مقدمة
هذا ما كتبه حضرة المهذِّب الفاضل والعلَّامة الكامل، الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان، من أكابر علماء الجامع الأزهر الشريف، وأحد أعضاء محكمة الاستئناف الشرعية بمدينة القاهرة؛ تعليقًا على هذا الكتاب. قال — أدام الله نفعه:
كتاب تهذيب الأخلاق لابن مِسكويه
يقول بعض علماء الأخلاق: إن الإنسان كله خير محض بفطرته. ويذهب آخرون إلى أنه جميعه شرٌّ صِرْف بغير تربية؛ وعليهما لا لزوم للتربية والتهذيب؛ لأنه إن كان الإنسان خيرًا فلا داعية إلى تخييره، وإن كان شرًّا صرفًا فلا نفع في محاولة تطهيره. وبطلانهما ظاهر من نفسه؛ وإلا لَما شُرعت الشرائع، ولَما قُرِّرت الأحكام، ولَما ورد التكليف بالأعمال، ولَما بُيِّن الحسن والقبيح، ولَما جاء الترغيب والترهيب. وحكمة الله أكبر من أن يُخصِّص للجنَّة قومًا وللنار آخرين، ويربط استحقاق الجنة بعملٍ واستيطان النار بعملٍ، بدون أن يجعل في خلقة الإنسان الأهليةَ لإحدى الجهتين. وقد دلَّنا صنْع الله في إرسال رسله لهداية خلقه وإبعادهم عن الغواية على أن الإنسان قد يكون ميَّالًا للشر، ثم يعود فيهون شرُّه أو ينقلب إلى حالة الخيِّرِين؛ ويؤيد هذا أيضًا المشاهدة والنظر في أحوال الغابرين.
وذهب جماعة إلى أن في الإنسان مَن يوجد خيِّرًا، وفيه من يولَد شرِّيرًا. وهؤلاء انقسموا إلى من قال بأن الإنسان على ما يوجد وعلى ما يولد، ولا يمكن تحويله عما خُلق عليه. ومن قال بصحة التحويل، والأولون من هذه الجماعة يقال على مذهبهم ما قيل على أصحاب الرأيين الأولَين؛ لأنهم في الحقيقة ذاهبون إلى ما ذهبا إليه، فلا حاجة معهم إلى التربية والتهذيب. أما القائلون بصحة تحويل الخيِّر إلى شرِّير والشرِّير إلى خيِّر فهم أقرب للصواب؛ لأننا نشاهد بالبداهة الاثنين يولدان من ظهرٍ وبطن واحد، ومَيلهما إلى الخير أو إلى الشر مختلف، وأنه بالتربية يخفُّ ضرر الشرِّير، وبالتربية يعرف الخيِّر طريق الخير ويزيد فيه، وإن جاء الخير من الشرِّير جاء بتكلُّف أو تقليد أو ترغيب أو ترهيب. وإذا جاء الشرِّير من الخير جاء ملطفًا غير مبالغ فيه.
وهناك من يقول بأن الإنسان مجرَّد في أصل الخلقة عن الأمرين: الخير والشر جميعًا، وأنه يولد قابلًا لهما على السواء، فأيٌّ منهما لقيه صادف منه قلبًا خليًّا فتمكَّن منه. فبالتربية يدخل في إحدى الفصيلتين، وبها يقع عليه الحكم فيقال: خيِّر أو شرِّير. وهذا الرأي هو الصواب، ولا حاجة فيه إلى إقامة البرهان؛ فالوجدان يحسُّه، والطبع يألفه، والذوق يحكم به، والعقل يقبله بغاية الارتياح. وعليه وحده أو عليه وما قبله اشتغل علماء الأخلاق ببيان الفاضل منها والمفضول، والرذيل والمرذول، وبيَّنوا أنواع التربية والتهذيب، وأساليب التعلم والتعليم، وأقاموا الحجج والبيِّنات، وضربوا الأمثال مفصَّلات، وضمَّنوها كتبهم، وجعلوها هاديًا ومرشدًا للناس.
ومن أنفع الكتب في هذا الباب كتاب تهذيب الأخلاق الذي نحن بصدده؛ فإنه فصَّل أصولها، وضبط أنواعها، وميز حدودها، حتى قام كل خُلق منها وحده ممتازًا عما عداه، وجاءت عباراته علمية عالية محكَمة الصنع دقيقة الوضع، وكفاها شرفًا أنها عبارة مؤلِّفٍ فاضل من علماء القرن الرابع، جاء في هذا الوجود والدنيا مشرقة بالعلم وللعلم قيمة بين أهلها ولأصحابه مكانة في النفوس. فلا موجب للإطناب في وصف الرجل والكتاب؛ فهو أكبر من أن يُعرَّف بمعرِّف من أهل هذا الجيل الرابع عشر الذي ليس لنا فيه إلا الرجوع لآراء الأقدمين من أمثاله، خلافًا للمعقول الذي هو تقدُّم العلم بتقدُّم الزمان؛ لأن التقدم فيه يكون بالرجوع إلى الوراء. ولتطبيق الآراء المتقدمة على ما نحن فيه الآن، حتى نعرف هل ينفع هذا الكتاب وأمثاله فينا نقول: قد يَئس من صلاح حالنا قومٌ منا، وحُجَّتهم علينا أن الوجهة قد انصرفت عن النافع إلى الضار، ومن أخصِّ ذلك الكتب؛ قالوا: إنا نرى الأقاصيص الباطلة هي الرابحة والكتب النافعة هي الصفقة الخاسرة البائرة، وأقاموا الدليل بالإحصاء على المطابع والمطبوعات. وحُجَّتهم تكاد تكون هي الغالبة البالغة، فإنا لو أحصينا ما يُباع من النافعة وما يباع من الضارة بالعقول، المفسِدة للغة والأخلاق، لوجدنا أن ما يباع من الأولى لا يصل واحدًا من الألف في جانب ما يباع من الثانية. وبالاستقراء نرى أن ما يباع من الأولى لا يباع إلا بالرجاء ولا يُرغب فيه إلا بسيف الحياء، وأن ما يباع من الثانية يُطلب ثم يفرغ ثم توجد الرغبة فيه فيتجدد طبعه أو ما يماثله. ولو ذكرت الأمثلة على القضيتين لفاز المُحتجُّ بالانتصار.
وكان أصحاب هذه الحجة يقولون إننا خُلقنا شرًّا صرفًا بالغريزة، وإننا ممن قسم لهم القدر أن يكونوا أشقياء، وإنه لا تنفع فينا التربية ولا يُجدينا التهذيب. ولو أمعنوا النظر وفكروا فيما كنا عليه وما صرنا إليه لقالوا — إن كانوا منصفين — بأننا كنا في عماء الجاهلية، وإننا دخلنا في نور العلم نوعًا، وإننا قابلون للإصلاح. نعم يُرَدُّ علينا أن المتحول منا عن طبعه الأوَّليِّ قليل في جانب طول الزمن. ولكن هذا لا يقدح في أصل المطلوب؛ وهو إننا بشرٌ، إنسان، لنا ما له، يصحُّ فينا أن نَصلُح لو وُجد ممن وظيفتهم إصلاحنا بعض القيام بما يقتضيه حالنا. ولا نشكُّ في أنه لو دام الأمر حتى على هذا السير البطيء، وبالأَوْلى لو قام منا أناس عرفوا مصلحتنا فأخذوا بما يُرقِّيها، لَوصلنا إلى التحول من الشر إلى الخير عاجلًا أو آجلًا، أو لَكثُر فينا المربُّون المهذِّبون الصالحون. والحكم للغالب، كما يقتضيه ناموس الأمم في كل زمان.
وإن من أنفع الوسائل طبْع مثل هذا الكتاب. ولو فرضنا أنه لقي منا ما يلقاه نظائره من الكتب النافعة فلا شبهة في أنه إنْ بِيع بعضه هذه المرة بالرجاء يباع باقيه بالطلب والرغبة، بما يتسامع عنه الناس بعضهم من بعض، ثم يطلبون إعادة طبعه أو ما يشابهه من أخواته النافعة. وليس هذا ببعيد. وقد يوجَد فينا من يُثبِّط الهمَّة، ويقول: إن الكتب في هذه الأيام صارت كضريبة يفرضها الظالمون، يُتقاضى ثمنها بالمحاباة أو المجاملة، وإن من يشتغل بالتأليف أو الطبع مما يُنتقى من كتب السلف المتقدمة إنما هو قاصدُ ربحٍ أو مروِّجُ سلعةٍ أو نهَّاب أو سلَّاب أو طالب قوت. ولكن لا يهم هذا القول مَن توفَّق لمثل هذه الخدمة؛ فإن الجنة قد حُفَّت بالمكاره، وإن الطبيب الماهر لا يهمه صراخ المريض من مرارة الدواء، وإن النصح والعمل بالمنفعة مما يُستعذب معه مثل هاته الأقاويل. فاللهم وفِّق منا من يؤلِّف، ووفِّق منا من يطبع، ووفِّق منا من يقرأ، ووفِّق منا من يبلغ من لم يقرأ، ووفِّق منا من يستمع القول فيتَّبع أحسنه، إنك على ما تشاء قدير. ا.ﻫ.