المقالة الثانية

الخلق

الخلق حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة. وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكًا مفرطًا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتم ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب وربما كان مبدؤه بالروية والفكر ثم يستمر عليه أولًا فأولًا حتى يصير ملكة وخُلقًا؛ ولهذا اختلف القدماء في الخُلق، فقال بعضهم: الخلق خاص بالنفس غير الناطقة. وقال بعضهم: قد يكون للنفس الناطقة فيه حظ، ثم اختلف الناس أيضًا اختلافًا ثانيًا، فقال بعضهم: من كان له خلق طبيعي لم ينتقل عنه. وقال آخرون: ليس شيء من الأخلاق طبيعيًّا للإنسان. ولا نقول إنه غير طبيعي؛ وذلك أنَّا مطبوعون على قبول الخلق، بل ننتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعًا أو بطيئًا. وهذا الرأي الأخير هو الذي نختاره؛ لأنا نشاهده عيانًا، ولأن الرأي الأول يؤدي إلى إبطال قوة التمييز والعقل وإلى رفض السياسات كلها، وترك الناس همجًا مهملين، وإلى ترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم. وهذا ظاهر الشناعة جدًّا.

وأما الرواقيون فظنوا أن الناس كلهم يُخلقون أخيارًا بالطبع، ثم بعد ذلك يصيرون أشرارًا بمجالسة أهل الشر والميل إلى الشهوات الرديئة التي لا تُقمع بالتأديب، فينهمك فيها ثم يتوصل إليها من كل وجه ولا يفكر في الحسن منها والقبيح. وقوم آخرون كانوا قبل هؤلاء ظنوا أن الناس خُلقوا من الطينة السفلى وهي كدر العالم؛ فهم لأجل ذلك أشرار بالطبع، وإنما يصيرون أخيارًا بالتأديب والتعليم، إلا أن فيهم من هو في غاية الشر لا يُصلحه التأديب، وفيهم من ليس في غاية الشر، فيمكن أن ينتقل من الشر إلى الخير بالتأديب من الصبا، ثم بمجالسة الأخيار وأهل الفضل. فأما جالينوس فإنه رأى أن الناس فيهم من هو خيِّر بالطبع، وفيهم من هو شرِّير بالطبع، وفيهم من هو متوسط بين هذين. ثم أفسد المذهبين الأولَين اللذين ذكرناهما؛ أما الأول فبأن قال: إن كان كل الناس أخيارًا بالطبع، وإنما ينتقلون إلى الشر بالتعليم؛ فبالضرورة إما أن يكون تعلُّمهم الشرور من أنفُسهم، وإما من غيرهم. فإن تعلَّموا من غيرهم فإن المعلمين الذين علَّموهم الشر أشرار بالطبع، فليس الناس إذًا كلهم أخيارًا بالطبع. وإن كانوا تعلَّموه من أنفُسهم فإما أن يكون فيهم قوة يشتاقون بها إلى الشر فقط، فهم إذًا أشرار بالطبع. وإما أن يكون فيهم مع هذه القوة التي تشتاق إلى الشر قوة أخرى تشتاق إلى الخير، إلا أن القوة التي تشتاق إلى الشر غالبة قاهرة للتي تشتاق إلى الخير؛ وعلى هذا أيضًا يكونون أشرارًا بالطبع.

وأما الرأي الثاني فإنه أفسده بمثل هذه الحجة؛ وذلك أنه قال: إن كان كل الناس أشرارًا بالطبع، فإما أن يكونوا تعلَّموا الخير من غيرهم أو من أنفُسهم، ونعيد الكلام الأول بعينه. ولما أفسد هذين المذهبين صحَّح رأي نفسه من الأمور البينة الظاهرة؛ وذلك أنه ظاهر جدًّا أن من الناس من هو خير بالطبع وهم قليلون، وليس ينتقل هؤلاء إلى الشر. ومنهم من هو شرِّير بالطبع وهم كثيرون، وليس ينتقل هؤلاء إلى الخير. ومنهم من هو متوسط بين هذين، وهؤلاء قد ينتقلون بمصاحبة الأخيار ومواعظهم إلى الخير، وقد ينتقلون بمقاربة أهل الشر وإغوائهم إلى الشر.

وأما أرسطوطاليس فقد بيَّن في كتاب الأخلاق وفي كتاب المقولات أيضًا أن الشرِّير قد ينتقل بالتأديب إلى الخير، ولكن ليس على الإطلاق؛ لأنه يرى أن تكرير المواعظ والتأديب وأخذ الناس بالسياسات الجيدة الفاضلة لا بد أن يؤثِّر ضروب التأثير في ضروب الناس، فمنهم من يقبل التأديب ويتحرك إلى الفضيلة بسرعة، ومنهم من يقبله ويتحرك إلى الفضيلة بإبطاء. ونحن نؤلف من ذلك قياسًا وهو هذا: كل خُلق يمكن تغيره، ولا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع؛ فإذًا لا خُلق ولا واحد منه بالطبع. والمقدمتان صحيحتان، والقياس منتج في الضرب الثاني من الشكل الأول. أما تصحيح المقدمة الأولى، وهي أن كل خُلق يمكن تغيره، فقد تكلمنا عليه وأوضحناه، وهو بيِّن من العيان، ومما استدللنا به من وجوب التأديب ونفعه وتأثيره في الأحداث والصبيان، ومن الشرائع الصادقة التي هي سياسة الله لخلقه. وأما تصحيح المقدمة الثانية وهي أنه لا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع فهو ظاهر أيضًا؛ وذلك أنا لا نروم تغيير شيء مما هو بالطبع أبدًا؛ فإن أي أحد لا يروم أن يغيِّر حركة النار التي إلى فوق بأن يعوِّدها الحركة إلى أسفل، ولا أن يعوِّد الحجر حركة العلو يروم بذلك أن يغيِّر حركة الطبيعية التي إلى أسفل. ولو رامَه ما صح له تغيير شيء من هذا، ولا ما يجري مجراه؛ أعني الأمور التي هي بالطبع؛ فقد صحت المقدمتان وصح التأليف في الشكل الأول، وهو الضرب الثاني منه وصار برهانًا. فأما مراتب الناس في قبول هذه الآداب التي سميناها خلقًا والمسارعة إلى تعلُّمها والحرص عليها فإنها كثيرة، وهي تشاهَد وتُعايَن فيهم، وخاصة في الأطفال؛ فإن أخلاقهم تظهر فيهم منذ بدء نشأتهم، ولا يسترونها برويَّة ولا فكر كما يفعله الرجل التام، الذي انتهى في نشوئه وكماله إلى حيث يعرف من نفسه ما يُستقبح منه، فيخفيه بضروب من الحيل والأفعال المضادة لما في طبعه: وأنت تتأمل من أخلاق الصبيان واستعدادهم لقبول الأدب أو نفورهم عنه، أو ما يظهر في بعضهم من القِحَة وفي بعضهم من الحياء. وكذلك ما ترى فيهم من الجود والبخل، والرحمة والقسوة، والحسد وضده. ومن الأحوال المتفاوتة ما تعرف به مراتب الإنسان في قبول الأخلاق الفاضلة، وتعلم معه أنهم ليسوا على رتبة واحدة، وأن فيهم المتواني والممتنع، والسهل السلس والفظ العسير، والخيِّر والشرِّير. والمتوسطون بين هذه الأطراف في مراتب لا تُحصى كثيرة. وإذا أُهملت الطباع ولم تُرَضْ بالتأديب والتقويم نشأ كل إنسان على سوم طباعه، وبقي عمره كله على الحال التي كان عليها في الطفولية، وتبع ما وافقه في الطبع؛ إما الغضب، وإما اللذة، وإما الزعارة، وإما الشره، وإما غير ذلك من الطباع المذمومة.

الشريعة

والشريعة هي التي تقوِّم الأحداث وتعوِّدهم الأفعال المرضيَّة، وتُعِدُّ نفوسهم لقبول الحكمة وطلب الفضائل والبلوغ إلى السعادة الإنسية بالفكر الصحيح والقياس المستقيم. وعلى الوالدين أخذهم بها وبسائر الآداب الجميلة بضروب السياسات من الضروب إذا دعت إليه الحاجة، أو التوبيخات إن صدَّتهم، أو الإطماع في الكرامات أو غيرها مما يميلون إليه من الراحات أو يحذرونه من العقوبات. حتى إذا تعوَّدوا ذلك واستمروا عليه مدةً من الزمان كثيرة أمكن فيهم حينئذٍ أن يعلموا براهين ما أخذوه تقليدًا، وينبهوا على طرق الفضائل واكتسابها والبلوغ إلى غاياتها بهذه الصناعة التي نحن بصددها، والله الموفِّق.

وللإنسان في ترتيب هذه الآداب وسياقها أولًا فأولًا إلى الكمال الأخير طريق طبيعي يتشبه فيها بفعل الطبيعة. وهو أن ينظر إلى هذه القوى التي تحدث فينا أيها أسبق إلينا وجودًا فيبدأ بتقويمها، ثم بما يليها على النظام الطبيعي وهو بيِّن ظاهر؛ وذلك أن أول ما يحدث فينا هو الشيء العام للحيوان والنبات كله، ثم لا يزال يختص بشيء شيء يتميز به عن نوع نوع إلى أن يصير إلى الإنسانية؛ فلذلك يجب أن نبدأ بالشوق الذي يحصل فينا للغذاء فنقوِّمه، ثم بالشوق الذي يحصل فينا إلى الغضب ومحبة الكرامة فنقوِّمه، ثم بآخره؛ وهو الشوق الذي يحصل فينا إلى المعارف والعلوم فنقوِّمه. وهذا الترتيب الذي قلنا: إنه طبيعي إنما حكمنا فيه بذلك لما يظهر فينا منذ أول نشوئنا؛ أعني أنا نكون أولًا أجنَّة ثم أطفالًا ثم أناسًا كاملين، وتحدث فينا هذه القوى مرتَّبة. فأما أن هذه الصناعة هي أفضل الصناعات كلها؛ أعني صناعة الأخلاق التي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان بحسب ما هو إنسان فيتبين مما أقول.

الإنسان

لما كان للجوهر الإنساني فعل خاص لا يشاركه فيه شيء من موجودات العالم كما بيناه فيما نقدم، وكان الإنسان أشرف موجودات عالمنا، ثم لم تصدر عنه أفعاله بحسب جوهره، وشبَّهناه بالفرس الذي إذا لم تصدر عنه أفعال الفرس على التمام استُعمل مكان الحمار بالإكاف، وكان وجوده أروح له من عدمه؛ وجب أن تكون الصناعة التي تُعنى بتجويد أفعال الإنسان حتى تصدر عنه أفعاله كلها تامة كاملة بحسب جوهره، ورفعه عن رتبة الأخس التي يستحق بها المقت من الله والقرار في العذاب الأليم، أشرف الصناعات كلها وأكرمها. وأما سائر الصناعات الأُخَر فمراتبها من الشرف بحسب مراتب جوهر الشيء الذي تستصلحه، وهذا ظاهر جدًّا من تصفُّح الصناعات؛ لأن فيها الدباغة التي تُعنى باستصلاح جلود البهائم الميتة، وفيها صناعة الطب والعلاج التي تهتم باستصلاح الجواهر الشريفة الكريمة. وهكذا الهمم المتفاوتة التي ينصرف بعضها إلى العلوم الدنيئة وبعضها إلى العلوم الشريفة. وإذا كانت جواهر الموجودات متفاوتة في الشرف في الجماد والنبات والحيوان؛ أما في الحيوان فكجوهر الديدان والحشرات إذا قيس إلى جوهر الإنسان. وأما في جوهر الموجودات الأخر فظاهر لمن أراد أن يحصيها. فالصناعة والهمة التي تُصرف إلى أشرفها أشرف من الصناعة والهمة التي تُصرف إلى الأدون منها، ويجب أن يُعلم أن اسم الإنسان وإن كان يقع على أفضلهم وعلى أدونهم، فإن بين هذين الطرفين أكثر مما بين كل متضادين من البعد. وإن رسول الله قال: «ليس شيء خيرًا من ألفٍ مثله إلا الإنسان.» وقال عليه الصلاة والسلام: «الناس كإبلٍ مائةٍ لا تجد فيها راحلةً واحدة.» وقال: «الناس كأسنان المشط (وفي بعضها كأسنان الحمار)، وإنما يتفاضلون بالعقل. ولا خير في صحبة من لا يعرف لك من الفضل ما تعرف له.» وفي نظائر هذه أشياء كثيرة تدل على هذا المعنى. وإن الشاعر الذي قال:

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتًا
إلى المجد حتى عُدَّ ألفٌ بواحد

وإن كان عنده أنه قد بالَغ فإنه قد قصَّر. والخبر المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: «إني وُزنت بأمتي فرجحتُ بهم.» أصدق وأوضح. وليس هذا في الإنسان وحده، بل في كثير من الجواهر الأُخَر. وإن كان في الإنسان أكثر وأشد تفاوتًا فإن بين السيف المعروف بالصمصام وبين السيف المعروف بالكَهَام تفاوتًا عظيمًا. وكذلك الحال في التفاوت الذي بين الفرس الكريم وبين البرذون المُقْرِف. فمن أمكنه أن يرقى بالصناعة من أدون هذه الجواهر مَرتبةً إلى أعلاها فأشرِفْ به وبصناعته! ما أكرمه وأكرمها! فأما الإنسان من بين هذه الجواهر فهو مستعد بضروب من الاستعدادات لضروب من المقامات. وليس ينبغي أن يكون الطمع في استصلاحه على مرتبة واحدة. وهذا شيء يتبين فيما بعد بمشيئة الله وعونه. إلا أن الذي ينبغي أن يُعلم الآن أن وجود الجوهر الإنساني متعلق بقدرة فاعله وخالقه تبارك وتقدس اسمه وتعالى. فأما تجويد جوهره فمفوَّض إلى الإنسان، وهو معلَّق بإرادته. فاعرف هذه الجملة إلى أن تُلخَّص في موضعها إن شاء الله تعالى. وقد قدَّمنا في صدر هذا الكتاب أن قلنا: ينبغي أن نعرف نفوسنا ما هي ولأي شيء هي. ثم قلنا: إن لكل جوهر موجود كمالًا خاصًّا به وفعلًا لا يشاركه فيه غيره من حيث هو ذلك الشيء. وقد بيَّنَّا ذلك في غاية البيان في الرسالة المُسعِدة. وإذا كان ذلك محفوظًا فنحن مضطرون إلى أن نعرف الكمال الخاص بالإنسان والفعل الذي لا يشاركه فيه غيره من حيث هو إنسان؛ لنحرص على طلبه وتحصيله، ونجتهد في البلوغ إلى غايته ونهايته. ولما كان الإنسان مركَّبًا لم يجُز أن يكون كماله وفعله الخاص به كمال بسائطه وأفعالها الخاصة بها، وإلا كان وجود المركَّب باطلًا كالحال في الخاتم والسرير. فإذا له فعل خاص به من حيث هو مركب وإنسان لا يشاركه فيه شيء من الموجودات الأُخر. فأفضل الناس أقدرهم على إظهار فعله الخاص وألزمهم له من غير تلوُّن فيه ولا إخلال به في وقت دون وقت. وإذا عُرف الأفضل فقد عُرف الأنقص على اعتبار الضدِّ؛ فالكمال الخاص بالإنسان كمالان، وذلك أن له قوتين: إحداهما العالمة والأخرى العاملة؛ فلذلك يشتاق بإحدى الفوتين إلى المعارف والعلوم، وبالأخرى إلى نظم الأمور وترتيبها. وهذان الكمالان هما اللذان نص عليهما الفلاسفة فقالوا.

الفلسفة

تنقسم إلى قسمين: إلى الجزء النظري والجزء العملي. فإذا كمُل الإنسان بالجزء العملي والجزء النظري، فقد سعد السعادة التامة. أما كماله الأول بإحدى قوتيه؛ أعني العالمة، وهي التي يشتاق بها إلى العلوم، فهو أن يصير في العلم بحيث يصدُق نظره وتصح بصيرته وتستقيم رؤيته، فلا يغلط في اعتقاد، ولا يشك في حقيقة، وينتهي في العلم بأمور الموجودات على الترتيب إلى العلم الإلهي الذي هو آخر مرتبة العلوم ويثق به ويسكن إليه ويطمئن قلبه وتذهب حيرته، وينجلي له المطلوب الأخير حتى يتحد به. وهذا الكمال قد بيَّنَّا الطريق إليه وأوضحنا سبله في كتب أُخر. وأما الكمال الثاني الذي يكون بالقوة الأخرى؛ أعني القوة العاملة، فهو الذي نقصده في كتابنا هذا، وهو الكمال الخلقي. ومبدؤه من ترتيب قواه وأفعاله الخاصة بها، حتى لا تتغالب وحتى تتسالم هذه القوى فيه وتصدر أفعاله كلها بحسب قوته المميزة منتظمة مرتبة كما ينبغي، وينتهي إلى التدبير المدني الذي يرتب الأفعال والقوى بين الناس حتى تنتظم ذلك الانتظام ويسعدوا سعادة مشتركة كما كان ذلك في الشخص الواحد. فإذًا الكمال الأول النظري منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني العملي منزلته منزلة المادة. وليس يتمُّ أحدهما إلا بالآخر؛ لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعًا، والتمام بلا مبدأ يكون مستحيلًا. وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضًا؛ وذلك أن الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وإنما يختلفان بالإضافة. فإذا نُظر إليه وهو بعدُ في النفس ولم يخرج إلى الفعل فهو غرض. فإذا خرج إلى الفعل وتمَّ فهو كمال. وكذلك الحال في كل شيء؛ لأن البيت إذا كان متصورًا للباني، وكان عالمًا بأجزائه وتركيبه وسائر أحواله كان غرضًا. فإذا أخرجه إلى الفعل وتممه كان كمالًا، فقد صح من جميع ما قدمناه أن الإنسان يصير إلى كماله ويصدر عنه فعله الخاص به إذا علم الموجودات كلها؛ أي يعلم كلياتها وحدودها التي هي ذواتها لا أعراضها وخواصها التي تُصيِّرها بلا نهاية، فإنك إذا علمت كليات الموجودات فقد علمت جزئياتها بنحو ما؛ لأن الجزئيات لا تخرج عن كلياتها. فإذا كملتَ هذا الكمال فتمِّمه بالفعل المنظوم ورتِّب القوى والملَكات التي فيك ترتيبًا علميًّا كما سبق علمك به. فإذا انتهيت إلى هذه الرتب فقد صرت عالمًا وحدك، واستحقَّيت أن تُسمَّى عالمًا صغيرًا؛ لأن صور الموجودات كلها قد حصلت في ذاتك فصرت أنت هي بنحو ما، ثم نظمتها بأفعالك على نحو استطاعتك فصرت فيها خليفة لمولاك خالق الكل جلَّت عظمته فلم تُخْطِ فيها، ولم تخرج عن نظامه الأول الحكمي فتصير حينئذٍ عالمًا تامًّا. والتام من الموجودات هو الدائم الوجود، والدائم الوجود هو الباقي بقاء سرمديًّا، فلا يفوتك حينئذٍ شيء من النعيم المقيم؛ لأنك بهذا الكمال مستعد لقبول الفيض من المولى دائمًا أبدًا. وقد قرُبت منه القرب الذي لا يجوز أن يَحول بينك وبينه حجاب. وهذه هي الرتبة العليا والسعادة القصوى. ولولا أن الشخص الواحد من أشخاص الناس يمكنه تحصيل هذه المنزلة في ذاته وتكميل صورته بها وإتمام نقصانه بالترقي إليها، لكان سبيله سبيل أشخاص الحيوانات الأُخر أو كسبيل أشخاص النبات في مصيرها إلى الفناء والاستحالة التي تلحقها والنقصانات التي لا سبيل إلى تمامها، ولاستحال فيه البقاء الأبدي والنعيم السرمدي والمصير إلى ربه ودخول جنته. ومن لا يتصور هذه الحالة، ولا ينتهي إلى علمها من المتوسطين في العلم يقع له شكوك، فيظن أن الإنسان إذا انتقض تركيبه الجسماني بطل وتلاشى، كالحال في الحيوانات الأخر وفي النبات، فحينئذٍ يستحق اسم الإلحاد ويخرج عن سمة الحكمة وسُنَّة الشريعة.

كمال الإنسان في اللذات المعنوية

وقد ظنَّ قومٌ أن كمال الإنسان وغايته هما في اللذات الحِسِّيَّة، وأنها هي الخير المطلوب والسعادة القصوى، وظنوا أن جميع قواه الأخر إنما رُكِّبت فيه من أجل هذه اللذات والتوصل إليها، وإن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وُهبت له ليرتب بها الأفعال ويميزها ثم يوجهها نحو هذا اللذات لتكون الغاية الأخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية الجسمانية. وظنوا أيضًا أن قوى النفس الناطقة؛ أعني الذكر والحفظ والرويَّة كلها تراد لتلك الغاية. قالوا: وذلك أن الإنسان إذا تذكَّر اللذات التي كانت حصلت له بالمطاعم والمشارب والمناكح اشتاق إليها وأحب معاودتها؛ فقد صارت منفعة الذِّكر والحفظ إنما هي اللذات وتحصيلها. ولأجل هذه الظنون التي وقعت لهم جعلوا النفس المميزة الشريفة كالعبد المَهين وكالأجير المستعمَل في خدمة النفس الشهوية لتخدمها في المآكل والمشارب والمناكح وتُرتِّبها لها وتُعدها إعدادًا كاملًا موافقًا. وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع وجهال الناس السقاط. وإلى هذه الخيرات التي جعلوها غاياتهم تشوقوا عند ذكر الجنة والقرب من بارئهم عز وجل. وهي التي يسألونها ربهم تبارك وتعالى في دعواتهم وصلواتهم. وإذا خلوا بالعبادات وتركوا الدنيا وزهدوا فيها، فإنما ذاك منهم على سبيل المتجر والمرابحة في هذه بعينها. كأنهم تركوا قليلها ليصلوا إلى كثيرها، وأعرضوا عن الفانيات منها ليبلغوا إلى الباقيات. إلا أنك تجدهم مع هذا الاعتقاد وهذه الأفعال إذا ذُكر عندهم الملائكة والخلق الأعلى الأشرف وما نزَّههم الله عنه من هذه القاذورات علموا بالجملة أنهم أقرب إلى الله تعالى وأعلى رتبة من الناس وأنهم غير محتاجين إلى شيء من حاجات البشر. بل يعلمون أن خالقهم وخالق كل شيء الذي تولَّى إبداع الكل هو منزَّه عن هذه الأشياء متعالٍ عنها غير موصوف باللذة والتمتع مع التمكن من إيجادها. وأن الناس يشاركون في هذه اللذات الخنافس والديدان وصغار الحشرات والهمج من الحيوان. وإنما يناسبون الملائكة بالعقل والتمييز ثم يجمعون بين هذا الاعتقاد والاعتقاد الأول. وهذا هو العجب العجيب؛ وذلك أنهم يرون عيانًا ضروراتهم بالأذى الذي يلحقهم بالجوع والعري وضروب النقص وحاجاتهم إلى مداواتها بما يدفعها عنهم. فإذا زالت آثارها وعادوا إلى حال السلامة منها التذُّوا بذلك ووجدوا للراحة لذة. ولا يشعرون أنهم إذا اشتاقوا إلى لذة المآكل فقد اشتاقوا أولًا إلى ألم الجوع؛ وذلك أنهم إن لم يألموا بالجوع لم يلتذُّوا بالأكل. وهكذا الحال في سائر اللذات الأخر. إلا أن هذا الحال في بعضها أظهر منها في بعض. وسنتكلم على أن صورة الجميع واحدة، وأن اللذات كلها إنما تحصل للملتذ بعد آلام تلحقه؛ لأن اللذة هي راحة من ألم. وأن كل لذة حسية إنما هي خلاص من ألم أو أذى في غير هذا الموضع، وسيظهر عند ذلك أن من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية وجعلها غايته وأقصى سعادته فقد رضي بأخس العبودية لأخس الموالي؛ لأنه يصير نفسه الكريمة التي يناسب بها الملائكة عبدًا للنفس الدنيئة التي يناسب بها الخنازير والخنافس والديدان وخسائس الحيوانات التي تشاركه في هذا الحال.

وقد تعجَّب جالينوس في كتابه الذي سماه بأخلاق النفس من هذا الرأي وكثر استجهاله للقوم الذين هذه مرتبتهم من العقل. إلا أنه قال: إن هؤلاء الخبثاء الذين سيرتهم أسوأ السير وأردؤها إذا وجدوا إنسانًا هذا رأيه ومذهبه نصروه ونوَّهوا به ودعوا إليه ليوهموا بذلك أنهم غير منفردين بهذه الطريقة؛ لأنهم يظنون أنهم متى وُصف أهل الفضل والنُّبل من الناس بمثل ما هم عليه كان ذلك عذرًا لهم وتمويهًا على قوم آخرين في مثل طريقتهم. وهؤلاء هم الذين يُفسدون الأحداث بإيهامهم أن الفضيلة هي ما تدعوهم إليه طبيعة البدن من الملاذِّ. وأن تلك الفضائل الأخر الملكية إما أن تكون باطلة ليست بشيء البتَّة، وإما أن تكون غير ممكنة لأحد من الناس؛ والناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم وتقلُّ الفضلاء فيهم. وإذا تنبه الواحد بعد الواحد منهم إلى أن هذه اللذات إنما هي لضرورة الجسد، وأن بدنه مركَّب من الطبائع المتضادة؛ أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وأنه إنما يعالج بالمأكل والمشرب أمراضًا تحدث به عند الانحلال لحفظ تركيبه على حالة واحدة أبدًا ما أمكن ذلك فيه، وأن علاج المرض ليس بسعادة تامة والراحة من الألم ليست بغاية مطلوبة ولا خير محض، وأن السعيد التام هو من لا يعرض له مرض البتَّة، وعرف مع ذلك أيضًا أن الملائكة الأبرار الذين اصطفاهم الله بقربه لا تلحقهم هذه الآلام فلا يحتاجون إلى مداواتها بالأكل والشرب، وأن الله تعالى منزَّه متعالٍ عن هذه الأوصاف؛ عارضوه بأن بعض البشر أشرف من الملائكة وأن الله تعالى أجلُّ من أن يُذكر مع الخلق، وشاغبوه وسفَّهوا رأيه وأوقعوا له شُبهًا باطلة حتى يشك في صحة ما تنبَّه إليه وأرشده عقله إليه.

والعجب الذي لا ينقضي هو أنهم مع رأيهم هذا إذا وجدوا واحدًا من الناس قد ترك طريقتهم التي يميلون إليها واستهان باللذة والتمتع وصام وطوى، واقتصر على ما أنبتت الأرض عظَّموه وكثر تعجُّبهم منه وأهَّلوه للمراتب العظيمة، وزعموا أنه ولي الله وصفيُّه، وأنه شبيه بالملك، وأنه أرفع طبقة من البشر. ويخضعون له ويذلون غاية الذل ويعدُّون أنفُسهم أشقياء بالإضافة إليه.

والسبب في ذلك هو أنهم وإن كانوا من أفْنِ الرأي وسفاهته على ما ترى، فإن فيهم من تلك القوة الأخرى الكريمة المميزة، وإن كانت ضعيفة ما يريهم، فضيلة ذوي الفضيلة فيضطرون إلى إكرامهم وتعظيمهم.

قوى النفس الثلاث

وإذا كانت القوى ثلاثًا — كما قلنا مرارًا — فأدْوَنُها النفس البهيمية، وأوسطها النفس السبعية، وأشرفها النفس الناطقة، والإنسان إنما صار إنسانًا بأفضل هذه النفوس أعني الناطقة، وبها شارك الملائكة وبها باين البهائم.

فأشرف الناس من كان حظه من هذه النفس أكثر وانصرافه إليها أتم وأوفر، ومن غلبت عليه إحدى النفسين الأخريين انحطَّ عن مرتبة الإنسانية بحسب غلبة تلك النفس عليه، فانظر — رحمك الله — أين تضع نفسك وأين تحب أن تنزل من المنازل التي رتبها الله تعالى للموجودات. فإن هذا أمر موكول إليك ومردود إلى اختيارك. فإن شئت فانزل في منازل البهائم فإنك تكون منهم، وإن شئت فانزل في منازل السباع، وإن شئت فانزل في منازل الملائكة وكن منهم. وفي كل واحدة من هذه المراتب مقامات كثيرة، فإن بعض البهائم أشرف من بعض؛ وذلك لقبول التأديب؛ لأن الفرس إنما شرُف على الحمار لقبوله الأدب، وكذلك في البازي فضيلة على الغراب. وإذا تأملت الحيوان كله وجدت القابل للتأديب الذي هو أثر النطق أعني النفس الناطقة أفضل من سائره، وهو يتدرج في ذلك إلى أن يصير إلى الحيوان الذي هو في أفق الإنسان؛ أعني الذي هو أكمل البهائم، وهو في أخس مرتبة الإنسانية؛ وذلك أن أخس الناس هو من كان قليل العقل قريبًا من البهيمية، وهم القوم الذين في أقاصي الأرض المعمورة، وسكان آخر ناحية الجنوب والشمال لا ينفصلون عن القرود إلا بشيء قليل من التمييز، وبذلك القدر يستحقون اسم الإنسانية، ثم يتميزون ويتزايدون في هذا المعنى حتى يبلغوا إلى وسط الأقاليم، ويعتدل فيهم المزاج القابل لصورة العقل فيصير فيهم العاقل التام والمميز العالِم. ثم يتفاضلون في هذا المعنى أيضًا إلى أن يصيروا إلى غاية ما يمكن للإنسان أن يبلغ إليه من قبول قوة العقل والنطق، فيصير حينئذٍ في الأفق الذي بين الإنسان والملك، ويصير فيهم القابل للوحي والمُطيق لحمل الحكمة، فتفيض عليه قوة العقل ويسيح إليه نور الحق ولا حالة للإنسان أعلى من هذه ما دام إنسانًا.

ثم ارجع القهقرى إلى النظر في الرتبة الناقصة التي هي أدْوَن مراتب الإنسان، فإنك تجد القوم الذين تضعف فيهم القوة الناطقة، وهم القوم الذين ذكرنا أنهم في أفق البهائم تقوى فيهم النقص البهيمية، فيميلون إلى شهواتها المأخوذة بالحواس كالمأكول والمشروب والملبوس وسائر النزوات الشبيهة بها. وهؤلاء هم الذين تجذبهم الشهوات القوية بقوة نفوسهم البهيمية حتى يرتكبونها ولا يرتدعوا عنها. وبقدر ما يكون فيهم من القوة العاقلة يستحيون منها حتى يستتروا بالبيوت ويتواروا بالظلمات إذا همُّوا بلذة تخصُّهم. وهذا الحياء منهم هو الدليل على قبحها، فإن الجميل بالإطلاق هو الذي يتظاهر به ويستحب إخراجه وإذاعته. وهذا القبح ليس بشيء أكثر من النقصانات اللازمة للبشر، وهي التي يشتاقون إلى إزالتها. وأفحشها هو أنقصها، وأنقصها أحوجها إلى الستر والدفن. ولو سألت القوم الذين يعظمون أمر اللذة ويجعلونها الخير المطلوب والغاية الإنسانية: لِمَ تكتمون الوصول إلى أعظم الخيرات عندكم؟ وما بالكم تعدُّون موافقتها خيرًا ثم تسترونها؟ أترون سترها وكتمانها فضيلة ومروءة وإنسانية، والمجاهرة بها وإظهارها بين أهل الفضل وفي مجامع الناس خساسة وقِحَة؟ لظهر من انقطاعهم وتبلُّدهم في الجواب ما تعلم به سوء مذهبهم وخبث سيرتهم، وأقلهم حظًّا من الإنسانية إذا رأى إنسانًا فاضلًا احتشمه ووقره، وأحب أن يكون مثله، إلا الشاذ منهم الذي يبلغ من خساسة الطبع ونزارة الإنسانية ووقاحة الوجه إلى أن يقيم على نصرة ما هو عليه من غير محبة لرتبة من هو أفضل منه.

الواجب على العاقل

فإذًا يجب على العاقل أن يعرف ما ابتُلي به الإنسان من هذه النقائص التي في جسمه وحاجاته الضرورية إلى إزالتها وتكميلها. أما بالغذاء الذي يحفظ به اعتدال مزاجه وقوام حياته فينال منه قدر الضرورة في كماله، ولا يطلب اللذة لعينها بل قوام الحياة التي تتبعه اللذة. فإن تجاوز ذلك قليلًا فبقدر ما يحفظ رتبته في مروءته، ولا ينسب إلى الدناءة والبخل بحسب حاله ومرتبته بين الناس. وأما باللباس فالذي يدفع به أذى الحر والبرد ويستر العورة، فإن تجاوز ذلك فبقدر ما لا يُستحقر ولا يُنسب إلى الشح على نفسه، وإلى أن يسقط بين أقرانه وأهل طبقته. وأما بالجماع فالذي يحفظ نوعه وتبقى به صورته؛ أعني طلب النسل، فإن تجاوز ذلك فبقدر ما لا يخرج به عن السنة، ولا يتعدى ما يملكه إلى ما يملك غيره. ثم يلتمس الفضيلة في نفسه العاقلة التي بها صار إنسانًا وينظر إلى النقائص التي في هذه النفس خاصة، فيروم تكميلها بطاقته وجهده؛ فإن هذه الخيرات هي التي لا تُستر، وإذا وصل إليها لا يمنع عنها الحياء، ولا يتوارى عنها بالحيطان والظلمات، ويتظاهر بها أبدًا بين الناس وفي المحافل. وهي التي يكون بها بعض الناس أفضل من بعض وبعضهم أكثر إنسانية من بعض. ويغذو هذه النفس بغذائها الموافق لها المتمم لنقصانها كما يغذو تلك بأغذيتها الملائمة لها؛ فإن غذاء هذه هو العلم والزيادة في المعقولات، والارتياض بالصدق في الآراء، وقبول الحق حيث كان ومع من كان، والنفور من الكذب والباطل كيف كان ومن أين جاء. فمن اتفق له في الصبا أن يُربَّى على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها، ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق، حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين، ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان فلا يسكن إلا إليها، ثم يتدرج (كما رسمناه في كتابنا الموسوم بترتيب السعادات ومنازل العلوم) حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان، فهو السعيد الكامل، فليُكثر حمد الله تعالى على الموهبة العظيمة والمنة الجسيمة. ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوئه ثم ابتُلي بأن يربيه والده على رواية الشعر الفاحش وقبول أكاذيبه واستحسان ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونَيل اللذات كما يوجد في شعر امرئ القيس والنابغة وأشباههما، ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يُقرُّونه على روايتها وقول مثلها ويُجزلون له العطية، وامتُحن بأقران يساعدونه على تناول اللذات الجسمانية، ومال طبعه إلى الاستكثار من المطاعم والملابس والمراكب والزينة وارتباط الخيل الفُرْه والعبيد الرُّوقة (كما اتفق لي مثل ذلك في بعض الأوقات)، ثم انهمك فيها واشتغل بها عن السعادة التي أُهِّل لها، فليعُدَّ جميع ذلك شقاء لا نعيمًا، وخسرانًا لا ربحًا، وليجتهد على التدريج إلى فطام نفسه منها. وما أصعب ذلك، إلا أنه على كل حال خير من التمادي في الباطل. وليعلم الناظر في هذا الكتاب أني خاصة تدرجت إلى فطام نفسي بعد الكبر واستحكام العادة، وجاهدتها جهادًا عظيمًا، ورضيت لك أيها الفاحص عن الفضائل والطالب للأدب الحقيقي بما رضيت لنفسي، بل تجاوزت لك في النصيحة إلى أن أشرت عليك بما فاتني في ابتداء أمري لتدركه أنت، ودلَلتك على طريق النجاة قبل أن نَتِيهَ في مفاوز الضلالة، وقدمت لك السفينة قبل أن تغرق في بحر المهالك؛ فاللهَ اللهَ في نفوسكم معاشر الإخوان والأولاد. استسلِموا للحق وتأدبوا بالأدب الحقيقي لا المزوَّر، وخذوا الحكمة البالغة وانتهجوا الصراط المستقيم، وتصوَّروا حالات أنفُسكم، وتذكَّروا قواها، واعلموا أن أصحَّ مثلٍ ضُرب لكم من نفوسكم الثلاث التي مرَّ ذكرها في المقالة الأولى: مثل ثلاثة حيوانات مختلفة جُمعت في مكان واحد: ملك وسبع وخنزير، فأيها غلب بقوَّته قوة الباقين كان الحكم له. وليعلم من تصوَّر هذا المثال أن النفس لما كانت جوهرًا غير جسم ولا شيء فيها من قوى الجسم وأعراضه — كما بيَّنَّا ذلك — في صدر هذا الكتاب كان اتحادها واتصالها بخلاف اتحاد الأجسام واتصال بعضها ببعض.

النفوس الثلاث

وذلك أن هذه الأنفُس الثلاث إذا اتصلت صارت شيئًا واحدًا، ومع أنها تكون شيئًا واحدًا فهي باقية التغاير وباقية القوى، تثور الواحدة بعد الواحدة، حتى كأنها لم تتصل بالأخرى ولم تتحد بها، وتستجدي أيضًا الواحدة للأخرى حتى كأنها غير موجودة ولا قوة لها تنفرد بها؛ وذلك أن اتحادها ليس بأن تتصل نهايتها ولا بأن تتلاقى سطوحها كما يكون ذلك في الأجسام. بل تصير في بعض الأحوال شيئًا واحدًا وفي بعض الأحوال أشياء مختلفة بحسب ما تهيج قوة بعضها أو تسكن؛ ولذلك قال قوم: إن النفس واحدة ولها قوى كثيرة. وقال آخرون: بل هي واحدة بالذات كثيرة بالعرض وبالموضوع. وهذا شيء يخرج الكلام فيه عن غرض الكتاب وسيمر بك في موضعه. وليس يضرك في هذا الوقت أن تعتقد أيَّ هذه الآراء شئت بعد أن تعلم أن بعض هذه كريمة أدبية بالطبع، وبعضها مَهينة عادمة للأدب بالطبع وليس فيها استعداد لقبول الأدب، وبعضها عادمة للأدب إلا أنها تقبل التأديب وتنقاد للتي هي أدبية. أما الكريمة الأدبية بالطبع فالنفس الناطقة. وأما العادمة للأدب وهي مع ذلك غير قابلة له فهي النفس البهيمية. وأما التي عدمت الأدب ولكنها تقبله وتنقاد له فهي النفس الغضبية. وإنما وهب الله تعالى لنا هذه النفس خاصة لنستعين بها على تقويم البهيمية التي لا تقبل الأدب. وقد شبَّه القدماء الإنسان وحالَه في هذه الأنفُس الثلاث بإنسان راكبٍ دابةً قوية يقود كلبًا أو فهدًا للقنص، فإن كان الإنسان من بينهم هو الذي يروض دابته وكلبه يصرفهما ويطيعانه في سيره وتصيُّده وسائر تصرفاته، فلا شك في رغد العيش المشترك بين الثلاثة وحسن أحواله؛ لأن الإنسان يكون مرفهًا في مطالبه يُجري فرسه حيث يحب وكما يحب ويطلق كلبه أيضًا كذلك، فإذا نزل واستراح أراحهما معه وأحسن القيام عليهما في المطعم والمشرب وكفاية الأعداء وغير ذلك من مصالحهما. وإذا كانت البهيمية هي الغالبة ساءت حال الثلاثة، وكان الإنسان مضعوفًا عندهما فلم تطع فارسها وغلبت، فإن رأت عشبًا من بعيد عدَت نحوه وتعسفت في عدْوها وعدلت عن الطريق النهج، فاعترضتها الأودية والوهاد والشوك والشجر فتقحَّمتها وتورطت فيها ولحق فارسها ما يلحق مثله في هذه الأحوال فيصيبهم جميعًا من أنواع المكاره والإشراف على الهلكة ما لا خفاء فيه. وكذلك إنْ قوِيَ الكلب لم يُطِع صاحبه، فإن رأى من بعيد صيدًا أو ما يظنه صيدًا أخذ نحوه فجذب الفارس وفرسه، ولحق الجميع من الضرر والضر أضعاف ما ذكرناه.

وفي تصوُّر هذا المثل الذي ضربه القدماء تنبيه على حال هذه النفوس، ودلالة على ما وهبه الله عزَّ وجل للإنسان ومكَّنه منه وعرَّضه له، وما يضيعه بعصيان خالقه تعالى فيه عند إهمال السياسة واتباعه أمر هاتين القوتين وتعبُّده لهما وهما اللذان ينبغي أن يتبعاه بتأمُّره عليهما. فمَن أسوأ حالًا ممن أهمل سياسة الله عز وجل وضيَّع نعمته عليه، وترك هذه القوى فيه هائجة مضطربة تتغالب، وصار الرئيس منها مرءوسًا، والملك منها مستعبدًا، يتقلَّب معها في المهالك حتى تتمزق ويتمزق معها هو أيضًا. نعوذ بالله من الانتكاس في الخلق الذي سببه طاعة الشيطان واتباع الأبالسة، فليست الإشارة بها إلى غير هذه القوى التي وصفناها ووصفنا أحوالها. نسأل الله عصمته ومعونته على تهذيب هذه النفوس حتى ننتهي فيها إلى طاعة الله التي هي نهاية مصالحنا، وبها نجاتنا وخلاصنا إلى الفوز الأكبر والنعيم السرمدي.

سياسة النفس العاقلة

وقد شبَّه الحكماء مَن أهمل سياسة نفسه العاقلة وترك سلطان الشهوة يستولي عليها، برجلٍ معه ياقوتة حمراء شريفة لا قيمة لها من الذهب والفضة جلالةً ونفاسةً، وكان بين يديه نار تضطرم، فرماها في حباحبها حتى صارت كأسًا لا منفعة فيها فخسرت، فخسر ضروب منافعها. فقد علمنا الآن أن النفس العاقلة إذا عرفت شرف نفسها وأحسَّت بمرتبتها من الله عز وجل أحسنت خلافته في تربية هذه القوى وسياستها، ونهضت بالقوة التي أعطاها الله تعالى إلى محلِّها من كرامة الله تعالى، ومنزلتها من العلو والشرف، ولم تخضع للسبعية ولا للبهيمية. بل تُقوِّم النفس الغضبية التي سميناها سبعية تَقودها إلى الأدب بحملها على حسن طاعتها، ثم تستنهضها في أوقات هيجان هذه النفس البهيمية وحركتها إلى الشهوات حتى يقمع بهذه سلطان تلك، وتستخدمها في تأديبها وتستعين بقوة هذه على تأبِّي تلك؛ وذلك أن هذه النفس الغضبية قابلة للأدب قوية على قمع الأخرى كما قلنا، وتلك النفس البهيمية عادمة للأدب غير قابلة له. وأما النفس الناطقة؛ أعني العاقلة فهي كما قال أفلاطون بهذه الألفاظ: «أما هذه فبمنزلة الذهب في اللين والانعطاف. وأما تلك فبمنزلة الحديد في الصلابة والامتناع، فإن أنت آثرت الفعل الجميل في وقتٍ وجاذبتك القوة الأخرى إلى اللذة وإلى خلاف ما آثرت فاستعن بقوة الغضب التي تثير وتهيج بالأنفة والحمية واقهر بها النفس البهيمية. فإن غلبتك مع ذلك ثم ندمت وأنِفت فأنت في طريق الصلاح فتمِّم عزيمتك واحذر أن تعاودك بالطمع فيك والغلبة لك، فإن لم تفعل ذلك ولم تكن العقبى في الغلبة لك كنت كما قال الحكيم الأول: إني أرى أكثر الناس يدَّعون محبة الأفعال الجميلة ثم لا يحتملون المؤنة فيها على علمهم بفضلها فيغلبهم الترفُّه ومحبة البطالة. فلا يكون بينهم وبين من لا يحب الأفعال الجميلة فرق إذا لم يحتملوا مؤنة الصبر، ويصيروا إلى تعلُّم تمام ما آثروه وعرفوا فضله، واذكر مثل البئر التي تردَّى فيها الأعمى والبصير فيكونان في الهلكة سواء إلا أن الأعمى أعذر. ومن وصل من هذه الآداب إلى مرتبة يُعتدُّ بها واكتسب بها الفضائل التي عددناها، فقد وجب عليه تأديب غيره وإفاضة ما أعطاه الله على أبناء جنسه.»

فصل

في تأديب الأحداث والصبيان خاصة، نقلت أكثره من كتاب بروسن

قد قلنا — فيما تقدَّم: إن أول قوة تظهر في الإنسان وأول ما يتكون هي القوة التي يشتاق بها إلى الغذاء الذي هو سبب كونه حيًّا، فيتحرك بالطبع إلى اللبن يلتمسه من الثدي الذي هو معدنه من غير تعليم ولا توقيف، أو يحدث له مع ذلك قوة على التماسه بالصوت الذي هو مادته ودليله الذي يدلُّ به على اللذة والأذى. ثم تتزايد فيه هذه القوة ويتشوق بها أبدًا إلى الازدياد والتصرف بها في أنواع الشهوات. ثم تحدث فيه قوة على التحرك نحوها بالآلات التي تخلق له الشوق إلى الأفعال التي تحصل له هذه. ثم يحدث له من الحواس قوة على تخيُّل الأمور، ويرتسم في قوته الخيالية مثالات، فيتشوق إليها، ثم تظهر فيه قوة الغضب التي يشتاق بها إلى دفع ما يؤذيه ومقاومة ما يمنعه من منافعه، فإن أطاق بنفسه أن ينتقم من مؤذياته انتقم منها، وإلا التمس معونة غيره وانتصر بوالديه بالتصويت والبكاء، ثم يحدث له الشوق إلى تمييز الأفعال الإنسانية خاصة أولًا أولًا، حتى يصير إلى كماله في هذا التمييز، فيُسمَّى حينئذٍ عاقلًا. وهذه القوى كثيرة وبعضها ضروري في وجود الأخرى إلى أن ينتهي إلى الغاية الأخيرة، وهي التي لا تراد لغاية أخرى وهو الخير المطلق الذي يتشوقه الإنسان من حيث هو إنسان. فأول ما يحدث فيه من هذه القوة الحياء، وهو الخوف من ظهور شيء قبيح منه؛ ولذلك قلنا: أول من ينبغي أن يُتفرَّس في الصبي ويُستدل به على عقله الحياء؛ فإنه يدل على أنه قد أحس بالقبيح، ومع إحساسه به هو يحذره ويتجنَّبه ويخاف أن يظهر منه أو فيه. فإذا نظرت إلى الصبي فوجدته مستحييًا مطرقًا بطرفه إلى الأرض غير وَقَاح الوجه ولا مُحدِّق إليك، فهو أول دليل نجابته، والشاهد لك على أن نفسه قد أحست بالجميل والقبيح، وأن حياءه هو انحصار نفسه خوفًا من قبيح يظهر منه. وهذا ليس بشيء أكثر من إيثار الجميل والهرب من القبيح بالتمييز والعقل. وهذه النفس مستعدة للتأديب صالحة للعناية لا يجب أن تُهمل ولا تُترك ومخالطة الأضداد الذين يفسدون بالمقارنة والمداخلة. وإن كانت بهذه الحال من الاستعداد لقبول الفضيلة فإن نفس الصبي ساذجة لم تنتقش بعدُ بصورة. وليس لها رأي ولا عزيمة تُميلها من شيء إلى شيء. فإذا نُقشت بصورة وقبِلتها نشأ عليها واعتادها. فالأَولى بمثل هذه النفس أن تُنبَّه أبدًا على حب الكرامة، ولا سيما ما يحصل له منها بالدين دون المال وبلزوم سننه ووظائفه. ثم يُمدح الأخيار عنده ويُمدح هو في نفسه إذا ظهر شيء جميل منه، ويُخوَّف من المذمة على أدنى قبيح يظهر منه ويؤاخَذ باشتهائه للمآكل والمشارب والملابس الفاخرة ويُزيَّن عنده خُلق النفس والترفُّع عن الحرص في المآكل خاصة، وفي اللذات عامة. ويُحبَّب إليه إيثار غيره على نفسه بالغذاء والاقتصار على الشيء المعتدل والاقتصاد في التماسه.

الملابس

ويُعلم أن أَولى الناس بالملابس الملونة والمنقوشة النساء اللاتي يتزينَّ للرجال، ثم العبيد والخول. وإن الأحسن بأهل النبل والشرف من اللباس البياض وما أشبهه، حتى يتربى على ذلك ويسمعه كل من يقرب منه ويتكرر عليه ولم يترك مخالطة من يسمع منه ضد ما ذكرته لا سيما من أترابه ومن كان في مثل سنه ممن يعاشره ويلاعبه؛ وذلك أن الصبي في ابتداء نشوئه، يكون على الأكثر قبيح الأفعال، إما كلها وإما أكثرها؛ فإنه يكون كذوبًا ويُخبر ويحكي ما لم يسمعه ولم يره، ويكون حسودًا سروقًا نمَّامًا لجوجًا ذا فضول أضرَّ شيء بنفسه وبكل أمر يلابسه، ثم لا يزال به التأديب والسنن والتجارب حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال؛ فلذلك ينبغي أن يؤخذ ما دام طفلًا بما ذكرناه ونذكره، ثم يطالَب بحفظ محاسن الأخبار والأشعار التي تجري مجرى ما تعوَّده بالأدب؛ حتى يتأكد عنده بروايتها وحفظها والمذاكرة بها جميع ما قدمناه. ويحذر النظر في الأشعار السخيفة وما فيها من ذكر العشق وأهله وما يوهمه أصحابها أنه ضرب من الظرف ورقة الطبع؛ فإن هذا الباب مفسدة للأحداث جدًّا. ثم يُمدح بكل ما يظهر منه من خلق جميل وفعل حسن ويُكرم عليه، فإن خالف في بعض الأوقات ما ذكرته، فالأولى ألَّا يوبَّخ عليه ولا يُكاشَف بأنه أقدم عليه، بل يُتغافل عنه تغافُل من لا يخطر بباله أنه قد تجاسر على مثله ولا همَّ به، لا سيما إن ستره الصبي واجتهد في أن يُخفي ما فعله عن الناس، فإن عاد فليوبَّخ عليه سرًّا وليُعظَّم عنده ما أتاه ويُحذر من معاودته؛ فإنك إن عودته التوبيخ والمكاشفة حملته على الوقاحة، وحرضته على معاودة ما كان استقبحه، وهان عليه سماع الملامة في ركوب قبائح اللذات التي تدعو إليها نفسه. وهذه اللذات كثيرة جدًّا.

آداب المطاعم

والذي ينبغي أن يُبدأ به في تقويمها آداب المطاعم، فيُفهَّم أولًا أنها إنما تراد للصحة لا للذة، وأن الأغذية كلها إنما خُلقت وأُعدِّت لنا لتصحَّ بها أبداننا وتصير مادة حياتنا. فهي تجري مجرى الأدوية ليتداوى بها الجوع والألم الحادث منه. فكما أن الدواء لا يرام للذة ولا يُستكثر منه للشهوة، فكذلك الأطعمة لا ينبغي أن يُتناول منها إلا ما يحفظ صحة البدن ويدفع ألم الجوع ويمنع من المرض، فيُحقَّر عنده قدر الطعام الذي يستعظمه أهل الشَّرَه، ويُقبَّح عنده صورة من شَرِهَ إليه وينال منه فوق حاجة بدنه أو ما لا يوافقه؛ حتى يقتصر على لون واحد ولا يرغب في الألوان الكثيرة. وإذا جلس مع غيره لا يبادر إلى الطعام، ولا يديم النظر إلى ألوانه، ولا يُحدِّق إليه شديدًا، ويقتصر على ما يليه، ولا يسرع في الأكل، ولا يوالي بين اللقم بسرعة، ولا يُعظِم اللقمة، ولا يبتلعها حتى يُجيد مضغها، ولا يلطخ يده ولا ثوبه، ولا يلحظ من يؤاكله، ولا يتبع بنظره مواقع يده من الطعام. ويُعوَّد أن يؤثِر غيره بما يليه إن كان أفضل ما عنده، ثم يضبط شهوته حتى يقتصر على أدنى الطعام وأدْوَنِه، ويأكل الخبز القفار الذي لا أدم معه في بعض الأوقات. وهذه الآداب وإن كانت جميلة بالفقراء فهي بالأغنياء أفضل وأجمل. وينبغي أن يستوفي غذاءه بالعشيِّ، فإن استوفاه بالنهار كسل واحتاج إلى النوم وتبلَّد فهمه مع ذلك. وإن منع اللحم في أوقاته كان أنفع له وقعًا في الحركة والتيقظ وقلة البلادة وبعثه على النشاط والخفة. وأما الحلواء والفاكهة فينبغي أن يمتنع منها البتَّة إن أمكن، وإلا فليتناول أقل ما يمكن؛ فإنها تستحيل في بدنه فتُكثر انحلاله وتعوِّده مع ذلك على الشره ومحبة الاستكثار من المآكل. ويُعوَّد ألَّا يشرب في خلال طعامه بالماء. فأما النبيذ وأصناف الأشربة المسكرة فإياه وإياها؛ فإنها تضره في بدنه ونفسه، وتحمله على سرعة الغضب والتهور والإقدام على القبائح والقِحَة وسائر الخلال المذمومة.

آداب متنوعة

ولا ينبغي أن يحضر مجالس أهل الشرب إلا أن يكون أهل المجلس أدباء فضلاء. وأما غيرهم فلا؛ لئلا يسمع الكلام القبيح والسخافات التي تجري فيه. وينبغي ألَّا يأكل حتى يفرغ من وظائف الأدب التي يتعلمها ويتعب تعبًا كافيًا. وينبغي أن يُمنع من كل فعل يستره، ويخفيه؛ فإنه ليس يُخفي شيئًا إلا وهو يظن أو يعلم أنه قبيح، ويُمنع من النوم الكثير؛ فإنه يُقبحه ويُغلظ ذهنه ويُميت خاطره. هذا بالليل، فأما بالنهار فلا ينبغي أن يتعوده البتَّة، ويُمنع أيضًا من الفراش الوطيء وجميع أنواع الترفُّه حتى يصلُب بدنه ويتعود الخشونة. ولا يتعود الخيش والأسراب في الصيف ولا الأوبار والنيران في الشتاء للأسباب التي ذكرناها. ويُعوَّد المشي والحركة والركوب والرياضة؛ حتى لا يتعود أضدادها. ويُعوَّد ألَّا يكشف أطرافه ولا يسرع في المشي، ولا يرخي يديه بل يضمهما إلى صدره، ولا يربى شعره، ولا يُزيَّن بملابس النساء، ولا يلبس خاتمًا إلا وقت حاجته إليه، ولا يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه من مآكله وملابسه، ومما يجري مجراه ولا يشين، بل يتواضع لكل أحد ويُكرم كل من عاشره. ولا يتوصل بشرف — إن كان له — أو سلطان من أهله — إن اتفق — إلى غصب من هو دونه أو استهداء من لا يمكنه أن يرده عن هواه أو تطاوله عليه، كمن اتفق له أن كان خاله وزيرًا أو عمه سلطانًا، فتطرَّق به إلى هضيمة أقرانه، وثم إخوانه، واستباحة أموال جيرانه ومعارفه. وينبغي أن يُعوَّد ألَّا يبصق في مجالسه ولا يتمخط ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يضع رجلًا على رجل، ولا يضرب تحت ذقنه بساعده، ولا يعمد رأسه بيده؛ فإن هذه دليل الكسل، وأنه قد بلغ به التقبيح إلى ألَّا يحمل رأسه حتى يستعين بيده. ويُعوَّد ألَّا يكذب ولا يحلف البتَّة لا صادقًا ولا كاذبًا، فإن هذا قبيح بالرجال مع الحاجة إليه في بعض الأوقات، فأما الصبي فلا حاجة به إلى اليمين. ويُعوَّد أيضًا قلة الكلام، فلا يتكلم إلا جوابًا. وإذا حضر من هو أكبر منه اشتغل بالاستماع منه والصمت له. ويُمنع من خبيث الكلام وهجينه، ومن السب واللعن ولغو القول. ويُعوَّد حَسن الكلام وظريفه، وجميل اللقاء وكريمه، ولا يرخص له أن يستمع لأضدادها من غيره. ويُعوَّد خدمة نفسه ومعلمه وكل من كان أكبر منه. وأحوج الصبيان إلى هذا الأدب أولاد الأغنياء والمترفين.

وينبغي إذا ضربه المعلم ألَّا يصرخ ولا يستشفع بأحد؛ فإن هذا فعل المماليك ومن هو خوَّار ضعيف. ولا يُعيِّر أحدًا إلا بالقبيح والسيئ من الأدب. ويُعوَّد ألَّا يوحش الصبيان، بل يبرُّهم ويكافئهم على الجميل بأكثر منه؛ لئلا يتعود الربح على الصبيان وعلى الصديق. ويُبغَّض إليه الفضة والذهب ويُحذَّر منهما أكثر من تحذير السباع والحيات والعقارب والأفاعي؛ فإن حب الفضة والذهب آفته أكثر من آفات السموم. وينبغي أن يؤذَن له في بعض الأوقات أن يلعب لعبًا جميلًا ليستريح إليه من تعب الأدب، ولا يكون في لعبه ألم ولا تعب شديد. ويُعوَّد طاعة والديه ومعلميه ومؤدبيه، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم ويهابهم. وهذه الآداب النافعة للصبيان هي للكبار من الناس أيضًا نافعة، ولكنها للأحداث أنفع؛ لأنها تعوِّدهم محبة الفضائل، وينشئون عليها فلا يثقل عليهم تجنُّب الرذائل، ويسهل عليهم بعد ذلك جميع ما ترسمه الحكمة وتحده الشريعة والسنة. ويعتادون ضبط النفس عما تدعوهم إليه من اللذات القبيحة، وتكفُّهم عن الانهماك في شيء منها والفكر الكثير فيها، وتسوقهم إلى مرتبة الفلسفة العالية وترقِّيهم إلى معالي الأمور التي وصفناها في أول الكتاب من التقرب إلى الله عز وجل ومجاورة الملائكة مع حسن الحال في الدنيا وطيب العيش وجميل الأحدوثة وقلة الأعداء وكثرة المُدَّاح والراغبين في مودَّته من الفضلاء خاصة. فإذا تجاوز هذه الرتبة وبلغ أيامه إلى أن يفهم أغراض الناس وعواقب الأمور فهم أن الغرض الأخير من هذه الأشياء التي يقصدها الناس ويحرصون عليها من الثروة واقتناء الضياع والعبيد والخيل والفرش وأشباه ذلك، إنما هو لترفيه البدن وحفظ صحته، وأن يبقى على اعتداله مدة ما، وألَّا يقع في الأمراض ولا تفجأه المنيَّة، وأن يهنأ بنعمة الله عليه ويستعد لدار البقاء والحياة السرمدية، وأن اللذات كلها في الحقيقة هي خلاص من آلام وراحات من تعب. فإذا عرف ذلك وتحقَّقه ثم تعوَّده بالسيرة الدائمة، وعُوِّد الرياضات التي تُحرِّك الحرارة الغريزية وتحفظ الصحة وتنفي الكسل وتطرد البلادة وتبعث النشاط وتُذكِّي النفس. فمن كان مموَّلًا مُتْرفًا كانت هذه الأشياء التي رسمتها أصعب عليه؛ لكثرة من يحتفُّ به ويغويه، ولموافقة طبيعة الإنسان في أول ما تنشأ هذه اللذات وإجماع جمهور الناس على نَيل ما أمكنهم منها وطلب ما تعذَّر عليهم بغاية جهدهم. فأما الفقراء فالأمر عليهم أسهل، بل هم قريبون إلى الفضائل قادرون عليها متمكنون من نَيلها والإصابة منها، وحال المتوسطين من الناس متوسطة بين هاتين الحالتين. وقد كان ملوك الفرس الفضلاء لا يربون أولادهم بين حشمهم وخواصِّهم خوفًا عليهم من الأحوال التي ذكرناها ومن سماع ما حذرت منه. وكانوا يُنفِذونهم مع ثقاتهم إلى النواحي البعيدة منهم، وكان يتولى تربيتهم أهل الجفاء وخشونة العيش ومن لا يعرف التنعم ولا الترفه، وأخبارهم في ذلك مشهورة. وكثير من رؤسائهم في زماننا هذا ينقلون أولادهم عندما ينشئون إلى بلادهم ليتعودوا بها هذه الأخلاق، ويبعدوا عن عادات أهل البلدان الرديئة. وإذ قد عرفت هذه الطرق المحمودة في تأديب الأحداث فقد عرفت أضدادها؛ أعني أن من نشأ على خلاف هذا المذهب من التأديب لم يُرْجَ فلاحه، ولا ينبغي أن يُشتغل بصلاحه وتقويمه، فإنه قد صار بمنزلة الخنزير الوحشي الذي لا يُطمع في رياضته؛ فإن نفسه العاقلة تصير خادمة لنفسه البهيمية ولنفسه الغضبية، فهي منهمكة في مطالبها من النزوات. وكما أنه لا سبيل إلى رياضة سباع البهائم الوحشية التي لا تقبل التأديب كذلك لا سبيل إلى رياضة من نشأ على هذه الطريقة واعتادها وأمعن قليلًا في السن. اللهمَّ إلا أن يكون في جميع أحواله عالمًا بقبح سيرته ذامًّا لها عائبًا على نفسه عازمًا على الإقلاع والإنابة، فإن مثل هذا الإنسان من يُرجَى له النزوع عن أخلاقه بالتدريج والرجوع إلى الطريقة المثلى بالتوبة وبمصاحبة الأخيار وأهل الحكمة وبالإكباب على التفلسف. وإذ قد ذكرنا الخلق المحمود وما ينبغي أن يؤخذ به الأحداث والصبيان، فنحن واصفون جميع القوى التي تحدث للحيوان أولًا أولًا إلى أن يُنتهى إلى أقصى الكمال في الإنسانية، فإنك شديد الحاجة إلى معرفة ذلك لتبتدئ على الترتيب الطبيعي في تقويم واحد منها، فنقول:

الأجسام الطبيعية

إن الأجسام الطبيعية كلها تشترك في الحد الذي يعمُّها، ثم تتفاضل بقبول الآثار الشريفة والصور التي تحدث فيها. فإن الجماد منها إذا قبل صورة مقبولة عند الناس صار بها أفضل من الطينة الأولى التي لا تقبل تلك الصورة. فإذا بلغ إلى أن يقبل صورة النبات صار بزيادة هذه الصورة أفضل من الجماد. وتلك الزيادة هي الاغتذاء والنمو والامتداد في الأقطار واجتذاب ما يوافقه من الأرض والماء وترك ما لا يوافقه، ونفض الفضلات التي تتولد فيه من غذائه عن جسمه بالصموغ. وهذه الأشياء التي ينفصل بها النبات من الجماد. وهي حال زائدة على الجسمية التي حددناها، وكانت حاصلة في الجماد. وهذه الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد تتفاضل: وذلك أن بعضه يفارق الجماد مفارقة يسيرة كالمرجان وأشباهه، ثم يتدرج فيها فيحصل له من هذه الزيادة شيء بعد شيء، فبعضه ينبُت من غير زرع ولا بذر، ولا يُحفظ نوعه بالثمر والبزر، ويكفيه في حدوثه امتزاج العناصر وهبوب الرياح وطلوع الشمس؛ فلذلك هو في أفق الجمادات وقريب الحال منها. ثم تزداد هذه الفضيلة في النبات، فيفضل بعضه على بعض بنظام وترتيب حتى تظهر فيه قوة الإثمار وحفظ النوع بالبزر الذي يخلف به مثله، فتصير هذه الحالة زائدة فيه ومميِّزة له عن حال ما قبله. ثم تقوى هذه الفضيلة فيه حتى يصير فضل الثالث على الثاني كفضل الثاني على الأول. ولا يزال يشرُف ويفضُل بعضه على بعض حتى يبلغ إلى أفقه ويصير في أفق الحيوان، وهي كرام الشجر كالزيتون والرمان والكرم وأصناف الفواكه، إلا أنها بعدُ مختلطة القوى؛ أعني أن قوى ذكورها وإناثها غير متميَّزة، فهي تحمل وتلد المِثْل ولم تبلغ غاية أفقها الذي يتصل بأفق الحيوان. ثم تزداد وتُمعن في هذا الأفق إلى أن تصير في أفق الحيوان فلا تحتمل زيادة؛ وذلك أنها إن قبلت زيادة يسيرة صارت حيوانًا وخرجت عن أفق النبات. فحينئذٍ تتميز قواها ويحصل فيها ذكورة وأنوثة وتقبل من فضائل الحيوان أمورًا تتميز بها عن سائر النبات والشجر، كالنخل الذي طالَع أفق الحيوان بالخواصِّ العشر المذكورة في مواضعها، ولم يبقَ بينه وبين الحيوان إلا مرتبة واحدة وهي الانقلاع من الأرض والسعي إلى الغذاء. وقد رُوي في الخبر ما هو كالإشارة أو كالرمز إلى هذا المعنى، وهو قوله : «أكرموا عماتكم النخل؛ فإنها خُلقت من بقية طينة آدم.» فإذا تحرَّك النبات وانقلع من أفقه وسعى إلى غذائه، ولم يتقيد في موضعه إلى أن يصير إليه غذاؤه، وكُوِّنت له آلات أُخر يتناول بها حاجاته التي تُكمله فقد صار حيوانًا. وهذه الآلات تتزايد في الحيوان من أول أفقه، وتتفاضل فيه فيشرُف فيه بعضها على بعض كما كان ذلك في النبات، فلا يزال يقبل فضيلة بعد فضيلة حتى تظهر فيه قوة الشعور باللذة والأذى فيلتذ بوصوله إلى منافعه، ويتألم بوصول مضاره إليه. ثم يقبل إلهام الله عز وجل إياه فيهتدي إلى مصالحه فيطلبها وإلى أضداده فيهرب منها. وما كان من الحيوان في أول أفق النبات، فإنه لا يتزاوج ولا يخلف المثل بل يتوالد كالديدان والذباب وأصناف الحشرات الخسيسة. ثم يتزايد فيه قبول الفضيلة كما كان في النبات سواء. ثم تحدث فيه قوة الغضب التي ينهض بها إلى دفع ما يؤذيه، فيُعطى من السلاح بحسب قوته، وما يطيق استعماله. فإن كانت قوته الغضبية شديدة كان سلاحه تامًّا قويًّا، وإن كانت ناقصة كان ناقصًا، وإن كانت ضعيفة جدًّا لم يُعطَ سلاحًا البتَّة، بل أُعطيَ آلة الهرب كشدة العدْو والقدرة على الحيل التي تنجيه من مخاوفه. وأنت ترى ذلك عيانًا من الحيوان الذي أُعطيَ القرون التي تجري له مجرى الرماح، والذي أُعطيَ الأنياب والمخالب التي تجري له مجرى السكاكين والخناجر، والذي أُعطيَ آلة الرمي التي تجري له مجرى النبل والنشاب، والذي أُعطيَ الحوافر التي تجري له مجرى الدبوس والطبرزين. فأما ما لم يُعطَ سلاحًا لضعفه عن استعماله ولقلة شجاعته ونقصان قوته الغضبية، ولأنه لو أُعطيَه لصار كَلًّا عليه، فقد أُعطيَ آلة الهرب والحيل بجودة العدْو والخفة والختل والمراوغة كالأرانب وأشباهها. وإذا تصفحت أحوال الموجودات من السباع والوحش والطير رأيت هذه الحكمة مستمرة فيها، فتبارك الله أحسن الخالقين! لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين، الحمد لله رب العالمين.

فأما الإنسان فقد عُوِّض من هذه الآلات كلها بأن هُديَ إلى استعمالها كلها، وسُخِّرت هذه كلها له، وسنتكلم على ذلك في موضعه. فأما أسباب هذه الأشياء كلها، والشكوك التي تعترض في قصد بعضها بعضًا بالتلف والأنواع من الأذى، فليس يليق بهذا الموضع. وسأذكرها إن أخَّر الله في الأجَل عند بلوغنا إلى الموضع الخاص بها.

مراتب الحيوان

ونعود إلى ذكر مراتب الحيوان فنقول: إن ما أُهديَ منها إلى الازدواج وطلب النسل وحفظ الولد وتربيته والإشفاق عليه بالكِنِّ والعُشِّ واللباس، كما نشاهد فيما يلد ويبيض، وتغذيته إما باللبن وإما بنقل الغذاء إليه، فإنه أفضل مما لا يهتدي إلى شيء منها. ثم لا تزال هذه الأحوال تتزايد في الحيوان حتى يقرب من أفق الإنسان، فحينئذٍ يقبل التأديب، ويصير بقبوله للأدب ذا فضيلة يتميز بها من سائر الحيوانات. ثم تتزايد هذه الفضيلة في الحيوانات حتى يشرُف بها ضروب الشرف، كالفرس والبازي المُعلَّم. ثم يصير من هذه المرتبة إلى مرتبة الحيوان الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه ويتشبَّه به من غير تعليم، كالقردة وما أشبهها. ويبلغ من ذكائها أن تستكفي في التأدب بأن ترى الإنسان يعمل عملًا فتعمل مثله من غير أن تُحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها. وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها عن أُفقِه، وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها والصور التي تلائمها. فإذا بلغ هذه الرتبة تحرَّك إلى المعارف واشتاق إلى العلوم وحدثت له قوًى وملَكات ومواهب من الله عز وجل يقتدر بها على الترقي والإمعان في هذه الرتبة، كما كان ذلك في المراتب الأخرى التي ذكرناها. وأول هذه المراتب من الأفق الإنساني المتصل بآخِر ذلك الأفق الحيواني مراتب الناس الذين يسكنون في أقاصي المعمورة من الشمال والجنوب، كأواخر التُّرك من بلاد يأجوج ومأجوج، وأواخر الزنج وأشباههم من الأمم التي لا تُميَّز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة. ثم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا إلى وسط الأقاليم فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات. ثم يستعد بهذا القبول لاكتساب الفضائل واقتنائها بالإرادة والسعي والاجتهاد الذي ذكرناه فيما تقدم، حتى يصل إلى آخر أُفقه. فإذا صار إلى آخر أُفقه اتصل بأول أفق الملائكة. وهذا أعلى مرتبة الإنسان، وعندها تتأحَّد الموجودات ويتصل أولها بآخرها. وهو الذي يُسمَّى دائرة الوجود؛ لأن الدائرة هي التي قيل في حدِّها: إنها خطٌّ واحد يبتدئ بالحركة من نقطة، وينتهي إليها بعينها. ودائرة الوجود هي المتأحِّدة التي جعلت الكثرة وحدة. وهي التي تدل دلالة صادقة برهانية على موجدها وحكمته وقدرته ووجوده تبارك اسمه وتعالى جدُّه وتقدَّس ذكره. ولولا أن شرح هذا الموضوع لا يليق بصناعة تهذيب الأخلاق لشرحته، وأنت تقف عليه إن بلغت هذه الرتبة بمشيئة الله. وإذا تصورت قدر ما أومأنا إليه وفهمته اطلعت على الآلة التي خُلقت ونُدبت إليها، وعرفت الأفق الذي يتصل بأفقك، وتنقُّلك في مرتبة بعد مرتبة، وركوبك طبقًا عن طبق، وحدث لك الإيمان الصحيح، وشهدت ما غاب عن غيرك من الدهماء، وبلغت أن تتدرج إلى العلوم الشريفة المكنونة التي مبدؤها تعلُّم المنطق، فإنه الآلة في تقويم الفهم والعقل الغريزي، ثم الوصول به إلى معرفة الخلائق وطباعها، ثم التعلق بها والتوسع فيها والتوصل منها إلى العلوم الإلهية، وحينئذٍ تستعد لقبول مواهب الله عز وجل وعطاياه، فيأتيك الفيض الإلهي فتسكُن عن قلق الطبيعة وحركاتها نحو الشهوات الحيوانية، وتلحظ المرتبة التي ترقَّيت فيها أولًا فأولًا من مراتب الموجودات، وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها، وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله إلا بعد أن يحصل له ما قبله. وإذا صار إنسانًا كاملًا، وبلغ غاية أُفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار إمَّا حكيمًا تامًّا تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية والتأييدات العلوية في التصويرات العقلية، وإما نبيًّا مؤيدًا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره، فيكون حينئذٍ واسطة بين الملأ الأعلى والملأ الأسفل، وذلك بتصوره حال الموجودات كلها، والحال التي ينتقل إليها من حال الإنسية ومطالعة الآفاق التي ذكرناها، وحينئذٍ يفهم عن الله عز وجل قوله: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وتصوُّر معنى قوله : «هناك ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.» وإذا بلغ الكلام إلى ذكر هذه المنزلة العالية الشريفة التي أُهِّل الإنسان لها ونسقنا أحواله التي يترقى فيها وأنه يكون أولًا بالشوق إلى المعارف والعلوم فينبغي أن نزيد في بيانه وشرحه، فنقول:

الشوق إلى المعارف والعلوم

إن هذا الشوق ربما ساق الإنسان على منهج قويم وقصد صحيح، حتى ينتهي إلى غاية كماله وهي سعادته التامة. وقلَّما يتفق ذلك، وربما اعوجَّ به عن السمت والسنن، وذلك لأسباب كثيرة يطول ذكرها، ولا حاجة بك إلى علمها الآن وأنت في تهذيب خلقك. فكما أن الطبيعة المدبِّرة للأجسام ربما شوَّقت إلى ما ليس بتمامٍ للجسم الطبيعي لعلل تحدُث به وآفات تطرأ عليه بمنزلة من يشتاق إلى أكل الطين وما جرى مجراه مما لا يكمل طبيعة الجسد، بل يهدمه ويُفسده، كذلك أيضًا النفس الناطقة ربما اشتاقت إلى النظر والتمييز الذي لا يُكملها ولا يشوقها نحو سعادتها، بل يحركها إلى الأشياء التي تعوقها، وتقصُر بها عن كمالها، فحينئذٍ يحتاج إلى علاج نفساني روحاني كما احتاج في الحالة الأولى إلى طب طبيعي جسماني؛ ولذلك تكثُر حاجات الناس إلى المقوِّمين والمثقِّفين وإلى المؤدِّبين والمسدِّدين، فإن وجود تلك الطبائع الفائقة التي تنساق بذاتها من غير توفق إلى السعادة عسرة الوجود، ولا توجد إلا في الأزمنة الطوال والمُدد البعيدة. وهذا الأدب الحق الذي يؤدِّينا إلى غايتنا يجب أن تلحظ فيه المبدأ الذي يجري مجرى الغاية، حتى إذا لحظت الغاية تدرَّج منها إلى الأمور الطبيعية على طريق التحليل، ثم يبتدئ من أسفل على طريق التركيب، فيسلك فيها إلى أن ينتهي إلى الغاية التي لحظت أولًا. وهذا المعنى هو الذي أحوجنا في مبدأ هذا الكتاب وفي فصول أُخر منه أن نذكر أشياء عالية لا تليق بهذه الصناعة ليتشوق إليها من يستحقها. وليس يمكن الإنسان أن يشتاق إلى ما لا يعرفه البتَّة. فإذا لحظها من فيه قبول لها وعناية بها عرفها بعض المعرفة فتشوَّقها وسعى نحوها واحتمل التعب والنصب فيها، وينبغي أن يُعلم أن كل إنسان مُعَدٌّ نحو فضيلةٍ ما فهو إليها أقرب وبالوصول إليها أحرى؛ ولذلك لا تصير سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر إلا من اتفق له نفسٌ صافية وطبيعة فائقة، فينتهي إلى غايات الأمور وإلى غاية غاياتها؛ أعني السعادة القصوى التي لا سعادة بعدها.

الواجب على الحاكم

ولأجل ذلك يجب على مدير المدن أن يَسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسم عنايته بالناس، ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية. والآخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحِسِّيَّة. وإذا سددهم نحو السعادة الفكرية بدأبهم من الغاية الأخيرة على طريق التحليل ووقف بهم عند القوى التي ذكرناها. وإذا سددهم نحو السعادة العملية بدأبهم من عند هذه القوى وانتهى بهم إلى تلك الغاية. ولما كان غرضنا في هذا الكتاب السعادة الخلقية، وأن تصدر عنا الأفعال كلها جميلة كما رسمنا في صدر الكتاب، وعملناه لمحبي الفلسفة خاصة لا للعوام، وكان النظر يتقدم العمل، وجب أن نذكر الخير المطلق والسعادة الإنسانية لتُلحظ الغاية الأخيرة، ثم تُطلب بالأفعال الإرادية التي ذكرنا جملها في المقالة الأولى. وأرسطوطاليس إنما بدأ كتابه بهذا الموضع، وافتتحه بذكر الخير المطلق ليعرف ويتشوق، ونحن نذكر ما قاله ونتبعه بما أخذناه أيضًا عنه في مواضع أخر ليجتمع ما فرقه، ونضيف إلى ذلك ما أخذناه عن مفسري كتبه المنقلبين لحكمته نحو استطاعتنا، والله الموفق المؤيد، فإن الخير بيده، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤