سيكون لديَّ وقتٌ لأُطلعَك على الحقائق الخاصة بالقضية قبل أن نصل إلى منطقة «لي». يبدو الأمر بسيطًا بنحو سخيف، ومع ذلك، بطريقة ما، لا يمكنني أن أضع يدي على شيء لأبدأ منه. يوجد الكثير من الخيوط بلا شك، ولكن لا يمكنني وضع يدي على نهايتها. والآن سأوضِّح لك القضية بوضوح ودِقَّة يا واطسون، وربما يكون باستطاعتك أن ترى بارقة أمل فيما أراه مَحْض ظلام.»
«تفضَّل إذن.»
«منذ بضع سنوات، ولأكون أكثر تحديدًا، في شهر مايو من عام ١٨٨٤، أتى إلى «لي» سيد نبيل يُدعَى نيفيل سانت كلير، والذي كان يبدو أن لديه الكثير من المال. اشترى منزلًا ضخمًا، وجهزه على نحو رائع، وكان يعيش حياة رغدة عمومًا. تدريجيًّا، كوَّن صداقات في الحي الذي يعيش فيه، وفي عام ١٨٨٧ تزوَّج من ابنة صانع خمور محلي، ولديه منها الآن طفلان. لم يكن لديه مهنة، ولكنه كان مساهمًا بالعديد من الشركات، وكان يذهب دائمًا في كل صباح إلى المدينة، ويعود بحلول الساعة الخامسة وأربع عشرة دقيقة من شارع كانون كل ليلة. يبلغ السيد سانت كلير من العمر الآن سبعة وثلاثين عامًا، وهو رجل ذو عادات معتدلة، وزوج صالح، وأب حنون للغاية، ويتمتع بسمعة طيبة بين كل مَن يعرفونه. يمكنني أن أضيف أن ديونه في الوقت الحالي، بقدر ما استطعنا التأكُّد، تصل إلى ٨٨ جنيهًا إسترلينيًّا وعشرة بنسات، بينما يمتلك ٢٢٠ جنيهًا إسترلينيًّا رصيدًا قائمًا في حسابه ببنك كابيتال آند كاونتيز؛ لذا لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بوجود مشاكل مالية تُثقِل كاهله.
يوم الإثنين الماضي ذهب السيد نيفيل سانت كلير إلى المدينة في وقت أبكر إلى حدٍّ ما من المعتاد، منوِّهًا قبل ذهابه إلى أن لديه مهمتَين هامتَين عليه القيام بهما، وأنه سيُحضر لابنه الصغير صندوق مكعبات عند عودته. وعلى الفور، وبمحض الصدفة، تلقَّت زوجته برقية في نفس هذا اليوم، الإثنين، بعد وقتٍ قصير جدًّا من مغادرته، تفيد بأن الطرد الصغير القَيِّم الذي كانت تنتظره موجودٌ في مكتب شركة أبردين للشحن. في الواقع، إن كنت تعرف لندن جيِّدًا، فستعلم أن مكتب الشركة يقع في شارع فريسنو الذي يتفرَّع من زقاق أبَر سواندَم لين الذي وجدتني فيه الليلة. تناولت السيدة سانت كلير غداءها وتوجَّهت إلى المدينة وتسوَّقت قليلًا، ثم اتجهت إلى مكتب الشركة، واستلمت الطرد، ووجدت نفسها تسير عبر زقاق أبَر سواندَم لين في تمام الساعة الرابعة وخمس وثلاثين دقيقة في طريقها للعودة إلى المحطة. هل تتابعني حتى الآن؟»
«أجل، الأمر شديد الوضوح.»
«قد كان يوم الإثنين شديد الحرارة، لو كنت تذكر، وكانت السيدة سانت كلير تمشي ببطء وهي تنظر حولها على أمل أن تجد عربة أجرة؛ إذ إنها لم تحبَّ الحي الذي وجدت نفسها فيه. وبينما كانت تمشي في هذا الطريق عبر زقاق أبر سواندَم لين، سمعت فجأةً صيحةً أو صراخًا، وصُعقَت عندما رأت زوجها ينظر نحوها ويشير إليها، كما بدا لها، من نافذة بالطابق الثاني. كانت النافذة مفتوحة، ورأت وجهه بوضوح، والذي وصفته بأنه كان مضطربًا اضطرابًا رهيبًا. لوَّح لها بيدَيه بنحو محموم، ثم اختفى من النافذة فجأةً حتى بدا لها وكأن قوًى خفية لا تُقاوَم قد ابتلعته من الخلف. استرعت نقطةٌ فريدةٌ انتباه عينَيها الأنثوية اللمَّاحة؛ وهي أنه على الرغم من أنه كان يرتدي معطفًا داكنًا كالذي كان يرتديه وهو في طريقه إلى المدينة، فلم يكن يرتدي ياقةً ولا ربطة عُنق.
مقتنعة تمام الاقتناع أنه كان ثمة خطب ألَمَّ به، هُرعَت زوجته نزولًا على درجات السُّلَّم، نحو المنزل الذي لم يكن سوى وكر الأفيون الذي وَجَدْتَني فيه الليلة، ورَكَضَت عبر الغرفة الأمامية محاولةً صعود السُّلَّم الذي يقود إلى الدور الأول. إلا أنها قابلت أسفل الدَّرَج البحَّار الهندي الوغد الذي حدَّثْتُك عنه، الذي دفعها إلى الخلف، وبمعاونة دنماركي يعمل مساعدًا هناك، دفعها خارجًا إلى الشارع. هُرعَت في الطريق، تملؤها الشكوك والمخاوف الجنونية، وبحَظٍّ جيد نادر، التقت في شارع فريسنو بعدد من أفراد الشرطة بصحبة مفتش، في طريقهم إلى مكان دَوْرِيَّتِهم. رافقها المفتش ورجلان راجعِين إلى الحانة، وعلى الرغم من مقاومة المالك الشديدة، فقد شقُّوا طريقهم نحو الغرفة التي شوهد فيها السيد سانت كلير آخر مرة. لم يكن ثمة أثر له. في الواقع، لم يكن هناك أي شخص في ذلك الطابق بأكمله إلا صعلوك كسيح ذو مظهر قبيح بدا وكأنه قد اتخذ ذلك المكان بيتًا. أقسم كلٌّ من البحَّار الهندي والصعلوك بإصرار شديد أنه لم يكن هناك أي شخص آخر موجود في الغرفة الأمامية خلال فترة ما بعد الظهر. كان إصرارهما على الإنكار شديدًا حتى إن المفتش كان مذهولًا، وكان قد أوشك على تصديق أن السيدة سانت كلير كانت واهمة، وعندئذٍ صرخت مهرولةً نحو صندوق صغير مصنوع من الخشب موضوع على الطاولة وأزاحت عنه الغطاء؛ فسقطت منه مجموعة متتابعة من المكعبات، والتي كانت اللعبة التي كان سانت كلير قد وعد أن يحضرها للبيت.
هذا الكشف، بالإضافة إلى الارتباك الواضح الذي بدا على الصعلوك الكسيح، جعلا المفتش يدرك أن الأمر خطير. فُتِّشَت الغُرَف بحرص، وأشارت جميع النتائج إلى جريمة نكراء. كانت الغرفة الأمامية مفروشة بأثاثٍ بسيط كغرفة جلوس وتقود إلى غرفة نوم صغيرة تُطلُّ على الجزء الخلفي لأحد أرصفة الميناء. وبين رصيف الميناء ونافذة غرفة النوم يوجد لسان ضيِّق يصبح جافًّا في وقت الجَزْر ومغطًى بالماء وقت المَدِّ بارتفاع أربعة أقدام ونصف القدم على الأقل، وكانت نافذة غرفة النوم واسعة ومفتوحة من الأسفل. بالفحص، شوهِدت آثار دماء على حافة النافذة، وعدَّة قطرات متفرقة كانت واضحة على الأرضية الخشبية لغرفة النوم. كانت جميع ملابس السيد نيفيل سانت كلير، عدا معطفه، مُلقاة خلف ستارة في الغرفة الأمامية. فحذاؤه وجواربه وقُبَّعته وساعته؛ كانت جميعها موجودةً هناك. لم يكن ثمة أي علامات عنف على أيٍّ من هذه الملابس، ولم يوجد أي أثر آخر للسيد نيفيل سانت كلير. لا بد أنه قد خرج من النافذة كما هو واضح؛ إذ لم يكن هناك أي مخرج آخر يمكن اكتشافه، ولم تُعطِ بقعُ الدماء المشئومة الموجودة على حافة النافذة سوى القليل من الأمل في أن يكون قد تمكَّن من إنقاذ حياته بالسباحة؛ لأن المَدَّ كان في أعلى مستوياته لحظة وقوع تلك المأساة.
لنتحدث الآن عن الشريريْنِ اللذين بدا أنهما متورِّطان تورُّطًا مباشرًا في الأمر؛ فقد كان البحَّار الهندي معروفًا بأنه رجلٌ ذو سوابق شنيعة، ولكن كَوْنه، طبقًا لرواية السيدة سانت كلير، كان موجودًا أسفل السُّلَّم في غضونِ ثوانٍ قليلة من ظهور زوجها عند النافذة، فقد كان من الصعب أن يكون أكثر من شريك في الجريمة. كان دفاعه قائمًا على الجهل التام، واعترض مؤكِّدًا أنه لم يكن لديه أي علم بأفعال نزيله هيو بون، وأنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال تفسير وجود ملابس السيد سانت كلير المفقود.
تحدَّثنا بما فيه الكفاية عن البحار الهندي الذي يُدير الحانة. والآن دعنا نتحدَّث عن الكسيح المشئوم الذي يعيش في الطابق الثاني من وكر الأفيون، والذي كان بالتأكيد آخر إنسان وقعت عيناه على نيفيل سانت كلير. اسمه هيو بون، ووجهه البشع مألوف لكل مَن يذهب إلى المدينة كثيرًا. إنه متسولٌ محترف، وإن كان يتظاهر بأنه يدير تجارة صغيرة ببيع عُلَب أعواد الثقاب الشمعية؛ ليتجنب قوانين الشرطة. بعد أن تقطع مسافة قصيرة في شارع ثريدنييدل، ستجد زاوية صغيرة في الجدار على الجانب الأيسر، إن كنتَ قد لاحظتَ. وفي هذا المكان يجلس هذا المخلوق القرفصاء كل يوم واضعًا مخزونه الصغير من علب أعواد الثقاب على حِجرِه، فيستدرُّ مظهرُهُ المثيرُ للشفقة العطفَ، وتتجمع حفنة قليلة من الصدقات كمطر خفيف داخل قبعته الجلدية المُشحَّمة التي يضعها على الرصيف بجانبه. لقد راقبتُ هذا الرجل أكثر من مرة قبل أن أفكر في التعرُّف عليه بنحو مِهني، وقد فوجئتُ بالمال الذي حصده في وقت قصير. فمظهره، كما ترى، مميزٌ للغاية بحيث لا يمكن أن يمر به أحد دون ملاحظته. كُتلة من الشعر البرتقالي الفاقع؛ ووجه شاحب تُشوِّهه نَدَبة مروعة، والتي نتج عن انكماشها رَفْعُ الحافة الخارجية لشَفَتِه العلوية، وذقن متدلٍّ كذقن كلب البُلدوج، وزَوْج من العيون الداكنة الثاقبة اللتَين تتناقضان تناقضًا فريدًا مع لون شعره، كل ذلك يميِّزه وسط الحشد العادي للمتسولين، كما تميِّزه فطنته عنهم؛ فهو جاهزٌ دائمًا بردٍّ على أيِّ مزحة ساخرة قد يلقيها على مسامعه أيٌّ من المارة. هذا الرجل هو الذي نعلم الآن أنه كان النزيل في وكر الأفيون، وأنه كان آخر مَن رأى السيد سانت كلير الذي نبحث عنه.»
تساءلتُ قائلًا: «ولكنه كسيح! فما الذي كان بمقدوره فعله بمفرده في مواجهة رجل في مقتبل العمر؟»
«إنه كسيحٌ بمعنى أنه يعرج في مشيته؛ ولكنه من النواحي الأخرى يبدو رجلًا قويًّا يتمتع بصحة جيدة. بالتأكيد ستخبرك خبرتك الطبية يا واطسون أن ضَعْف أحد الأطراف غالبًا ما تعوِّضه قوة استثنائية في الأطراف الأخرى.»
«واصِلْ سرد قصتك أرجوك.»
«فقدت السيدة سانت كلير وَعْيها عند رؤية الدماء على النافذة، ورافقتها الشرطة إلى منزلها في عربة أجرة؛ نظرًا لأن وجودها لم يكن ليساعدهم في تحقيقاتهم. فحص المفتش بارتون، الذي كان مسئولًا عن القضية، المبنى فحصًا دقيقًا، ولكن دون أن يجد أي شيء يمكن أن يساعد في حل اللغز. لقد وقعوا في خطأ واحد، ألا وهو أنهم لم يلقوا القبض فورًا على بون؛ إذ أُتيح له بضع دقائق قد يكون خلالها قد تواصل مع صديقه البحَّار الهندي، ولكن سرعان ما تلافوا هذا الخطأ، فضبطوه وفتَّشوه دون العثور على أي شيء يمكن أن يُجَرِّمه. صحيح أنه كان يوجد بعض بقع الدماء على كُمِّ قميصه الأيمن، إلا أنه أشار إلى بِنصَرِهِ الذي كان مجروحًا بالقرب من الظُّفر، وأوضح أن النزيف يأتي من هذا الجرح، مضيفًا إلى أنه قد توجَّه إلى النافذة قبل وقتٍ قصيرٍ، وأن بقع الدماء التي لوحظت هناك قد كانت بلا شك من نفس المصدر. كما نفى بشدة أنه رأى السيد نيفيل سانت كلير، وأقسم أن وجود ملابس سانت كلير في غرفته كان لغزًا له تمامًا كما هو الحال للشرطة. أما فيما يتعلق بتأكيد السيدة سانت كلير بأنها حقًّا قد رأت زوجها في النافذة، فقد قال: إنها إمَّا فقدت عقلها وإما كانت تحلم. نُقِلَ إلى قسم الشرطة وهو يصرخ محتجًّا، بينما ظل المفتش في المبنى على أمل أن تُقدِّم موجة الجَزْر دليلًا جديدًا.
وهو ما قد حدث فعلًا؛ فقد وجدوا بعد صعوبة على الضفة الطينية ما كانوا يخشون العثور عليه؛ إذ عثروا على معطف نيفيل سانت كلير، الذي كشف عنه تراجُع المد، ولكنهم لم يجدوا سانت كلير نفسه. ما الذي تعتقد أنهم قد وجدوه في جيوب المعطف؟»
«لا يمكنني التخمين.»
«أنا لا أعتقد أيضًا أنك ستخمن ذلك. كان كل جيب مُتخمًا بعملات البنس ونصف البنس — ٤٢١ بنسًا، و٢٧٠ نصف بنس — لذا لم يكن مستغربًا أن المد لم يَجْرِفْه. أمَّا الجسم البشري فهو مسألة مختلفة؛ توجد دوَّامة شرسة بين رصيف الميناء والمنزل. يبدو، من المحتمل، أن المعطف المُثقَل بالعُملات بقي في مكانه، بينما ابتلعت المياه الجثة العارية نحو النهر.»
«لكنني أفهم أنه قد عُثِرَ على جميع الملابس الأخرى في الغرفة، فهل كانت الجثة ترتدي المعطف فقط؟»
«لا يا سيدي، ولكن قد تُقَابَل الحقائق بخداعٍ كافٍ. لنفترض أن هذا الرجل بون قد دفع نيفيل سانت كلير من النافذة، وليس ثمة أي عين بشرية لترى الفعلة. ما الذي سيفعله عندئذٍ؟ سيفكر في الحال بكل تأكيد أنه لا بُدَّ أن يتخلَّص من الملابس التي ستفضح أمره. فسيأخذ المعطف، وسيشرع في إلقائه من النافذة، وحينها سيفكِّر في أنه سيطفو ولن يغرق. ليس لديه الكثير من الوقت؛ إذ إنه قد سمع الشِّجار بالأسفل عندما كانت الزوجة تحاول أن تصعد عَنوةً، وربما يكون قد عرف من شريكه البحَّار الهندي أن الشرطة قادمة في الشارع على عجل. لا يمكن إهدار أي لحظة. فيُهرَع نحو مخزن سري لديه، جَمَع فيه الغَلَّة التي جناها من أعمال التسوُّل، ويُكَدِّس أكبر قَدْر من العُملات التي يمكنه أن يصل إليها في جيوب المعطف؛ ليتأكَّد من أنه سيغوص. ويلقي به خارجًا، وكان ليفعل الأمر نفسه مع باقي الملابس الأخرى لو لم يسمع وقع خطوات متسارعة بالأسفل، ولكنه لم يكن لديه من الوقت سوى ما يكفي لغلق النافذة عندما ظهرت الشرطة.»
«يبدو كلامك معقولًا بالتأكيد.»
«حسنًا، سنعتبره افتراضًا عمليًّا؛ لعدم وجود افتراضٍ أفضل. كما أخبرتك، قُبِضَ على بون وأُخِذَ إلى قسم الشرطة، ولكن لم يكن من الممكن إثبات أن ثَمَّة أي شيء ضده. كان معروفًا لسنوات طويلة بأنه مُتسوِّل محترف، إلا أن حياته بدت هادئة ومسالمة للغاية. هذه هي تطوُّرات الأمر حتى الآن، والأسئلة التي لا بد من حلِّها هي؛ ما الذي كان يفعله نيفيل سانت كلير في وكر الأفيون؟ وماذا حدث له وهو هناك؟ وأين هو الآن؟ وما علاقة هيو بون باختفائه؟ كلها أسئلة لا أجد لها حلًّا على الإطلاق. أُقِرُّ بأنه ليس بوسعي تذكُّر أي قضية في نطاق خبرتي بدت للوهلة الأولى شديدة البساطة، ولكنها انطوت على هذا القَدْر من الصعوبات.»
بينما كان شيرلوك هولمز يُفَصِّل سلسلة الأحداث الفريدة هذه، كُنَّا نمر سريعًا عبر ضواحي المدينة الضخمة، إلى أن تركنا وراءنا آخر مجموعة من المنازل المنتشرة هنا وهناك، وانطلقنا بحذاء سياج ريفي كان يحيط بنا من الجانبَين. ولكن ما إن انتهى من كلامه، حتى مررْنا عبر قريتَين متباعدتَين، حيث كان لا يزال هناك بعض الأضواء التي تلمع في النوافذ.
قال رفيقي: «نحن على مشارف «لي». لقد مررنا بثلاث مقاطعات إنجليزية خلال رحلتنا القصيرة؛ إذ بدأنا في ميدلسكس، ومررنا ﺑ «سَري» من زاوية لها، وانتهينا في كينت. أترى ذلك الضوء بين الأشجار؟ إنه منزل «ذا سيدارز»، وإلى جانب ذلك المصباح تجلس امرأة ليس لديَّ أدنى شك أن أذنَيها المتلهفتَين قد التقطتا بالفعل وَقْع حوافر حصاننا.»
سألت هولمز قائلًا: «ولكن لِمَ لا تدير القضية من بيكر ستريت؟»
«لأن هناك العديد من الاستقصاءات التي يجب إجراؤها ها هُنا. لقد تفضَّلت السيدة سانت كلير بوضع غرفتَين تحت تصرُّفي، وكُنْ على ثقة من أنها لن تستقبل صديقي وزميلي سوى بالترحاب. أكره لقاءها، يا واطسون، وليس لديَّ أخبار عن زوجها. ها نحن ذا. قِفْ، هناك، قِفْ!»
كُنَّا قد توقَّفنا أمام منزل ضخم مُشيَّد على أرض تابعة له. ركض فتى إسطبل نحو رأس الحصان، وإذ قفزتُ إلى الأرض، تبعتُ هولمز على الممر الصغير المُمهَّد بالحصى الذي كان يؤدي إلى المنزل. وفيما كُنَّا نقترب، فُتِحَ الباب على مصراعَيه، ووقفت امرأة شقراء صغيرة الحجم في المدخل مرتدية نوعًا من الملابس الحريرية الخفيفة مع بعض الشيفون الوردي الناعم المنفوش حول رقبتها ورسغَيها. حدَّد الضوء الوافر الآتي من خلفها هيئتها بوضوح، وهي تقف واضعة إحدى يديها على الباب، والأخرى شبه مرفوعة في تلهُّف، وجسدها منحنٍ قليلًا ورأسها ووجهها بارزان، بعيون متلهفة وشفتين مفتوحتين قليلًا؛ كانت هيئتها توحي بما لديها من تساؤلات.
صاحت قائلةً: «حسنًا، ما الأخبار؟» ثم عندما رأت أن هولمز لم يكن وحده، أطلقت صيحة أمل تحوَّلت إلى همهمة خِذلان عندما وجدت رفيقي يهز رأسه وكتفَيه نَفْيًا.
«ألا يوجد أيُّ أخبار جيدة؟»
«لا.»
«ولا سيئة؟»
«لا.»
«حمدًا للرب على ذلك. فلتدخل. لا بد أنك مرهقٌ، فقد كان يومك طويلًا.»
«هذا صديقي، الدكتور واطسون. لقد كانت مساعدته ذات أهمية بالغة لي في العديد من قضاياي، وقد أتاحت لي فرصة سعيدة أن أُحضره وأجعله يشارك في هذا التحقيق.»
قالت وهي تضغط على يدي بحرارة: «تسُرُّني رؤيتك، أنا متأكدة أنك ستغفر لنا أي نقصانٍ في تجهيزات ضيافتنا عندما تأخذ بعين الاعتبار الطامَّة التي حلَّت بنا بغتةً.»
أجبت قائلًا: «سيدتي العزيزة، أنا محارب قديم، وحتى لو لم أكن كذلك، فبوسعي أن أرى جيدًا أنه لا حاجة للاعتذار. سأكون في غاية السعادة إن أمكنني تقديم أي مساعدة، سواء لكِ أو لصديقي.»
قالت السيدة، ونحن ندخل غرفة طعام مضاءة جيدًا، وُضِع على طاولتها عشاءٌ بارد: «إذا سمحت لي يا سيد هولمز، أتوق لأن أوجِّه لك سؤالًا أو سؤالَين بسيطَين، وأرجو أن تجيبني إجابة واضحة.»
«بالطبع يا سيدتي.»
«لا تقلق بشأن مشاعري، أنا لست هستيرية، وليس من عادتي أن أفقد الوعي، إنني ببساطة أرغب في معرفة رأيك الحقيقي بكل صراحة ووضوح.»
«بشأن ماذا؟»
«هل تعتقد في قرارة نفسك أن نيفيل على قيد الحياة؟»
بدا أن السؤال قد أحرج شيرلوك هولمز. فأضافت قائلة، وهي تقف على السجادة وتنظر إليه متفحصة وهو يجلس متكئًا على كرسي مصنوع من الخيزران: «بصراحة، أرجوك!»
«بصراحة إذن يا سيدتي، لا أعتقد ذلك.»
«هل تعتقد أنه قد مات؟»
«أجل.»
«قُتِلَ؟»
«لا أقول ذلك. ربما.»
«وفي أي يوم لقيَ حتفه؟»
«يوم الإثنين.»
«إذن ربما ستتكرَّم يا سيد هولمز وتُوضِّح لي كيف استلمت منه رسالة اليوم.»
وثب شيرلوك هولمز من كرسيِّه واقفًا كما لو كان قد صُعِق بتيارٍ كهربي.
صاح قائلًا: «ماذا!»
قالت وهي تقف مبتسمة وتمسك بقصاصة من الورق رافعةً إيَّاها في الهواء: «أجل، اليوم.»
«أيمكنني أن أراها؟»
«بالتأكيد.»
اختطفها منها بلهفةٍ، وجذب المصباح وهو يبسطها على الطاولة، ثم فحصها باهتمام شديد. كنت قد نهضتُ من مقعدي وكنت أحدق بالورقة من خلفه. كان الظرف شديد الخشونة ومختومًا بختم بريد جريفسيند وبتاريخ ذلك اليوم نفسه، أو بالأحرى، بتاريخ اليوم السابق؛ إذ كان الوقت قد جاوز منتصف الليل بكثير.
غمغم هولمز: «خط رديء. بالتأكيد هذا ليس خط زوجكِ يا سيدتي.»
«بلى، ولكن الرسالة المرفقة بخطِّه.»
«أرى أيضًا أن أيًّا كان مَن عنوَن الخطاب فقد احتاج إلى الذهاب والاستفسار عن العنوان.»
«كيف بإمكانك أن تفطن إلى ذلك؟»
«الاسم، كما ترين، مكتوب بحبر أسود داكن جفَّ وحده. أما الباقي فبلون رمادي، مما يدل على أن الورق النشاف قد استخدم، إن كان قد كُتِبَ على الفور ثم نُشِّفَ بالورق الماصِّ، فلن يكون ذا لون أسود داكن. لقد كتب هذا الرجل الاسم، ثم كان ثمة توقُّف قبل أن يكتب العنوان، وهذا لا يعني سوى أنه لم يكن يعرفه. إنه شيء تافه بالطبع، ولكن ليس ثمة شيء أهم من الأشياء التافهة. والآن لنرى الرسالة، ها! لقد كان الظرف يحتوي على شيء ما هنا!»
«أجل، كان يحتوي على خاتم. خاتم توقيعه.»
«وهل أنتِ متأكدة من أن هذا هو خط يد زوجك؟»
«أحد خطيه.»
«أحد خطيه؟»
«خط يده عندما يكتب بسرعة، إنه يختلف تمامًا عن خطه المعتاد، ولكنني أعرفه جيدًا.»
قرأ هولمز الرسالة: ««عزيزتي، لا تخافي. كل شيء سيكون على ما يرام. ثمة خطأ كبير قد يستغرق تصحيحه بعض الوقت. انتظري بصبر. نيفيل.» إنه مكتوب بقلم رصاص على صفحة فارغة من كتاب بحجمٍ ثمُانيِّ القَطْع، بدون علامة مائية. همممم! مُرسَلٌ اليوم من مكتب بريد جريفسيند، على يد رجل ذي إصبعٍ متسخةٍ. ها! كما أن مَن لصق لسان الظرف كان يمضغ التَّبغ إن لم أكن مخطئًا كثيرًا. ولا شك لديكِ يا سيدتي في أن هذا هو خط زوجك، أليس كذلك؟»
«بلى. نيفيل هو مَن كتب هذه الكلمات.»
«وقد أُرسِلَت اليوم من جريفسيند. حسنًا، يا سيدة سانت كلير، إن الأمر يتَّضح تدريجيًّا، ومع ذلك لن أجازف بالقول إن الخطر قد زال.»
«ولكن لا بد وأنه على قيد الحياة يا سيد هولمز.»
«أجل، ما لم يكن هذا تزويرًا ماهرًا يهدفُ لتضليلنا؛ فخاتم التوقيع، على أية حال، لا يُثبت شيئًا. يمكن أن يكون قد أُخِذَ منه.»
«لا لا، إنه خط يده بكل تأكيد.»
«رائع، ومع ذلك، ربما يكون قد كُتِبَ يوم الإثنين، ولم يُرسَل سوى اليوم فحسب.»
«ذلك محتملٌ.»
«إن كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن أمورًا كثيرة ربما تكون قد حدثت فيما بينهما.»
«أوه، لا تُحبطني يا سيد هولمز. أعلم أن كل شيء على ما يرام فيما يخصه. تربط بيننا صلة عاطفية وثيقة بحيث يمكنني أن أعلم إن حلَّ به مكروه. في نفس اليوم الذي رأيته فيه آخر مرة كان قد جرح نفسه في غرفة النوم، ومع أنني كنت في غرفة الطعام، إلا إنني هُرعْت إلى الأعلى على الفور، وأنا على أتم اليقين بأن شيئًا قد حدث. هل تعتقد أنني سأشعر بأمر بسيط كهذا، ولن أشعر بشيء في حال وفاته؟»
«لقد رأيتُ الكثير والكثير حتى صرت أعلم أن انطباع المرأة قد يكون أقيَم من استنتاجِ محلِّل منطقي. ولديكِ بكل تأكيد في هذه الرسالة دليل قوي للغاية يؤكد وجهة نظرك. ولكن إذا كان زوجك على قيد الحياة وقادرًا على كتابة الرسائل، فلماذا يظل بعيدًا عنكِ؟»
«لا يمكنني تخيُّل السبب، إنه أمر لا يمكن تصوُّره.»
«هل أبدى أي ملاحظة قبل أن يغادركِ يوم الإثنين؟»
«لا.»
«وهل فوجئتِ برؤيته في أبر سواندَم لين؟»
«أجل، للغاية.»
«هل كانت النافذة مفتوحة؟»
«أجل.»
«إذن كان بإمكانه أن يناديَ عليكِ؟»
«كان بإمكانه ذلك.»
«ولكن جُلَّ ما فعله، حسبما أفهم، أنه صرخ صرخة غير مفهومة. أليس كذلك؟»
«بلى.»
«هل اعتقدتِ أنها كانت صرخة طلبًا للعون؟»
«أجل، لقد لوَّح بيدَيه.»
«ولكن ربما كانت صرخة مفاجأة. لعل دهشته لرؤيتك غير المتوقَّعة جعلته يلوِّح بيدَيه!»
«هذا مُحتَمَل.»
«وظننتِ أنه سُحِب إلى الوراء؟»
«لقد اختفى فجأةً.»
«ربما يكون قد قفز إلى الخلف. هل رأيتِ أي شخص آخر في الغرفة؟»
«لا، ولكن هذا الرجل البشع اعترف أنه كان موجودًا هناك، والبحَّار الهندي كان موجودًا أسفل السُّلَّم.»
«صحيح. كان زوجك، بقدر ما أمكنك التبيُّن، يرتدي ملابسه المعتادة؟»
«ولكن دون ياقته وربطة عنقه. لقد رأيتُ عنقه العاري بكل وضوح.»
«هل سبق أن تحدَّث إليكِ عن أبر سواندَم لين؟»
«مطلقًا.»
«هل بدا عليه من قبلُ أيُّ علامات تدل على تعاطيه الأفيون؟»
«مطلقًا.»
«شكرًا لكِ، سيدة سانت كلير. تلك هي النقاط الرئيسية التي رغبتُ في استيضاحها تمامًا. سنتناول الآن عشاءً خفيفًا ثم نذهب للنوم، فقد يكون لدينا يوم حافل للغاية غدًا.»
وُضِعَت غرفة كبيرة مريحة ذات سرير مزدوَج تحت تصرُّفنا. ودَخَلتُ تحت الأغطية بسرعة؛ إذ كنتُ مرهقًا بعد مغامرتي الليلية. أمَّا شيرلوك هولمز فقد كان رجلًا من شأنه أن يقضي أيامًا، بل أسبوعًا، دون أن يذوق طعم الراحة عندما كانت تواجهه مشكلة مستعصية على الحل تشغل تفكيره، فيقلبها في رأسه، معيدًا ترتيب الوقائع التي بين يديه، ومدقِّقًا فيها من جميع الوجوه إلى أن يفهمها تمامًا أو يقتنع بأن معلوماته كانت غير كافية. سرعان ما صار واضحًا لي أنه كان ساعتئذٍ يستعد لجِلسةٍ طوال الليل؛ فقد خلع معطفه وصدريته، وارتدى رداء نوم فضفاضًا أزرق، ثم راح يتجول في الغرفة وهو يجمع الوسائد من سريره والمساند من الأريكة والمقاعد. ورتبها على شكل جلسة ديوان شرقي، وجلس عليها متربعًا، وأمامه أوقية من التبغ المفروم وعلبة ثقاب. رأيته جالسًا هناك في الضوء الخافت للمصباح وبين شفتَيه غليون قديم مصنوع من خشب الورد البري، وعيناه مثبتتان بنظرة خالية من التعبير على ركن السقف، والدخان الأزرق يتصاعد منه في موجات، وهو صامت بلا حِراك، والضوء يسطع على ملامحه القوية الحادة بأنفه المعقوف كالنسر. وهكذا جلس بينما غالبني النعاس، وهكذا كان جالسًا عندما أيقظني صوت هتاف مفاجئ، ووجدت شمس الصيف قد بدأت تملأ الغرفة. كان الغليون لا يزال بين شفتيه، والدخان ما زال يتصاعد في موجات إلى أعلى، والغرفة مليئة بدخان التَّبغ الكثيف، ولكن لم يبقَ شيء من كومة التبغ التي رأيتها أمامه الليلة السابقة.
سألني قائلًا: «أمستيقظٌ يا واطسون؟»
«أجل.»
«أمستعدٌّ لنزهةٍ صباحيةٍ؟»
«بالتأكيد.»
«إذن ارتدِ ملابسك، لم ينهض أحدٌ من فراشه بعد، ولكنني أعرف أين ينام فتى الإسطبل، وبعد قليل سيُعِد لنا العربة.» كان يبتسم وهو يتحدث، والتمعت عيناه، وبدا رجلًا مختلفًا عن المفكِّر المتجهِّم الذي كان عليه بالأمس.
بينما كنت أرتدي ملابسي، ألقيتُ نظرةً على ساعتي. لا عجب أنَّ أحدًا لم يكن قد نهض من فراشه بعد. فقد كانت عقارب الساعة تشير إلى الرابعة وخمس وعشرين دقيقة. بالكاد قد انتهيت عندما عاد هولمز يخبرني أن فتى الإسطبل أسرج الحصان.
قال وهو يرتدي حذاءه الطويل الرقبة: «أريد أن أختبر نظرية صغيرة لديَّ. أعتقد يا واطسون أنك تقف الآن في حضرة واحدٍ من أكثر الناس حمقًا في أوروبا كلها. إنني أستحقُّ أن أُركَل من هنا إلى تشارينج كروس. ولكنني أعتقد أن بحوزتي الآن مفتاح القضية.»
سألته مبتسمًا: «وأين هو؟»
فأجاب قائلًا: «في الحمام،» وأردف قائلًا عندما رأى نظرة الشك التي ترتسم على وجهي: «أوه، أجل، أنا لا أمزح. لقد كنت هناك لتوِّي، وقد أخذته وهو لديَّ الآن في الحقيبة الجلادستون هذه. هيا يا رفيقي، وسنرى ما إن كان يناسب القفل أم لا.»
اتجهنا إلى الطابق السفلي بأقصى هدوء ممكن، وخرجنا إلى أشعة شمس الصباح الساطعة. حيث الحصان والعربة ينتظران في الطريق، بينما فتى الإسطبل يقف نصف عارٍ عند مقدمة العربة. قفز كِلانا في العربة، وانطلقنا عبر طريق لندن. كانت بعض العربات الريفية تتحرك حاملةً الخضراوات إلى المدينة، أما صَفَّا المنازل الكائنان على جانبَي الطريق فكانا هادئين وهامدين وكأنهما مدينة في حلم.
قال هولمز وهو ينكز الحصان ليَحُثَّه على العَدْو: «لقد كانت هذه قضية فريدة من نوعها فيما يتعلَّق ببعض النقاط. أعترف أنني كنت أعمى كحيوان الخُلْد، ولكن تَعَلُّم الحكمة متأخرًا أفضل من عدم تَعَلُّمها أبدًا.»
مَن بكَّروا بالاستيقاظ في البلدة قد بدءوا لتوِّهم النظر من نوافذهم والنعاس يغالبهم، ونحن ننطلق عبر شوارع ناحية «سَري». ونحن نمر بطريق جسر ووترلو عبرنا النهر وانطلقنا في شارع ولنجتون وانعطفنا بشدة إلى اليمين فوجدنا أنفسنا في شارع بو. كان شيرلوك هولمز مشهورًا لدى قوة الشرطة، فحيَّاه الشرطيَّان الواقفان عند الباب، وأمسك أحدهما برأس الحصان، بينما قادنا الآخر إلى الداخل.
سألهما هولمز: «مَن بالخدمة؟»
«المفتش برادسترييت يا سيدي.»
«أوه، برادسترييت، كيف حالك؟» نزل على الممر المبَلَّط بالحجر ضابطٌ طويلٌ ممتلئٌ يرتدي قبعةً مدبَّبةً وسترة رسمية تُزيِّنها سُيُور أمامية.
قال هولمز: «أرغب في الحديث معك على انفراد، يا برادسترييت.»
«بالتأكيد يا سيد هولمز، تفضَّل إلى غرفتي هنا.»
كانت غرفة صغيرة تُشبه حجرة المكتب، بها طاولة موضوع عليها دفتر ضخم، وهاتف مثبت في الحائط. جلس المفتش على مكتبه وقال: «كيف يمكنني مساعدتك يا سيد هولمز؟»
«لقد أتيتُ في زيارة قصيرة بشأن ذلك المتسوِّل بون، الذي اتُّهِمَ بتورُّطه في اختفاء السيد نيفيل سانت كلير من «لي».»
«أجل، لقد جاءوا به إلى هنا ووُضِعَ في الحبس لمزيد من الاستجواب.»
«هذا ما سمعته. هل هو لديك هنا؟»
«أجل إنه في الزنزانة.»
«هل هو هادئ؟»
«أوه، إنه لا يثير المتاعب، ولكنه وغد قذر.»
«قذر؟»
«أجل، لقد فعلنا كل ما نستطيع لنجعله يغسل يديه، أما وجهه فأسود كوجه سمكري. حسنًا، بمجرد إتمام إجراءات قضيته، سيحصل على حمام السجن المعتاد؛ وأعتقد أنك إذا رأيته ستتفق معي في الرأي أنه بحاجة لذلك.»
«أرغب بشدة في رؤيته.»
«حقًّا؟ هذا أمر يَسهُل القيام به. تعالَ معي من هنا. يمكنك ترك حقيبتك.»
«لا، أعتقد أنني سآخذها معي.»
«لا بأس. تعالَيا معي من هنا بعد إذنكما.» قادنا عبر أحد الممرات، وفتح بابًا بقضبان وهبط درجًا متعرِّجًا، وقادنا إلى ممر مطلي باللون الأبيض، وعلى كلا جانبيه صَفٌّ من الأبواب.
قال المفتش: «زنزانته هي الثالثة على اليمين. ها هي!» بهدوء دفع بلوحة في الجزء العلوي من الباب إلى الخلف ونظر من خلالها وقال: «إنه نائم، يمكنكما رؤيته جيدًا.»
نظر كلانا عبر القضبان. كان السجين مستلقيًا ووجهه نحونا يَغِطُّ في نوم عميق، ويتنفَّس تنفسًا بطيئًا وثقيلًا. كان رجلًا متوسطَ الحجم يرتدي ملابس رديئة، كما تقتضي مهنته، وقميصًا ملوَّنًا يبرز من فتقٍ في معطفه الممزَّق. كان، مثلما قال المفتش، شديد القذارة، إلا أن الوَسَخ الذي كان يغطِّي وجهه لم يُخفِ قُبْحَه المقيت. امتدَّ تورُّم بارز كبير من نَدَبة قديمة بطول وجهه من عينه إلى ذَقْنه، ونتج عن تقلُّصِه رَفْع أحد جوانب شَفَتِه العلوية، حتى إن ثلاثًا من أسنانه ظهرت راسمةً على وجهه تعبير زمجرة دائمًا. وكانت كتلة من الشعر الأحمر الفاقع القصير تكسو مقدَّم رأسه وحاجبَيه.
قال المفتش: «إنه جميلٌ، أليس كذلك؟»
فقال هولمز: «إنه يحتاج إلى الاغتسال بكل تأكيد، لقد خطرت لي هذه الفكرة بالفعل، فسمحت لنفسي وأحضرت معي الأدوات اللازمة.» فتح الحقيبة الجلادستون وهو يتحدَّث، وأخرج منها إسفنجة حمام ضخمة، ممَّا أثار اندهاشي.
ضحك المفتش قائلًا: «ها ها! كم أنت مضحك!»
«والآن، هلَّا تكرَّمت وفتحت هذا الباب بهدوء شديد؟ في غضون وقت قليل سنجعله يبدو بهيئة أكثر احترامًا.»
«حسنًا، لِمَ لا، فهيئته القذرة لا تناسب زنازين شارع بو، أليس كذلك؟» دفع مفتاحه في القفل، وبهدوء شديد دخلنا جميعًا الزنزانة. استدار السجين النائم نصف استدارة نحو مصدر الصوت، ثم قَرَّ مرة أخرى في سُبَات عميق. انحنى هولمز نحو وعاء الماء، وبلَّل الإسفنجة وحكَّها مرتَين بقوة على وجهه من أعلى إلى أسفل.
وصاح: «دعوني أقدِّم لكم السيد نيفيل سانت كلير من «لي» في مقاطعة كينت.»
لم أرَ في حياتي مشهدًا كهذا قطُّ؛ إذ تقشَّر وجه الرجل تحت الإسفنجة كما يتقشَّر اللِّحاء من الشجرة. اختفى اللون البني الفَجُّ! واختفت أيضًا الندبة البشعة التي غضَّنَت وجهه، والشَّفَة الملتوية التي كانت قد أَضْفَت تعبيرًا هازئًا مقيتًا على وجهه! انتُزِعَ الشعر الأحمر المتشابك من على رأسه بحركة سريعة، فظهر رجل شاحب، حزين الملامح، أسود الشعر، ناعم الجلد يفرك عينيه ويُحدِّق فيما حوله بحَيْرة ناعسة، وهو ينهض جالسًا على سريره. ثم، عندما أدرك فجأةً أن سَتره قد انكشف، صرخ وألقى نفسه على السرير دافنًا وجهه في الوسادة.
صرخ المفتش قائلًا: «يا إلهي! إنه الرجل المفقود بالفعل، أعرفه من الصورة.»
استدار السجين بتهوُّر رجل قرَّر أن يستسلم لمصيره المحتوم، وقال: «وليكن، وما هي تهمتي أرجوك؟»
قال المفتش بابتسامة: «التخلُّص من السيد نيفيل سانت … أوه، بربِّك! لا يمكن توجيه تلك التهمة إليك إلا إذا حوَّلوا القضية إلى محاولة انتحار. حسنًا، لقد قضَيْتُ سبعًا وعشرين سنةً في الخدمة، ولكن هذه القضية هي الأغرب على الإطلاق.»
«إذا كنتُ أنا السيد نيفيل سانت كلير نفسه، فإذن لم تُرتَكَب أيُّ جريمة كما هو واضح؛ ومن ثَمَّ، فأنا محتجز على نحو غير قانوني.»
قال هولمز: «لم تُرتَكَب جريمة، ولكن ارتُكِبَ خطأٌ فادحٌ. كنت ستُبلي بلاءً أفضل لو أنك وثقتَ بزوجتك.»
قال السجين ممتعضًا: «لا يتعلَّق الأمر بزوجتي، بل بأطفالي. ليساعدني الرَّبُّ، لن أجعلهم يخجلون من أبيهم. يا إلهي! يا لَلفضيحة! ماذا الذي يمكنني فعله؟»
جلس شيرلوك هولمز إلى جواره على السرير وربَّت على كتفه بلطف.
وقال: «إن تركت الأمر للمحكمة لتوضيح المسألة، فبالطبع لن يمكنك تجنُّب العَلَنِيَّة. من ناحية أخرى، إذا أقنعت سلطات الشرطة بعدم وجود أي دعوى مُحتَمَلة ضدك، فلا أجد أي سبب يدعو إلى جعل التفاصيل تجد طريقها إلى صفحات الجرائد. أنا متأكد من أن المفتش برادسترييت سيُدوِّن أي شيء قد تخبرنا به وسيقدِّمه إلى السلطات المختصة، وبذلك لن تصل القضية إلى المحكمة أبدًا.»
صاح السجين بحماس: «ليباركك الرب! لقد كنتُ على استعداد لتحمُّل عقوبة السجن، أجل، وحتى الإعدام، ولا يتسبَّب سِرِّي التعيس في وصمة عار عائلية لأطفالي.
ستكونون أنتم أول مَن يسمع قصتي. كان أبي يعمل ناظر مدرسة في تشيسترفيلد، حيث تلقَّيْت تعليمًا ممتازًا. سافرت في شبابي واتَّجهت إلى التمثيل بالمسرح، وأخيرًا أصبحت مراسلًا في صحيفة مسائية في لندن. في يوم من الأيام، كان المحرِّر الذي يرأسني يرغب في الحصول على سلسلة من المقالات عن التسوُّل في العاصمة، فتطوَّعتُ بتقديمها. وكانت تلك هي النقطة التي بدأت منها كل مغامراتي. كان السبيل الوحيد الذي سيُمكِّنُني من الحصول على الحقائق التي سأضع عليها أساسًا لمقالاتي هو أن أجرِّب التسوُّل كهاوٍ. بلا شك، وبالطبع، عندما كنتُ ممثلًا، تعلَّمت كل أسرار المكياج، وكنتُ مشهورًا في غرفة التجهيز بالمسرح بمهاراتي في هذا الشأن؛ لذا استفدت من مهاراتي، فدهنت وجهي، ولكي أجعل نفسي أبدو مثيرًا للشفقة قَدْر الإمكان، رسمتُ ندبةً متقنةً وثَبَّتُّ أحد جوانب شفتي لتصبح ملتوية باستخدام قطعة صغيرة من اللَّصق لها نفس لون البشرة. وبعد تثبيت شعر مستعار أحمر اللون، وارتداء الملبس المناسب، اتَّخذت موقعي في الجزء التجاري من المدينة، متظاهرًا بأنني بائع عُلب أعواد ثقاب، ولكني في الواقع متسوِّل. مارست عملي لسبع ساعات متواصلة، وعندما كنت أعود إلى المنزل في المساء، كنت أجد، لدهشتي، أنني قد حصلت على ما لا يقل عن ٢٦ شلنًا و٤ بنسات.
كتبت مقالاتي وفكَّرت قليلًا في الأمر. بعد مدةٍ، ضَمِنْتُ أحد أصدقائي في دفع فواتيره، وصدر ضدي حكم قضائي بتسديد ٢٥ جنيهًا إسترلينيًّا. أَعْيَتْني الحيلة في محاولة الحصول على المال اللازم، ولكن جاءتني فكرة فجأة. توسَّلت إلى الدائن طالبًا منه مهلة أسبوعَين، وطلبت إجازة من أصحاب العمل، وأمضيتُ الوقت في التسوُّل في المدينة مُتخفيًا. وبعد عشرة أيام كنتُ قد حصلتُ على المال وسدَّدت الدَّين.
حسنًا، يمكنك تخيُّل مدى صعوبة الاستقرار في عمل شاقٍّ لقاء جنيهَين إسترلينيَّين في الأسبوع، بينما كنت أعلم أن بوسعي اكتساب المبلغ نفسه تقريبًا في يوم واحد بتلطيخ وجهي بالقليل من المساحيق، ووضع قبعتي على الأرض والجلوس بلا حراك. خُضْتُ صراعًا داخليًّا طويلًا بين كبريائي والرغبة في الحصول على المال، ولكن رغبتي في المال انتصرت في النهاية، فتخلَّيْتُ عن مهنة المراسل، وقضيت يومًا تلو الآخر في الزاوية التي كنت قد اخترتها في البداية، مستدرًّا عطف المارَّة بوجهي المُروِّع ومالئًا جيوبي بالعملات المعدنية. لم يعرف سِرِّي سوى رجل واحد؛ لقد كان صاحب وَكْر حقير اعتدتُ أن أُقيم فيه في أبر سواندَم لين؛ حيث كان بإمكاني أن أخرج منه كل صباح على هيئة متسوِّل قذر، وفي المساء أتحوَّل إلى رجلٍ حسن الهندام وأجوب أنحاء المدينة. لقد كنتُ أدفع لهذا البحَّار الهندي مبلغًا جيدًا من المال لقاء استخدام إحدى غُرَفِه، حتى ضَمِنْت أن سِرِّي كان في أمان معه.
حسنًا، سرعان ما وجدتُ نفسي أدَّخر مبالغ كبيرة من المال. لا أعني بذلك أن أي متسوِّل يجوب شوارع لندن يمكنه كسب ٧٠٠ جنيه إسترليني في العام — وهو أقل ممَّا أحصل عليه في المتوسط — ولكنني كنت أتمتع بمزايا استثنائية تتمثَّل في قدرتي على استخدام المكياج، وأيضًا في مهارة سرعة البديهة، التي تحسَّنت بالممارسة، وجعلتني شخصية معروفة جدًّا في المدينة. طوال اليوم كانت تتدفَّق عليَّ البنسات الفضية بمختلف فئاتها، واليوم الذي كنت أفشل فيه في الحصول على جنيهَين إسترلينيَّين يعتبر يومًا بالغ السوء.
كلما ازددت ثراءً، ازداد طموحي، فاقتنيتُ منزلًا في الريف، وأخيرًا تزوَّجت، دون أن تساور الشكوك أي شخص بشأن مهنتي الحقيقية. كانت زوجتي العزيزة تعلم أنَّ لديَّ عملًا في المدينة، ولكن لم تكن تعلم عنه سوى القليل.
كنت قد انتهيت يوم الإثنين الماضي من جمع المال في هذا اليوم، وكنت أُبَدِّلُ ملابسي في غرفتي التي تقع فوق وكر الأفيون عندما نظرتُ من نافذتي ورأيتُ، لرعبي ودهشتي، أن زوجتي كانت تقف في الشارع وعيناها مثبتتان بالكامل عليَّ. فصرخت من المفاجأة ورفعتُ ذراعيَّ لأغطيَ وجهي، وهُرِعْت إلى كاتم سِرِّي، البحَّار الهندي، وتوسَّلت إليه أن يمنع أي شخص من الصعود إليَّ. سمعت صوتها بالأسفل، ولكنني كنت أعلم أنه لا يمكنها الصعود. ألقيتُ ملابسي بسرعة، وارتديتُ ملابس التسوُّل، ودهنتُ وجهي بالمساحيق ووضعتُ الشعر المستعار. حتى عينا الزوجة لا تستطيعان تمييز ما يكمن خلف تنكُّر بارع. إلا أنني بعد ذلك فكَّرت في أن الغرفة قد تتعرَّض للتفتيش، وأن الملابس قد تفضح سري. ففتحت النافذة على مصراعيها، وتسبَّب عنفي في إعادة فتح جُرح صغير أحدثتُه لنفسي في غرفة النوم في ذلك الصباح. بعد ذلك أمسكتُ بمعطفي، الذي أثقلتْه قطع النقود النحاسية التي نقلتُها إليه لتوِّي من الحقيبة الجلدية التي أحمل فيها إيراداتي من التسوُّل. قذفت به من النافذة، فاختفى في نهر التيمز. كنت سأُتبِعه بالملابس الأخرى، ولكن في تلك اللحظة هُرِعَت مجموعة من رجال الشرطة تصعد الدَّرَج، وبعد دقائق قليلة، وجدتُ أنهم، بدلًا من التعرُّف عليَّ بصفتي السيد نيفيل سانت كلير، يُلقون القبض عليَّ باعتباري قاتله، وهو ما أعترف أنه قد بعث الراحة في نفسي.
لا أدري إن كان هناك أي شيء آخر يمكنني توضيحه. لقد كنتُ مصمِّمًا على الاحتفاظ بتنكُّري لأطول فترة ممكنة؛ لذا كنت أفضِّل أن يظل وجهي قذرًا. ولعلمي بأن زوجتي سيعتريها القلق الشديد، فقد خلعتُ خاتمي وأعطيتُه للبحَّار الهندي، في لحظة لم يكن يراقبني فيها أي شرطي، مع رسالة كُتِبَت على عَجَل أُخبِرُها فيها أنه لا داعِيَ للخوف.»
قال هولمز: «لم تصلها هذه الرسالة إلا أمس.»
«يا إلهي! لا بد أنها قد قضت أسبوعًا بالغ السوء!»
قال المفتش برادسترييت: «لقد راقبَتِ الشرطة هذا البحَّار الهندي، ويمكنني أن أفهم بوضوح أنه قد يجد صعوبة في إرسال خطاب دون أن يلاحظه أحد. الأرجح أنه سلَّمه لأحد زبائنه من البحَّارة، الذي نسيَه تمامًا لعِدَّة أيام.»
قال هولمز وهو يهز رأسه موافقًا: «هكذا كان الأمر فعلًا، ليس لديَّ أدنى شك في هذا. ولكن هل سبق أن حوكمْتَ بتهمة التسوُّل؟»
«العديد من المرَّات، ولكن ما قيمة الغرامة مقارنةً بما كنتُ أجنيه؟»
قال برادسترييت: «ومع ذلك، فلا بد أن يتوقَّف الأمر عند هذا الحد. إن كانت الشرطة ستتكتَّم على الأمر، فلا بد أن يختفيَ هيو بون من الوجود تمامًا.»
«لقد أقسمتُ على هذا بأغلظ الأيمان التي يمكن لإنسان أن يقسم بها.»
«في هذه الحالة، أعتقد أنه من المحتمل عدم اتخاذ أي خطوات أخرى في القضية، ولكن إن أُلقِيَ القبض عليك مرة أخرى، فحينئذٍ لن يكون ثَمَّة مفرٌّ من كشف الأمر كله. أنا متأكد يا سيد هولمز أننا ندين لك بالكثير لتوضيح المسألة. ليتني أعرف كيف تتوصَّل إلى نتائجك.»
ردَّ صديقي قائلًا: «توصَّلتُ لنتيجة هذه القضية بالجلوس على خمس وسائد وتدخين أوقية من التَّبغ. أعتقد يا واطسون أننا إذا توجَّهنا إلى شارع بيكر ستريت، فسنصل في الوقت المناسب لتناول الإفطار.»