مقاصد المؤلفين
بقلم عبد العليم صالح الأزهري المحامي
إذا كان للعاملين في هذه الحياة مقاصد يسعون نحوها وغايات يريدون إدراكها من أعمالهم، فإن مقاصد المؤلفين وغاياتهم التي كابدوا من أجلها العناء وحبسوا أنفسهم عليها وجاهدوا فيها حق الجهاد، إنما هي مُطالعة التآليف وقراءة الكتب ابتغاء النفع العام وحبًّا في صلاح الجامعة الإنسانية. وإذا كانت مراعاة الغاية في جميع الأعمال النافعة واجبة، فإنها في جانب المؤلفات من أوجب الواجبات؛ ذلك أن الواجب هو ما تدعو إليه الحاجة، وحاجات الناس ماسَّة إلى المعارف داعية إلى العلوم، فإذا الناس أغفلوا الواجب من المطالعة والدراسة فقد أضاعوا الحاجات وعطلوا المصالح وباتوا في أشد الافتقار إلى تقويم أَودهم وسد عوزهم، وإذا كانت غاية الصائغ من عمل الخاتم التختم به واللازم مراعاتها احترامًا لها وصونًا للصنائع الكمالية أن تتعطل، فإذا لم تُراعَ الغاية ولم يتختم أحد من الناس فلا يختل النظام ولا تفسد الهيئة؛ لأنه ليس من ضرورات الناس في شيء.
ولكن إذا لم تُراعَ مقاصد المؤلفين ولم تُنفَّذ غاياتهم وأحجم الناس عن المطالعة واستعصَوا عن الدراسة واستغشَوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، فقد أحجموا عن المصلحة وعبثوا بالإنسانية، بل قد ضيعوا العقول وأبادوا المَلَكات، وهي آلات العلوم وبها استخراج المعلومات من المجهولات.
فيتداعى لذلك بناء الإنسانية وتتقوَّض عروض المدارك والأفهام وتنحل عروة النفس الوثقى، ولم يبقَ بعدُ إلا صورة اللحم والدم شكلًا للإنسان، هنالك يشترك مع باقي الحيوانات في مشاربها ويزاحمها في غاياتها من نحو المآكل والمشارب، وهذا مُنافٍ للغرض من خِلقة النفس الناطقة مناقضٌ لخواصها التي أُعدت لها، فإن النفس لما كانت هي ذاك الجوهر الشريف فقد تأهلت إلى قُبول أشرف الأشياء وأرفعها، وهي المعارف والعلوم، لتحفظ هذا النظام البديع من أن يتطرق إليه الفساد وتتناوبه الهمجية الحيوانية، ولتحيا سعيدة وترجع إلى ربها راضية مرضية، من أجل ذلك وجبت العلوم وتحتمت المعارف على كل إنسان صونًا للنظام وسعادةً للنفس.
ولما كانت هذه الحياة وعرة المسالك كثيرة العقبات، كان لا بد للسالك فيها من آلات يقتدر بها على تمهيد السبل وتذليل العقبات، وما هي إلا تنوير البصائر وتقوية المدارك وجمع الآراء الصحيحة كي تُعرف الحقائق وتنجلي غياهب الشكوك وتنقشع غيوم الأوهام المتلبدة والخرافات المتراكمة في هذا العالم، ولا يكون ذلك إلا بمزاولة العلوم ومطالعة التآليف النافعة والقيام على دراستها لتحيا دوارس الأفهام وتتجدد أطلال المدارك وتقوى العزائم على دِراء المضرات وجلب الإصلاح.
فمن سلب نفسه خاصتها وأفقدها وظيفتها فقد حملها على خلاف ما خُلقت له وأحرمها من أجل ما نُدبت إليه وجنى على الإنسانية أعظم جناية. ولما كانت الأنفس في أصل الخلقة سواءً، وإنما تتفاضل بحسب تفاوتها في التهذيب، كانت النفس القادرة وحدها على ردع الشهوات البدنية هي التي أشرفت على ربوع الحكمة وأشرقت من سماء اليقين وتسامت عن أن تتنزل من أوج مجدها إلى خدمة الجسم في حضيضه؛ لأجل ذلك اهتم الفلاسفة بأمر النفس وبحثوا في حقيقتها وجعلوا لها المنزلة العلية والمكانة الرفيعة في هذا العالم؛ حيث كانت هي القوَّامة على كائناته، والقيِّم إذا لم يتصرف بالمصلحة كان هو والسفيه سواءً في عدم الرشد؛ فإذا تهذبت النفس وتجملت بالفضائل سارت بصاحبها في طرق السعادات، وإن أُهملت ولم تَهتدِ بأنوار المعارف تخبطت به في أودية الشرور وأورَدتْه حياض الضرر ومناهل الفساد. ولقد انصرفت غاية المؤلفين والكُتاب إلى أمر تهذيب النفس لما علموا أن الأمم لا تحيا حياةً طيبة إلا إذا تأصلت في نفوس مجموعها الأخلاق الفاضلة التي تُرشد إلى مقدار الحياة وتدل على حقيقتها، وتبين للناس كيف ترقى صهوات المجد وبأي سلم يتسنم غارب السعادة، فإذا كانت الأخلاق الفاضلة ليست أسبابًا للرقي، فلنلتمس السبب من أضدادها، وهذا باطل؛ فوجب أن ترجع إلى الأصل وهو الخلق العظيم الذي مدحه الله تعالى ومعناه العمل الصالح للمعاش والمعاد، ونتعلمه أخذًا من علم الأخلاق حتى تكون التربية على أصولها وبمقتضى صناعة وقانون. وعلم الأخلاق قسم من الفلسفة العملية كما أشار إلى ذلك الإمام الشهرزوري في كتابه المُسمى «الرسائل الخمس»؛ حيث يقول:
وأما الحكمة العملية وأقسامها، فهو أن التدابير البشرية والسياسات لا تخلو إما أن تختص بشخصٍ واحد فقط أو لا، والأول هو الحكمة التي بها يُعرف كيف ينبغي أن يكون الإنسان في حركاته وسكناته حتى تكون عيشته الدنيوية فاضلة وحياته الأخروية كاملة، ويُسمى هذا القسم من الحكمة بعلم الأخلاق، وقد صنف فيه المعلم الأول أرسطو كتابًا لطيفًا، ومن المتأخرين أبو علي مسكويه كتابًا في غاية الجودة وسماه الطهارة ا.ﻫ.
ولعل كتاب أرسطو المذكور الذي لم يُسمِّه الشهرزوري هو كتاب الأخلاق الذي نوَّه عنه ابن مسكويه في كتابه هذا. أما كتاب الطهارة الذي ذكره الشهرزوري فهو كتاب تهذيب الأخلاق الذي نحن بصدده كما تدل على ذلك عبارة مؤلفه؛ حيث قال في عرض كلامه فيه هذه العبارة: ولذلك سميته طهارة الأعراق.
وهو هذا الكتاب الذي أخذت على عاتقي تصحيحه وتبويبه، ولم يكن قد بوَّبه المؤلف رحمه الله اتكالًا منه على أن الناس في زمانه كانوا إذا ابتدأ الواحد منهم في كتاب لا يتركه حتى يأتي على آخره مطالعةً وفهمًا وعملًا استرسالًا. ولكن لأهل كل عصر أحكام وعادات، وعادات أهل هذا العصر وأذواقهم تأبى إلا أن يكون الكتاب مفصلًا تفصيلًا، مزخرفًا جميلًا؛ لذلك جاء كما يريدون وطبق ما يرومون، والله المسئول أن ينفع به العموم، إنه السميع العليم، وأن يتقبل هذا العمل البار، وأن يوفقنا إلى كل عمل صالح.