المقالة الرابعة

ظهور الفضائل ممن ليس بسعيد ولا فاضل

قد قلنا فيما سلف: إن السعادة تظهر في الأفعال، من العدالة والشجاعة والعفة وسائر ما تحت هذه الأنواع التي أحصيناها وحددناها.

وهذه الأفعال قد تظهر ممن ليس بسعيد ولا فاضل؛ وذلك أنه قد يعمل بعض الناس عمل العدول وليس بعادل، ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع، ويعمل عمل الأعفَّاء وليس بعفيف. مثال ذلك أن من ترك الشهوات من المآكل والمشارب وسائر اللذات التي ينهمك فيها غيره؛ إما لأنه ينتظر منها أكثر مما يَحضُره، وإما لأنه لا يعرفها ولم يباشرها، كالأعراب الذين يبعدون عن البلاد، وكالرعاة في البوادي وقُلَل الجبال، وإما لأنه ممتلئ مما يجده ويحضُره، وإما لجمود شهوته ونقصان تركيبه، وإما لأنه استشعر خوفًا من تناولها مكروهًا يلحقه بسببها، وإما لأنه ممنوع منها. فإن هؤلاء كلهم يعملون عمل الأعفَّاء وليسوا بأعفَّاء على الحقيقة، وإنما يُسمَّى عفيفًا على الحقيقة من وفَّى العفة حدَّها المذكور فيما تقدَّم، واختارها لنفسها لا لغرض آخر غيرها، وآثرها لأنها فضيلة ثم تناول كل واحدة من شهواته بمقدار الحاجة، ومن الوجه الذي ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وعلى الحال الذي ينبغي. وكذلك حال الذي يعمل أعمال الشجعان وليس بشجاع؛ وذلك أن من باشر الحروب وأقدم على ركوب الأهوال لبعض ما يوصل إليه المال أو لبعض الرغبات التي لا تُحَدُّ كثرة، فإن مثل هذا يعمل عمل الشجعان، ولكن يعمله بطبيعة الشَّرَه لا بطبيعة الفضيلة التي تُدعى شجاعة. وكل من كان أكثر إقدامًا وأصبَر على الأهوال لهذه الأحوال، يجب أن يكون أكثر شرهًا ونهمًا لا أكثر شجاعة؛ وذلك أنه يخاطر بنفسه الشريفة ويصبر على المكاره العظيمة طمعًا في المال، وما يصل إليه بالمال. وقد رأينا أهل الشقاوة يعملون عمل الأعفَّاء وعمل الشجعان وهم أبعد الناس عن كل فضيلة؛ وذلك أنهم يصبرون عن الشهوات كلها، ويصبرون على عقوبات السلطان وضرب السياط وتقطيع الأعضاء والجراحات التي لا يؤمَن منها، وينتهون فيها لأقصى الصبر على الصَّلْب وثمل العيون وقطع الأيدي والأرجل وضروب التمثيل؛ طلبًا لاسمٍ وذكرٍ بين قوم في مثل حالهم من سوء الاختيار ونقصان الفضائل. وقد يعمل أيضًا عمل الشجعان من يخاف لائمة عشيرته أو عقوبة سلطان أو خوف سقوط جاهه أو ما أشبه ذلك. وقد يعمل عمل الشجعان من اتفق له مرارًا كثيرة أن يغلب أقرانه، فهو يُقدِم ثقةً منه بالعادة الجارية وجهلًا بمواقع الاتفاقات. وقد يعمل عمل الشجعان العشاق؛ وذلك أنهم يركبون الأهوال في طلب المعشوق؛ لرغبتهم في الفجور أو لحرصهم على متعة العين منه، لا لطلب الفضيلة ولا لاختيار الموت الجميل على الحياة الرديئة كما يفعل الشجاع بالحقيقة. وأما شجاعة الأسد والفيل وأشباههما من الحيوانات فإنها تشبه الشجاعة وليست بشجاعة حقيقة؛ وذلك أنها قد وثقت بقوتها وأنها تفُوق غيرها، فهي تُقدِم لا بطبيعة الشجاعة، بل لتمام القدرة وثقة النفس والغلبة، وما كان منها سبُعًا فهو مع هذه الحال مزاح العلة في السلاح الذي عدمه، وهو كصاحب السلاح منا إذا قدم على الأعزل. وليست هذه شجاعة مع عدم الاختبار الذي يستعمله الشجاع؛ وذلك أن الشجاع خوفه من الأمر أشد من خوفه من الموت؛ ولذلك يختار الموت الجميل على الحياة القبيحة. على أن لذة الشجاع ليست تكون في مبادئ أموره؛ فإن مبادئ الأمور تكون مؤذية له، لكنها تكون في عواقب الأمور، وتكون أيضًا باقية مدة عمره وبعد عمره، لا سيما إذا حامى عن دينه وعن اعتقاداته الصحيحة في وحدانية الله عز وجل والشريعة التي هي سياسة الله وسنته العادلة التي بها مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فإن مثل هذا فكَّر في قصر مدة عمره، وعلم أنه لا محالة سيموت بعد أيام، ثم كان محبًّا للجميل ثابتًا على الرأي الصحيح فهو لا محالة يحامي عن دينه، ويمنع العدو من استباحة حريمه، والتغلب على مدينته، ويأنف من الفرار، ويعلم أن الجبان إذا اختار الفرار فإنما يستبقي شيئًا هو لا محالة فانٍ زائل، وإن تأخر أيامًا معدودة. ثم هو في هذه الحياة اليسيرة ممقوت مكدَّر الحياة بالذُّلِّ وضروب الصغار. وهذه حال الشجاع مع قوى نفسه؛ أعني بمقاومة شهواته واستسلامه لذات الشجاعة بعينها. ومن سمع كلام الإمام صلوات الله عليه الذي صدوره عن حقيقة الشجاعة؛ إذ قال لأصحابه: «أيها الناس، إن لم تُقتلوا تموتوا والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش.» تبيَّن له أن جميع ما أحصيناه للإنسان ليس بمعدود فيها، وإن كان يشبهها بالصورة؛ ذلك أنه ليس كل من يُقدِم على الأهوال فهو شجاع، ولا كل من لا يخاف من الفضائح فهو شجاع؛ وذلك أن من لا يفزع من ذهاب شرفه أو فضيحة حرمه، أو عند حدوث الرجفات والزلازل والصواعق، أو الزمانة في الأمراض، أو عدم الإخوان والأصدقاء، أو عند اضطراب البحر وهول الأمواج والهواء الهائج، فهو بأن يوصف بالجنون مرة وبالقِحَة مرة أَولى بأن يوصف بالشجاعة. وكذلك من خاطر بنفسه في وقت الأمن والطمأنينة بأن يثب من سطح عالٍ أو يصعد مرتقًى صعبًا أو يحمل نفسه على خوض ماء غزير وهو لا يُحسن السباحة، أو يساور جملًا هائجًا أو ثورًا صعبًا أو فرسًا لم يُرَضْ، من غير ضرورة تدعوه إلى ذلك، بل مراءاةً بالشجاعة وإظهار مرتبة الشجعان، فهو بأن يُسمَّى مُطَرْمِذًا مائقًا أولى منه بأن يُسمَّى شجاعًا. وأما من خنق نفسه خوفًا من الفقر أو الذل، أو أهلكها بالسم وما أشبهه من باب الضيم، فهو بأن يوصف بالجبن أولى منه بأن يوصف بالشجاعة؛ وذلك أن الإقدام وقع منه بطبيعة الجبن لا بطبيعة الشجاعة؛ فإن الشجاع يصير على ما يرد عليه من الشدائد صبرًا جميلًا، ويعمل أعمالًا تليق بتلك الحال كما شرحناه فيما تقدم؛ ولذلك يجب أن يُعظَّم الشجاع ويُشَحَّ بنفسه، وحقيق على السلطان خاصةً والقيِّم بأمر الدين والملك أن ينافِس فيه ويُجِلَّ قدره ويُعلي خطره ويميِّزه عن سائر من يتشبه به ممن ذكرناه، فقد تبيَّن من جميع ما قلناه أن الشجاع هو الذي يستهين بالشدائد في الأمور الجميلة، ويصبر على الأمور الهائلة، ويستخفُّ بما يستعظمه عوامُّ الناس، حتى بالموت؛ لاختيار الأمر الأفضل، ولا يحزن على ما لا درك فيه، ولا يضطرب عند ما يفدحه من المصائب، ويكون غضبه إذا غضب بمقدار ما يجب وعلى من يجب وفي الوقت الذي يجب. وكذلك يكون انتقامه على هذه الشرائط؛ فإن الحكماء قالوا: إن من لا ينتقم يلحق قلبه ذبول، فإذا انتقم عاد إلى حالته من النشاط. وهذا الانتقام إذا كان بحسب الشجاعة كان محمودًا، وإذا لم يكن كذلك كان مذمومًا. فقد نُقل إلينا في الأخبار المأثورة عمن أقدم على سلطانٍ قويٍّ ورام أن ينتقم منه فأهلك نفسه من غير أن يضر سلطانه روايات كثيرة. وكذلك حال من أقدم على قرنٍ قويٍّ أو خصمٍ ألدَّ لا يستطيع مقاومته، فإن الانتقام منه يعود وبالًا عليه وزيادة في الذل والعجز. فإذًا ليست تتمُّ شرائط الشجاعة والعفة إلا للحكيم الذي يستعمل كل شيء في موضعه الخاص به، ويقدر أقساط العقل له. فكل شجاعٍ عفيفٌ حكيمٌ وكل حكيمٍ شجاعٌ عفيفٌ. وهذه الحال بعينها تظهر فيمن عَمِل عَمَل الأسخياء وليس بسخي؛ وذلك أن من بذل أمواله في شهواته طلبًا للسمعة والرياء أو تقرُّبًا إلى السلطان أو لدفع مضرة عن نفسه وحرمه وأولاده، أو بذلها لمن لا يستحق من أهل الشر أو المُلهِين أو المُساخِرين، أو بذلها لطمع في أكثر منها على سبيل التجارة والمرابحة، فكل هؤلاء يعمل عمل الأسخياء وليس بسخي. أما بعضهم فيبذل ماله بطبيعة الشره، وأما بعضهم فبطبيعة الطرمذة والرياء، وبعضهم على طريق الازدياد من المال والربح فيه، وأما بعضهم فعلى سبيل التبذير وقلة المعرفة بقدر المال. وهذا أكثر ما يعرض للوارث ولمن لا يتعب في اكتساب المال فلا يعرف صعوبة الأمر فيه؛ وذلك أن المال صعب الاكتساب سهل الإنفاق والتفرقة، قد شبهه الحكماء بمن يرفع حملًا ثقيلًا إلى قُلَّة جبل ثم يُرسله، فإن الأمر في ترقيته وإصعاده صعب، ولكن إرساله من هناك أمرٌ سهل.

الحاجة إلى المال واكتسابه بالطرق الشريفة العادلة

الحاجة إلى المال ضرورية في العيش، وهو نافع في إظهار الحكمة والفضيلة، ومن اكتسبه من وجهه صعُب عليه؛ وذلك أن المكاسب الجميلة قليلة ووجوهها يسيرة عند الرجل العادل الحر. وأما غير العادل الحر فليس يبالي كيف اكتسبه ومن أين وصل إليه؛ ولأجل ذلك يوجد كثير من الأحرار والفضلاء ناقصي الحظ منه، ويوجدون أيضًا ذامِّين للبخت شاكِين منه. وأما أضدادهم فلأجل أنهم يكتسبون المال من وجوه الخيانات، ولا يبالون كيف وصل إليهم، فإنهم يوجدون أبدًا وافِري الحظ منه، واسِعي النفقات، شاكرين لبُخوتهم، والعامة يغبطونهم ويحسدونهم. إلا أن العاقل إذا رأى نفسه وهو بريء من المذمَّات، نقيُّ العِرْض من السَّوْءات، لم يتدنس بالقبيح من المكاسب، ولم يتطرَّق إليه بخيانة ولا سرقة ولا ظلم لمن هو دونه أو مثله، وتجنَّب فيه وجوه العار والفضائح، كالقيادة، والخداع، وترويج السلع القبيحة على الملوك، واستنزالهم عن أموالهم بالخدع والمكر، ومساعدتهم على الفواحش، وتحسين القبائح فيما يوافق هواهم، وما يجري مجرى ذلك من السعاية والنميمة والغيبة وضروب الفساد التي يرتكبها طلاب المال من غير وجهه بضروب المغابنات ووجوه الظلم، يُسَرُّ بنفسه ويعتاض من المال الراحة والمحمدة، فلا يلوم البخت ولا يُبغض الدُّوَل ولا يحسد أصحاب الأموال المكتسبة من غير وجوهها الجميلة. فهذه أحوال المكتسبين للأموال ومنفقيها. وكذلك حال مَن عَمِل عَمَل العدول وليس بعدل؛ وذلك أنه إذا عدل في بعض الأمور مراءاة ليصل به إلى كرامة أو مال أو غير ذلك من الشهوات، أو لغرض آخر مما عددناه فيما تقدم، فليس يُسمَّى عادلًا، وإنما يعمل عمل العدول للغرض الذي يقصده. وينبغي أن ينسب فعله إلى غرضه، فإنه بحسب هذا يفعل ذلك كما قلنا وشرحنا.

العادل

فأما العادل بالحقيقة فهو الذي يعدل قواه وأفعاله وأحواله كلها حتى لا يزيد بعضها على بعض، ثم يروم ذلك فيما هو خارج عنه من المعاملات والكرامات، ويقصد في جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضًا آخر سواها. وإنما يتم له ذلك إذا كانت له هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت العدالة وسطًا بين أطرافٍ وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليها صارت أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة؛ وأعني بذلك أن الوحدة هي التي لها الشرف الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنًى يوحدها فلا قوام لها ولا ثبات، والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء إذا لم يكن بينها مناسبة تحفظ عليها الاعتدال بوجه ما؛ فالاعتدال هو الذي يرد إليها ظل الوحدة ومعناها. وهو الذي يُلبسها شرف الوحدة ويزيل عنها رذيلة الكثرة والتفاوت والاضطراب الذي لا يُحَدُّ ولا يُضبط بالمساواة التي هي خليفة الوحدة في جميع الكثرات. واشتقاق هذا الاسم يدلك على معناه؛ وذلك أن العدل في الأحمال والاعتدال في الأثقال والعدالة في الأفعال مشتقة من معنى المساواة، والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الأرتماطيقي؛ ولذلك لا تنقسم ولا يوجد لها أنواع، وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة. فإذا لم نجد المساواة التي هي المثل بالحقيقة في الكثرة عدلنا إلى النسب المذكورة التي تنحل إليها وتعود إلى حقيقتها؛ وذلك أنَّا حينئذٍ نضطر إلى أن نقول: نسبة هذا إلى هذا كنسبة هذا إلى هذا؛ ولذلك لا توجد النسبة إلا بين أربعة أو ثلاثة يتكرر فيها الوسط فتصير أيضًا أربعة. والنسبة الأولى تُسمَّى منفصلة والثانية تُسمَّى متصلة. ومثال الأولى «أ ب ﺟ د»، فنقول: نسبة «أ» إلى «ب» كنسبة «ﺟ» إلى «د». ومثال الثانية أن نأخذ الباء مشتركًا، فنقول: نسبة «أ» إلى «ب» كنسبة «ب» إلى «ﺟ». وهذه النسبة توجد بين ثلاثة أشياء. وهي النسبة العددية والنسبة المساحية والنسبة التأليفية. وجميع ذلك مُبيَّن مشروح في المختصر الذي عملناه في صناعة العدد. وأما سائر النِّسب فراجعة إليها؛ ولذلك عظَّمها الأوائل واستخرجوا بها العلوم الجمة الشريفة. ولما كانت نسبة المساواة عزيزة؛ لأنها نظيرة الوحدة عدلنا إلى حفظ هذه النِّسب الأُخر في الأمور الكثيرة التي تلابسها؛ لأنها عائدة إليها وغير خارجة عنها، فنقول:

مواضع العدالة

إن العدالة موجودة في ثلاثة مواضع: أحدها قسمة الأموال والكرامات. والثاني قسمة المعاملات الإرادية كالبيع والشراء والمعاوضات. والثالث قسمة الأشياء التي وقع فيها ظلم وتعدٍّ. فأما العدالة في الأمور التي تكون في القسم الأول، فتكون بالنسبة المنفصلة التي بين الأربعة؛ أعني أن تكون نسبة الأول إلى الثاني كنسبة الثالث إلى الرابع. مثال ذلك أن يقال: نسبة هذا الإنسان إلى هذه الكرامة أو إلى هذا المال كنسبة كل من كان في مثل مرتبته إلى مثل قسطه. فإذًا يجب أن يوفَّر عليه ويسلم. وأما في الأمور التي تكون في القسم الثاني؛ أعني المعاملات والمعاوضات فيكون بالنسبة المنفصلة مرة وبالنسبة المتصلة أخرى، مثاله أن تقول: نسبة هذا البزاز إلى الإسكاف كنسبة هذا الثوب إلى هذا الخف.

ثم ليس يمنع مانع أن تقول: نسبة البزاز إلى الإسكاف كنسبة الإسكاف إلى النجار، أو تقول: نسبة الثوب إلى الخف كنسبة الخف إلى الكرسي. ويتبين لك من هذين المثالين أن النسبة الأولى تكون بالعمق فقط والنسبة الثانية تكون بالعرض والعمق جميعًا؛ أعني أن الأولى تقع بين الكليَّين والجزئيَّين، وهو بالعمق أشبه. والثانية تقع بالعرض في الجزئيين، وقد تقع بين الكليَّين والجزئيين أيضًا. وأما العدالة التي تقع في المظالم والأمور القسمية فهي بالنسبة المساحية أشبه؛ وذلك أن الإنسان متى كان على نسبة من إنسان آخر، فأبطل هذه النسبة بحيف أو ضرر يلحقه به، فإن العدالة توجب أن يلحق به ضرر مثله، ليعود التناسب إلى ما كان عليه؛ فالعادل من شأنه أن يساوي بين الأشياء الغير المتساوية. مثال ذلك أن الخط إذا قُسم بقسمين غير متساويين نقص من الزائد وزاد على الناقص حتى يحصل له التساوي، ويذهب عنه معنى القلة والكثرة ومعنى الزيادة والنقصان، وكذلك الخفة والثقل وجميع ما أشبه ذلك. ولكن ينبغي أن يكون عالمًا بطبيعة الوسط حتى يمكنه أن يرد الطرفين إليه. مثال ذلك الربح والخسران، فإنهما في باب المعاملات طرفان: أحدهما زيادة والآخر نقصان، فإذا أخذ أقل مما يجب صار إلى جانب النقصان، وإن أخذ أكثر مما يجب كان خارجًا إلى جانب الزيادة.

لزوم الشريعة في المعاملات

والشريعة هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والاعتدال؛ لأن الناس هم مدنيون بالطبع، ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون، فيجب أن بعضهم يخدم بعضًا، ويأخذ بعضهم من بعض ويعطي بعضهم بعضًا، فهم يطلبون المكافأة المناسبة. فإذا أخذ الإسكاف من النجار عمله وأعطاه عمله فهي المعاوضة إذا كان العملان متساويين، ولكن ليس يمنع مانع أن يكون عمل الواحد خيرًا من عمل الآخر، فيكون الدينار هو المقوم والمسوِّي بينهما؛ فالدينار هو عدل ومتوسط، إلا أنه ساكت والإنسان الناطق هو الذي يستعمله، ويقوِّم به جميع الأمور التي تكون بالمعاملات حتى تجري على استقامة ونظام ومناسبة صحيحة عادلة؛ ولذلك يستعان بالحاكم الذي هو عدل ناطق إذا لم يستقم الأمر بين الخصمين بالدينار، الذي هو عدل ساكت، وأرسطوطاليس يقول: «إن الدينار ناموس عادل.» ومعنى الناموس في لغته السياسة والتدبير وما أشبه ذلك، فهو يقول في كتابه المعروف بنيقوماخيا: «إن الناموس الأكبر هو من عند الله تبارك وتعالى، والحاكم ناموس ثانٍ من قبله، والدينار ناموس ثالث، فناموس الله تعالى قدوة النواميس كلها.» يعني الشريعة، والحاكم الثاني مقتدٍ به، والدينار مقتدٍ ثالث، وإنما قُوِّمت الأشياء المختلفة بالأثمان المختلفة لتصح المشاركات والمعاملات، ويتبين وجه الأخذ والإعطاء؛ فالدينار هو الذي يسوِّي بين المختلفات ويزيد في شيء وينقص في آخر حتى يحصل بينهما الاعتدال، فتستوي المعاملة بين الفلَّاح والنجَّار مثلًا. وهذا هو العدل المدني، وبالعدل المدني عمرت المدن، وبالجور المدني خربت المدن. وليس يمنع مانع من أن يكون عمل يسير يساوي عملًا كثيرًا. مثال ذلك أن المهندس ينظر نظرًا قليلًا، ويعمل عملًا يسيرًا ويساوي نظره هذا عملًا كثيرًا من أقوام يكدُّون بين يديه ويعلمون بما يرسمه. وكذلك صاحب الجيش يكون تدبيره ونظره يسيرًا ولكنه يساوي أعمالًا كثيرة مما يحارب بين يديه، ويعمل الأعمال الثقيلة العظيمة؛ فالجائر يُبطل التساوي، وهو عند أرسطوطاليس على ثلاث منازل: فالجائر الأعظم هو الذي لا يقبل الشريعة ولا يدخل تحتها. والجائز الثاني هو الذي لا يقبل قول الحاكم العادل في معاملاته وأموره كلها. والجائر الثالث هو الذي لا يكتسب ويغتصب الأموال فيعطي نفسه أكثر مما يجب لها وغيره أقل مما يجب له. قال: «فالمستمسك بالشريعة يعمل بطبيعة المساواة، فيكتسب الخير والسعادة من وجوه العدالة؛ لأن الشريعة تأمر بالأشياء المحمودة؛ لأنها من عند الله عز وجل، فلا تأمر إلا بالخير وإلا بالأشياء التي تفعل السعادة. وهي أيضًا تنهى عن الرداءات البدنية وتأمر بالشجاعة وحفظ الترتيب والثبات في مصاف الجهاد، وتأمر بالعفة وتنهى عن الفسوق وعن الافتراء والشتم والهجر، وبالجملة تأمر بجميع الفضائل، وتنهى عن جميع الرذائل؛ فالعادل يستعمل العدالة في ذاته وفي شركائه المدنيين.» والجائر يستعمل الجور في ذاته وفي أصدقائه ثم في جميع شركائه المدنيين، قال: «وليست العدالة جزءًا من الفضيلة، بل هي الفضيلة كلها، ولا الجور الذي هو ضدها جزاء من الرذيلة، لكنه الرذيلة كلها، فبعض أنواع الجور ظاهر ينفعل بالإرادة مثل ما يكون في البيع والشراء والكفالات والقروض والعواري، وبعضها خفي ينفعل أيضًا بالإرادة مثل السرقة والفجور والقيادة وخداع المماليك وشهادة الزور، وبعضها غشمي على سبيل التغلب مثل التعذيب بالدهق والقيود والأغلال.»

الإمام العادل

فالإمام العادل الحاكم بالسوية يُبطل هذه الأنواع، ويَخلُف صاحب الشريعة في حفظ المساواة، فهو لا يعطي ذاته من الخيرات أكثر مما يعطي غيره؛ ولذلك قيل في الخبر: إن الخلافة تطهِّر الإنسان، قال: فأما العامة فإنها تؤهِّل لمرتبة الإمامة التي هي الخلافة العامة بما ذكرناه من كان شريفًا في حسبه ونسبه، وبعضهم يؤهِّل لذلك من كان كثير المال. وأما العقلاء فإنهم يؤهلون لذلك من كان حكيمًا فاضلًا، فإن الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقية، وهي التي رتبت الثاني والأول في مرتبتيهما وفضلتهما.

أسباب المضرات

وأسباب المضرات كلها تتفنن إلى أربعة أنواع؛ أحدها: الشهوة والرداءة التابعة لها. والثاني: الشرارة والجور التابع لها. والثالث: الخطأ ويتبعه الحزن. والرابع: الشقاء. أما الشهوة فإنها تحمل الإنسان على الإضرار بغيره، إلا أنه لا يكون مؤثِرًا له ولا ملتذًّا به. ولكنه يفعله ليصل به إلى شهوته، وربما كان متألمًا به كارهًا له، إلا أن قوة الشهوة تحمله على ارتكاب ما يرتكبه. وأما الشرِّير فإنه يتعمد الإضرار بغيره على سبيل الإيثار له والالتذاذ به، كمن يسعى إلى السلطان ويحمله على إزالة نعمة لا يصل إليه منها شيء، ولكن يلتذ بالمكروه الذي يصل إلى غيره. وأما الخطأ فإن صاحبه لا يقصد الإضرار بغيره، ولا يؤثِره ولا يلتذ به، بل يقصد فعلًا ما فيعرض منه فعل آخر. وصاحب الفعل يحزن ويكتئب لما اتفق إليه من الخطاء. وأما الشقاء فصاحبه لا يكون هذا مبدأ فعله ولا له فيه صنع بالقصد، بل يوقعه فيه سبب آخر من خارج، وذلك كمن تصدم به دابته صديقًا له فتقتله، فهذا يُسمَّى شقيًّا، وهو مرحوم معذور لا يجب عليه عتب ولا عقوبة. وأما السكران والغضبان والغيران إذا فعلوا فعلًا قبيحًا، فإنهم يستحقون العتب والتفويه؛ لأن مبتدأ أفعالهم منهم؛ وذلك أن السكران باختياره أزال عقله، والغضبان والغيران اختارا الانقياد بهاتين القوتين إذا هاجتا بهما، ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر العدالة فنقول:

تقسيم العدالة

إن أرسطوطاليس قسم العدالة إلى أقسام ثلاثة: أحدها ما يقوم به الناس لرب العالمين، وهو أن يجري الإنسان فيما بينه وبين الخالق عز وجل على ما ينبغي، وبحسب ما يجب عليه من حقه وبقدر طاقته؛ وذلك أن العدل إذا كان هو إعطاء ما يجب من يجب كما يجب، فمن المحال أن لا يكون لله تعالى الذي وهب لنا هذه الخيرات العظيمة واجب ينبغي أن يقوم به الناس. والثاني ما يقوم به بعض الناس لبعضٍ من أداء الحقوق وتعظيم الرؤساء وتأدية الأمانات والنصفة في المعاملات. والثالث ما يقومون به من حقوق أسلافهم مثل أداء الديون عنهم، وإنفاذ وصاياهم وما أشبه ذلك. فهذا ما قاله أرسطوطاليس. وأما تحقيق ما قاله، مما يجب لله عز وجل وإن كان ظاهرًا، فإنا نقول فيه ما يليق بهذا الموضع، وهو أن العدالة لما كانت تظهر في الأخذ والإعطاء، وفي الكرامة التي ذكرناها، وجب أن يكون لما يصل إلينا من عطيات الخالق عز وجل ونعمه التي لا تُحصى حق يقابل عليه؛ وذلك أن من أُعطي خيرًا ما، وإن كان قليلًا، ثم لم يرَ أن يقابله بضرب من المقابلة فهو جائر، فكيف به إذا أُعطي جمًّا كثيرًا وأخذ أخذًا دائمًا ثم لم يعطِ في مقابلته شيئًا البتَّة. ثم على قدر النعمة التي تصل إلى الإنسان يجب أن يكون اجتهاده في المقابلة عليها. مثال ذلك أن الملك الفاضل إذا أمن السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم وذب عن الحوزة ومنع من التظالم، ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشهم، فقد أحسن إلى كل واحد من رعيته إحسانًا يخصه في نفسه، وإن كان قد عمهم بالخير، واستحق من كل واحد منهم أن يقابله بضرب من المقابلة متى قعد عنه كان جائرًا إذ كان يأخذ نعمته ولا يعطيه شيئًا. لكن مقابلة الملك الفاضل من رعيته إنما تكون بإخلاص الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخالفة في السر والعلانية والمحبة الصادقة والائتمام بسيرته نحو الاستطاعة، والاقتداء به في تدبير منزله وأهله وولده وعشيرته، فإن نسبة الملك إلى مدينته ورعيته كنسبة صاحب المنزل إلى منزله وأهله. فمن لم يقابل ذلك الإحسان بهذه الطاعة والمحبة، فقد جار وظلم، وهذا الظلم والجور إذا كان في مقابلة النعم الكثيرة فهو أفحش وأقبح؛ وذلك أن الظلم، وإن كان في نفسه قبيحًا فإن مراتبه كثيرة؛ لأن مقابلة كل نعمة إنما تكون بحسب منزلتها وموقعها وبقدر فائدتها وعائدتها وعلى مقدار عددها، فإن كانت النعم كثيرة العدد وعظيمة الوقع، فكيف يكون حال من لا يلزم لها حقًّا، ولا يرى عليها مقابلة بطاعة ولا شكر ولا محبة صادقة ولا مسعاة صالحة. فإذا كان هذه معروفًا غير منكور واجبًا غير مجحود في ملوكنا ورؤسائنا، فبالأحرى أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا التي لا يقع عليها إحصاء ولا عدد من الحقوق الواجب علينا القيام بها والنهوض بتأديتها. أترانا نجهل النعمة الأولى علينا بالوجود ثم تتابعها متواترة بعد ذلك بالخلق الجسداني الذي أفنى فيه صاحب كتابَي التشريح ومنافع الأعضاء ألف ورقة، ثم لم يبلغ بعض ما عليه كنه الأمر. أم ترانا نجهل ما وهب لنا من نفوسنا وما ركَّب فيها من القوى والملَكات التي لا نهاية لها وما أمدها به من فيض العقل ونوره وبهائه وبركاته، وما عرضنا به للملك الأبدي والنعيم السرمدي «لا» لعمري ما يجهل هذه النعمة إلا النعم. فأما الإنسان فيعرف من ذلك ما يضطره إليه مشاهدة أحواله في جميع أوقاته. وإذا كان الخالق تعالى غنيًّا عن معونتنا ومساعينا فمن المحال القبيح والجور الفاحش أن نلتزم له نحن حقًّا، ولا نقابله على هذه الآلاء والنعم بما يزيل عنا سمة الجور والخروج عن شريطة العدل.

ما يجب على الإنسان لخالقه

إن أرسطوطاليس لم ينص في هذا الموضع على العبادة التي يجب أن نلتزمها لخالقنا عز وجل، غير أنه قال ما معناه. وقد اختلفت الناس فيما ينبغي أن يقوم به المخلوقون لخالقهم، فبعضهم رأى أنه صلوات وصيام وخدمة هياكل ومصليات وقرابين. وبعضهم رأى أن يقتصر على الإقرار بربوبيته والاعتراف بإحسانه وتمجيده بحسب استطاعته، وبعضهم رأى أن يتقرب إليه بأن يُحسن إلى نفسه بتزكيتها وحسن سياستها، والإحسان إلى المستحقين من أهل نوعه بالمواساة ثم بالحكمة والموعظة. وبعضهم رأى اللهج بالفكر في الإلهيات، والتصرف نحو المحاولات التي يتزايد بها الإنسان من معرفة ربه عز وجل حتى تتكامل معرفته به وبحقيقة وحدانيته وصرف الوكد إليه. وبعضهم رأى أن الواجب للرب جل ذكره على الناس ليس سبيله واحدًا ولا هو شيء بعينه يلتزمه الجميع التزامًا واحدًا وعلى مثال واحد، لكنه يختلف بحسب اختلاف طبقات الناس ومراتبهم من العلم، فهذا ما قاله أرسطوطاليس بألفاظه المنقولة إلى العربية. وأما الحدث من الفلاسفة فإنهم قالوا: إن عبادة الله عزَّ وجل على ثلاثة أنواع: أحدها فيما يجب له على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي إلى المواقف الشريفة لمناجاة الله عز وجل. والثاني فيما يجب له على النفوس كالاعتقادات الصحيحة، وكالعلم بتوحيد الله عزَّ اسمه وما يستحقه من الثناء والتمجيد، وكالفكر فيما أفاضه على العالم من وجوده وحكمته، ثم الاتساع في هذه المعارف. والثالث: فيما يجب له عند مشاركات الناس في المدن، وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وفي تأدية الأمانات، مع نصيحة البعض للبعض بضروب المعاونات، وعند جهاد الأعداء والذب عن الحريم وحماية الحوزة، قالوا: فهذه هي العبادات، وهي الطرق المؤدية إلى الله عز وجل. وهذه الأنواع وإن كانت معدودة ومحصورة، فإنها منقسمة إلى أنواع كثيرة وأقسام غير محصاة. وللإنسان مقامات ومنازل عند الله عز وجل؛ فالمقام الأول للموقنين، وهو رتبة الحكماء وأجلَّة العلماء. والمقام الثاني مقام المحسنين، وهو رتبة الذين يعملون بما يعلمون، وهو ما ذكرناه في كتابنا هذا من الفضائل والعمل بها. والمقام الثالث مقام الأبرار، وهو رتبة المصلحين، وهؤلاء هم خلفاء الله بالحقيقة في إصلاح العباد والبلاد. والمقام الرابع مقام الفائزين، وهو رتبة المخلصين في المحبة، وإليها تنتهي رتبة الاتحاد، وليس بعدها منزلة ولا مقام لمخلوق، ويسعد الإنسان بهذه المنازل إذا حصلت له أربع خلال؛ أولها: الحرص والنشاط. والثاني: العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية. والثالث: الحياء من الجهل ونقصان القريحة اللذين يُحدثان بالإهمال. والرابع: لزوم هذه الفضائل والترقي فيها دائمًا بحسب الاستطاعة فهذه أسباب الاتصال.

أسباب الانقطاع عن الله

وأما أسباب الانقطاعات عن الله عز وجل والمساقط وهي التي تُعرف باللعاين، فأولها السقوط الذي يستحق به الإعراض وتتبعه الاستهانة. والثاني: السقوط الذي يستحق به الحجاب ويتبعه الاستخفاف. والثالث السقوط الذي يستحق به الطرد ويتبعه المقت. والرابع: السقوط الذي يستحق به الخسأة ويتبعه البغض. وإنما يشقى العبد إذا حصل على أربع خلال؛ أولها: الكسل والبطالة ويتبعهما ضياع الزمان وفناء العمر بغير فائدة إنسانية. والثاني: الغباوة والجهل المتولدان عن ترك النظر ورياضة النفس بالتعاليم التي أحصيناها في كتاب مراتب السعادات. والثالث: الوقاحة التي ينتجها إهمال النفس إذا تتبعت الشهوات وترك زمامها لركوب الخطايا والسيئات. والرابع: الانهماك الذي يحدث من الاستمرار في القبائح وترك الإنابة. وهذه الأنواع الأربعة مسماة في الشريعة بأربعة أسماء؛ فالأول: هو الزيغ. والثاني: هو الرين. والثالث: هو الغشاوة. والرابع: هو الختم. ولكل واحدة من هذه الشقاوات علاج خاص سنذكره عند مداواة أسقام حتى تعود إلى الصحة بإذن الله عز وجل. وهذه الأشياء التي عددناها الآن لا خلاف بين الحكماء فيها وبين أصحاب الشرائع، وإنما تختلف بالعبارات والإشارات إليها بحسب اللغات. وأفلاطون يقول: إن العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كل واحد من أجزاء النفس؛ وذلك لحصول فضائلها أجمع فيها، فحينئذٍ تنهض النفس، فتؤدي فعلها الخاص بها على أفضل ما يكون، وهو غاية قرب الإنسان السعيد من الإله تقدَّس اسمه. قال: والعدالة توسط ليس على جهة التوسط الذي في الفضائل التي تقدَّم ذكرها، لكن لأنها في الوسط والجور في الطرفين. وإنما صار الجور في الطرفين؛ لأنه زيادة ونقصان. وذلك أن من شأن الجور طلب الزيادة والنقصان معًا. أما الزيادة فمن النافع على الإطلاق. وأما النقصان فمن الضار؛ فلذلك يكون الجائر مستعملًا للزيادة والنقصان؛ إما لنفسه فيستعمل الزيادة في النافع، وإما لغيره فيستعمل النقصان منه. وأما في الضار فبالضد وعلى العكس؛ وذلك أنه إما لنفسه فيستعمل النقصان، وإما لغيره فيستعمل الزيادة والفضائل التي قلنا إنها أوساط بين الرذائل وهي غايات ونهايات؛ وذلك أن الوسط ها هنا نهاية لها من كل جهة فهو في غاية البعد منها؛ ولذلك متى بعُد عن الوسط زيادة بُعد قرب من رذيله، كما قلناه فيما تقدم. فقد تبيَّن من جميع ما قدمنا أن الفضائل كلها اعتدالات، وأن العدالة اسم يشملها ويعمها كلها، وأن الشريعة لما كانت تُقدِّر الأفعال الإرادية التي تقع بالروية وبالوضع الإلهي صار المتمسك بها في معاملاته عدلًا والمخالف لها جائرًا؛ فلهذا قلنا: إن العدالة لقب للمتمسك بالشريعة، إلا أنَّا قد قلنا مع ذلك أنها هيئة نفسانية تصدر عنها هذه الفضيلة. فتصوَّر الهيئة النفسانية، فإنك سترى رؤية واضحة أن صاحبها ينقاد ولا محالة للشريعة طوعًا ولا يضادها بنوع من أنواع التضاد؛ وذلك أنه إذا حافظ على المناسبات التي ذكرناها؛ لأنها مساواة وآثرها بعد إجالة الرأي فيها على سبيل الاختيار لها والرغبة فيها وجب عليه موافقة الشريعة وترك مخالفتها، وأقل ما تكون المساواة بين اثنين، ولكنها تكون في معاملة مشتركة بينهما وهو الشيء الثالث، وربما كانا شيئين — كما قلنا — فتصير المناسبات — كما بيَّنَّا — بين أربعة أشياء. وينبغي أن يُعلم أن هذه الهيئة النفسانية هي غير الفعل وغير المعرفة وغير القوة. أما الفعل فلأنَّا قد بيَّنَّا أنه قد يقع على غير هيئة نفسانية. كمن يعمل أعمال العدالة وليس بعادل، وكمن يعمل أعمال الشجاعة وليس بشجاع. وأما القوة والمعرفة فلأن كل واحدة منهما بعينها للضدين معًا. فإن العلم بالضدين واحد. وكذلك القوة على الضدين قوة واحدة. وأما الهيئة القابلة لأحد الضدين فهي غير الهيئة القابلة للضد الآخر. ومثال ذلك هيئة الشجاعة فإنها غير هيئة الجبن، وكذلك هيئة العفة غير هيئة الشره، وهيئة العدالة غير هيئة الجور. ثم إن العدالة والخيرية يشتركان في باب المعاملات والأخذ والإعطاء. إلا أن العدالة تقع في اكتساب المال على الشرائط التي قدَّمنا القول فيها، والخيرية تقع في إنفاق المال على الشرائط التي ذكرناها أيضًا، ومن شأن من يكتسب أن يأخذ فهو بالمنفعل أشبه، ومن شأن المنفق أن يُعطي فهو بالفاعل أشبه. فلهذه العلة تكون محبة الناس للخيِّر أشد من محبتهم للعادل، إلا أن نظام العالم بسبب العدالة أكثر منه بالخيرية، وخاصة الفضيلة هي في فعل الخير لا في ترك الشر، وخاصة محبة الناس وحمدهم في بذل المعروف لا في جمع المال؛ فالخيِّر لا يُكرم المال ولا يجمعه لذاته، بل ليصرفه في وجوهه التي يكتسب بها المحبات والمحامد. ومن خاصة الخيِّر ألَّا يكون كثير المال؛ لأنه منفاق. ولا يكون أيضًا فقيرًا؛ لأنه كسوب من حيث ينبغي، وهو غير متكاسل عن الكسب البتَّة؛ لأنه بالمال يصل إلى فضيلة الخيرية؛ ولذلك لا يضيع المال ولا يستعمل فيه التبذير ولا يشح أيضًا، فلا يستعمل التقتير؛ فكلُّ خيِّر عادل وليس كل عادل خيِّرًا.

مسألة عويصة أولى

وفي هذا الموضع مسألة عويصة سأل عنها الحكماء أنفُسهم، وأجابوا عنها بجواب مقنع، ويمكن أن يجاب فيها بجواب آخر أشد إقناعًا، ويجب أن نذكر الجميع وهو: إن لشاكٍّ أن يشك فيقول: إذا كانت العدالة فعلًا اختياريًّا يتعاطاه العادل، ويقصد به تحصيل الفضيلة لنفسه والمحمدة من الناس، فيجب أن يكون الجور فعلًا اختياريًّا يتعاطاه الجائر، ويقصد به تحصيل الرذيلة لنفسه ومذمة الناس. ومن القبيح الشنيع أن يظن بالإنسان العاقل أنه يقصد الإضرار بنفسه بعد الرويَّة وعلى سبيل الاختيار. ثم أجابوا عن ذلك وحلُّوا هذا الشك بأن قالوا: إن من ارتكب فعلًا يؤدِّيه إلى ضرر أو عذاب، فإنه يكون ظالمًا لنفسه وضارًّا لها من حيث يقدِّر أنه ينفعها؛ وذلك لسوء اختياره وترك مشاورة العقل فيه. مثال ذلك الحاسد؛ فإنه ربما جنى على نفسه لا على سبيل إيثار الإضرار بها، بل لأنه يظن أنه ينفعها في العاجل بالخلاص من الأذى الذي يلحقه من الحسد. هذا جواب القوم، وأما الجواب الآخر فهو أن الإنسان لما كان ذا قوًى كثيرة يُسمَّى بمجموعها إنسانًا واحدًا لم يُنكَر أن تصدر عنه أفعال مختلفة بحسب تلك القوى، وإنما المنكر أن يكون الشيء الواحد البسيط ذو القوة الواحدة تقع منه بتلك القوة أفعال مختلفة لا بحسب الآلات المختلفة ولا بقدر القابلات منه، بل بتلك القوة الواحدة فقط. فهذا لعمري منكر شنيع، ولكن الإنسان قد تبيَّن من حاله أن له قوًى كثيرة، فيعمل بكل قوة عملًا مخالفًا للعمل بالأخرى؛ أعني أن صاحب الغضب إذا استشاط يختار أفعالًا مخالفة لأفعاله إذا كان ساكنًا وديعًا. وكذلك صاحب الشهوة الهائجة وصاحب النشوة الطروب، فإن من شأن هؤلاء أن يستخدموا العقل الشريف في تلك الأحوال ولا يستشيرونه؛ ولذلك تجد العاقل إذا تغيرت أحواله تلك، فصار من الغضب إلى الرضا ومن السكر إلى الإفاقة تعجب من نفسه، وقال: ليت شعري كيف اخترت تلك الأفعال القبيحة ويلحقه الندم. وإنما ذلك لأن القوة التي تهيج به تدعوه إلى ارتكاب فعل يظنه في تلك الحال صالحًا له جميلًا به لتتم له حركة القوة الهائجة به. فإذا سكن عنها وراجع عقله رأى قبح ذلك الفعل وفساده. وقوى الإنسان التي تدعوه إلى ضروب الشهوات ومحبة الكرامات كثيرة جدًّا، فهو بحسب قواه الكثيرة تكون أفعاله كثيرة. فإذا تعوَّد الإنسان أن تكون سيرته فاضلة، ولم يقدِم على شيء من أفعاله إلا بعد مطالعة العقل الصريح وبعد مراعاة الشريعة القويمة كانت أفعاله كلها منتظمة غير مختلفة ولا خارجة عن سنن العدل؛ أعني المساواة التي قدمنا القول فيها؛ ولهذا السبب قلنا: إن السعيد هو من اتفق له في صباه أن يأنس بالشريعة ويستسلم لها ويتعود جميع ما تأمره به، حتى إذا بلغ المبلغ الذي يمكنه به أن يعرف الأسباب والعلل طالع الحكمة فوجدها موافقة لما تقدمت عادته به فاستحكم رأيه وقويت بصيرته ونفذت عزيمته.

مسألة عويصة ثانية

وها هنا مسألة عويصة أشد من الأولى؛ وهو أن التفضل شيءٌ محمود جدًّا. وليس يقع تحت العدالة؛ لأن العدالة كما ذكرنا مساواة، والتفضل زيادة. وقد حكمنا أن العدالة تجمع الفضائل كلها، ولا مزيد عليها، بل يجب أن تكون الزيادة عليها مذمومة، كما أن النقصان عنها مذموم؛ ليكون شرف الوسط الذي تقدَّم وصفه في سائر الأخلاق حاصلًا للعدالة؛ فالجواب عنها أن التفضل احتياط يقع من صاحبه في العدالة ليأمن به وقوع النقص في شيء من شرائطها. وليس الوسط في كلا الطرفين من الأخلاق على شريطة واحدة؛ وذلك أن الزيادة في باب السخاء إذا لم تخرج إلى باب التبذير أحسن من النقصان فيه، وأشبه بالمحافظة على شرائطه فتصير كالاحتياط فيه والأخذ بالحزم فيه. وأما العفة فإن النقصان من الوسط فيها أحسن من الزيادة عليه وأشبه بالمحافظة على شرائطه وأبلغ في الاحتياط عليه وأخذ الحزم فيه. ومع ذلك فليس يُستعمل التفضل إلا حيث تُستعمل العدالة؛ وأعني بذلك أن من أعطى ماله من لا يستحق شيئًا منه وترك مواساة من يستحقه لا يُسمَّى متفضلًا بل مضيعًا. وإنما يكون متفضلًا إذا أعطى من يستحق كل ما يستحق ثم زاده تفضلًا. وهذه الزيادة ليست من الزيادة التي ذكرناها في باب السخاء؛ لأن تلك الزيادة ذهاب إلى الطرف الذي يُسمَّى تبذيرًا، وهو مذموم. ويعرف ذلك من حدِّه، وهو بذل ما لا ينبغي كما لا ينبغي في الوقت الذي لا ينبغي. فإذا التفضل غير خارج عن شرط العدالة، بل هو احتياط فيها؛ ولذلك قيل: إن المتفضل أشرف من العادل، فقد بان أن التفضل ليس غير العدالة، بل هو العدالة مع الاحتياط فيها وكأنه مبالغة لا يخرجها عن معناها؛ لأن هذه الهيئة النفسانية ليست غير تلك الهيئة بل هي. فأما الأطراف التي هي رذائل؛ أعني الزيادة والنقصان التي سبق القول فيهما فهي كلها هيئات مذمومة غير الهيئات المحمودة. وحدود هذه الأشياء هي التي تحصل لك معانيها ومشاركة بعضها البعض ومباينة بعضها البعض. وأيضًا فإن الشريعة تأمر بالعدالة أمرًا كليًّا. وليست تنحط إلى الجزئيات؛ وأعني بذلك أن العدالة التي هي المساواة تكون مرة في باب الكم ومرة في باب الكيف وفي سائر المقولات. وبيان ذلك أن نسبة الماء إلى الهواء مثلًا ليست تكون بالكمية بل بالكيفية. ولو كانت بالكمية لوجب أن يكونا متساويين في المساحة، ولو كانا كذلك لتغالبَا وأحال أحدهما الآخر إلى ذاته، وكذلك النار والهواء. ولو أحالت هذه العناصر بعضها بعضًا لفنيَ العالم في أقرب مدة. ولكن الباري تقدَّس اسمه عدل بين هذه بالقوة فتقاومت، فليس يغلب أحد الآخر بالكلية، وإنما يحيل الجزء منها الجزء في الأطراف، أعني حيث تلتقي نهاياتها. وأما كلياتها فلا تقدر على كلياتها؛ لأن قواها متساوية متعادلة على غاية التسوية والتعادل، وبهذا النوع من العدل قيل بالعدل قامت السموات والأرض، ولو رجح أحدهما على الآخر بزيادة يسير قوة لأحال الزائد الناقص وقويَ عليه فبطل العالم، فسبحان القائم بالقسط لا إله إلا هو!

الشريعة تأمر بالعدالة

ولما كانت الشريعة تأمر بالعدالة الكاملة لم تأمر بالتفضل الكلي، بل ندبت إليه ندبًا يستعمل في الجزيئات التي لا يمكن أن تعين عليها لأنها بلا نهاية، وجزمت القول في العدالة الكلية لأنها محصورة يمكن أن تعين عليها. وقد تبيَّن أيضًا مما قدمنا أن التفضل إنما يكون في العدالة التي تخص الإنسان في نفسه؛ أعني تسوية المعاملة أولًا فيما بينه وبين غيره، ثم الاستظهار فيه والاحتياط عليه بما يكون تفضلًا، ولو كان حاكمًا بين قوم ولا نصيب له في تلك الحكومة لم يجز له التفضل ولم يسعه إلا العدل المحض والتسوية الصحيحة بلا زيادة ولا نقصان، وتبيَّن أيضًا أن الهيئة التي تصدر عنها الأفعال العادلة متى نسبت إلى صاحبها سُمِّيت فضيلة. وإذا نُسبت إلى من يعامله بها سُمِّيت عدالة. وإذا اعتُبرت بذاتها سُمِّيت ملكة نفسانية. فاستعمال المرء العاقل العدل على نفسه أول ما يلزمه ويجب عليه. وقد ذكرنا فيما تقدم كيف يفعل ذلك، وبيَّنَّا كيف يعدل قواه الكثيرة إذا هاج به بعضها، وأشرنا إلى أجناس هذه القوى الكثيرة وأن بعضها يكون بالشهوات المختلفة وبعضها بطلب الكرامات الكثيرة، وأنها إذا تغالبت وتهايجت حدث في الإنسان باضطرابها أنواع الشر وجذبته كل واحدة منها إلى ما يوافقها. وهكذا سبيل كل مركَّب من كثرة إذا لم يكن لها رئيس واحد ينظمها ويوحدها. وأرسطوطاليس يشبِّه من كان كذلك بمن يُجذب من جهات كثيرة فيُقطع بينها وينشق بحسب تلك الجهات وقواها. وليس ينظم هذه الكثرة التي رُكِّب الإنسان منها إلا الرئيس الواحد الموهوب له من الفطرة؛ أعني العقل الذي به تميَّز من البهائم وهو خليفة الله عز وجل عنده، فإن هذه القوى كلها إذا ساسها العقل انتظمت وزال عنها سوء النظام الذي يحدث من الكثرة وجميع ما ذكرنا من إصلاح الأخلاق مبنيٌّ عليه. فإذا تم للإنسان ذلك؛ أعني أن يعدل على نفسه، وأحرز هذه الفضيلة فقد لزمه أن يعدل على أصدقائه وأهله وعشيرته، ثم يستعمله في الأباعد وسائر الحيوان. وإذ قد صح ذلك وظهر ظهورًا حسيًّا، فقد ظهر بظهوره أن شر الناس من جار على نفسه ثم على أصدقائه وعشيرته، ثم على كافة الناس والحيوان؛ لأن العلم بأحد الضدين هو العلم بالضد الآخر، فخير الناس العادل وشرهم الجائر كما تبيَّن ذلك. وقد ادعى قوم أن نظام أمر الموجودات كلها وصلاح أحوالها معلَّق بالمحبة، وقالوا: إن الإنسان إنما اضطر إلى اقتناء هذه الفضيلة؛ أعني الهيئة التي تصدر عنها العدالة عند تعاطي المعاملات لما فاته شرف المحبة، ولو كان المتعاملون أحباءَ لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف؛ وذلك أن الصديق يحب صديقه ويريد له ما يريد لنفسه، ولا تتم الثقة والتعاضد والتوازر إلا بين المتحابين. وإذا تعاضدوا وجمعتهم المحبة وصلوا إلى جميع المحبوبات ولم تتعذر عليهم المطالب وإن كانت صعبة شديدة. وحينئذٍ ينشئون الآراء الصائبة وتتعاون العقول على استخراج الغوامض من التدابير القويمة، ويتقوَّون على نَيل الخيرات كلها بالتعاضد، وهؤلاء القوم إنما نظروا إلى فضيلة التأحد التي تحصل بين الكثرة ولمعرى أنها أشرف غايات أهل المدنية؛ وذلك أنهم إذا تحابوا تواصلوا، وأراد كل واحد منهم لصاحبه مثل ما يريده لنفسه، فتصير القوى الكثيرة واحدة، ولم يتعذر على أحد منهم رأي صحيح، ولا عمل صواب. ويكون مثلهم في جميع ما يحاولونه مثل من يريد تحريك ثقل عظيم بنفسه فلا يطيق ذلك، فإن استعان بقوة غيره حرَّكه، ومدبر المدينة إنما يقصد بجميع تدابيره إيقاع المودَّات بين أهلها. وإذا تم له هذا خاصة فقد تمت له جميع الخيرات التي تتعذر عليه وحده على أفراد أهل مدينته، وحينئذٍ يغلب أقرانه ويعمر بلدانه، ويعيش وهو ورعيته مغبوطين. ولكن هذا التأحد المطلوب بهذه المحبة المرغوب فيهما لا يتم إلا بالآراء الصحيحة التي يُرجى الاتفاق من العقول السليمة عليها والاعتقادات القوية التي لا تحصل إلا بالديانات التي يُقصد بها وجه الله عز وجل. وأصناف المحبات كثيرة، وإن كانت ترتقي كلها إلى وجه واحد، وسنقول فيها بمعونة الله فيما يتلو هذه المقالة إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤