المقالة الأولى

تعريف النفس

إنا لمَّا وجدنا في الإنسان شيئًا ما يُضادُّ أفعال الأجسام وأجزاء الأجسام بحدِّه وخواصِّه، وله أيضًا أفعالٌ تُضادُّ أفعال الجسم وخواصه، حتى لا يشاركه في حال من الأحوال. وكذلك نجده يُباين الأعراض ويضادُّها كلَّها غاية المباينة، ثم وجدنا هذه المباينة المضادة منه للأجسام والأعراض إنما هي من حيث كانت الأجسام أجسامًا والأعراض أعراضًا؛ حكمنا بأن هذا الشيء ليس بجسمٍ ولا جزءٍ من جسم ولا عرضًا؛ وذلك أنه لا يستحيل ولا يتغير. وأيضًا فإنه يُدرك جميع الأشياء بالسويَّة، ولا يلحقه فتور ولا كلال ولا نقص. «وبيان ذلك»: أن كل جسم له صورةٌ ما، فإنه ليس يقبل صورة أخرى من جنس صورته الأولى إلا بعد مفارقته الصورة الأولى مفارقة تامة. «مثال ذلك»: أن الجسم إذا قبِل صورة وشكلًا من الأشكال كالتثليث مثلًا، فليس يقبل شكلًا آخر من التربيع والتدوير وغيرهما، إلا بعد أن يفارقه الشكل الأول. وكذلك إذا قبل صورةَ نقشٍ أو كتابة أو أي شيء كان من الصور، فليس يقبل صورة أخرى من ذلك الجنس إلا بعد زوال الأولى وبُطلانها البتَّة. فإن بقي فيه شيء من رسم الصورة الأولى لم يقبل الصورة الثانية على التمام، بل تختلط به الصورتان فلا يخلُص له إحداهما على التمام. «مثال ذلك»: إذا قبِل الشمعُ صورةَ نقشٍ في الخاتم لم يقبل غيره من النقوش إلا بعد أن يزول عنه رسم النقش الأول. وكذلك الفضة إذا قبلت صورة الخاتم. وهذا حكم مستقيم مستمر في الأجسام. ونحن نجد أنفُسنا تقبل صور الأشياء كلها على اختلافها من المحسوسات والمعقولات على التمام والكمال من غير مفارقة للأولى ولا معاقبة ولا زوال رسم، بل يبقى الرسم الأول تامًّا كاملًا، وتقبل الرسم الثاني أيضًا تامًّا كاملًا، ثم لا تزال تقبل صورة بعد صورة أبدًا دائمًا من غير أن تَضعُف أو تقصُر في وقت من الأوقات عن قبول ما يَرِد ويطرأ عليها من الصور، بل تزداد بالصورة الأولى قوةً على ما يَرِد عليها من الصورة الأخرى. وهذه الخاصة مضادة لخواص الأجسام، ولهذه العلة يزداد الإنسان فهمًا كلما ارتاض وتخرَّج في العلوم والآداب، فليست النفس إذًا جسمًا. فأما أنها ليست بعرَض، فقد تبيَّن من قبلُ أن العرَض لا يحمل عرضًا؛ لأن العرض في نفسه محمول أبدًا، موجود في غيره، لا قوام له بذاته. وهذا الجوهر الذي وصفنا حاله هو قابل أبدًا، حامل أتمَّ وأكمل من حمل الأجسام للأعراض. فإذًا النفس ليست جسمًا ولا جزءًا من جسم ولا عرضًا. وأيضًا فإن الطول والعرض والعمق الذي به صار الجسم جسمًا يحصُل في النفس في قوَّتها الوهمية من غير أن تصير به طويلة عريضة عميقة، ثم تزداد فيها هذه المعاني أبدًا بلا نهاية، فلا تصير بها أطول ولا أعرض ولا أعمق، بل لا تصير بها جسمًا البتَّة، ولا إذا تصورت أيضًا كيفيات الجسم تكيفت بها؛ أعني إذا تصورت الألوان والطعوم والروائح لم تتصور بها كما تتصور الأجسام، ولا يمنع بعضها قبول بعضٍ من أضدادها كما يُمنع في الجسم، بل تقبَلها كلها في حالة واحدة بالسواء. وكذلك حالها في المعقولات؛ فإنها تزداد بكل معقولٍ تحصِّله قوةً على قبول غيره دائمًا أبدًا بلا نهاية. وهذه حالةٌ مقابِلة لأحوال الأجسام، وخاصَّةٌ في غاية البعد من خواصِّها. وأيضًا فإن الجسم قواه لا تعرف العلوم إلا من الحواس ولا يميل إلا إليها؛ فهي تتشوَّقها بالملابسة والمشابكة؛ كالشهوات البدنية، ومحبة الانتقام والغلبة، وبالجملة كل ما يُحَسُّ ويُوصَل إليه بالحس. والجسم يزداد بهذا الأشياء قوةً، ويستفيد منها تمامًا وكمالًا؛ لأنها مادته وأسباب وجوده؛ فهو يفرح بها ويشتاق إليها؛ من أجل أنها تتمم وجوده وتزيد فيه وتمده. فأما هذا المعنى الآخر الذي سمَّيناه نفسًا، فإنه كلما تباعد من هذه المعاني البدنية التي أحصيناها وتداخَل إلى ذاته، وتحلَّى من الحواس بأكثر ما يمكن، ازداد قوة وتمامًا وكمالًا، وتظهر له الآراء الصحيحة والمعقولات البسيطة. وهذا إذن أدلُّ دليل على أن طباعه وجوهره من غير طباع الجسم والبدن، وأنه أكرم جوهرًا وأفضل طباعًا من كل ما في هذا العالم من الأمور الجسمانية. وأيضًا فإن تشوُّقها إلى ما ليس من طباع البدن، وحرصها على معرفة حقائق الأمور الإلهية، وميلها إلى الأمور التي هي أفضل من الأمور الجسمية وإيثارها لها، وانصرافها عن الأمور واللذات الجسمانية؛ يدلنا دلالة واضحة أنها من جوهرٍ أعلى وأكرم جدًّا من الأمور الجسمانية؛ لأنه لا يمكن في شيءٍ من الأشياء أن يتشوق ما ليس من طباعه وطبيعته، ولا أن ينصرف عما يُكمل ذاته ويقوِّم جوهره. فإذا كانت أفعال النفس إذا انصرفت إلى ذاتها، فتركت الحواس مخالِفةً لأفعال البدن ومضادة لها في محاولاتها وإراداتها؛ فلا محالة أن جوهرها مُفارِقٌ لجوهر البدن ومخالف له في طبعه.

وأيضًا فإن النفس وإن كانت تأخذ كثيرًا من مبادئ العلوم عن الحواس، فلها من نفسها مبادٍ أُخَر وأفعال لا تأخذها عن الحواس البتَّة؛ وهي المبادئ الشريفة العالية التي تنبني عليها القياسات الصحيحة؛ وذلك أنها إذا حكمت أنه ليس بين طرفي النقيض واسطة، فإنها لم تأخذ هذا الحكم من شيء آخر؛ لأنه أوَّليٌّ، ولو أخذته من شيء آخر لم يكن أوليًّا. وأيضًا فإن الحواس تُدرك المحسوسات فقط. وأما النفس فإنها تدرك أسباب الاتفاقات وأسباب الاختلافات التي من المحسوسات، وهي معقولاتها التي لا تستعين عليها بشيء من الجسم ولا آثار الجسم. وكذلك إذا حكمت على الحس أنه صدق أو كذب، فليست تأخذ هذا الحكم من الحس؛ لأنه لا يضاد نفسه فيما يحكم فيه. ونحن نجد النفس العاقلة فينا تستدرك شيئًا كثيرًا من خطأ الحواس في مبادئ أفعالها، وترد عليها أحكامها. من ذلك أن البصر يخطئ فيما يراه من قرب ومن بعد. أما خطؤه في البعيد فبإدراكه الشمس صغيرة مقدارها عرض قدم، وهي مثل الأرض مائة ونيِّفًا وستين مرة؛ يشهد بذلك البرهان العقلي، فتقبل منه وتردُّ على الحس ما شهد به فلا يقبله. وأما خطؤه في القريب فبمنزلة ضوء الشمس إذا وقع علينا من ثقب مربعات صغار كحلل الأهواز وأشباهها التي يستظل بها، فإنه يدرك بها الضوء الواصل إلينا منها مستديرًا، فترد النفس العاقلة عليه هذا الحكم وتغلطه في إدراكه وتعلم أنه ليس كما يراه وتُخْطئ البصر أيضًا في حركة القمر والسحاب والسفينة والشاطئ، ويخطئ في الأساطين المسطرة والنخيل وأشباهها، حتى يراها مختلفة في أوضاعها، ويُخطئ أيضًا في الأشياء التي تتحرك على الاستدارة حتى يراها كالحلقة والطوق، ويخطئ أيضًا في الأشياء الغائصة في الماء حتى يرى أن بعضه أكبر من مقداره، ويرى بعضها مكسورًا وهو صحيح، وبعضها معوجًا وهو مستقيم، وبعضها منكسرًا وهو منتصب. فيستخرج العقل أسباب هذه كلها من مبادٍ عقلية، ويحكم عليها أحكامًا صحيحة. وكذلك الحال في حاسة السمع وحاسة الذوق وحاسة الشم وحاسة اللمس؛ أعني حاسة الذوق تغلط في الحلو تجده مرًّا عند الصد أو ما أشبهه، وحاسة الشم تغلط كثيرًا في الأشياء المنتنة لا سيما في المنتقل من رائحة إلى رائحة؛ فالعقل يردُّ هذا القضايا ويقف فيها، ثم يستخرج أسبابها ويحكم فيها أحكامًا صحيحة، والحاكم في الشيء المزيِّف له أو المصحِّح أفضل وأعلى رتبة من المحكوم عليه. وبالجملة فإن النفس إذا علمت أن الحس صدق أو كذب، فليست تأخذ هذا العلم من الحس، ثم إذا علمت أنها قد أدركت معقولاتها فليست تعلم هذا العلم من علم آخر؛ لأنها لو علمت هذا العلم من علم آخر لاحتاجت في ذلك العلم أيضًا إلى علم آخر. وهذا يمر بلا نهاية. فإذًا علمُها بأنها علمت ليس بمأخوذ من علم آخر البتَّة، بل هو من ذاتها وجوهرها؛ أعني العقل. وليست تحتاج في إدراكها ذاتها إلى شيء آخر غير ذاتها؛ ولهذا ما قيل في أواخر هذا العلم، إن العقل والعاقل والمعقول شيء واحد لا غيرية شيء، يتبين في موضعه. فأما الحواس فلا تحس ذواتها ولا ما هو موافق لها كل الموافقة كما سيتبين أيضًا. وإذ قد تبيَّن من هذه الأشياء بيانًا واضحًا أن النفس ليست بجسم ولا بجزء من جسم ولا حال من أحوال الجسم، وأنها شيء آخر مفارق للجسم بجوهره وأحكامه وخواصه وأفعاله، فنقول:

شوق النفس إلى أفعالها الخاصة بها

أما شوقها إلى أفعالها الخاصة بها؛ أعني العلوم والمعارف، مع هربها من أفعال الجسم الخاصة به، فهو فضيلتها. وبحسب طلب الإنسان لهذه الفضيلة وحرصه عليها يكون فضله. وهذا الفضل يتزايد بحسب عناية الإنسان بنفسه وانصرافه عن الأمور العائقة له عن هذا المعنى بجهده وطاقته. وقد وضح مما تقدَّم ما الأشياء العائقة لنا عن الفضائل؛ أعني الأشياء البدنية والحواس وما يتصل بها. فأما الفضائل أنفُسها، فليست تحصل لنا إلا بعد أن تطهُر نفوسنا من الرذائل التي هي أضدادها؛ أعني شهواتها الرديئة الجسمانية ونزواتها الفاحشة البهيمية؛ فإن الإنسان إذا علم أن هذه الأشياء ليست فضائل بل هي رذائل تجنَّبها وكرِه أن يوصف بها. وإذا ظن أنها فضائل لزمها، وصارت له عادة. وبحسب التباسه وتدنُّسه بها يكون بُعده من قبول الفضائل. وقد يظهر للإنسان أن هذه الأشياء التي يشتاقها البدن بالحواس، ويميل إليها الجمهور؛ أعني المآكل والمشارب والمناكح هي رذائل وليست فضائل، وأنه إذا عقلها في الحيوانات الأُخَر وجد كثيرًا منها أقدر على الاستكثار منها وأحرص عليها، كالخنزير والكلب وأصناف كثيرة من حيوان الماء وسباع الوحش والطير؛ فإنها أقوى وأحرَص من الإنسان على هذه الأشياء وأكثر احتمالًا لها. وليست تكون بها أفضل من الإنسان. وأيضًا فإن الإنسان إذا اكتفى من طعامه وشرابه وسائر لذاته البدنية، إذا عُرض عليه الاستزادة منها كما يُستزاد من الفضائل أبى ذلك وعافه، وتبيَّن له قبح صورة من يتعاطاها لا سيما مع الاستغناء عنها والاكتفاء منها، بل يتجاوز ذلك إلى مقته وذمِّه، بل إلى تقويمه وتأديبه. فينبغي الآن أن نقدِّم أمام ما نطلبه من سعادة النفس وفضائلها كلامًا يسهل به فهم ما نريده، فنقول: كل موجود من حيوان ونبات وجماد وكذلك بسائطها؛ أعني النار والهواء والأرض والماء، وكذلك الأجرام العلوية له قوًى وملَكات وأفعال، بها يصير ذلك الموجود هو ما هو، وبها يميز عن كل ما سواه. وله أيضًا قوى وملَكات وأفعال بها يشارك ما سواه. ولمَّا كان الإنسان من بين الموجودات كلها هو الذي يُلتمس له الخُلق المحمود والأفعال المرضية، وجب ألَّا ننظر في هذا الوقت في قواه وملَكاته وأفعاله التي بها يشارك سائر الموجودات؛ إذ كان ذلك من حق صناعةٍ أخرى وعلمٍ آخر يُسمَّى العلم الطبيعي. وأما أفعاله وقواه وملَكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان، وبها تتم إنسانيته وفضائله، فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز. والنظر فيها يُسمَّى الفلسفة العلمية. والأشياء الإرادية التي تُنسب إلى الإنسان تنقسم إلى الخيرات والشرور؛ وذلك أن الغرض المقصود من وجود الإنسان إذا توجَّه الواحد منا إليه حتى يحصل هو الذي يجب أن يُسمَّى به خيِّرًا أو سعيدًا. فأما من عاقه عنها عوائق أُخَر، فهو الشرِّير الشقي. فإذًا الخيرات هي الأمور التي تحصل للإنسان بإرادته وسعيه في الأمور التي لها أُوجِد الإنسان ومن أجلها خُلِق. والشرور هي الأمور التي تعوقه عن هذه الخيرات بإرادته وسعيه أو كسله وانصرافه، والخيرات قد قسمها الأولون إلى أقسام كثيرة؛ وذلك أن منها ما هي شريفة ومنها ما هي ممدوحة، ومنها ما هي بالقوة كذلك؛ ونعني بالقوة التهيؤ والاستعداد. ونحن نعدِّدها فيما بعدُ إن شاء الله تعالى.

وقد قدَّمنا القول أن كل واحد من الموجودات له كمالٌ خاص وفعلٌ لا يشاركه فيه غيره من حيث هو ذلك الشيء؛ أعني أنه لا يجوز أن يكون موجودًا آخر سواه يصلح لذلك الفعل منه. وهذا حكم مستمر في الأمور العلوية والسفلية كالشمس وسائر الكواكب، وكأنواع الحيوان كلها كالفرس والبازي، وكأنواع النبات والمعادن، وكالعناصر البسائط التي متى تصفَّحت أحوالها تبيَّن لك من جميعها صحة ما قلناه وحكمنا به. فإذًا الإنسان من بين سائر الموجودات له فعلٌ خاص به لا يشاركه فيه غيره؛ وهو ما صدر عن قوته المميِّزة المُرَوِّيَة؛ فكل من كان تمييزه أصح ورويَّته أصدق واختياره أفضل كان أكمل في إنسانيته. وكما أن السيف والمنشار، وإن صدر عن كل واحد منهما فعله الخاص بصورته الذي من أجله عُمِل، فأفضل السيوف ما كان أمضى وأنضر، وما كفاه يسيرٌ من الإيماء في بلوغ كماله الذي أُعِدَّ له. وكذلك الحال في الفرس والبازي وسائر الحيوانات؛ فإن أفضل الأفراس ما كان أسرع حركة وأشد تيقُّظًا لما يريده الفارس منه في طاعة اللجام وحسن القبول في الحركات وخفَّة العدْو والنشاط. فكذلك الناس؛ أفضلهم من كان أقدر على أفعاله الخاصة به وأشد تمسُّكًا بشرائط جوهره الذي تميز به عن الموجودات.

الحرص على الخيرات

فإذًا الواجب الذي لا مِرْيَة فيه أن نحرص على الخيرات التي هي كمالنا والتي من أجلها خُلقنا، ونجتهد في الوصول إلى الانتهاء إليها، ونتجنب الشرور التي تعوقنا عنها وتنقص حظنا منها؛ فإن الفرس إذا قصر عن كماله، ولم تظهر أفعاله الخاصة به على أفضل أحوالها حُطَّ عن مرتبة الفرسية، واستُعمل بالإِكَافِ كما تُستعمل الحمير. وكذلك حال السيف وسائر الآلات متى قصُرت ونقصت أفعالها الخاصة بها حُطَّت عن مراتبها، واستُعملت استعمال ما دونها. والإنسان إذا نقصت أفعاله، وقصُرت عما خُلق له؛ أعني أن تكون أفعاله التي تصدر عنه وعن رويَّته غير كاملة، أحرى بأن يُحَطَّ عن مرتبة الإنسانية إلى مرتبه البهيمية. هذا إن صدرت أفعاله الإنسانية عنه ناقصة غير تامة. فإذا صدرت عنه الأفعال بضد ما أُعِدَّ له؛ أعني الشرور التي تكون بالرويَّة الناقصة، والعدول بها عن جهتها لأجل الشهوة التي يشارك فيها البهيمة أولًا، أو الاغترار بالأمور الحِسِّيَّة التي تشغله عما عرض له من تزكية نفسه التي ينتهي بها إلى المُلك الرفيع والسرور الحقيقي، وتوصله إلى قرة العين التي قال الله تعالى: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وتُبلِّغه إلى رب العالمين في النعيم المقيم واللذات التي لم ترها عين ولا سمعتها أذن ولا خطرت على قلب بشر، وانخدع عن هذه الموهبة السرمدية الشريفة بتلك الخساسات التي لا ثبات لها، فهو حقيق بالمقت من خالقه عز وجل، خليق بتعجيل العقوبة له وإراحة العباد والبلاد منه. وإذ تبيَّن أن سعادة كل موجود إنما هي صدور أفعاله التي تخص صورته عنه تامةً كاملةً، وأن سعادة الإنسان تكون في صدور أفعاله الإنسانية عنه بحسب تمييزه ورويَّته، وأن لهذه السعادة مراتب كثيرة بحسب الرويَّة والمُرَوَّى فيه؛ ولذلك قيل: أفضل الرويَّة ما كان في أفضل مُرَوًّى، ثم ينزل رتبةً فرتبة إلى أن ينتهي إلى النظر في الأمور الممكنة من العالم الحسي، فيكون الناظر في هذه الأشياء قد استعمل رويَّته والصورة الخاصة به التي صار من أجلها سعيدًا معرَّضًا للملك الأبدي والنعيم السرمدي، في أشياء دنيئة لا وجود لها بالحقيقة؛ فقد تبيَّن أيضًا أجناس من السعادات بالجملة، وأضدادها من الشقاوات وأجناسها، وأن الخيرات والشرور في الأفعال الإرادية هي إما باختيار الأفضل والعمل به، وإما باختيار الأدون والميل إليه.

ولما كانت هذه الخيرات الإنسانية وملَكاتها التي في النفس كثيرة، ولم يكن في طاقة الإنسان الواحد القيام بجميعها، وجب أن يقوم بجميعها جماعةٌ كثيرة منهم؛ ولذلك وجب أن تكون أشخاص الناس كثيرة، وأن يجتمعوا في زمان واحد على تحصيل هذه السعادات المشتركة لتكميل كل واحد منهم بمعاونة الباقين له، فتكون الخيرات مشتركة والسعادة مفروضة بينهم، فيتوزعونها حتى يقوم كل واحد منهم بجزء منها، ويتم للجميع بمعاونة الجميع الكمال الإنسي، وتحصل لهم السعادات الثلاث التي شرحناها في كتاب الترتيب. ولأجل ذلك وجب على الناس أن يحب بعضهم بعضًا؛ لأن كل واحد يرى كماله عند الآخر. ولولا ذلك لما تمَّت للفرد سعادته، فيكون إذًا كل واحد بمنزلة عضو من أعضاء البدن، وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه.

وقد تبيَّن للناظر في أمر هذه النفس وقواها أنها تنقسم إلى ثلاثة؛ أعني القوة التي بها يكون الفكر والتمييز والنظر في حقائق الأمور والقوة التي بها يكون الغضب والنجدة والإقدام على الأهوال، والشوق إلى التسلُّط والترفُّع وضروب الكرامات، والقوة التي بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والشوق إلى الملاذِّ التي في المآكل والمشارب والمناكح وضروب اللذات الحِسِّيَّة، وهذه الثلاث متباينة. ويُعلم من ذلك أن بعضها إذا قويَ أضرَّ بالآخر، وربما أبطل أحدهما فعل الآخر، وربما جُعلت نفوسنا، وربما جعلت قوًى لنفس واحدة. والنظر في ذلك ليس يليق بهذا الموضع، وأنت تكتفي في تعلُّم الأخلاق بأنها قوًى ثلاث متباينة، تقوى إحداها وتضعُف بحسب المزاج أو العادة أو التأديب.

فالقوة الناطقة هي التي تُسمَّى الملكية، وآلتها التي تستعملها من البدن الدماغ. والقوة الشهوية هي التي تُسمَّى بالبهيمية، وآلتها التي تستعملها من البدن الكبد.

والقوة الغضبية هي التي تُسمَّى السَّبُعية، وآلتها التي تستعملها من البدن القلب؛ فلذلك وجب أن يكون عدد الفضائل بحسب أعداد هذه القوى. وكذلك أضدادها التي هي رذائل. فمتى كانت حركة النفس الناطقة معتدلة وغير خارجة عن ذاتها، وكان شوقها إلى المعارف الصحيحة (لا المظنونةِ معارفَ وهي بالحقيقة جهالات) حدثت عنها فضيلة العلم، وتتبعها الحكمة. ومتى كانت حركة النفس البهيمية معتدلة، منقادة للنفس العاقلة، غير متأبِّية عليها فيما تقسطه لها، ولا منهمكة في اتِّباع هواها، حدثت عنها فضيلة العفة، وتتبعها فضيلة السخاء.

ومتى كانت حركة النفس الغضبية معتدلة تطيع النفس العاقلة فيما تقسطه لها، فلا تهيج في غير حينها ولا تحمى أكثر مما ينبغي لها، حدثت منها فضيلة الحلم، وتتبعها فضيلة الشجاعة. ثم يحدث عن هذه الفضائل الثلاث باعتدالها ونسبة بعضها إلى بعض فضيلة هي كمالها وتمامها؛ وهي فضيلة العدالة. فلذلك أجمع الحكماء على أن أجناس الفضائل أربع؛ وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة؛ ولهذا لا يفتخر أحد ولا يتباهى إلا بهذه الفضائل فقط. فأما من افتخر بآبائه وأسلافه؛ فلأنهم كانوا على بعض هذه الفضائل أو عليها كلها. وكل واحدة من هذه الفضائل إذا تعدَّت صاحبها إلى غيره تَسمَّى صاحبها بها ومُدِح عليها. وإذا اقتصرت على نفسه لم يُسمَّ بها، بل غُيِّرت هذه الأسماء. أما الجود فإنه إذا لم يتعدَّ صاحبه سُمِّي صاحبه منفاقًا. وأما الشجاعة فإن صاحبها يُسمَّى أَنِفًا. وأما العلم فإن صاحبه يُسمَّى مستبصرًا. ثم إن صاحب الجود والشجاعة إذا عمَّ غيره بفضيلتيه وتعدَّتاه رُجِيَ بإحداهما واحتُشم وَهِيبَ بالأخرى. وذلك في الدنيا فقط؛ لأنهما فضيلتان حيوانيتان. أما العلم إذا تعدى صاحبه فإنه يُرجى ويُحتشم في الدنيا والآخرة؛ لأنه فضيلة إنسانية ملكية، وأضداد هذه الفضائل الأربع أربع أيضًا؛ وهي الجهل والشَّرَه والجبن والجَوْر. وتحت كل واحد من هذه الأجناس أنواع كثيرة سنذكر منها ما يمكن ذكره. فأما أشخاص الأنواع فهي بلا نهاية، وهي أمراض نفسانية تحدث منها أمراض كثيرة؛ كالخوف والحزن والغضب وأنواع العشق الشهواني، وضروب من سوء الخلق، وسنذكرها ونذكر علاجاتها فيما بعد إن شاء الله تعالى. والذي يجب علينا الآن هو تحديد هذه الأشياء؛ أعني الأجناس الأربعة التي تحتوي على جمل الفضائل، فنقول:

أما الحكمة فهي فضيلة النفس الناطقة المميِّزة، وهي أن تعلم الموجودات كلها من حيث هي موجودة، وإن شئت فقل أن تعلم الأمور الإلهية والأمور الإنسانية. ويثمر علمها بذلك أن تعرف المعقولات أيُّها يجب أن يُفعل وأيها يجب أن يُغفل. وأما العفة فهي فضيلة الحس الشهواني. وظهور هذه الفضيلة في الإنسان يكون بأن يصرف شهواته بحسب الرأي؛ أعني أن يوافق التمييز الصحيح؛ حتى لا ينقاد لها، ويصير بذلك حرًّا غير متعبِّد لشيء من شهواته. وأما الشجاعة فهي فضيلة النفس الغضبية، وتظهر في الإنسان بحسب انقيادها للنفس الناطقة المميزة، واستعمال ما يوجبه الرأي في الأمور الهائلة؛ أعني ألَّا يخاف من الأمور المفزعة إذا كان فعلها جميلًا والصبر عليها محمودًا.

فأما العدالة فهي فضيلة للنفس تحدث لها من اجتماع هذه الفضائل الثلاث التي عدَّدناها، وذلك عند مسالمة هذه القوى بعضها للبعض، واستسلامها للقوة المميِّزة حتى لا تتغالب ولا تتحرك لنحو مطلوباتها على سوم طبائعها. ويحدث للإنسان بها سمة يختار بها أبدًا الإنصاف من نفسه على نفسه أولًا، ثم الإنصاف والانتصاف من غيره وله. وسنتكلم على كل واحدة من هذه الفضائل بكلام أوسع من هذا إذا ذكرنا الفضائل التي تحت كل جنس من هذه الأربع؛ إذ كان غرضنا في هذا الموضع الإشارة إليها بالرسوم الوجيزة ليتصورها المتعلم. والذي ينبغي الآن أن نُتبِع ما قدَّمنا بذكر أنواع هذه الأجناس، وما تحت كل واحد منها فنقول:

الأقسام التي تحت الحكمة

الذكاء، الذكر، التعقل، سرعة الفهم وقوته، صفاء الذهن، سهولة التعلم. وبهذه الأشياء يكون حسن الاستعداد للحكمة. فأما الوقوف على جواهر هذه الأقسام، فيكون من حدودها؛ وذلك أن العلم بالحدود يُفهم جواهر الأشياء المطلوبة الموجودة دائمًا على حال واحد؛ وهو العلم البرهاني الذي لا يتغير ولا يدخله الشك بوجه من الوجوه. والفضائل التي هي بذاتها فضائل لا تكون في حال من الأحوال غير فضائل، فكذلك العلوم بها. أما الذكاء فهو سرعة انقداح النتائج وسهولتها على النفس. أما الذكر فهو ثبات صورة ما يُخلصه العقل أو الوهم من الأمور. وأما التعقل فهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه. وأما صفاء الذهن فهو استعداد النفس لاستخراج المطلوب. وأما جودة الذهن وقوته فهو تأمُّل النفس لما قد لزم من المقدَّم. وأما سهولة التعلم فهي قوة للنفس وحدَّة في الفهم بها تُدرك الأمور النظرية.

الفضائل التي تحت العفة

الحياء، الدعة، الصبر، السخاء، الحرية، القناعة، الدماثة، الانتظام، حسن الهدي، المسالمة، الوقار، الورع.

أما الحياء فهو انحصار النفس خوفَ إتيان القبائح، والحذر من الذم والسب الصادق. وأما الدعة فهي سكون النفس عند حركة الشهوات. وأما الصبر فهو مقاومة النفس الهوى لئلَّا تنقاد لقبائح اللذات. وأما السخاء فهو التوسط في الإعطاء، وهو أن يُنفق الأموال فيما ينبغي على مقدار ما ينبغي وعلى ما ينبغي. وتحت السخاء خاصةً أنواع كثيرة نحصيها فيما بعدُ لكثرة الحاجة إليها. وأما الحرية فهي فضيلة للنفس، بها يُكتسب المال من وجهه، ويُعطى في وجهه، وتمنع من اكتسابه من غير وجهه. وأما القناعة فهي التساهل في المآكل والمشارب والزينة. وأما الدماثة فهي حسن انقياد النفس لما يجمُل وتسرُّعها إلى الجميل. وأما الانتظام فهو حالٌ للنفس تقودها إلى حسن تقدير الأمور وترتيبها كما ينبغي، وأما حسن الهدي فهو محبة تكميل النفس بالزينة الحسنة. وأما المسالمة فهي موادعةٌ تحصُل للنفس عن ملَكة لا اضطرار فيها. وأما الوقار فهو سكون النفس وثباتُها عند الحركات التي تكون في المطالب. وأما الورع فهو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس.

الفضائل التي تحت الشجاعة

كبر النفس، النجدة، عظم الهمة، الثبات، الصبر، الحلم، عدم الطيش، الشهامة، احتمال الكد. والفرق بين هذا الصبر والصبر الذي في العفة أن هذا يكون في الأمور الهائلة، وذلك يكون في الشهوات الهائجة. أما كبر النفس فهو الاستهانة باليسير، والاقتدار على حمل الكرائه، فصاحبه أبدًا يؤهِّل نفسه للأمور العظام مع استخفافه لها. وأما النجدة فهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع. وأما عِظَم الهمة فهي فضيلة للنفس تحتمل بها سعادة الجد وضدها، حتى الشدائد التي تكون عند الموت. وأما الثبات فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام ومقاومتها في الأهوال خاصة. وأما الحلم فهو فضيلة للنفس تُكسبها الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة. وأما السكون الذي نعني به عدم الطيش، فهو إما عند الخصومات، وإما في الحروب التي يُذَبُّ بها عن الحريم أو عن الشريعة. وهو قوة للنفس تقسر حركتها في هذه الأحوال لشدتها. وأما الشهامة فهي الحرص على الأعمال العظام توقُّعًا للأحدوثة الجميلة. وأما احتمال الكد فهو قوة للنفس بها تستعمل آلات البدن في الأمور الحِسِّيَّة بالتمرين وحسن العادة.

الفضائل التي تحت السخاء

الكرم، الإيثار، النبل، المواساة، السماحة، المسامحة. أما الكرم فهو إنفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الأمور الجليلة القدر الكثيرة النفع كما ينبغي، وباقي شرائط السخاء التي ذكرناها. وأما الإيثار فهو فضيلة للنفس بها يكفُّ الإنسان عن بعض حاجاته التي تخصه حتى يبذله لمن يستحقه. وأما النبل فهو سرور النفس بالأفعال العظام وابتهاجها بلزوم هذه السيرة. وأما المواساة فهي معاونة الأصدقاء والمستحقين ومشاركتهم في الأموال والأقوات. وأما السماحة فهي بذل بعض ما لا يجب. وأما المسامحة فهي ترك بعض ما يجب، والجميع يكون بالإرادة والاختيار.

الفضائل التي تحت العدالة

الصداقة، الألفة، صلة الرحم، المكافأة، حسن الشركة، حسن القضاء، التودد، العبادة، ترك الحقد، مكافأة الشر بالخير، استعمال اللطف، ركوب المروءة في جميع الأحوال، ترك المعادات، ترك الحكاية عمن ليس بعدلٍ مَرْضيٍّ، البحث عن سيرة من يُحكى عنه العدل، ترك لفظة واحدة لا خير فيها لمسلم فضلًا عن حكاية توجب حدًّا أو قذفًا أو قتلًا أو قطعًا، ترك السكون إلى قول سفلة الناس وسقَطهم، ترك قول من يُكدي بين الناس ظاهرًا باطنًا أو يُلحِف في مسألة أو يلح بالسؤال؛ فإن هؤلاء يرضيهم الشيء اليسير فيقولون لأجله حسنًا، ويُسخطهم إذا مُنعوا اليسير فيقولون لأجله قبيحًا، ترك الشَّرَه في كسب الحلال، وترك ركوب الدناءة في الكسب لأجل العيال، الرجوع إلى الله وإلى عهده وميثاقه عند كل قول يتلفظ به أو لحْظ يلحظه أو خطرة في أعدائه وأصدقائه، ترك اليمين بالله وبشيء من أسمائه وصفاته رأسًا. وليس بعدل من لم يُكرم زوجته وأهلها المتَّصلين بها وأهل المعرفة الباطنة به. وخير الناس خيرهم لأهله وعشيرته والمتصلين به من أخ أو ولد أو متصل بأخ أو والد أو قريب أو نسيب أو شريك أو جار أو صديق أو حبيب. ومن أحب المال حبًّا مفرطًا لم يؤهَّل لهذه المرتبة؛ فإن حرصه على جمع المال يصدُّه عن استعمال الرأفة وامتطاء الحق وبذل ما يجب، ويضطره إلى الخيانة والكذب والاختلاق والزور ومنع الواجب، والاستقصاء، واستجلاب الدانق والحبة والذرَّة لبيع الدين والمروءة. وربما أنفق أموالًا جمَّة محبة منه للمحمدة وحسن الثناء ولا يريد بذلك وجه الله وما عنده، بل يتخذها مصيدة ويجعل ذلك مكسبة، ولا يعلم أن ذلك عليه سيئة ومسبَّة.

أما الصداقة فهي محبة صادقة يهتم معها بجميع أسباب الصديق وإيثار فعل الخيرات التي يمكن فعلها به. وأما الألفة فهي اتفاق الآراء والاعتقادات، وتحدث عن التواصل فيُعتقد معها التضافر على تدبير العيش. وأما صلة الرحم فهي مشاركة ذوي اللُّحمة في الخيرات التي تكون في الدنيا. وأما المكافأة فهي مقابلة الإحسان بمثله أو بزيادة عليه. وأما حسن الشركة فهو الأخذ والإعطاء في المعاملات على الاعتدال الموافق للجميع. وأما حسن القضاء فهو مجازاة بعدل بغير ندم ولا منٍّ. وأما التودد فهو طلب مودَّات الأكفاء وأهل الفضل بحسن اللقاء وبالأعمال التي تستدعي المحبة منهم. وأما العبادة فهي تعظيم الله تعالى وتمجيده وطاعته وإكرام أوليائه من الملائكة والأنبياء والأئمة، والعمل بما توجبه الشريعة، وتقوى الله تعالى تُتمم هذه الأشياء وتُكملها. وإذ قد تقصَّينا الفضائل الأولى وأقسامها وذكرنا أنواعها وأجزاءها، فقد عرفنا الرذائل التي تضاد الفضائل؛ لأنه يُفهم من كل واحدة من تلك الفضائل كلها ما يقابلها؛ لأن العلم بالأضداد واحد.

ولما كانت هذه الفضائل أوساطًا بين أطراف، وتلك الأطراف هي الرذائل وجب أن تُفهم منها، وإن اتسع لنا الزمان ذكرناها؛ لأن وجود أسمائها في هذا الوقت متعذر، وينبغي أن تُفهم من قولنا: إن كل فضيلة فهي وسط بين رذائل ما أنا واصفه. إن الأرض لما كانت في غاية البعد من السماء، قيل إنها وسط. وبالجملة المركز من الدائرة هو على غاية البعد من المحيط، وإذا كان الشيء على غاية البعد من شيء آخر، فهو من هذه الجهة على القطر. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يُفهم معنى الوسط من الفضيلة إذا كانت بين رذائل بُعدها منها أقصى البعد؛ ولهذا إذا انحرفت الفضيلة عن موضعها الخاص بها أدنى انحراف قرُبت من رذيلة أخرى، ولم تسلم من العيب بحسب قربها من تلك الرذيلة التي تميل إليها؛ ولهذا صعُب جدًّا وجود هذا الوسط، ثم التمسك به بعد وجوده أصعب؛ لذلك قالت الحكماء: إصابة نقطة الهدف أعسر من العدول عنها، ولزوم الصواب بعد ذلك حتى لا يخطئها أعسر وأصعب؛ وذلك أن الأطراف التي تُسمَّى رذائل من الأفعال والأحوال والزمان وسائر الجهات كثيرة جدًّا؛ ولذلك كانت دواعي الشر أكثر من دواعي الخير. ويجب أن تُطلب أوساط تلك الأطراف بحسب كل فرد. فأما ما يجب على المؤلف فهو أن يذكر جمل هذه الأوساط وقوانينها بحسب ما يليق بالصناعة لا على ما يجب على كل شخص؛ فإن هذا غير ممكن؛ فإن النجار والصائغ وجميع أرباب الصناعات إنما يحصل في نفوسهم قوانين وأصول، فيعرف النجار صورة الباب والسرير، والصائغ صورة الخاتم والتاج على الإطلاق. فأما أشخاص ما قام في نفسه فإنما يستخرجها بتلك القوانين، ولا يمكنه تعرُّف الأشخاص لأنها بلا نهاية؛ وذلك أن كل باب وخاتم إنما يُعمل بمقدار ما ينبغي وعلى قدر الحاجة وبحسب المادة. والصناعة لا تضمن إلا معرفة الأصول فقط. وإذ قد ذكرنا معنى الوسط في الأخلاق وما ينبغي أن يُفهم منه، فلنذكر هذه الأوساط لتُفهم منها الأطراف التي هي رذائل وشرور. فنقول وبالله التوفيق:

«أما الحكمة»: فهي وسط بين السفه والبله. وأعني بالسفه ها هنا استعمال القوة الفكرية فيما لا ينبغي وكما لا ينبغي. وسماه القوم الجَرْبَزَة. وأعني بالبله تعطيل هذه القوة واطِّراحها، وليس ينبغي أن يُفهم أن البله ها هنا نقصان الخلقة، بل ما ذكرته من تعطيل القوة الفكرية بالإرادة. وأما الذكاء فهو وسط بين الخبث والبلادة؛ فإن أحد طرفي كل وسط إفراط والآخر تفريط؛ أعني الزيادة عليه والنقصان منه؛ فالخبث والدهاء والحيل الرديئة هي كلها إلى جانب الزيادة فيما ينبغي أن يكون الذكاء فيه. وأما البلادة والبله والعجز عن إدراك المعارف فهي كلها إلى جانب النقصان من الذكاء. وأما الذكر فهو وسط بين النسيان الذي يكون بإهمال ما ينبغي أن يُحفظ وبين العناية بما لا ينبغي أن يُحفظ. وأما التعقل — وهو حسن التصور — فهو وسط بين الذهاب بالنظر في الشيء الموضوع إلى أكثر مما هو عليه وبين القصور بالنظر فيه عما هو عليه. وأما سرعة الفهم فهي وسط بين اختطاف خيال الشيء من غير إحكام لفهمه، وبين الإبطاء عن فهم حقيقته. وأما صفاء الذهن فهو وسط بين ظُلمة النفس عن استخراج المطلوب وبين التهابٍ يعرض فيها فيمنعها من استخراج المطلوب. وأما جودة الذهن وقوته فهو وسط بين الإفراط في التأمل لما لزم من المقدم حتى يخرج منه إلى غيره وبين التفريط فيه حتى يقصر عنه. وأما سهولة التعلم فهي وسط بين المبادرة إليه بسلاسة تثبت معها صورة العلم وبين التعصب عليه وتعذُّره.

«وأما العفة»: فهي وسط بين رذيلتين؛ وهما الشره وخمود الشهوة. وأعني بالشره الانهماك في اللذات والخروج فيها عما ينبغي. وأعني بخمود الشهوة السكون عن الحركة التي تُسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته، وهي ما رخَّص فيه صاحب الشريعة والعقل.

وأما الفضائل التي تحت العفة فإن الحياء وسط بين رذيلتين؛ إحداهما الوقاحة والأخرى الخرق. وأنت تقدر على أن تلحظ أطراف الفضائل الأخرى التي هي رذائل، وربما وجدت لها أسماء بحسب اللغة وربما وجدت لها اسمًا. وليس يعسر عليك فهم معانيها والسلوك فيها على السبيل التي سلكناها. «وأما الشجاعة»: فهي وسط بين رذيلتين إحداهما الجبن والأخرى التهور. أما الجبن فهو الخوف مما لا ينبغي أن يُخاف منه. وأما التهور فهو الإقدام على ما لا ينبغي أن يُقدَم عليه. «وأما السخاء»: فهو وسط بين رذيلتين؛ إحداهما السرف والتبذير، والأخرى البخل والتقتير. أما التبذير فهو بذل ما لا ينبغي لمن لا يستحق. وأما التقتير فهو منع ما ينبغي عمن يستحق. «وأما العدالة»: فهي وسط بين الظلم والانظلام. أما الظلم فهو التوصل إلى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغي كما لا ينبغي. وأما الانظلام فهو الاستحذاء والاستماتة في المقتنيات لمن لا ينبغي وكما لا ينبغي؛ ولذلك يكون للجائر أموال كثيرة؛ لأنه يتوصل إليها من حيث لا يجب، ووجوه التوصل إليها كثيرة. وأما المنظلم فمقتنياته وأمواله يسيرة جدًّا؛ لأنه يتركها من حيث لا يجب. وأما العادل فهو في الوسط؛ لأنه يقتني الأموال من حيث يجب، ويتركها من حيث لا يجب. فالعدالة فضيلة ينصف بها الإنسان من نفسه ومن غيره، من غير أن يعطي نفسه من النافع أكثر وغيره أقل. وأما في الضار فبالعكس؛ وهو أن لا يعطي نفسه أقل وغيره أكثر، لكن يستعمل المساواة التي هي تناسب ما بين الأشياء. ومن هذا المعنى اشتُقَّ اسمه؛ أعني العدل. وأما الجائر فإنه يطلب لنفسه الزيادة من المنافع ولغيره النقصان منها. وأما في الأشياء الضارة فإنه يطلب لنفسه النقصان ولغيره الزيادة منها. فقد ذكرنا الأخلاق التي هي خيرات وفضائل، وأطرافها التي هي شرور ورذائل على طريق الإيجاز، وحددنا ما يُحَدُّ منها ورسمنا ما يُرسَم. وسنشرح كل واحد منها على سبيل الاستقصاء فيما بعدُ إن شاء الله تعالى. وينبغي أن نلخص في هذا الموضع شكًّا ربما لحق طالب هذه الفضائل، فنقول: إنا قد بيَّنَّا فيما تقدَّم أن الإنسان من بين جميع الحيوان لا يكتفي بنفسه في تكميل ذاته، ولا بد له من معاونة قوم كثيري العدد حتى يتمم به حياته طيبة ويجري أمره على السداد؛ ولهذا قال الحكماء: إن الإنسان مدني بالطبع؛ أي هو محتاج إلى مدينة فيها خلق كثير لتتم له السعادة الإنسانية؛ فكلٌّ بالطبع وبالضرورة يحتاج إلى غيره؛ فهو لذلك مضطر إلى مصافاة الناس ومعاشرتهم العشرة الجميلة ومحبتهم المحبة الصادقة؛ لأنهم يُكمِّلون ذاته ويتمِّمون إنسانيته. وهو أيضًا يفعل بهم مثل ذلك. فإذا كان كذلك بالطبع وبالضرورة فكيف يؤثِر الإنسان العاقل العارف بنفسه التفرد والتخلي ولا يتعاطى ما يرى الفضيلة في غيره. فإذا القوم الذين رأوا الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس وتفردوا عنهم، إما بملازمة المغارات في الجبال وإما ببناء الصوامع في المفاوز، وإما بالسياحة في البلدان، لا يحصل لهم شيء من الفضائل الإنسانية التي عددناها؛ ذلك أن من لم يخالط الناس ولم يساكنهم في المدن لا تظهر فيه العفة ولا النجدة ولا السخاء ولا العدالة، بل تصير قواه وملَكاته التي رُكِّبت فيه باطلة؛ لأنها لا تتوجه لا إلى خير ولا إلى شر. فإذا بطلت ولم تظهر أفعالها الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات والموتى من الناس؛ ولذلك يظنون ويُظَن بهم أنهم أعِفَّاء، وليسوا بأَعِفَّاء، وأنهم عدول وليسوا بعدول. وكذلك في سائر الفضائل؛ أعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي شرور، ظن بهم الناس أنهم أفاضل. وليست الفضائل إعدامًا، بل هي أفعال وأعمال تظهر عند مشاركة الناس ومساكنتهم وفي المعاملات وضروب الاجتماعات. ونحن إنما نعلم ونتعلم الفضائل الإنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم ونصبر على أذاهم؛ لنصل منها وبها إلى سعادات أُخَر إذا صرنا إلى حال أخرى، وتلك الحال غير موجودة لنا الآن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤