المقالة الثالثة

الخير والسعادة

نبدأ بمعونة الله تعالى في هذه المقالة بذكر الفرق بين الخير والسعادة بعد أن نذكر ألفاظ أرسطوطاليس اقتداءً به وتوفيةً لحقه، فنقول: إن الخير على ما حدَّه واستحسنه من آراء المتقدمين هو المقصود من الكل، وهو الغاية الأخيرة. وقد يُسمَّى الشيء النافع في هذه الغاية خيرًا. فأما السعادة فهي الخير بالإضافة إلى صاحبها وهي كمال له؛ فالسعادة إذًا خير ما، وقد تكون سعادة الإنسان غير سعادة الفرس، وسعادة كل شيء في تمامه وكماله الذي يخصه. فأما الخير الذي يقصده الكل بالشوق فهو طبيعة تُقصد ولها ذات، وهو الخير العام للناس من حيث هم ناس، فهم بأجمعهم مشتركون فيها. فأما السعادة فهي خير ما لواحد واحد من الناس، فهي إذًا بالإضافة ليست لها ذات معينة. وهي تختلف بالإضافة إلى قاصديها؛ فلذلك يكون الخير المطلق غير مختلف فيه. وقد يُظن بالسعادة أنها تكون لغير الناطقين، فإن كان ذلك فإنما هي استعدادات فيها لقبول تماماتها وكمالاتها من غير قصد ولا روية ولا إرادة، وتلك الاستعدادات هي الشوق، أو ما يجري مجرى الشوق من الناطقين بالإرادة. فأما ما يتأتَّى للحيوانات في مآكلها ومشاربها وراحاتها، فينبغي أن يُسمَّى بختًا أو اتفاقًا، ولا يؤهَّل لاسم السعادة كما يُسمَّى في الإنسان أيضًا. وإنما استُحسن الحد الذي ذكرنا للخير المطلق؛ لأن العقل لا يطلق السعي والحركة إلا إلى نهاية. وهذا أول في العقل. ومثال ذلك أن الصناعات والهمم والتدابير الاختيارية كلها يُقصد بها خير ما، وما لم يُقصد به خير ما فهو عبث، والعقل يحظره ويمنع منه، وبالواجب صار الخير المطلق هو المقصود إليه من كل الناس، ولكن بقي أن يُعلم ما هو وما الغاية الأخيرة منه التي هي غاية الخيرات التي ترتقي الخيرات كلها إليها؛ حتى نجعله غرضنا ونتوجه إليه، ولا نلتفت إلى غيره، ولا تنتشر أفكارنا في الخيرات الكثيرة التي تؤدي إليه إما تأدية بعيدة وإما تأدية قريبة، ولا نغلط أيضًا فيما ليس بخير فنظنه خيرًا، ثم نُفني أعمارنا في طلبه والتعب به، وكلًّا سنُبيِّنه بمشيئة الله وعونه.

أقسام الخير

الخير على ما قسمه أرسطوطاليس وحكاه عنه قرقوريوس وغيره، قال: الخيرات منها ما هي شريفة ومنها ما هي ممدوحة، ومنها ما هي بالقوة كذلك، وما هي نافعة فيها؛ ﻓ «الشريفة» منها هي التي شرفُها من ذاتها وتجعل من اقتناها شريفًا، وهي الحكمة والعقل. و«الممدوحة» منها مثل الفضائل والأفعال الجميلة الإرادية. والتي هي «بالقوة»، مثل التهيؤ والاستعداد لنيل الأشياء التي تقدمت. و«النافعة» هي جميع الأشياء التي تُطلب لا لِذاتها، بل ليُتوصل بها إلى الخيرات. «وعلى جهة أخرى»: الخيرات منها ما هي غايات، ومنها ما ليست بغايات، والغايات منها ما هي تامة ومنها ما هي غير تامة؛ فالتي هي تامة كالسعادة؛ وذلك أنَّا إذا وصلنا إليها لم نحتج أن نستزيد إليها بشيء آخر. والتي هي غير تامة فكالصحة واليسار من قبيل أنا إذا وصلنا إليها احتجنا أن نستزيد فنقتني أشياء أخر. وأما التي ليست بغاية البتَّة فكالعلاج والتعلم والرياضة. «وعلى جهة أخرى»: الخيرات منها ما هو مؤثر لأجل ذاته، ومنها ما هو مؤثر لأجل غيره، ومنها ما هو مؤثر للأمرين جميعًا، ومنها ما هو خارج عنهما. «وعلى جهة أخرى»: الخيرات منها ما هو خير على الإطلاق، ومنها ما هو خير عند الضرورة والاتفاقات التي تتفق لبعض الناس وفي وقت دون وقت. وأيضًا منها ما هو خير لجميع الناس، ومن جميع الوجوه وفي جميع الأوقات، ومنها ما ليس بخير لجميع الناس، ولا من جميع الوجوه. «وعلى جهة أخرى»: الخيرات منها ما هو في الجوهر، ومنها ما هو في الكمية، ومنها ما هو في الكيفية وفي سائر المقولات كالقوى والملَكات. ومنها كالأحوال ومنها كالأفعال ومنها كالغايات ومنها كالمواد ومنها كالآلات. ووجود الخيرات في المقولات كلها يكون على هذا المثال. أما في الجوهر؛ أعني ما ليس بعرض فالله تبارك وتعالى هو الخير الأول، فإن جميع الأشياء تتحرك نحوه بالشوق إليه، ولأن مآل الخيرات الإلهية من البقاء والسرمدية والتمام منه، وأما في الكمية فالعدد المعتدل والمقدار المعتدل، وأما في الكيفية فكاللذات، وأما في الإضافة فكالصدقات والرياسات، وأما في الأين والمتى فكالمكان المعتدل والزمان الأنيق البهج، وأما في الموضع فكالقعود والاضطجاع والاتكاء الموافق، وأما في الملك فكالأموال والمنافع، وأما في الانفعال فكالسماع الطيب وسائر المحسوسات المؤثرة، وأما في الفعل فكنفاذ الأمر ورواج الفعل. «وعلى جهة أخرى»: الخيرات منها معقولات ومنها محسوسات.

السعادة

وأما السعادة فقد قلنا: إنها خير ما وهي تمام الخيرات وغاياتها، والتمام هو الذي إذا بلغنا إليه لم نحتج معه إلى شيء آخر؛ فلذلك نقول: إن السعادة هي أفضل الخيرات، ولكنا نحتاج في هذا التمام الذي هو الغاية القصوى إلى سعادات أخرى، وهي التي في البدن والتي خارج البدن. و«أرسطوطاليس» يقول: «إنه يعسر على الإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة بلا مادة مثل اتساع اليد وكثرة الأصدقاء وجودة البخت.» قال: «ولهذا ما احتاجت الحكمة إلى صناعة الملك في إظهار شرفها.» قال: «ولهذا قلنا إن كان شيء عطية من الله تعالى وموهبة للناس فهو السعادة؛ لأنها عطية منه عز اسمه وموهبة في أشرف منازل الخيرات وفي أعلى مراتبها، وهو خاصة بالإنسان التام؛ ولذلك لا يشاركه فيها من ليس بتام، كالصبيان ومن يجري مجراهم.» وأما أقسام السعادة على مذهب هذا الحكيم فهي خمسة أقسام، أحدها في صحة البدن ولطف الحواس، ويكون ذلك من اعتدال المزاج؛ أعني أن يكون جيد السمع والبصر والشم والذوق واللمس. والثاني في الثروة والأعوان وأشباههما حتى يتسع لأن يضع المال في موضعه ويعمل به سائر الخيرات ويواسي منه أهل الخيرات خاصة، والمستحقين عامة، ويعمل به كل ما يزيد في فضائله ويستحق الثناء والمدح عليه. والثالث: أن تحسن أحدوثته في الناس ويُنشر ذكره بين أهل الفضل فيكون ممدوحًا بينهم، ويكثرون الثناء عليه لما يتصرف فيه من الإحسان والمعروف. والرابع: أن يكون منجحًا في الأمور؛ وذلك إذا استتم كل ما روى فيه وعزم عليه حتى يصير إلى ما يأمله منه. والخامس: أن يكون جيد الرأي صحيح الفكر سليم الاعتقادات في دينه وغير دينه، بريئًا من الخطأ والزلل، جيد المشورة في الآراء. فمن اجتمعت له هذه الأقسام كلها فهو السعيد الكامل على مذهب هذا الرجل الفاضل، ومن حصل له بعضها كان حظه من السعادة بحسب ذلك. وأما الحكماء قبل هذا الرجل مثل فيثاغورس وبقراط وأفلاطون وأشباههم، فإنهم أجمعوا على أن الفضائل والسعادة كلها في النفس وحدها؛ ولذلك لما قسموا السعادة جعلوها كلها في قوى النفس التي ذكرناها في أول الكتاب (وهي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة)، وأجمعوا على أن هذه الفضائل هي كافية في السعادة، ولا يُحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن، ولا ما هو خارج البدن؛ فإن الإنسان إذا حصَّل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون سقيمًا ناقص الأعضاء مبتلًى بجميع أمراض البدن؛ اللهم إلا أن يلحق النفس منها مضرة في خاص أفعالها مثل فساد العقل ورداءة الذهن وما أشبههما. وأما الفقر والخمول وسقوط الحال وسائر الأشياء الخارجة عنها، فليست عندهم بقادحة في السعادة البتَّة. وأما الرواقيون وجماعة من الطبيعيين فإنهم جعلوا البدن جزءًا من الإنسان ولم يجعلوه آلة كما شرحناه فيما تقدم؛ فلذلك اضطروا إلى أن يجعلوا السعادة التي في النفس غير كاملة إذا لم يقترن بها سعادة البدن وما هو خارج البدن أيضًا؛ أعني الأشياء التي تكون بالبخت والجد. والمحققون من الفلاسفة يحقرون أمر البخت وكل ما يكون به ومعه، ولا يؤهلون تلك الأشياء لاسم السعادة؛ لأن السعادة شيء ثابت غير زائل ولا متغير، وهي أشرف الأمور وأكرمها وأرفعها، فلا يجعلون لأحسن الأشياء وهو الذي يتغير ولا يثبت ولا يتحصل بروية ولا فكر ولا يتأتَّى بعقل وفضيلة فيها نصيبًا؛ ولهذا النظر اختلف القدماء في السعادة العظمى، فظن قوم أنها لا تحصل للإنسان إلا بعد مفارقة البدن والطبيعات كلها، وهؤلاء هم القوم الذين حكينا عنهم أن السعادة العظمى هي في النفس وحدها، وسموا الإنسان ذلك الجوهر وحده دون البدن؛ ولذلك حكموا أنها ما دامت في البدن ومتصلة بالطبيعة وكدرها ونجاسات البدن وضروراته وحاجات الإنسان به، وافتقاراته إلى الأشياء الكثيرة، فليست سعيدة على الإطلاق، وأيضًا لما رأوها لا تكمل لوجود الأشياء العقلية؛ لأنها لا تستتر عنها بظلمة الهيولى أعني قصورها ونقصانها ظنوا أنها إذا فارقت هذه الكدورة فارقت الجهالات وصفت وخلصت وقبلت الإضاءة والنور الإلهي؛ أعني العقل التام. ويجب على رأي هؤلاء أن الإنسان لا يسعد السعادة التامة إلا في الآخرة بعد موته. وأما الفرقة الأخرى فإنها قالت إنه من القبيح الشنيع أن يُظن أن الإنسان ما دام حيًّا يعمل الأعمال الصالحة ويعتقد الآراء الصحيحة، ويسعى في تحصيل الفضائل كلها لنفسه أولًا ثم لأبناء جنسه ثانيًا، ويخلف رب العزة تقدَّس ذكره في خلقه بهذه الأفعال المرضية فهو شقي ناقص، حتى إذا مات وعدم هذه الأشياء صار سعيدًا تام السعادة. وأرسطوطاليس يتحقق بهذا الرأي؛ وذلك أنه تكلم في السعادة الإنسانية، والإنسان هو المركَّب عنده من بدن ونفس؛ ولذلك حد الإنسان بالناطق المائت وبالناطق الماشي برجلين وما أشبه ذلك. وهذه الفرقة وهي التي رئيسها أرسطوطاليس رأت أن السعادة الإنسانية تحصل للإنسان في الدنيا إذا سعى لها وتعب بها حتى يصير إلى أقصاها. ولما رأى الحكيم ذلك وأن الناس مختلفون في هذه السعادة الإنسانية، وأنها قد أشكلت عليهم إشكالًا شديدًا؛ احتاج أن يتعب في الإبانة عنها وإطالة الكلام فيها؛ وذلك أن الفقير يرى أن السعادة العظمى في الثروة واليسار، والمريض يرى أنها في الصحة والسلامة، والذليل يرى أنها في الجاه والسلطان، والخليع يرى أنها في التمكن من الشهوات كلها على اختلافها، والعاشق يرى أنها في الظفر بالمعشوق، والفاضل يرى أنها في إفاضة المعروف على المستحقين، والفيلسوف يرى أن هذه كلها إذا كانت مرتَّبة بحسب تقسيط العدل؛ أعني عند الحاجة وفي الوقت الذي يجب وكما يجب وعند من يجب، فهي سعادات كلها. وما كان منها يراد لشيء آخر؛ فذلك الشيء أحق باسم السعادة. ولما كانت كل واحدة من هاتين الفرقتين نظرت نظرًا ما، وجب أن نقول في ذلك ما نراه صوابًا وجامعًا للرأيين فنقول:

رأي المؤلف في السعادة

إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تُسمَّى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام؛ لأنه مركب منهما، فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة؛ ليعمره وينظمه ويرتبه، حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال انتقل إلى العالم العلوي وأقام فيه دائمًا سرمدًا في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة، وينبغي أن يفهم من قولنا العالم السفلى والعالم العلوي ما ذكرناه فيما تقدم. فإنا قد قلنا هناك إنا لسنا نعني بالعلوي المكان الأعلى في الحس ولا بالعالم السفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوسًا في المكان الأعلى، وكل معقول فهو أعلى وإن كان معقولًا في المكان الأسفل. وينبغي أن يُعلم أنه لا يُحتاج في صحة الأرواح الطيبة المستغنية عن الأبدان إلى شيء من السعادات البدنية التي ذكرناها سوى سعادة النفس فقط؛ أعني المعقولات الأبدية التي هي الحكمة فقط. فإذًا ما دام الإنسان إنسانًا فلا تتم له السعادة إلا بتحصيل الحالين جميعًا، وليس يحصلان على التمام إلا بالأشياء النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية؛ فالسعيد إذًا من الناس يكون في إحدى مرتبتين، إما في مرتبة الأشياء الجسمانية متعلقًا بأحوالها السفلى سعيدًا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثًا عنها مشتاقًا إليها متحركًا نحوها مغتبطًا بها، وإما أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية متعلقًا بأحوالها العليا سعيدًا بها وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية معتبرًا بها ناظرًا في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة مقتديًا بها ناظمًا لها مفيضًا للخيرات عليها سابقًا نحو الأفضل؛ فالأفضل بحسب قبولها وعلى نحو استطاعتها، وأي امرئ لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في رتبة الأنعام بل هو أضل، وإنما صار أضل لأن تلك غير معرَّضة لهذه الخيرات، ولا أعطيت استطاعة نتحرك بها نحو هذه المراتب العالية، وإنما تتحرك بقواها نحو كمالاتها الخاصة بها، والإنسان معرَّض لها مندوب إليها مزاح العلة فيها وهو مع ذلك غير محصِّل لها ولا ساعٍ نحوها، وهو مع ذلك مؤثِر لضدها، يستعمل قواه الشريفة في الأمور الدنيئة، وتلك محصلة لكمالاتها التي تخصها. فإذًا الأنعام إذا مُنعت الخيرات الإنسية حُرمت جوار الأرواح الطيبة ودخول الجنة التي وُعد المتقون فهي معذورة، والإنسان غير معذور. مثل الأول مثل الأعمى إذا جار عن الطريق فتردَّى في بئر فهو مرحوم غير ملوم، ومثل الثاني مثل بصير يجور على بصيرة حتى يتردى في البئر فهو ممقوت ملوم. وإذ قد تبيَّن أن السعيد لا محالة في إحدى المرتبتين اللتين ذكرناهما فقد تبيَّن أيضًا أن أحدهما ناقص مقصر عن الآخر، وأن الأنقص منهما ليس يخلو ولا يتعرى من الآلام والحسرات لأجل خدائع الطبيعة والزخارف الحِسِّيَّة التي تعترضه فيما يلابسه وتعُوقه عما يلاحظه وتمنعه من الترقي فيها على ما ينبغي، وتشغله بما يتعلق به من الأمور الجسمانية، فصاحب هذه المرتبة غير كامل على الإطلاق ولا سعيد تام. وإن صاحب المرتبة الأخرى هو السعيد التام وهو الذي توفَّر حظه من الحكمة، فهو مقيم بروحانيته بين الملأ الأعلى يستمد منهم لطائف الحكمة، ويستنير بالنور الإلهي، ويستزيد من فضائله بحسب عنايته بها وقلة عوائقه عنها؛ ولذلك يكون أبدًا خاليًا من الآلام والحسرات التي لا يخلو صاحب المرتبة الأولى منها، ويكون مسرورًا أبدًا بذاته مغتبطًا بحاله، وبما يحصل له دائمًا من فيض نور الأمل، فليس يُسَرُّ إلا بتلك الأحوال، ولا يغتبط إلا بتلك المحاسن، ولا يهش إلا لإظهار تلك الحكمة بين أهلها، ولا يرتاح إلا لمن ناسبه أو قاربه وأحب الاقتباس منه. وهذه المرتبة التي من وصل إليها فقد وصل إلى آخر السعادات وأقصاها، وهو الذي لا يبالي بفراق الأحباب من أهل الدنيا، ولا يتحسر على ما يفوته من التنعم فيها، وهو الذي يرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا التي عددناها في السعادات التي في بدنه والخارجة عنه كلها كلًّا عليه إلا في ضرورات يحتاج إليها لبدنه الذي هو مربوط به لا يستطيع الانحلال عنه إلا عند مشيئة خالقه. وهو الذي يشتاق إلى صحبة أشكاله وملاقاة من يناسبه من الأرواح الطيبة والملائكة المقربين، وهو الذي لا يفعل إلا ما أراده الله منه ولا يختار إلا ما قرب إليه ولا يخالفه إلى شيء من شهواته الرديئة، ولا ينخدع بخدائع الطبيعة، ولا يلتفت إلى شيء يعوقه عن سعادته. وهو الذي لا يحزن على فقد محبوب، ولا يتحسر على فوت مطلوب. إلا أن هذه المرتبة الأخيرة تتفاوت تفاوتًا عظيمًا؛ أعني أن من يصل إليها من الناس يكون على طبقات كثيرة غير متقاربة، وهاتان المرتبتان هما اللتان ساق الحكيم الكلام إليهما واختار المرتبة الأخيرة منهما، وذلك في كتابه المسمَّى «فضائل النفس»، وأنا أورد ألفاظه التي نُقلت إلى العربية بعينها قال:

أول رتب الفضائل

«أول رتب الفضائل تُسمَّى سعادة وهي أن يصرف الإنسان إرادته ومحاولاته إلى مصالحه في العلوم المحسوس والأمور المحسوسة من أمور النفس والبدن، وما كان من الأحوال متصلًا بهما ومشاركًا لهما من الأمور النفسانية، ويكون تصرُّفه في الأحوال المحسوسة تصرفًا لا يخرج به عن الاعتدال الملائم لأحواله الحِسِّيَّة. وهذه حال قد يتلبس فيها الإنسان بالأهواء والشهوات. إلا أن ذلك بقدر معتدل غير مفرط، وهو إلى ما ينبغي أقرب منه إلى ما لا يسيغه؛ وذلك أنه يجري أمره نحو صواب التدبير المتوسط في كل فضيلة، ولا يخرج به عن تقدير الفكر، وإن لابس الأمور المحسوسة وتصرَّف فيها. ثم الرتبة الثانية وهي التي يصرف الإنسان فيها إرادته ومحاولاته إلى الأمر الأفضل من صلاح النفس والبدن من غير أن يتلبس مع ذلك بشيء من الأهواء والشهوات، ولا يكترث بشيء من النفسيات المحسوسة إلا بما تدعوه إليه الضرورة. ثم تتزايد رتبة الإنسان في هذا الضرب من الفضيلة؛ وذلك أن الأماكن والرتب في هذا الضرب من الفضائل كثيرة بعضها فوق بعض؛ وسبب ذلك: أما أولًا فاختلاف طبائع الناس. وثانيًا: على حسب العادات. وثالثًا: بحسب منازلهم ومواضعهم من الفضل والعلم والمعرفة والفهم. ورابعًا: بحسب هممهم. وخامسًا: بحسب شوقهم ومعاناتهم. ويقال أيضًا: بحسب جدِّهم. ثم تكون النقلة في آخر هذه المرتبة؛ أعني هذا الصنف من الفضيلة إلى الفضيلة الإلهية المحضة، وهي التي لا يكون فيها تشوُّف إلى آتٍ، ولا تلفُّت إلى ماضٍ، ولا تشييع لحال، ولا تطلُّع إلى ناءٍ، ولا ضنٌّ بقريب، ولا خوف ولا فزع من أمر، ولا شغف بحال ولا طلب لحظ من حظوظ الإنسانية ولا من الحظوظ النفسانية أيضًا، ولا ما تدعو الضرورة إليه من حاجة البدن والقوى الطبيعية ولا القوى النفسانية. لكن يتصرف بتصرُّف الخير العقلي في أعالي رتب الفضائل، وهو صرف الوَكْد إلى الأمور الإلهية ومعاناتها ومحاولاتها بلا طلب عوض؛ أعني أن يكون تصرُّفه فيها ومعاناته ومحاولته لها لنفس ذاتها فقط. وهذه الرتبة أيضًا تتزايد بالناس بحسب الهمم والشوق وفضل المعاناة والمحاولة وقوة النحيزة وصحة الثقة، وبحسب منزلة من بلغ إلى هذا المبلغ من الفضيلة في هذه الأحوال التي عددناها إلى أن يكون تشبهه بالعلة الأولى واقتداؤه بها وبأفعالها.»

آخر مراتب الفضائل

«وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعال إلهية. وهذه الأفعال هي خيرٌ محض، والفعل إذا كان خيرًا محضًا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه؛ وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها؛ أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من أجل شيء آخر؛ فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلهية فهي كلها إنما تصدر عن لُبِّه وذاته الحقيقية التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة، وتزول وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين وعوارض التخيل المتولد عنهما وعن دواعي نفسه الحِسِّيَّة، فلا يبقى له حينئذٍ إرادة ولا همة خارجتان عن فعله من أجلهما يفعل ما يفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة ولا همة في سوى الفعل؛ أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل. وهذا هو سبيل العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل التي يتقبل فيها الإنسان أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل؛ أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب به حظًّا ولا مجازاة ولا عوضًا ولا زيادة، لكن يكون فعله بعينه هو غرضه؛ أي ليس يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل؛ ومعنى ذاته هو ألَّا يفعل ما يفعله من أجل شيء غير فعله نفسه، وذاته نفسها هي الفعل الإلهي نفسه. وهكذا يفعل الباري تعالى لذاته لا من أجل شيء آخر خارج عنه؛ وذلك أن فعل الإنسان في هذه الحال يكون كما قلنا خيرًا محضًا وحكمة محضة، فيبدأ بالفعل لنفس إظهار الفعل فقط لا لغاية أخرى يتوخاها بالفعل. وهكذا فعل الله عز وجل الخاص به ليس هو على القصد الأول من أجل شيء خارج عن ذاته؛ أعني ليس ذلك من أجل سياسة الأشياء التي نحن بعضها؛ لأنه لو كان كذلك لكانت أفعاله حينئذٍ إنما كانت وتكون وتتم بمشارفة الأمور التي من خارج ولتدبيرها وتدبير أحوالها واهتمامه بها. وعلى هذا تكون الأشياء التي من خارج أسبابًا وعللًا لأفعاله. وهذا شنيع قبيح، تعالى الله عنه علوًّا كبيرًا، لكن عنايته عز وجل بالأشياء التي من خارج وفعله الذي يدبرها به ويرفدها إنما هو على القصد الثاني. وليس يفعل ما يفعله من أجل الأشياء أنفُسها لكن من أجل ذاته أيضًا. وذلك لأجل أن ذاته تفضُل لِذاتها لا من أجل المفضَّل عليه ولا من أجل شيء آخر. وهكذا سبيل الإنسان إذا بلغ إلى الغاية القصوى في الإمكان من الاقتداء بالباري عز وجل، وتكون أفعاله التي يفعلها على القصد الأول من أجل ذاته نفسها التي هي العقل الإلهي ومن أجل الفعل نفسه. وإن فعل فعلًا يرفد به غيره وينفعه به فليس فعله ذلك على القصد الأول من أجل ذلك الغير، لكن يفعل بذلك الغير ما يفعله به بقصدٍ ثانٍ. وفعله ذلك من أجل ذاته بالقصد الأول. ومن أجل الفعل نفسه؛ أي لنفس الفضيلة ولنفس الخير؛ لأن فعله ذلك فضيلة وخير؛ ففعله لنفس الفعل لا لاجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة، ولا للتباهي وطلب الرياسة ومحبة الكرامة، فهذا هو غرض الفلسفة ومنتهى السعادة. إلا أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحال حتى تفنى إرادته كلها التي بحسب الأمور الخارجة، وتفنى العوارض النفسانية، وتموت خواطره التي تكون عن العوارض، ويمتلئ شعارًا إلهيًّا وهمَّة إلهية. وإنما يمتلئ من ذلك إذا صفا من الأمر الطبيعي البتَّة ونُفي منه نفيًا كاملًا. ثم حينئذٍ يمتلئ معرفة إلهية وشوقًا إلهيًّا، ويوقن بالأمور الإلهية بما يتقرر في نفسه وفي ذاته التي هي العقل كما تقررت فيه القضايا الأول التي تُسمَّى العلوم الأوائل، إلا أن تصوُّر العقل ورويَّته في هذه الحال بالأمور الإلهية وتيقُّنه لها يكون بمعنى أشرف وألطف وأظهر وأشهد انكشافًا له وبيانًا من القضايا الأُول التي تُسمَّى العلوم الأوائل العقلية.» فهذه ألفاظ هذا الحكيم قد نقلتها نقلًا. (وهي نقل أبي عثمان الدمشقي. وهذا الرجل فصيح باللغتين جميعًا؛ أعني اليونانية والعربية، مرضيُّ النقل عند جميع من طالع هاتين اللغتين. وهو مع ذلك شديد التحري لإيراد الألفاظ اليونانية ومعانيها من ألفاظ العرب ومعانيها لا تختلف في لفظ ولا معنًى. ومن رجع إلى هذا الكتاب؛ أعني المسمَّى بفضائل النفس قرأ هذه الألفاظ كما نقلتها) وليست تحصل هذه المراتب التي يترقى فيها صاحب السعادة التامة إلا بعد أن يعلم أجزاء الحكمة كلها علمًا صحيحًا، ويستوفيها أولًا أولًا كما رتبناها في كتابنا المسمَّى بترتيب السعادات. ومن ظن من الناس أنه يصل إليها بغير تلك الطريقة وعلى غير ذلك المنهج فقد ظن باطلًا وبعُد عن الحق بعدًا كثيرًا. وليتذكر في هذا الموضع الخطأ العظيم الذي وقع فيه قوم ظنوا أنهم يدركون الفضيلة بتعطيل القوة العالمة وإهمالها، وبترك النظر الخاص بالعقل واكتفائهم بأعمال ليست مدنية ولا بحسب ما يقسطه التمييز والعقل. وقد سماهم قوم العاملة والناجية؛ ولذلك رتبنا هذا الكتاب عقب ذلك الكتاب ليُلحظ منهما السعادة الأخيرة المطلوبة بالحكمة البالغة، وتتهذب لها النفس وتتهيأ لقبولها غسلًا وتنقية من الأمور الطبيعية وشهوات الأبدان؛ ولذلك سميته أيضًا بكتاب طهارة الأعراق (وقد قال أرسطوطاليس في كتابه المسمَّى بالأخلاق): «إن هذا الكتاب لا ينتفع به الأحداث كثير منفعة ولا من هو في طبيعة الأحداث.» قال: «ولست أعني بالحدث ها هنا حدث السن؛ لأن الزمان لا تأثير له في هذا المعنى، وإنما أعني السيرة التي يقصدها أهل الشهوات واللذات الحِسِّيَّة.» وأما أنا فأقول: إني ما ذكرت هذه المرتبة الأخيرة من السعادة طمعًا في وصول الأحداث إليها، بل ليمر على سمعهم فقط، وليعلم أن ها هنا مرتبة حكمية لا يصل إليها إلا أهلها الأعلون مرتبة. فليلتمس كل من نظر في هذا الكتاب المرتبة الأولى منها بالأخلاق التي وصفتها، فإن وُفِّق بعد لك وأعانه الشوق الشديد والحرص التام وسائر ما ذكرناه ووصفناه عن الحكيم فليترقَّ في درجة الحكمة وليتصاعد فيها بجهده، فإن الله عز وجل يُعينه ويوفقه. فإذا بلغ الإنسان إلى غاية هذه السعادة ثم فارق بجسمه الكثيف دنياه الدنيئة، وتجرَّد بنفسه اللطيفة التي عُني بتطهيرها وغسلها من الأدناس الطبيعية لأخراه العلية، فقد فاز وأعدَّ ذاته للُقيا خالقه عز وجل إعدادًا روحانيًّا ليس فيه نزاع إلى تلك القوى التي كانت تعوقه عن سعادته ولا تشوُّق إليها؛ لأنه قد تطهَّر منها وتنزَّه عنها ولم تبقَ فيه إرادة لها ولا حرص عليها، وقد استخلصها للقاء رب العالمين ولقبول كراماته وفيض نوره الذي كان غير مستعد له، ولا فيه قبول من عطائه، ويأتيه حينئذٍ الذي وُعد به المتقون والأبرار كما سبق الإيماء إليه مرارًا في قوله عز وجل: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، وفي قول النبي : «هناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.»

الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة

وإذ قد لخصنا أمر هاتين المنزلتين من السعادة القصوى، فقد تبيَّن بيانًا كافيًا أن إحداهما بالإضافة إلينا أولى والأخرى ثانية، ومن المحال أن نسلك إلى الثانية من غير أن نمرَّ بالأولى. فقد وجب أن نعود إلى ما بدأنا به من ذكر الرتبة الأولى من السعادة الأخيرة ونستوفي الكلام فيها وفي الأخلاق التي بنينا الكتاب عليها، ونُخلِّي عن بيان الرتبة الثانية إلى وقت آخر، فنقول: إن من عُني ببعض القوى التي ذكرناها دون بعض أو تعمد لإصلاحها في وقت دون وقت لم تحصل له السعادة. وكذلك يكون حال الرجل في تدبير منزله، إذا عُني ببعض أجزائه دون بعض أو في وقت دون وقت، فإنه لا يكون مدبر منزل. وكذلك حال مدبر المدينة إذا خَصَّ بنظره طائفة دون طائفة أو وقتًا دون وقت لا يستحق اسم الرياسة على الإطلاق. و«أرسطوطاليس»: تمثَّل بأن قال: «إن الخطاف الواحد إذا ظهر لا يدل على طبيعة الربيع، ولا يوم واحد معتدل الهواء يبشر بالربيع. فعلى طالب السعادة أن يطلب السيرة اللذيذة عنده فيُسرَّ بها دائمًا، فإن تلك السيرة هي واحدة ولذيذة في نفسها؛ فلذلك قلنا إنه ينبغي أن يتشوقها دائمًا ويثبُت عليها أبدًا.» ولما كانت السيرة ثلاثة؛ لأنها تنقسم بانقسام الغايات الثلاثة التي يقصدها الناس؛ أعني سيرة اللذة وسيرة الكرامة وسيرة الحكمة، وكانت سيرة الحكمة أشرفها وأتمها، وكانت فضائل النفس كثيرة، وجب أن يفضُل الإنسان بأفضلها ويشرُف بأشرفها، فسيرة الأفاضل السعداء سيرة لذيذة بنفسها؛ لأن أفعالهم أبدًا مختارة وممدوحة، وكل إنسان يلتذ بما هو محبوب عنده. يلتذ بعدل العادل أو يلتذ بحكمة الحكيم. والأفعال الفاضلة والغايات التي ينتهي إليها بالفضائل لذيذة محبوبة؛ فالسعادة ألذ من كل شيء. وأرسطوطاليس يقول: «إن السعادة الإلهية وإن كانت كما ذكرناها من الشرف وسيرتها ألذ وأشرف من كل سيرة، فإنها محتاجة إلى السعادات الأُخر الخارجة؛ لأن تظهر بها، وإلا كانت كامنة غير ظاهرة، وإن كانت كذلك كان صاحبها كالفاضل النائم الذي لا يظهر فعله، وحينئذٍ لا يكون بينه وبين غيره فرق كما وصفنا حالهما فيما تقدم.» فالمطلع إذًا على حقيقة هذه السعادة المتمكن من إظهار فعله بها هو الذي يلتذ بها، وهو الذي يُسَرُّ سرورًا حقيقيًّا غير مموَّه ولا مزخرف بالباطل، وهو الذي يخرج من حد المحبة إلى العشق والهيمان، وحينئذٍ يأنف أن يصير سلطانه العالي يحب سلطان بطنه وفرجه، فلا يخدم بأشرف جزء فيه أخس جزء فيه؛ وأعني بالسرور المزخرف بالأباطيل اللذات التي تُشاركنا فيها الحيوانات التي ليست بناطقة، فإن تلك اللذات حسية تنصرم وشيكًا، وتملُّها الحواس سريعًا. فإذا دامت عليها صارت كريهة، وربما عادت مؤلمة. وكما أن للحس لذة عرضية على حدة، فكذلك للعقل لذة ذاتية على حدة؛ لأن لذة العقل لذة ذاتية ولذة الحس عرضية، فمن لا يعرف اللذة بالحقيقة كيف يلتذ بها؟ ومن لا يعرف الرياسة الذاتية كيف يصير إليها؟ فإنا قد قدمنا وصفها وشوقنا إليها بإعادة الكلام فيها مرارًا وقلنا: من لا يعرف الخير المطلق والفضيلة التامة، ولا يعرف الحكمة العملية؛ يعني إيثار الأفضل والعمل به والثبات عليه، لا ينشط له ولا يرتاح إليه، ومن كان كذلك فكيف يلتذ ويتنعم بما شرحناه ودللنا عليه؟ وقد كان للحكماء المتقدمين مثل يضربونه ويكتبونه في الهياكل (وهي مساجدهم ومصلاهم)، وهو: «هذا الملك الموكل بالدنيا يقول: إن ها هنا خيرًا وهناك شرًّا، وها هنا ما ليس بخير ولا شر. فمن عرف هذه الثلاثة حق معرفتها تخلَّص مني ونجا سالمًا، ومن لم يعرفها قتلته شر قتلة؛ وذلك أني لا أقتله قتلًا وَحِيًّا، ولكني أقتله أولًا أولًا في زمان طويل.» فهذا المثل من نظر فيه وتأمَّله عرف منه جميع ما قدَّمنا ذكره. وينبغي أن يعلم أن السعيد الذي ذكرنا حاله ما دام حيًّا تحت هذا الفلك الدائر بكواكبه ودرجاته ومطالع سعوده ونحوسه يردُ عليه من النكبات والنوائب وأنواع المحن والمصائب ما يردُ على غيره، إلا أنه يذعر منها ولا يلحقه ما يلحق غيره من المشقة في احتمالها؛ لأنه غير مستعد لسرعة الانفصال منها بعادة الهلع والجزع والأحزان ولا قابل أثر الهموم والأحزان بالأحوال العارضة. وإن أصابه من هذه الآلام شيء فهو يقدر على ضبط نفسه، كيلا تنقله عن السعادة إلى ضدها، بل لا تخرجه عن حد السعادة البتَّة، ولو ابتُلي ببلايا أيوب عليه السلام وأضعافها ما أخرجه عن حد السعادة؛ وذلك لما يجد في نفسه من المحافظة على شروط الشجاعة والصبر على ما يجزع منه أصحاب خور الطباع فيكون سروره أولًا بذاته وبالأحاديث الجميلة التي تُنشر عنه، ويرى أن القاتل الذي يدعي الشطارة والمُصارع الذي يهوى الغلبة كل واحد منهما يصبر على شدائد عظيمة من تقطيع أعضاء نفسه وترك الشهوات التي يتمكن منها طلبًا لما يحصل له من الغلبة وانتشار الصيت، فيرى نفسه أحرى وأولى منهما بالصبر إذا كان غرضه أشرف وصيته في الفضلاء أبلغ وأشهر وأكرم. ولأنه «يُسعد في نفسه ثم يصير قدوة لغيره.» وأرسطوطاليس يقول: إن بعض الأشياء تعرض من سوء البخت بما يكون يسيرًا سهل المحتمل. فإذا عرض للإنسان واحتمله لم يكن فيه دلالة على كبَر نفسه وعِظم همته، ومن لم يكن سعيدًا ولا سبقت له رياسة بهذه الصناعة الشريفة من تهذيب الأخلاق فإنه سينفعل انفعالًا قويًّا، فيعرض له عند حلول المصائب إحدى الحالتين: أما الاضطراب الفاحش والألم الشديد والخروج بها إلى الحد الذي يُرثى له ويُرحم. وإما أن يتشبه بالسعداء ويسمع مواعظهم فيُظهر الصبر والسكون، إلا أنه جزِع الباطن متألم الضمير. وكما أن الأعضاء المفلوجة إذا حُرِّكت إلى اليمين تحركت إلى الشمال، كذلك تكون حركات نفوس الأشرار تتحرك إلى خلاف ما يحملونها عليه من الجميل؛ أعني إذا تشبَّهوا بالأجواد وأهل العدالة كانت هذه حالهم».

رأي أرسطوطاليس في بقاء النفس

ومما يُستدل به من كلام أرسطوطاليس على أنه كان يقول ببقاء النفس وبالمعاد: كلامه المتداول في كتاب الأخلاق وهو هذا، قال: «قد حكمنا أن السعادة شيء ثابت غير متغير، وقد علمنا أيضًا أن الإنسان قد تلحقه تغيرات كثيرة واتفاقات شتى، فإنه قد يمكن لمن هو أرغد الناس عيشًا أن يصاب بمصائب عظيمة كما رمز في برنامس. ومن يتفق له هذه المصائب ومات عليها فليس يسميه أحد من الناس سعيدًا. وليس ينبغي على هذا القياس أن يُسمَّى إنسان من الناس سعيدًا ما دام حيًّا، بل ينتظر به آخر عمره ثم يحكم عليه.» فالإنسان إذًا إنما يصير سعيدًا إذا مات. إلا أن هذا قول في غاية الشناعة إذا كنا نقول: إن السعادة هي خير ما. ثم قال في هذا الموضع أيضًا موضع شك، فإنه قد يظن بالميت أن يلحقه خير وشر، إذ قد يلحق الحي أيضًا، وهو لا يحس به مثل الكرامة أو الهوان واستقامة أمر الأولاد وأولاد الأولاد. ففي هذه الأشياء خير؛ لأنه قد يمكن فيمن عاش عمره كله إلى أن يبلغ الشيخوخة سعيدًا وتُوفيَ على هذا السبيل أن يلحقه مثل هذه التغيرات في أولاده حتى يكون بعضهم خيارًا حسن السيرة وبعضهم بضد ذلك. ومن البيِّن أنه قد يمكن أن يوجد بين الآباء والأولاد تبايُن واختلاف بكل جهة. ولكن من المنكر أن يكون الميت بتغير غيره يصير مرة سعيدًا ومرة أخرى شقيًّا. ومن المنكر ألَّا تكون أمور الأولاد متصلة بالوالدين في وقت من الأوقات. ولكن ينبغي أن نعود إلى ما كان الشك واقعًا فيه، فهذا الشك الذي أورده أرسطوطاليس على نفسه في هذا الموضع هو شك من يعتقد أن للإنسان بعد موته أحوالًا، وأنه يتصل به لا محالة من أمور أولاده وأولاد أولاده أحوال مختلفة بحسب أخلاق سير الأولاد. فكيف تقول: ليت شعري في الإنسان إذا مات سعيدًا ثم لحقه من شقا بعض أولاده أو سوء سيرة من يحيا من نسله ما يكون ضد سيرته وهو حي. فإنه إن غيَّر سعادته كان هذا شنيعًا، وإن لم يلحقه أيضًا شيء، من ذلك كان أيضًا شنيعًا. ثم أرسطوطاليس يحل هذا الشك بأن يقول ما هذا معناه: «إن سيرة الإنسان ينبغي أن تكون سيرة محمودة؛ لأنه يختار في كل ما يعرض له أفضل الأعمال من الصبر مرة ومن اختيار الأفضل فالأفضل مرة، ومن التصرف في الأموال إذا اتسع فيها، وحُسن التجمل إذا عدمها؛ ليكون سعيدًا في جميع أحواله غير منتقل عن السعادة بوجه من الوجوه. فالسعيد إذا ورد عليه نحس عظيم جعل سيرته أكثر سعادة؛ لأنه يداريه مداراة جميلة، ويصبر على الشدائد صبرًا حسنًا، ومتى لم يفعل ذلك كدَّر سعادته ونغصها وجلب له أحزانًا وغمومًا تعوقه عن أفعال كثيرة. والجميل إذا ظهر من السعداء في هذه الأحوال والأفعال كان أشد إشراقًا وحسنًا، وذلك إذا احتمل ما كبُر وعظُم من المصائب احتمالًا سهلًا بعد ألَّا يكون ذلك؛ لا لعدم حسه ولا لنقصان فهمه بالأمور، بل لشهامته وكبر نفسه.» قال: «إذا كانت الأفعال هي ملاك السيرة كما قلنا، فليس يكون أحد من السعداء شقيًّا؛ لأنه ليس يفعل في وقت من الأوقات أفعالًا مرذولة. فإذا كان هكذا فالسعيد أبدًا يكون مغبوطًا، وإن حلَّت به المصائب التي حلَّت ببرنامس، ولا يكون أيضًا شقيًّا ولا سريع التنقل من ذلك؛ لأنه ليس ينتقل عن السعادة بسهولة ولا تنقله عنها الأوقات اليسيرة، بل لا تنقله عنها الآفات العظيمة الكثيرة. وليس يكون سعيدًا إذا نالته هذه الأمور زمانًا يسيرًا، بل إذا ظفر بأمور جميلة في زمان طويل.» ثم قال بعد قليل: «وأما حال الإنسان بعد موته؛ فالقول بأن الآفات التي تعرض لأولاد الميت وأصدقائه بأجمعهم ليست تتعلق به أصلًا مضاد لما يعتقده جميع الناس. وإذا كانت الأمور العارضة لهؤلاء كثيرة متيقَّنة، وكان بعضها يتعدى إلى الميت أكثر وبعضها أقل، صارت قسمتنا إياها إلى الأشياء الجزئية بلا نهاية. وأما إذا قيل قولًا كليًّا وعلى طريق الرسم، فخليق أن نكتفي بما نقوله فيها، وهو أنه كما أن الآفات التي تعرض للميت في حياته بعضها يثقل عليه احتماله ويثلم في سيرته وبعضها يخف عليه احتماله، كذلك يكون حاله فيما يعرض لأولاده وأصدقائه. وكل واحد من العوارض التي تعرض للأحياء مخالف لما يعرض لهم إذا ماتوا أكثر من مخالفة كل ما يضرب به المثل. ويشبه إن كان يصل إليهم من هذه الأشياء شيء خيرًا كان أو شرًّا أن يكون يسيرًا نزرًا بمقدار ما لا يجعل غير السعيد سعيدًا، ولا ينتزع السعادة من السعداء.» هذا حل أرسطوطاليس للشك الذي أورده.

لذة السعادة

ولما قلنا: إن السعادة ألذ الأشياء وأفضلها وأجودها وأوضحها؛ وجب أن نُبيِّن وجه اللذة فيها بأتم بيان كما قلناه فيما مضى، إن اللذة تنقسم إلى قسمين أحدهما لذة انفعالية والأخرى لذة فعلية؛ أي فاعلة. فأما اللذة الانفعالية فهي شبيهة بلذة الإناث، واللذة الفاعلة تشبه لذة الذكور؛ ولذلك صارت اللذة الانفعالية هي التي تُشاركنا فيها الحيوانات التي ليست بناطقة؛ وذلك أنها مقترنة بالشهوات ومحبة الانتقام، وهي انفعالات النفسين البهيميتين. وأما اللذة الأخرى فهي الفاعلة وهي التي يختص بها الحيوان الناطق؛ ولأنها غير هيولانية ولا منفعلة انفعالًا؛ لأنها صارت لذة تامة وتلك ناقصة وهذه ذاتية وتلك عرضية. وأعني بالذاتية والعرضية أن اللذات الحِسِّيَّة المقترنة بالشهوات تزول سريعًا، وتنقضي وشيكًا، بل تنقلب لذَّاتها فتصير غير لذات، بل تصير آلامًا كثيرة أو مكروهة بشعة مستقبحة، وهذه أضداد اللذة ومقابلاتها. وأما اللذة الذاتية فإنها لا تصير في وقت آخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي ثابتة أبدًا. وإذا كانت كذلك فقد صح حكمنا ووضح أن السعيد تكون لذته ذاتية لا عرضية، وعقلية لا حسية، وفعلية لا انفعالية، وإلهية لا بهيمية؛ ولذلك قالت الحكماء: إن اللذة إذا كانت صحيحة ساقت البدن من النقص إلى التمام، ومن السقم إلى الصحة. وكذلك تسوق النفس من الجهل إلى العلم ومن الرذيلة إلى الفضيلة. إلا أن ها هنا سرًّا ينبغي أن يقف عليه المتعلم، وهو أن ميله إلى اللذة الحِسِّيَّة ميل قوي جدًّا، وشوقه إليها شوق مزعج، ولا تزيد العادة في قوة الطبع الذي لنا كبير زيادة لفرط ما جُبلنا عليه في البدء من القوة والشوق؛ ولذلك متى كانت هذه اللذة حسية قبيحة جدًّا، ثم مال الطبع إليها بإفراط وانفعل عنها بقوة استحسن الإنسان فيها كل قبيح وهوَّن على نفسه منها كل صعب، ولا يرى موضع الغلط ولا مكان القبيح حتى تبصره الحكمة. وأما اللذة العقلية الجميلة فأمرها بالضد؛ وذلك أن الطبع يكرهها، فإن انصرف الإنسان إليها بمعرفته وتمييزه احتاج فيها إلى صبر ورياضة، حتى إذا تبصَّر فيها وتدرَّب لها انكشف له حسنها وبهاؤها، وصارت عنده بمكان في الحسن. ومن هنا تبيَّن أن الإنسان في ابتداء تكوينه محتاج إلى سياسة الوالدين ثم إلى الشريعة الإلهية والدين القيم حتى تهديه وتقوِّمه إلى الحكم البالغة ليتولى تدبير نفسه إلى آخر عمره. وقد تبيَّن مع ذلك تعلُّق السعادة بالجود؛ وذلك أنَّا قد بيَّنَّا أنها لذة فاعلة، ولذة الفاعل أبدًا تكون في الإعطاء، ولذة المنفعل أبدًا تكون في الأخذ. ولا تظهر لذة السعيد إلا بإبراز فضائله وإظهار حكمته ووضعها كفاءته في مواضعها. وكذلك البنَّاء الحاذق والصانع اللطيف والموسيقاني المحسن. وبالجملة كل صانع حاذق فاضل في صناعته ينسرُّ بإظهار فضائله وإذاعتها بين أهلها ومستحقيها. وهذا هو معنى الجود. إلا أن الجود بأعلى الأشياء وأكرمها أفضل وأشرف من الجود بأدونها وأخسِّها. وقد عرض لهذا الجود مع شرفه وعلو مرتبته ضد ما عرض لذلك الجود الآخر مع نزارته وقلَّته؛ وذلك أن صاحب الأموال والمقتنيات الخارجة كليهما ينتقص ماله بالإنفاق وينثلم بالبذل وتفنى ذخائره. وأما صاحب السعادة التامة فإن أمواله لا تنقص بالإنفاق بل تزيد، ولا تفنى ذخائره بالتبذير بل تنمو. وتلك معرَّضة للآفات الكثيرة من الأعداء واللصوص وسائر المتسلطين. وهذه محروسة من كل آفة لا سبيل للأشرار والأعداء إليها بوجه ولا سبب. فقد ظهرت لذة السعيد كيف تكون ومن أين تبتدئ وإلى أين تنتهي وكيف يكون السرور الحقيقي واللذة الذاتية. وتبيَّن أيضًا أنها أبدية وتامة وإلهية، وأن ضدها هو الشقاء لذاته بالضد وعلى العكس؛ أعني أن لذاته كلها عرضية ومتنقلة عن طبائعها إلى أضدادها حتى تصير مؤلمة أو مكروهة، وأنها غير إلهية بل شيطانية، وغير ممدوحة بل هي مذمومة، وذلك بأن ينظر في السعادة هل هي ممدوحة. فإن أرسطوطاليس يقول: «إن الأشياء التي هي في غاية الفضل لا يوجد لها مدح؛ لأنها أفضل وأمدح وأجلُّ من أن تُمدح.» قال: «وذلك أنَّا قد ننسب المتأهلين والخيار من الناس إلى السعادة. وليس يوجد أحد من الناس يمدح السعادة نفسها كما يمدح العدل. لكنه يُجلُّها ويُكرمها إلى أنها أمر إلهي بالأشياء التي هي أفضل من المدح وهو الله تعالى، وإلى الخير؛ فإن المدح هو الفضيلة والعمل بها.» ثم انتهى كلامه هذا إلى أن قال: «فالله تعالى أكرم وأشرف من أن يُمدح، بل إنما يمجِّدونه، ونحن نمجِّد الله تعالى ونقدِّسه تمجيدًا كثيرًا. وأما السعادة فلأنها أمر إلهي وإنما تُفعل الأشياء كلها لأجلها، فهي كذلك أيضًا ممجَّدة، فعلى هذا الأمر ينبغي ألَّا تُمدح السعادة؛ لأنها أجلُّ من كل مدح، بل تمجِّدها في نفسها وتُمدح الأمور كلها بها، وبقدر قسطها منها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤