المقالة الخامسة

التعاون والاتحاد

قد سبق القول في حاجة بعض الناس إلى بعض، وتبيَّن أن كل واحد منهم يجد تمامه عند صاحبه، وأن الضرورة داعية إلى استعانة بعضهم ببعض؛ لأن الناس مطبوعون على النقصانات ومضطرون إلى تماماتها، ولا سبيل لأفرادهم والواحد فالواحد منهم إلى تحصيل تمامه بنفسه كما شرحناه فيما مضى؛ فالحاجة صادقة والضرورة داعية إلى حالٍ تجمع وتؤلف بين أشتات الأشخاص؛ ليصيروا بالاتفاق والائتلاف كالشخص الواحد الذي تجتمع أعضاؤه كلها على الفعل الواحد النافع له.

المحبة

وللمحبة أنواع، وأسبابها تكون بعدد أنواعها، فأحد أنواعها ما ينعقد سريعًا وينحل سريعًا. والثاني ما ينعقد سريعًا وينحل بطيئًا. والثالث ما ينعقد بطيئًا وينحل سريعًا. والرابع ما ينعقد بطيئًا وينحل بطيئًا. وإنما انقسمت إلى هذه الأنواع فقط لأن مقاصد الناس في مطالبهم وسيرهم ثلاثة، ويتركب بينها رابع، وهي اللذة والخير والمنافع والمتركب منها. وإذا كانت هذه غايات الناس في مقاصدهم فلا محالة أنها أسباب المحبة، من عاون عليها، وصار سببًا للوصول إليها فقد أفلح: فأما المحبة التي يكون سببها اللذة، فهي التي تنعقد سريعًا، وتنحلُّ سريعًا؛ وذلك أن اللذة سريعة التغيُّر كما شرحنا أمرها فيما تقدم، وأما المحبة التي سببها الخير فهي التي تنعقد سريعًا وتنحلُّ بطيئًا. وأما المحبة التي سببها المنافع فهي التي تنعقد بطيئًا وتنحلُّ سريعًا. وأما التي تتركب من هذه إذا كان فيها الخير، فإنها تنحل بطيئًا وتنعقد بطيئًا. وهذه المحبات كلها تحدُث بين الناس خاصة؛ لأنها تكون بإرادة وروية وتكون فيها مجازاة ومكافأة. فأما التي تكون بين الحيوانات غير الناطقة فالأحرى بها أن تُسمَّى إلفًا، وتقع بين الأشكال منها خاصة. وأما التي لا نفوس لها من الأحجار وأمثالها، فليس يوجد فيها إلا الميل الطبيعي إلى مراكزها التي تخصها، وقد يوجد أيضًا بينها منافرة ومشاكلة بحسب أمزجتها الحادثة فيها من عناصرها الأولى. وهذه الأمزجة كثيرة، وإذا وقع منها شيء يتناسب نسبة تأليفية أو عددية أو مساحية حدثت بينها ضروب من المشاكلة. وإذا كان أضداد هذه النسب حدثت بينها منافرة، وتحدث لها أشياء تُسمَّى خواص، وهي أفعال بديعة وهي التي تُسمَّى أسرار الطبائع، ولا سيما في النِّسب التأليفية، فإنها أشرف النِّسب بعد نسبة المساواة. ولها أضداد؛ أعني هذه النسب. وهي مبيَّنة مشروحة في صناعة الأرتماطيقي ثم في صناعة التأليف. وأما الأمزجة التي بحسب هذه النسب فهي خفية عنا وعسرة المرام. وقد ادعى قوم الوصول إليها. وليست تكون هذه الأفعال والخواص التي تحدث بين الأمزجة من النسب المذكورة موجودة في العناصر أنفُسها. والكلام فيها خارج عن غرضنا، وإنما ذكرناها هنا لأنها تشبه المشاكلات والمنافرات التي بين الحيوان في الظاهر والنسبة التي تحدث بين الناس بالإرادة، وهي التي نتكلم فيها ويقع فيها مكافأة ومجازاة.

الصداقة

الصداقة نوع من المحبة إلا أنها أخصُّ منها، وهي المودة بعينها. وليس يمكن أن تقع بين جماعة كثيرين كما تقع المحبة. وأما العشق فهو إفراط في المحبة، وهو أخصُّ من المودة، وذلك أنه لا يمكن أن يقع إلا بين اثنين فقط، ولا يقع في النافع ولا في المركَّب من النافع وغيره، وإنما يقع لمحب اللذة بإفراط، ولمحب الخير بإفراط. وأحدهما مذموم والآخر محمود. فالصداقة بين الأحداث ومن كان في مثل طباعهم إنما تحدث لأجل اللذة، فهم يتصادقون سريعًا ويتقاطعون سريعًا، وربما اتفق ذلك بينهم في الزمان القليل مرارًا كثيرة، وربما بقيت بقدر ثقتهم ببقاء اللذة ومعاودتها حالًا بعد حال. فإذا انقطعت هذه الثقة بمعاودتها انقطعت الصداقة بالوقت وفي الحال. والصداقة من المشائخ، ومن كان في مثل طباعهم إنما تقع لمكان المنفعة، فهم يتصادقون بسببها. فإذا كانت المنافع مشتركة بينهم وهي في الأكثر طويلة المدة كانت الصداقة باقية. فحين تنقطع علاقة المنفعة بينهم، وينقطع رجاؤهم من المنفعة المشتركة تنقطع موداتهم، والصداقة بين الأخيار تكون لأجل الخير وسببها هو الخير. ولما كان الخير شيئًا غير متغير الذات صارت مودَّات أصحابه باقية غير متغيرة. وأيضًا لما كان الإنسان مركَّبًا من طبائع متضادة صار ميل كل واحد منها يخالف ميل الآخر، فاللذة التي توافق إحداها تخالف لذة الأخرى التي تضادها، فلا تخلص له لذة غير مشوبة بأذى. ولما كان فيه أيضًا جوهر آخر بسيط إلهي غير مخالط لشيء من الطبائع الأخرى، صارت له لذة غير مشابهة لشيء من تلك اللذات؛ وذلك أنها بسيطة أيضًا. والمحبة التي سببها هذه اللذة هي التي تفرط حتى تصير عشقًا تامًّا خالصًا شبيهًا بالوله. وهي المحبة الإلهية الموصوفة التي يدعيها بعض المتألهين، وهي التي يقول فيها أرسطوطاليس حكايةً عن إبرقليطس: «إن الأشياء المختلفة لا تتشاكل ولا يكون منها تأليف جيد.» وأما الأشياء المتشاكلة، وهي التي يُسَرُّ بعضها ببعض ويشتاق بعضها إلى بعض فأقول عنها: إن الجواهر البسيطة إذا تشاكلت، واشتاق بعضها إلى بعض تألَّفت، وإذا تألفت صارت شيئًا واحدًا لا غيرية بينها؛ إذ الغيرية إنما تحدث من جهة الهيولى. وأما الأشياء ذوات الهيولى وهي الأجرام فإنها وإن اشتاقت بنوع من الشوق إلى التألف، فإنها لا تتحد ولا يمكن ذلك فيها؛ وذلك أنها تلتقي بنهاياتها وسطوحها دون ذواتها. وهذا الالتقاء سريع الانفصال إذ كان التأحد فيه ممتنعًا. وإنما تتأحد بنحو استطاعتها أعني ملاقاة سطوحها. فإذا الجوهر الإلهي الذي في الإنسان إذا صفا من كدورته التي حصلت فيه من ملابسة الطبيعية ولم تجذبه أنواع الشهوات وأصناف محبات الكرامات؛ اشتاق إلى شبيهه ورأى بعين عقله الخير الأول المحض الذي لا تشوبه مادة فأسرع إليه. وحينئذٍ يفيض نور ذلك الخير الأول عليه، فيلتذ به لذة لا تشبهها لذة، ويصير إلى معنى الاتحاد الذي وصفناه، استعمل الطبيعة البدنية أم لم يستعملها. إلا أنه بعد مفارقته الطبيعة بالكلية أحق بهذه المرتبة العالية؛ لأنه ليس يصفو الصفاء التام إلا بعد مفارقته الحياة الدنيوية. ومن فضائل هذه المحبة الإلهية أنها لا تقبل النقصان، ولا تقدح فيها السعاية، ولا يعترض عليها الملك، ولا تكون إلا بين الأخيار فقط. وأما المحبات التي تكون بسبب المنفعة واللذة فقد تكون بين الأشرار وبين الأخيار والأشرار، إلا أنها تنقضي وتنحل مع تقضِّي المنافع واللذائذ؛ لأنها عرضية، وكثيرًا ما تحدث بالاجتماعات في المواضع الغريبة، إلا أنها تزول بزوال المواضع كالسفينة وما جرى مجراها. والسبب في هذه المحبة الأُنس؛ وذلك أن الإنسان آنِسٌ بالطبع، وليس بوحشي ولا نفور، ومنه اشتُقَّ اسم الإنسان في اللغة العربية. وقد تبيَّن ذلك في صناعة النحو. وليس كما قال الشاعر:

سُمِّيت إنسانًا لأنك ناسٍ

فإن هذا الشاعر ظن أن الإنسان مشتق من النسيان، وهو غلط منه. وينبغي أن يُعلم أن هذا الأُنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكتسبه مع أبناء جنسنا، حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا، فإنه مبدأ المحبات كلها.

الشريعة تدعو إلى الأنس والمحبة

وإنما وُضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة اتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. والشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات، وفضَّلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد، ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة؛ حتى يخرج إلى الفعل، ثم يتأكد بالاعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الاجتماع في كل يوم ليس يتعذَّر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يومًا بعينه في مسجد يسعهم ليجتمع أيضًا شمل أهل المحالِّ والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم. ثم أوجب أيضًا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلًّى بارزين مُصْحِرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم. ثم أوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة، ولم يُعيَّن من العمر وقت مخصوص؛ ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة، ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل أسبوع وفي كل يوم، فيجتمعوا بذلك إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة، وليُكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذي ألَّفهم على تقوى الله وطاعته.

الخليفة يحرس الدين

والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع؛ حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام، وصناعته هي صناعة الملك. والأوائل لا يُسمُّون بالملك إلا من حرس الدين، وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلِّبًا، ولا يؤهلونه لاسم الملك؛ وذلك أن الدين هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى، والملك هو حارس هذا الوضع الإلهي حافظ على الناس ما أخذوا به. وقد قال حكيم الفرس وملكهم أزدشير: «إن الدين والملك أخوان توأمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر؛ فالدين أسٌّ والملك حارس، وكل ما لا أسَّ له فمهدوم، وكل ما لا حارس له فضائع.» ولذلك حكمنا على الحارس الذي نُصِّب للدين أن يتيقظ في موضعه، ويُحكم صناعته، ولا يباشر أمره بالهوينا، ولا يشتغل بلذَّة تخصه، ولا يطلب الكرامة والغلبة إلا من وجهها، فإنه متى أغفل شيئًا من حدوده دخل عليه من هنالك الخلل والوهن. وحينئذٍ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس رخصةً في شهواتهم، ويكثُر مَن يساعدهم على ذلك، فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها، ويحدث بينهم الاختلاف والتباغض، فأدَّاهم ذلك إلى الشتات والفرقة، وبطل الفرض الشريف، وانتقض النظام الذي طلبه صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية، فاحتيج حينئذٍ إلى تجديد الأمر واستئناف التدبير وطلب الإمام الحق والملك العدل، ونعود إلى ذكر أجناس المحبات وأسبابها فنقول:

أجناس المحبات وأسبابها

إن هذه الأسباب كلها ما خلا المحبة الإلهية إذا كانت مشتركة بين المتحابين وكانت واحدة بعينها جاز في الشيئين أن ينعقدا معًا وينحلَّا معًا، وجاز أيضًا أن يبقى أحدهما وينحلَّ الآخر. مثال ذلك أن اللذات المشتركة بين الرجل والمرأة هي سبب للمحبة بينهما، فقد يجوز أن تجتمع المحبات لأن السبب واحد وهي اللذة. وقد يجوز أن تنقطع إحداهما وتبقى الأخرى؛ وذلك أن اللذة تتغير ولا تكاد تثبُت كما تقدم وصفها. فقد يجوز أن يتغير سبب إحدى المحبتين ويثبُت الآخر. وأيضًا فإن بين الرجل وبين زوجته خيرات مشتركة ومنافع مختلفة، وهما يتعاونان عليها؛ أعني الخيرات الخارجة عنها، وهي الأسباب التي تعمر بها المنازل؛ فالمرأة تنتظر من زوجها تلك الخيرات لأنه هو الذي يكتسبها ويحضرها. وأما الرجل فإنه ينتظر من زوجته ضبط تلك الخيرات؛ لأنها هي التي تحفظها وتدبرها لتثمر ولا تضيع. فمتى قصر أحدهما اختلفت المحبة، وحدثت الشكايات، ولا تزال كذلك إلى أن تتقطع أو تبقى مع الشكايات والملامة. وكذلك حال المنفعة المشتركة بين الناس إذا كانت واحدة بعينها. وأما المحبات المختلفة التي أسبابها مختلفة فهي أَوْلى بسرعة التحلل. ومثال ذلك أن تكون محبة أحد المتحابين لأجل المنفعة ومحبة الآخر لأجل اللذة، كما يعرض ذلك للمعاشرين على أن أحدهما مغنٍّ والآخر مستمع، فإن المغنِّي منهما يحب المستمع لأجل المنفعة، والمستمع منهما يحب المغنِّي لأجل اللذة. وكما يعرض أيضًا بين العاشق والمعشوق اللذين أحدهما يلتذ بالنظر والآخر ينتظر المنفعة. وهذا الصنف من المحبة يعرض فيه أبدًا التشكِّي والتظلُّم؛ وذلك أن طالب اللذة يتعجَّل مطلوبه، وطالب المنفعة يتأخر عنه، ولا يكاد يعتدل الأمر بينهما؛ لذلك ترى العاشق يشكو معشوقه ويتظلَّم منه وهو بالحقيقة ظالم ينبغي أن يُشتكى؛ لأنه يتعجل لذته بالنظر ولا يرى المكافأة بما يستحق صاحبه. والمحبة اللوامة كثيرة الأنواع، إلا أن الأصل فيها ما ذكرت، ويوشك أن تكون المحبة بين الرئيس والمرءوس والغني والفقير تعرض لها الملامة والتوبيخ لأجل اختلاف الأسباب، ولأن كل واحد ينتظر من المكافأة عند الآخر ما لا يجده عنده، فيقع فساد في النيات بينهما ثم استبطاء ثم ملامات، ويزيل ذلك طلب العدالة ورضاء كل واحد بما يستحقه من الآخر، وبذل كل واحد للآخر العدل المبسوط بينهما، والمماليك خاصة لا يرضيهم من مواليهم إلا الزيادة الكثيرة في الاستحقاق. وكذلك الموالي يستبطئون العبيد في الخدمة والشفقة والنصيحة. وفي جميع ذلك يقع اللوم وفساد الضمير، فهذه المحبة اللوامة لا يكاد يخلو الإنسان منها إلا على شريطة العدل وطلب الوسط من الاستحقاق والرضا به وهو صعب.

محبة الأخيار

وأما محبة الأخيار بعضهم بعضًا فإنها تكون لا للذة خارجة ولا لمنفعة، بل للمناسبة الجوهرية بينهما، وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم الآخر لهذه المناسبة لم تكن بينهم مخالفة ولا منازعة ونصح بعضهم بعضًا، وتلاقوا بالعدالة والتساوي في إرادة الخير. وهذا التساوي في النصيحة وإرادة الخير هو الذي يوحِّد كثرتهم؛ ولهذا حد الصديق بأنه آخر هو أنت، إلا أنه غيرك بالشخص؛ ولهذا صار عزيز الوجود. ولم يوثق بصداقة الأحداث والعوام ومن ليس بحكيم؛ لأن هؤلاء يحِبُّون ويصادِقون لأجل اللذة والمنفعة، ولا يعرفون الخير بالحقيقة، وأغراضهم غير صحيحة. وأما السلاطين فإنهم يُظهرون الصداقة على أنهم متفضلون ومحسنون إلى من يصادقهم، فلا يدخلون تحت الحد الذي ذكرناه وفي صداقتهم زيادة ونقصان، والمساواة عزيزة الوجود عندهم. وكذلك محبة الوالد للولد والولد للوالد؛ فإن أنواع هذه المحبة مختلفة، وأسبابها أيضًا مختلفة كما قلنا، إلا أن محبة الوالد للولد والولد للوالد، وإن كان بينهما اختلاف ما من وجهٍ؛ فإن بينهما اتفاقًا ذاتيًّا، وأعني بالذاتي ها هنا أن الوالد يرى في ولده أنه هو هو وأنه نسخ صورته التي تخصه من الإنسانية في شخص ولده نسخًا طبيعيًّا، ونقل ذاته إلى ذاته ثقلًا حقيقيًّا. وحق له أن يرى ذلك؛ لأن التدبير الإلهي بالسياسة الطبيعية التي هي سياسته عز وجل هو الذي عاون الإنسان على إنشاء الولد وجعله السبب الثاني في إيجاده ونقل صورته الإنسانية إليه؛ ولذلك يحب الوالد لولده جميع ما يحبه لنفسه، ويسعى في تأديبه وتكميله بكل ما فاته في نفسه طول عمره. ولا يشق عليه أن يقال له: ولدك أفضل منك؛ لأنه يرى أنه هو هو. وكما أن الإنسان إذا تزايد في نفسه حالًا فحالًا وترقَّى في الفضيلة درجة فدرجة لا يشق عليه أن يقال له إنك الآن أفضل مما كنت، بل يسرُّه ذلك. كذلك تكون حاله إذا قيل له في ولده مثل ذلك. ثم تفضَّل أيضًا محبة الوالد على محبة الولد بأنه الفاعل له، وبأنه يعرفه منذ أول تكوينه ويستبشر به وهو جنين، ثم تزداد محبته له مع التربية والنشأة، ويتأكد سروره به وتأميله له. ويحدث له اليقين بأنه باقٍ به صورة وإن فني بجسمه مادة. وهذه المعاني الجليلة عند أهل العلم تتراءى للعوام كأنها من وراء ستر. وأما محبة الولد للوالد فإنها تنقص عن هذه الرتبة، بأن الولد مفعول وبأنه لا يعرف ذاته، ولا فاعل ذاته إلا بعد زمان طويل، وبعد أن يستثبت أباه حسًّا وينتفع به دهرًا ثم يعقل بعد ذلك أمره بالصحة. وعلى مقدار عقله واستبصاره في الأمور يكون تعظيمه لوالديه ومحبته لهما. ولهذه العلة وصى الله عز وجل الولد بوالده ولم يوصِ الوالد بولده. وأما محبة الإخوة بعضهم لبعض فلأن سبب تكوينهم ونشوئهم واحد بعينه.

نسبة الملك إلى رعيته

ويجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية، ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة؛ وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده ومعاملته إياهم تلك المعاملة. وقد كنا أشرنا إلى ذلك، وسنزيده بيانًا إذا صرنا إلى ذكر سياسة الملك في موضع آخر، وعنايته برعيته يجب أن تكون مثل عناية الأب بأولاده شفقة وتحننًا وتعهدًا وتعطفًا خلافة لصاحب الشريعة ، بل لمشرع الشريعة تعالى ذكره في الرأفة والرحمة وطلب المصالح لهم ودفع المكاره عنهم وحفظ النظام فيهم. وبالجملة في كل ما يجلب الخير ويمنع الشر. فإنه عند ذلك تحبه رعيته محبة الأولاد للأب الشفيق، وتحدث بينهما تلك النسبة، وإنما تختلف هذه المحبات بالتفاضل الذي يكون بعظم المنافع. فيجب أن يُكرم الأب كرامة أبوية، ويُكرم السلطان كرامة سلطانية، ويُكرم الناس بعضهم بعضًا كرامة أخوية. ولكل مرتبة من هذه استئهال خاص بها واستحقاق واجب لها. فإذا لم يحفظ بالعدالة زاد ونقص وعرض لها الفساد، وانتقلت الرياسات، وانعكست الأمور، فيعترض لرياسة الملك أن تنتقل إلى رياسة التغلب، ويتبع ذلك أن تنتقل محبة الرعية إلى البغض له، ويعرض لرياسات من دونه مثل ذلك، فتصير محبة الأخيار إلى تباغض الأشرار، وتعود الألفة نفارًا، والتواد نفاقًا، ويطلب كل واحد لنفسه ما يظنه خيرًا له وإن أضر بغيره، وتبطل الصداقات والخير المشترك بين الناس، ويئول الأمر إلى الهرج الذي هو ضد النظام الذي رتبه الله لخلقه ورسمه بالشريعة وأوجبه بالحكمة البالغة.

المحبة التي لا تطرأ عليها الآفات

وأما المحبة التي لا تشوبها الانفعالات ولا تطرأ عليها الآفات وهي محبة العبد لخالقه عز وجل، فإنها إنما تخلُص للعالم الرباني وحده خاصة، ولا سبيل لغيره إليها إلا بالدعوى الكاذبة. وكيف يجد الإنسان السبيل إلى محبة من لا يعرفه ولا يعرف ضروب إنعامه الدارَّة عليه ووجوه إحسانه المتصلة به في بدنه ونفسه، اللهم إلا أن يتصور في نفسه صنمًا ويظنه الخالق عز وجل فيحبه ويعبده، فإن أكثر الناس كما قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ. ولعمري إن العامة تدعي المعرفة والمحبة وهم يتصورون شخصًا وشبحًا، فتكون عبادتهم له دون الله، وهذا هو الضلال البعيد. ومدَّعوا هذه المحبة كثيرون جدًّا، والمحقُّون منهم قليلون جدًّا بل هم أقل من القليل. وهذه المحبة لا محالة تتصل بها الطاعة والتعظيم، ويتلوها ويقرب منها محبة الوالدين وإكرامهما وطاعتهما. وليس يرتقي إلى مرتبتهما شيء من المحبات الأُخر إلا محبة الحكماء عند تلامذتهم، فإنهما متوسطة بين المحبة الأولى والمحبة الثانية؛ وذلك أن المحبة الأولى لا يبلغها شيء من المحبات، كما أن أسبابها لا يبلغها شيء من الأسباب، والنعم التي تأتي من قبلها لا يشبهها شيء من النعم. وأما المحبة الثانية فهي تتلوها؛ لأن سببها هو السبب الثاني في وجودنا الحسي؛ أعني أبداننا وتكويننا. وأما محبة الحكماء فهي أشرف وأكرم من محبة الوالدين؛ لأجل أن تربيتهم هي لنفوسنا وهم الأسباب في وجودنا الحقيقي وبهم وصولنا إلى السعادة التامة التي نلنا بها اللقاء الأبدي والنعيم السرمدي في جوار رب العالمين. فبحسب فضل إنعامهم علينا وبقدر فضل النفوس على الأبدان تجب حقوقهم وتلزم طاعتهم ومحبتهم. وليس يبلغ أحد جزاء ولا مكافأة الأول ولا ما يستأهله الثاني؛ أعني الوالدين، وإن هو اجتهد وبالغ. ولا يؤدي حقوقهما أبدًا، وإن خدم بأقصى طاقته وغاية وسعه. وأما محبة طالب الحكمة للحكيم والتلميذ الصالح للمعلم الخير فإنها من جنس المحبة الأولى وفي طريقها؛ وذلك لأجل الخير العظيم الذي يُشرف عليه ويصل إليه، وللرجاء الكريم الذي لا يتحقق إلا بعنايته ولا يتم إلا بمطالعته، ولأنه والد روحاني ورب بشري وإحسانه إحسان إلهي؛ ذلك أنه يربيه بالفضيلة التامة ويغذوه بالحكمة البالغة، ويسوقه إلى الحياة الأبدية والنعيم السرمدي. وإذا كان هو السبب في كل وجودنا العقلي وهو المربي لنفوسنا الروحانية، فبحسب فضل النفس على البدن يجب أن يفضل المنعم بذاك، وبقدر فضلها على البدن يكون فضل التربية على التربية، فيحق أن يحب التلميذ معلم الحكمة محبة خالصة شبيهة بالمحبة الأولى؛ ولذلك قلنا: إن هذه المحبة من جنس تلك المحبة الأولى والطاعة له من جنس تلك الطاعة. وكذلك تعظيمه له وإجلاله إياه. ثم لما كان سبب هاتين النعمتين ومعرِّضنا لهما وسائقنا إليهما وإلى جميع النعم هو السبب الأول الذي هو سبب الخيرات كلها، قرُبت منا أو بعدت عنا، عرفناها أو لم نعرفها، وجب أن تكون محبتنا له في أعلى مراتب المحبات، وكذلك طاعتنا له وتمجيدنا إياه. ويجب على من بلغ هذه المنزلة من الأخلاق أن يعرف مراتب المحبات وما يستحقه كل واحد من صاحبه؛ حتى لا يبذل كرامة الوالد للرئيس الأجنبي، ولا كرامة الصديق للسلطان، ولا كرامة الولد للعثير، ولا كرامة الأب للابن؛ فإن لكل واحد من هؤلاء وأشباههم صنفًا من الكرامة وحقًّا من الجزاء ليس للآخر، ومتى خلط فيه اضطرب وفسد وحدثت الملامات. وإذا وفَّى كل واحد منهم حقه وقسطه من المحبة والخدمة والنصيحة كان عادلًا، وأوجبت له محبته وعدالته فيها محبته لصاحبه ومعامله. وكذلك يجب أن يجري الأمر في مؤانسة الأصحاب والخلطاء والمعاشرين من توفية حقوقهم وإعطائهم ما هو خاص بهم. ومن غش المحبة والصداقة كأن أسوأ حالًا ممن غش الدرهم والدينار، فإن الحكيم ذكر أن المحبة المغشوشة تنحلُّ سريعًا وتفسد وشيكًا، كما أن الدرهم والدينار إذا كانا مغشوشين فسدا سريعًا. وهذا واجب في جميع أنواع المحبات؛ ولذلك يتعاطى العاقل أبدًا نمطًا واحدًا ويلزم مذهبًا واحدًا في إرادة الخير، ويفعل جميع ما يفعله من أجل ذاته، ويرى خيره عند غيره كما يراه عند نفسه. وأما صديقه فقد قلنا: إنه هو هو إلا أنه غُيِّر بالشخص. أما سائر مخالطيه ومعارفه فإنه يسلك بهم مسلك أصدقائه كأنه مجتهد في أن يبلغ بهم وفيهم منازل الأصدقاء بالحقيقة، وإن كان لا يمكن ذلك في جميعهم، فهذه سيرة الخيِّر في نفسه وفي رؤسائه وأهله وعشيرته وأصدقائه وسلطانه.

الشرِّير

وأما الشرِّير فإنه يهرب من هذه السيرة وينفر منها لرداءة الهيئة التي حصلت له ولمحبة البطالة والتكاسل عن معرفة الخير والتمييز بينه وبين الشر وبين ما هو مظنون عنده خيرًا وليس بخير. ومن كان على هذه الحالة من الشر ورداءة الهيئة كانت أفعاله كلها رديئة. ومن كانت ذاته رديئة هرب من ذاته لأجل أن الرداءة مهوب منها، واضطر إلى صحبة قوم يناسبونه ليفني عمره معهم، ويشتغل بهم عن ذاته وما يجده فيها من الاضطراب والقلق؛ ذلك أن هؤلاء الأشرار إذا خلوا بأنفُسهم تذكَّروا أفعالهم الرديئة وهاجت بهم القوى المتضادة التي تدعوهم إلى ارتكاب الشرور المتضادة، فيألمون من ذواتهم، وتتشاغب نفوسهم كل الشغب، وتجذبهم القوى التي فيهم، وهي التي لم يروضوها بالأدب الحقيقي إلى جهات مختلفة من اللذات الرديئة وطلب الكرامات التي لا يستحقونها والشهوات الرديئة التي تُهلكهم سريعًا. فإذا جذبتهم هذه القوى إلى جهات مختلفة أحدثت فيهم آلامًا كثيرة؛ لأنه لا يمكن أن يفرح ويحزن معًا ولا يرضى ويسخط في حال واحدة، ولا يستطيع أن يؤلف بين الأضداد حتى تجتمع له، فهو من شقائه يهرب من ذاته لأنها رديئة فاسدة متألمة كثيرة الشغب عليه، ويلتمس لعشرته ومخالطة من هو مثله أو أسوأ حالًا منه، فيجد للوقت راحة به وسكونًا إليه لأجل المشاكلة، ثم يعود بعد قليل وبالًا عليه وزيادة في خباله وفساده، فيألم به ويهرب منه، فليس له محب ولا ذاته، ولا له نصيح ولا نفسه. وليس يتحصل إلا على الندامة، ولا يرجع إلا إلى الشِّقْوة.

الخيِّر الفاضل

وأما الرجل الخيِّر الفاضل فإن سيرته جيدة محبوبة؛ فهو يحب ذاته وأفعاله، ويُسَرُّ بنفسه ويُسَرُّ به أيضًا غيره، ويختار كل إنسان مواصلته ومصادقته، فهو صديق نفسه والناس أصدقاؤه، وليس يضاده إلا الشرِّير فقط. ويعرض لمن هذه سيرته أن يُحسن إلى غيره بقصد وبغير قصد؛ وذلك أن أفعاله لذيذة محبوبة، واللذيذ المحبوب مختار، فيكثُر المقبلون عليه والمحتفون به والآخذون عنه. وهذا هو الإحسان الذاتي الذي يبقى ولا ينقطع ويتزايد على الأيام ولا ينتقص. وأما الإحسان العرَضي الذي ليس بخِلْقي ولا هو سيرة لصاحبه فإنه ينقطع ويلحق فيه اللوم. والمحبة التي تعرض منه تلحق بالمحبات اللوامة؛ ولذلك يوصي صاحبه بتربيته فيقال له تربية الصنعة أصعب من ابتدائها. والمحبة التي تحدث بين المحسن والمحسن إليه يكون فيها زيادة ونقصان؛ أعني أن محبة المحسن للمحسن إليه أشد من محبة المحسن إليه للمحسن. واستدل أرسطوطاليس على ذلك بأن المُقرِض وصانع المعروف يهتم كل واحد منهما بمن أقرضه واصطنع المعروف عنده، ويتعاهدانهما ويحبان سلامتهما. أما المقرض فربما أحب سلامة المقترض لمكان الأخذ لا لمكان المحبة؛ أعني أنه يدعو له بالسلامة والبقاء وسبوغ النعمة ليصل إلى حقه. وأما المقترض فليس يُعنى كبير عناية بالمقرض ولا يدعو له بهذه الدعوات. وأما مصطنع المعروف فإنه بالحق الواجب يود الذي اصطنع إليه معروفه وإن لم ينتظر منه منفعة؛ ذلك أن كل صانعِ فعلٍ جيدٍ محمودٍ يحب مصنوعه. فإذا كان مصنوعه مستقيمًا جيدًا وجب أن يكون محبوبًا في الغاية، فقد تبيَّن أن محبة المحسن أشد من محبة المحسَن إليه. وأما المحسَن إليه فشهوته للإحسان أشد وأزيد من شهوة المحسن. وأيضًا فإن المحبة المكتسبة بالإحسان المربَّاة على طول الزمان تجري مجرى القنيات التي يُتعَب بتحصيلها، فإن ما يُكتسب منها على سبيل التعب والنصب تكون المحبة له أشد والضنُّ به أكثر. ومن وصل إلى المال بغير تعب لم يكترث به ولم يشح عليه وبذله في غير موضعه، كما يفعل الوراث ومن يجري مجراهم. وأما من وصل إليه بتعب وسافر في طلبه وشقيَ بجمعه، فإنه لا محالة يكون شديد الضن به والمحبة له، ولهذه العلة صارت الأُم أكثر محبة للولد من الأب، ويعرض لها من الحنين والوله أضعاف ما يعرض للأب. وبهذا النوع من المحبة يحب الشاعر شعره ويعجب به أكثر من إعجاب غيره، وكل فاعل فعل يتعب به فهو يحب فعله. وأيضًا فإن المنفعل لا يتعب كتعب الفاعل والآخذ منفعل والمعطي فاعل. فمن هذه الوجوه يتبين أن مصطنع المعروف يحب من أحسن إليه حبًّا شديدًا، ومن الناس من يصطنع المعروف لأجل الخير نفسه، ومنهم من يصطنعه لأجل الذكر الجميل، ومنهم من يصطنعه رياءً فقط، ومن البيِّن أن أعلاهم مرتبة من صنعه لذاته؛ أعني لِذَات الخير. وصاحب هذه الرتبة لا يعرف الذكر الجميل والثناء الباقي ومحبة من لم يصطنع المعروف عنده، وإن لم يقصد ذلك الفعل ولا بالنية. ولما حكمنا فيما تقدَّم حكمًا مقبولًا لا يرده أحد، وهو أن كل إنسان يحب نفسه، وكانت هذه المحبة لا محالة تنقسم بالأقسام الثلاثة التي ذكرناها؛ أعني اللذة والمنافع والخير، وجب من ذلك ألَّا يوجد من لا يميز بين هذه الأقسام حتى يعرف الأفضل فالأفضل منها. فلا يدرى كيف يحسن إلى نفسه التي هي محبوبته فيقع في ضروب من الخطأ لجهله بالخير الحقيقي؛ ولذلك صار بعض الناس يختار لنفسه سيرة اللذة وبعضهم سيرة الكرامة والمنافع؛ لأنهم لا يعرفون ما هو أفضل منها. وأما من عرف سيرة الخير وعلو مرتبته فهو لا محالة يختار لنفسه أفضل السير وأكرم الخيرات، فلا يؤثِر اللذات البهيمية ولا اللذات الخارجة عن نفسه؛ فإنها عرضية كلها ومستحيلة ومنحلة، لكنه يختار لها أتم الخيرات وأعلاها وأعظمها، وهو الخير الذي لها بالذات؛ أعني الذي ليس بخارج عنها، وهو الذي يُنسب إلى جزئه الإلهي. ومن سار بهذه السيرة واختارها لنفسه فقد أحسن إليها وأنزلها في الشرف الأعلى وأهَّلها لقبول الفيض الإلهي واللذة الحقيقية التي لا تفارقه أبدًا. وإذا كان بهذه الحال فهو لا محالة يفعل سائر الخيرات الأُخر وينفع غيره ببذل الأموال والسماحة بجمع ما يتشاحُّ الناس عليه، ويخص أصدقاءه من ذلك بكل ما يضيق عنه ذرع أصحاب السير الباقية، فيصير معظَّمًا عند كل واحد ولا سيما عند صديقه. وقد بيَّنَّا فيما تقدم أن الإنسان مدني بالطبع وشرحنا معنى المدني. فإذًا بالواجب يكون تمام سعادته الإنسانية عند أصدقائه. ومن كان تمامه عند غيره فمن المحال أن يصل مع الوحدة والتفرُّد إلى سعادته التامة.

الأصدقاء

فالسعيد إذًا من اكتسب الأصدقاء واجتهد في بذل الخيرات لهم ليكتسب بهم ما لا يقدر أن يكتسبه لذاته، فيلتذَّ بهم أيام حياته ويلتذُّون أيضًا به. وقد شرحنا حال هذه اللذة وأنها باقية إلهية غير منحلَّة ولا متغيرة، وهؤلاء في جملة الناس قليلون جدًّا. وأما أصحاب اللذات البهيمية والنافع فيها فكثيرون جدًّا. وقد يكتفى من هؤلاء بالقليل كالأبازير في الطعام وكالملح خاصة. وأما الصديق الأول الذي ذكرنا وصفه، فلا يمكن أن يكون كثيرًا لعزته، ولأنه محبوب بإفراط، وإفراط المحبة لا يصح، ولا يتم إلا لواحد. وأما حسن العشرة وكرم اللقاء والسعي لكل أحد بسيرة الصديق الحقيقي، فمبذول لأجل طلب الفضيلة، ولأنا قد قلنا فيما تقدَّم أن الرجل الخيِّر الفاضل يسلك في عشرة معارفه مسلك الصديق، وإن لم تتم الصداقة الحقيقية فيهم. وأرسطوطاليس يقول: «إن الإنسان محتاج إلى الصديق عند حسن الحال وعند سوء الحال. فعند سوء الحال يحتاج إلى معونة الأصدقاء، وعند حسن الحال يحتاج إلى المؤانسة وإلى من يحسن إليه.» ولعمري إن الملك العظيم يحتاج إلى من يصطنعه ويضع إحسانه عنده، كما أن الفقير من الناس يحتاج إلى صديق يصطنعه ويضع عنده المعروف. قال: «ومن أجل فضيلة الصداقة يشارك الناس بعضهم بعضًا ويتعاشرون عشرة جميلة ويجتمعون في الرياضات والصيد والدعوات.» وأما سقراطيس فإنه قال بهذه الألفاظ: «إني لأُكثر التعجب ممن يعلِّم أولاده أخبار الملوك ووقائع بعضهم ببعض وذكر الحروب والضغائن، ومن انتقم أو وثب على صاحبه، ولا يخطر ببالهم أمر المودة وأحاديث الألفة وما يحصل من الخيرات العامة لجميع الناس بالمحبة والأنس، وأنه لا يستطيع أحد من الناس أن يعيش بغير المودة، وإن مالت إليه الدنيا بجميع رغائبها. فإن ظن أحد أن أمر المودة صغير فالصغير من ظن ذلك، وإن قدر أنه موجود ويسير الخطب يدرك بالهوينا فما أصعبه وما أعسر وجود صداقة يوثق بها عند البلوى.» ثم قال: «لكني أعتقد وأقول: إن قدر المودة وخطرها عندي أعظم من جميع ذهب كنوز قارون، ومن ذخائر الملوك، ومن جميع ما يتنافس فيه أهل الأرض من الجواهر، وما تحويه الدنيا برًّا وبحرًا، وما يتقلبون فيه من سائر الأمتعة والأثاث. ولا يعدل جميع ذلك ما اخترته لنفسي من فضيلة المودة؛ وذلك أن جميع ما أحصيته لا ينفع صاحبه إذا حلَّت به لوعة مصيبة في صديقه. وافهم من الصديق ها هنا أنه آخر هو أنت، سواء كان أخًا من نسب أو غريبًا أو ولدًا أو والدًا، ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مهم يساعده عليه سعادة عاجلة أو آجلة تتم له. فطوبى لمن أوتي هذه النعمة العظيمة وهو خلو من السلطان. وأعظم طوبى لمن أوتيه في سلطان؛ ذلك أن من باشر أمور الرعية وأراد أن يعرف أحوالهم وينظر في أمورهم حق النظر لن يكفيه أُذنان ولا عينان ولا قلب واحد، فإن وجد إخوانًا ذوي ثقة وجد بهم عيونًا وآذانًا وقلوبًا كأنها بأجمعها له، فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه، ورأى الغائب بصورة الشاهد، فأنَّى توجد هذه الفضيلة إلا عند الصديق وكيف يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق؟»

كيف يُختار الصديق؟

وإذ قد عرفنا هذه النعمة الجليلة الخطيرة، فيجب علينا أن ننظر كيف نقتنيها ومن أين نطلبها. وإذا حصلت لنا كيف نحتفظ بها؛ لئلا يصيبنا فيها ما أصاب الرجل الذي ضُرب به المثل حين طلب شاة سمينة، فوجدها وارمة فاغترَّ بها وظن الورم سِمنًا، فأخذه الشاعر فقال:

أُعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

لا سيما وقد علمنا أن الإنسان من بين الحيوان يتصنَّع حتى يظهر للناس منه ما لا حقيقة له؛ فيبذل ماله وهو بخيل ليقال هو جواد، ويُقدِم في بعض المواطن على بعض المخاوف ليقال هو شجاع. وأما سائر الحيوان فإن أخلاقها ظاهرة للناس من أول الأمر لا يتصنع فيها. وكذلك يكون حال من لا يعرف الحشائش والنبات، فإنها تشتبه في عينه حتى ربما تناول منها شيئًا وهو يظنه حلوًا فإذا طعِمه وجده مرًّا، وربما ظنه غذاء فيكون سمًّا. فينبغي لنا أن نحذر ركوب الخطر في تحصيل هذه النعمة الجليلة؛ حتى لا نقع في مودة المموهين الخداعين الذين يتصورون لنا بصورة الفضلاء الأخيار. فإذا حصلونا في شباكهم افترسونا كما تفترس السباع أكيلتها. والطرق إلى السلامة من هذا الخطر بحسب ما أخذناه عن سقراطيس إذا أردنا أن نستفيد صديقًا أن نسأل عنه كيف كان في صباه مع والديه ومع إخوته وعشيرته، فإن كان صالحًا معهم فارجُ الصلاح منه، وإلا فابعد منه وإياك وإياه. قال: «ثم اعرف بعد ذلك سيرته مع أصدقائه قبلك، فأضفها إلى سيرته مع إخوته وآبائه، ثم تتبَّع أمره في شكر من يجب عليه شكره أو كفره النعمة. ولست أعني بالشكر المكافأة التي ربما عجز عنها بالفعل، ولكن ربما عطل نيته في الشكر، فلا يكافئ بما يستطيع وبما يقدر عليه ويغتنم الجميل الذي يسدى إليه ويراه حقًّا له أو يتكاسل عن شكره باللسان. وليس أحد يتعذر عليه نشر النعمة التي تتولاه والثناء على صاحبها والاعتداد له بها. وليس شيء أشد احتياجًا للنقم من الكفر. وحسبك ما أعده الله لكافر نعمته من النقم مع تعاليه عن الاستضرار بالكفر. ولا شيء أجلب للنعمة ولا أشد تثبيتًا لها من الشكر. وحسبك ما وعد الله به الشاكرين مع استغنائه عن الشكر. فتعرَّف هذا الخلق ممن تريد مؤاخاته. واحذر أن تُبتلى بالكفر للنعم. ولا تكن بالمستحقر لأيادي الإخوان وإحسان السلطان. ثم انظر إلى ميله إلى الراحات وتباطئه عن الحركة التي فيها أدنى نصَب؛ فإن هذا خلق رديء ويتبعه الميل إلى اللذات فيكون سببًا للتقاعد عما يجب عليه من الحقوق. ثم انظر نظرًا شافيًا في محبته للذهب والفضة واستهانته بجمعهما وحرصه عليهما، فإن كثيرًا من المتعاشرين يتظاهرون بالمحبة ويتهادَون ويتناصحون، فإذا وقعت بينهم معاملة في هذين الحجرين هرَّ بعضهم على بعضٍ هرير الكلاب، وخرجوا إلى ضروب العداوة. ثم انظر في محبته للرئاسة والتفريط، فإن من أحب الغلبة والترؤس وأن يفرِّط لا ينصفك في المودة، ولا يرضى منك بمثل ما يعطيك، ويحمله الخيلاء والتيه على الاستهانة بأصدقائه، وطلب الترفُّع عليهم، ولا تتم مع ذلك مودة ولا غبطة، ولا بد من أن تئول الحال بينهم إلى العداوة والأحقاد والأضغان الكثيرة. ثم انظر هل هو ممن يستهزئ بالغناء واللحون وضروب اللهو واللعب وسماع المجون والمضاحيك، فإن كان كذلك فما أشغله عن مساعدات إخوانه ومواساتهم، وما أشد هربه عن مكافأة بإحسان واحتمال النصَب ودخول تحت جميل. فإن وجدته بريئًا من هذه الخلال فلتحتفظ عليه ولترغب فيه ولتكتفِ بواحد إن وُجد؛ فإن الكمال عزيز. وأيضًا فإن من كثرت أصدقاؤه لم يفِ بحقوقهم واضطر إلى الإغضاء عن بعض ما يجب عليه والتقصير في بعضه، وربما ترادفت عليه أحوال متضادة؛ أعني أن تدعوه مساعدة صديق إلى أن يُسَرَّ بسروره ومساعدة آخر أن يغتمَّ بغمه، وأن يسعى بسعي واحد ويقعد بقعود آخر مع أحوال تشبه هذه كثيرة مختلفة، ولا ينبغي أن يحملك ما حضضتك عليه من طلب الفضائل ممن تصادقه على تتبُّع صغار عيوبه، فتصير بذلك إلى ألَّا يسلم لك أحد، فتبقى خلوًا من الصديق، بل يجب أن تغض عن المعايب اليسيرة التي لا يسلم من مثلها البشر، وتنظر ما تجده في نفسك من عيب، فتحتمل مثله من غيرك، واحذر عداوة من صادقته أو خاللته أو خالطته مخالطة الصديق، واسمع قول الشاعر:

عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرنَّ من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يكون من الطعام أو الشراب

آداب الصداقة

لذلك يجب عليك متى حصل لك صديق أن تُكثر مراعاته وتبالغ في تفقُّده، ولا تستهين باليسير من حقه عند مهمٍّ يعرِض له أو حادث يحدث به. فأما في أوقات الرخاء فينبغي أن تلقاه بالوجه الطلق والخلق الرحب، وأن تُظهر له في عينك وحركاته وفي هشاشتك وارتياحك عند مشاهدته إياك ما يزداد به في كل يوم وكل حال ثقةً بمودتك وسكونًا إليك، ويرى السرور في جميع أعضائك التي يظهر السرور فيها إذا لقيك، فإن التحفي الشديد عند طلعة الصديق لا يخفى، وسرور الشكل بالشكل أمر غير مُشْكل. ثم ينبغي أن تفعل مثل ذلك بمن تعلم أنه يؤثِره ويحبه من صديق أو ولد أو تابع أو حاشية وتُثني عليهم من غير إسراف يخرج بك إلى الملق الذي يمقتك عليه ويظهر له منك تكلُّف فيه، وإنما يتم لك ذلك إذا توخيت الصدق في كل ما تُثني به عليه. والزم هذه الطريقة حتى لا يقع منك توانٍ فيها بوجه من الوجوه وفي حال من الأحوال، فإن ذلك يجلب المحبة الخالصة ويُكسب الثقة التامة ويهديك محبة الغرباء ومن لا معرفة لك به. وكما أن الحمَام إذا ألِف بيوتنا وآنَس لمجالسنا وطاف بها يجلب لنا أشكاله وأمثاله، فكذلك حال الإنسان إذا عرفَنا واختلط بنا اختلاط الراغب فينا الآنس بنا. بل يزيد على الحيوان الغير الناطق بحسن الوصف وجميل الثناء ونشر المحاسن. واعلم أن مشاركة الصديق في السراء إذا كنت فيها، وإن كانت واجبة عليك حتى لا تستأثرها ولا تختصَّ بشيء منها، فإن مشاركته في الضراء أوجب وموقعها عنده أعظم. وانظر عند ذلك إن أصابته نكبة أو لحقته مصيبة أو عثر به الدهر كيف تكون مواساتك له بنفسك ومالك، وكيف يظهر له تفقُّدك ومراعاتك. ولا تنتظرن به أن يسألك تصريحًا أو تعريضًا، بل اطلع على قلبه وأسبق إلى ما في نفسه، وشاركه في مضض ما لحقه ليخفَّ عنه. وإن بلغت مرتبة من السلطان والغنى فاغمس إخوانك فيها من غير امتنان ولا تطاول. وإن رأيت من بعضهم نبوًّا عنك أو نقصانًا مما عهدته فداخلْه زيادة مداخلة واختلطْ به واجتذبه إليك؛ فإنك إن أنِفت من ذلك أو تداخَلك شيء من الكبر والصلف عليهم انتقض حبل المودة وانتكثت قوته، ومع ذلك فلست تأمن أن يزولوا عنك فتستحي منهم وتضطر إلى قطيعتهم حتى لا تنظر إليهم. ثم حافظ على هذه الشروط بالمداومة عليها لتبقى المودة على حال واحدة. وليس هذا الشرط خاصًّا بالمودة، بل هو مطرد في كل ما يخصك أعني أن مركوبك وملبوسك ومنزلك متى لم تراعها مراعاة متصلة فسدت وانتقضت. فإذا كانت صورة حائطك وسطوحك كذلك ومتى غفلت أو توانيت لم تأمن تقوُّضه وتهدُّمه، فكيف ترى أن تجفو من ترجوه لكل خير وتنتظر مشاركته في السرَّاء والضرَّاء؟ ومع ذلك فإن ضرر تلك يختص بك بمنفعة واحدة. وأما صديقك فوجوه الضرر التي تدخل عليك بجفائه وانتقاض مودته كثيرة عظيمة؛ ذلك أنه ينقلب عدوًّا وتتحول منافعه مضارًّا، فلا تأمن غوائله وعداوته مع عدمك الرغائب والمنافع به، وينقطع رجاؤك فيما لا تجد له خلفًا ولا تستفيد عنه عوضًا ولا يسد مسدَّه شيء. وإذا راعيت شروطه وحافظت عليها بالمداومة أمِنت جميع ذلك. ثم احذر المراء معه خاصة وإن كان واجبًا أن تحذره مع كل أحد، فإن مماراة الصديق تقتلع المودة من أصلها؛ لأنها سبب الاختلاف، والاختلاف سبب التباين الذي هربنا منه إلى ضده وقبحنا أثره واخترنا عليه الألفة التي طلبناها وأثنينا عليها، وقلنا: إن الله عز وجل دعا إليها بالشريعة القويمة. وإني لأعرف من يؤثِر المراء ويزعم أنه يقدح خاطره ويشحذ ذهنه ويثير شكوكه. فهو يتعمد في المحافل التي تجمع رؤساء أهل النظر ومتعاطي العلوم مماراة صديقه، ويخرج في كلامه معه إلى ألفاظ الجهال من العامة وسقاطهم ليزيد في خجل صديقه، وليظهر انقطاعه وتبلُّجه. وليس يفعل ذلك عند خلوته به ومذاكرته له، وإنما يفعله حين يظن به أنه أدق نظرًا أو أحضر حجة وأغزر علمًا وأحدُّ قريحة. فما كنت أشبهه إلا بأهل البغي وجبابرة أصحاب الأموال والمشبهين بهم من أهل البدع، فإن هؤلاء يستحقر بعضهم بعضًا ولا يزال يصغر بصاحبه ويزدري على مروءته ويتطلب عيوبه ويتتبع عثراته، ويبالغ كل واحد فيما يقدر عليه من إساءة صاحبه، حتى يؤَدِّي بهم الحال إلى العداوة التامة التي يكون معها السعاية وإزالة النعم وتجاوز ذلك إلى سفك الدم وأنواع الشرور. فكيف يثبت مع المراء محبة ويُرجى به ألفة؟ ثم احذر في صديقك إن كنت متحققًا بعلم أو متحليًا بأدب أن تبخل عليه بذلك الفن، أو يرى فيك أنك تحب الاستبداد دونه والاستئثار عليه؛ فإن أهل العلم لا يرى بعضهم في بعض ما يراه أهل الدنيا بينهم؛ ذلك أن متاع الدنيا قليل، فإذا تزاحم عليه قوم ثلم بعضهم حال بعض، ونقص حظ كل واحد من حظ الآخر. وأما العلم فإنه بالضد وليس أحد ينقص منه ما يأخذه غيره، بل يزكو على النفقة ويربو مع الصداقة ويزيد على الإنفاق وكثرة الخرج. فإذا بخل صاحب علم بعلمه فإنما ذلك لأحوال فيه كلها قبيحة، وهي أنه إما أن يكون قليل البضاعة منه، فهو يخاف أن يفنى ما عنده أو يرد عليه ما لا يعرفه، فيزول تشرُّفه عند الجهَّال، وإما أن يكون مكتسبًا به فهو يخشى أن يضيق مكسبه به وينقص حظه منه، وإما أن يكون حسودًا، والحسود بعيد من كل فضيلة لا يوده أحد. وإني لأعرف من لا يرضى بأن يبخل بعلم نفسه حتى يبخل بعلم غيره ويكثر عتبه وسخطه على من لا يفيد غيره من التلامذة المستحقين لفائدة العلم، وكثيرًا ما يتوصل إلى أخذ الكتب من أصحابها ثم منعهم منها. وهذا خلق لا تبقى معه مودة، بل يجلب إلى صاحبه عداوة لا يحسبها ويقطع إطماع أصدقائه من صداقته. ثم احذر أن تنبسط بأصحابك ومن يخلو بك من اتباعك، وتحمل أحدًا منهم على ذكر شيء في نفسه. ولا ترخِّص في عيب شيء يتصل به فضلًا عن عيبه، ولا يطمعن أحد في ذلك من أولى أنسبائك والمتصلين بك لا جدًّا ولا هزلًا. وكيف تحتمل ذلك فيه وأنت عينه وقلبه وخليفته على الناس كلهم، بل أنت هو، فإنه إن بلغه شيء مما حذَّرتك منه لم يشكَّ أن ذلك كان عن رأيك وهواك، فينقلب عدوًّا وينفر عنك نفور الضد. فإن عرفت منه أنت عيبًا فوافقه عليه موافقة لطيفة ليس فيها غلظة؛ فإن الطبيب الرقيق ربما بلغ بالدواء اللطيف ما يبلغه غيره بالشق والقطع والكي، بل ربما توصَّل بالغذاء إلى الشفاء واكتفى به عن المعالجة بالدواء. ولست أحب أن تُغضي عما تعرفه في صديقك وأن تترك موافقته عليه بهذا الضرب من الموافقة، فإن ذلك خيانة منك ومسامحة فيما يعود ضرره عليه. وليس من حق الصديق أن يعرف ويبذل بعيوب الأضداد حتى يعيبوه ويثلبوه. ثم احذر النميمة وسماعها؛ وذلك أن الأشرار يدخلون بين الأخيار في صورة النصحاء، فيوهمونهم النصيحة وينقلون إليهم في عرض الأحاديث اللذيذة أخبار أصدقائهم محرَّفة مموَّهة، حتى إذا تجاسروا عليهم بالحديث المختلق يصرحون لهم بما يُفسد موداتهم ويُشوِّه وجوه أصدقائهم إلى أن يبغض بعضهم بعضًا. وللقدماء في هذه المعنى كتب مؤلَّفة يُحذِّرون فيها من النميمة، ويشبِّهون صورة النمام بمن يحك بأظافيره أصول البنيان القوية حتى يؤثِّر فيها، ثم لا يزال يزيد ويُمعن حتى يُدخل فيها المعول فيقلعه من أصله، ويضربون له الأمثال الكثيرة المشبهة بحديث الثور مع الأسد في كتاب كليلة ودمنة. ونحن نكتفي بهذا القدر من الإيماء لئلا نخرج عن رسم كتابنا وعما بنينا عليه مذهبنا من الإيجاز في الشرح. ولست أترك مع الإيجاز والاختصار تعظيم هذا الباب وتكريره عليك؛ لتعلم أن القدماء إنما ألَّفوا فيه الكتب وضربوا له الأمثال وأكثروا فيه من الوصايا لما وراءه من النفع العظيم عند السامعين من الأخيار، ولما خافوه من الضرر الكثير على من يستهين به من الأغمار، وليعلم المثل المضروب في السباع القوية إذا دخل عليها الثعلب الرواغ على ضعفه أهلكها ودمرها. وفي الملوك الحصفاء يدخل بينهم أهل النميمة في صورة الناصحين، حتى يُفسدوا نيتهم على وزرائهم المبالغين في نصيحتهم المجتهدين في تثبيت ملكهم إلى أن يغضبوا عليهم ويصرفوا به عيونهم عنهم، ويصيروا من محبتهم وإيثارهم على آبائهم وأولادهم إلى أن يملئوا عيونهم منهم وإلى أن يبطشوا بهم قتلًا وتعذيبًا وهم غير مذنبين ولا مجترمين ولا مستحقين إلا الكرامة والإحسان. فإذا بلغ بهم من الإفساد والإضرار ما بلغوه من هؤلاء فبالأحرى أن يبلغوه منا إذا لم يجدوه في أصدقائنا الذين اخترناهم على الأيام وادخرناهم للشدائد وأحللناهم محل أرواحنا وزدناهم تفضلًا وإكرامًا. ويتبين لك من جميع ما قدمناه أن الصداقة وأصناف المحبات التي تتم بها سعادة الإنسان من حيث هو مدني بالطبع إنما اختلفت ودخل فيها ضروب الفساد، وزال عنها معنى التأحد وعرض لها الانتشار، حتى احتجنا إلى حفظها والتعب الكثير بنظامها من أجل النقائص الكثيرة التي فينا وحاجتنا إلى إتمامها مع الحوادث التي تعرض لنا من الكون والفساد، فإن الفضائل الخلقية إنما وُضعت لأجل المعاملات والمعاشرات التي لا يتم الوجود الإنساني إلا بها؛ ذلك أن العدل إنما احتيج إليه لتصحيح المعاملات، وليزول به معنى الجور الذي هو رذيلة عند المتعاملين. وإنما وضعت العفة فضيلة لأجل اللذات الرديئة التي تُحيي الخيانات العظيمة على النفس والبدن. وكذلك الشجاعة وُضعت فضيلة من أجل الأمور الهائلة التي يجب أن يُقدِم الإنسان عليها في بعض الأوقات ولا يهرب منها، وعلى هذا جميع الأخلاق المرضية التي وصفناها وحضضنا على اقتنائها. وأيضًا فإن جميع هذه الفضائل تحتاج إلى أسباب خارجة من الأموال واكتسابها من وجوهها، ليمكنه أن يفعل بها فعل الأحرار. والعادل يحتاج إلى مثل ذلك ليجازي من عاشره بجميل ويكافئ من عامله بإحسان. وجميعها لا تقوم إلا بالأبدان والأنفُس وما هو خارج عنها على حسب تقسيمنا السعادات فيما مضى. وكلما كانت الحاجات كثيرة احتيج إلى المواد الخارجة عنها أكثر. فهذه حالة السعادات الإنسانية التي لا تتم لنا إلا بالأفعال والأحوال المدنية وبالأعوان الصالحين والأصدقاء المخلصين، وهي كما تراها كثيرة، والتعب بها عظيم، ومن قصر فيها قصرت به السعادة الخاصة به؛ ولذلك صار الكسل ومحبة الراحة من أعظم الرذائل؛ لأنهما يحولان بين المرء وبين جميع الخيرات والفضائل، ويسلخان الإنسان من الإنسانية؛ ولذلك ذممنا المتوسمين بالزهد إذا تفرَّدوا عن الناس وسكنوا الجبال والمفازات، واختاروا التوحش الذي هو ضد التمدن؛ لأنهم ينسلخون عن جميع الفضائل الخلقية التي عددناها كلها. وكيف يعفُّ ويعدل ويسخو ويَشجع من فارق الناس وتفرَّد عنهم وعدم الفضائل الخلقية، وهل هو إلا بمنزلة الجماد والميت؟! وأما محبة الحكمة والانصراف إلى التصور العقلي واستعمال الآراء الإلهية فإنها خاصة بالجزء الإلهي من الناس. وليس يعرض لها شيء من الآفات التي تعرض للمحبات الأخرى الخلقية وضروب الفساد؛ ولذلك قلنا: إنها لا تقبل النميمة ولا نوعًا من أنواع الشرور؛ لأنها الخير المحض وسببها الخير الأول الذي لا تشوبه مادة ولا تلحقه الشرور التي في المادة، وما دام الإنسان يستعمل الأخلاق والفضائل الإنسانية، فإنها تعوقه عن هذا الخير الأول وهذه السعادة الإلهية، ولكن ليس يتم له إلا بتلك، ومن أصَّل تلك الفضائل بنفسه، ثم اشتغل عنها بالفضيلة الإلهية، فقد اشتغل بذاته حقًّا، ونجا من مجاهدات الطبيعة وآلامها ومن مجاهدات النفس وقواها وصار مع الأرواح الطيبة، واختلط بالملائكة المقربين. فإذا انتقل من وجوده الأول إلى وجوده الثاني حصل في النعيم الأبدي والسرور السرمدي.

رأي أرسطوطاليس في السعادة التامة

وقد أطلق أرسطوطاليس جميع هذه الألفاظ، وقال: إن السعادة التامة الخالصة هي لله عز وجل ثم للملائكة والمتألِّهين، ثم قال: ولا ينبغي أن يضاف إلى الملائكة تلك الفضائل التي عددناها في سعادة الإنسان، فإنهم لا يتعاملون ولا يكون عند أحد منهم وديعة فيحتاج إلى ردها، ولا لأحد منهم تجارة فيحتاج إلى العدالة، ولا يفزعه شيء فيحتاج إلى النجدة، ولا له نفقات فيحتاج إلى الذهب والفضة، ولا له شهوات فيحتاج إلى ضبط النفس وإلى فضيلة العفة، ولا هو مركَّب من الاستقصات الأربعة التي تحل في أضدادها فيحتاج إلى الغذاء. فإذا هؤلاء الأبرار المطهرون من بين خلق الله عز وجل غير محتاجين إلى الفضائل الإنسية، والله تعالى وتقدَّس وجلَّ أعلى من ملائكته فيجب أن ننزهه عن جميع ما ذكرناه من فضائل الإنسان، وإنما نذكره بالخير البسيط الذي يشبهه وننسب إليه الأمور العقلية التي تليق به. فبالحق الواجب الذي لا مرية فيه لا يحبه إلا السعيد الخير من الناس الذي يعرف السعادة والخير بالحقيقة؛ فلذلك يتقرب إليه بهما جهده، ويطلب مرضاته بقدر طاقته، ويتقبل أوامره بنحو استطاعته. ومن أحب الله تعالى هذه المحبة وتقرَّب إليه هذا التقرب وأطاعه هذه الطاعة، أحبه الله وقرَّبه وأرضاه، واستحق خلته التي أطلقتها الشريعة على بعض البشر، حيث قيل: إبراهيم خليل الله. وأما أرسطوطاليس فإنه أطلق بعد ذلك بالعلة شيئًا غير مطلق في لغتنا، وذلك أنه قال: «من أحب الله وتعاهده كما يتعاهد الأصدقاء بعضهم بعضًا أحسن إليه.» ولذلك يُظن بالحكيم اللذات العجيبة وضروب الفرح الغريبة، ويرى من تحقق بالحكمة أنها مُلِذَّة غاية الالتذاذ فلا يلتفت إلى غيرها ولا يُعرِّج على سواها. وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالحكيم السعيد التام الحكمة هو الله تعالى، فليس يحبه إلا السعيد الحكيم بالحقيقة؛ لأن الشبيه إنما يُسَرُّ بشبيهه فقط؛ ولذلك صارت هذه السعادة أرفع وأعلى من تلك السعادة التي ذكرناها. وهي غير منسوبة إلى الإنسان؛ لأنها مهذَّبة من الحياة الطبيعية، مبرَّأة من القوى النفسانية، مباينة لجميعها غاية المباينة، وإنما هي موهبة إلهية يهبها الباري جلَّت عظمته لمن اصطفاه من عباده، ثم التمسها منه وسعى لها سعيها ورغب فيها ولزمها مدة حياته واحتمل المشقة والتعب، فإن من لم يصبر على إدامة التعب اشتاق اللعب.

الراحة البدنية ليست من أسباب السعادة

ذلك أن اللعب يشبه الراحة، والراحة ليست من تمام السعادة، ولا من أسبابها، وإنما يميل إلى الراحات البدنية من كان طبيعي الشكل بهيمي النِّجَار كالعبيد والصبيان والبهائم، فليس يُنسب الحيوان غير الناطق ولا الصبيان والعبيد إلى السعادة، ولا من كان مناسبًا لهم. وأما العاقل الفاضل فإنه يطلب بهمته أعلى المراتب، وأرسطوطاليس يقول: «لا ينبغي أن تكون همم الإنسان إنسية وإن كان إنسانًا، ولا يرضى بهمم الحيوان الميت وإن كان هو أيضًا ميتًا، بل يقصد بجميع قواه أن يحيا حياة إلهية؛ فإن الإنسان وإن كان صغير الجثة فهو عظيم بالحكمة شريف بالعقل، والعقل يفوق جميع الخلائق؛ لأنه الجوهر الرئيس المستولي على الكل بأمر مبدعه تعالى جدُّه.» وقد قلنا فيما تقدم: إن الإنسان ما دام في هذا العالم فهو محتاج إلى حسن الحال الخارجة عنه، ولكن ينبغي أن ينصرف إلى طلب ذلك بقوَّته كلها، ولا يطلب الاستكثار منه. فقد يصل إلى الفضيلة من ليس بكثير المال ولا ظاهر اليسار، فإن الفقير من المال والأملاك قد يفعل الأفعال الكريمة؛ ولذلك قالت الحكماء: إن السعداء هم الذين رُزقوا القصد من الخيرات الخارجة عنهم، وفعلوا الأفعال التي تقتضيها الفضيلة، وإن كانت فيهم قليلة. هذا كلام الحكيم في هذه المرتبة التي وعدناك الكلام فيها. وهو يقول بعد ذلك: «ليس في معرفة الفضائل كفاية، بل الكفاية في العمل بها، ومن الناس من ينصاع إلى الفضائل وينقاد إلى الموعظة ويرغب في الخيرات، وهؤلاء قليلون، وهم الذين يمتنعون من جميع الرداءات والشرور؛ وذلك للغريزة الجيدة والطبع الجيد الفائق. ومنهم من ينقاد إلى الخيرات حتى يمتنع من الرداءات والشرور بالوعيد والفزع والإنذارات من العذاب، فيهرب من الجحيم والهاوية، وما أُعِدَّ فيها من الآلام.» ولذلك حكمنا أن بعض الناس أخيار بالطبع، وبعضهم أخيار بالشرع وبالتعلم؛ فالشريعة تجري لهؤلاء جري الماء للإنسان الذي به يسيغ غصته، ومن لا ينقاد لها فهو كالشَّرِق بالماء، فلا يشرب الماء ولا يجده يسيغ غصته، وهو الهالك الذي لا حيلة فيه، ولا طمع في إصلاحه وبرئه. ولهذه العلة قلنا: إن من كان بالطبع خيرًا فاضلًا؛ فذلك لمحبة الله إياه. وليس أمره إلينا ولا نحن كنا سببه، بل الله عز وجل. ومثل هذا هو الذي يقول فيه أرسطوطاليس: إن عناية الله به أكبر. فتحصَّل مما قدمناه أن أصناف السعداء من الناس أربعة وهم موجودون بالتصفح والحس؛ وذلك أنَّا نجد من الناس من هو خيِّر فاضل من مبدأ تكوينه، نرى فيه النجابة طفلًا، ونتفرس فيه الفلاحة ناشئًا بأن يكون حيًّا كريم الخيم، يؤثِر مجالسة الأخيار ومؤانسة الفضلاء، وينفر من أضدادهم. وليس يكون بذلك إلا بعناية تلحقه من أول مولده كما قلناه، ونجد أيضًا من لا يكون بهذه الصفة من مبدأ تكوينه، بل يكون كسائر الصبيان إلا أنه يسعى ويجتهد ويطلب الحق إذا رأى اختلاف الناس فيه، ولا يزال كذلك حتى يبلغ مرتبة الحكماء؛ أعني أن يصير علمه صحيحًا وعمله صوابًا. وليس يبلغ هذه الدرجة إلا بالتفلسف واطِّراح العصبيات وسائر ما حذرنا منه. ونجد أيضًا من يوجد بهذه السيرة أخذًا على الإكراه، إما بالتأديب الشرعي وإما بالتعليم الحكمي. ومعلوم أن المطلوب هو القسم الثاني إذا كانت الأقسام الباقية هي من خارج ولا يمكن أن تُطلب؛ أعني أن من يتفق له في أصل مولده السعادة ومن يُكره عليها ليس من أقسام الطالب المجتهد، وتبين أيضًا مقام الطالب المجتهد ومنزلته من السعادة التامة الحقيقية، وأنه وحده من بين سائر الطبقات هو السعيد الكامل المقرَّب إلى الله عز وجل المحب المطيع المستحق خلَّته ومحبته، كما تقدم وصفه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤