المقالة السادسة
دواء النفوس
نبتدئ — بعون الله وتوفيقه وتأييده — في هذه المقالة بذكر شفاء الأمراض التي تلحق نفس الإنسان وعلاجها، ونذكر الأسباب والعلل التي تولدها وتحدث منها، فإن حذاق الأطباء لا يقدمون على علاج مرض جسماني إلا بعد أن يعرفوه، ويعرفوا السبب والعلة فيه، ثم يرومون مقابلته بأضداده من العلاجات، ويبتدءون من الحمية والأدوية اللطيفة إلى أن ينتهوا في بعضها إلى استعمال الأغذية الكريهة والأدوية البشعة وفي بعضها إلى القطع بالحديد والكي بالنار. ولما كانت النفس قوة إلهية غير جسمانية، وكانت مع ذلك مستعملة لمزاج خاص ومربوطة به رباطًا طبيعيًّا إلهيًّا لا يفارق أحدهما صاحبه إلا بمشيئة الخالق عز وجل، وجب أن نعلم أن أحدهما متعلق بصاحبه متغير بتغيره، فيصح بصحته ويمرض بمرضه، ونحن نرى ذلك مشاهدة وعيانًا بما يظهر لنا من أفعالها؛ وذلك أنا كما نرى المريض من جهة بدنه لا سيما إن كان سبب مرضه أحد الجزأين الشريفين؛ أعني الدماغ والقلب، يتغير عقله ويمرض حتى ينكر ذهنه وفكره وتخيله وسائر قوى نفسه الشريفة ويحس هو من نفسه بذلك. كذلك أيضًا نرى المريض من جهة نفسه إما بالغضب وإما بالحزن وإما بالعشق وإما بالشهوات الهائجة به تتغير صورة بدنه حتى يضطرب ويرتعد ويصفر ويحمر ويهزل ويسمن ويلحقه ضروب التغير المشاهدة بالحس؛ فيجب لذلك أن نتفقد مبدأ الأمراض إذا كان من نفوسنا، فإن كان مبدؤها من ذاتها كالفكر في الأشياء الرديئة وإجالة الرأي فيها وكاستشعار الخوف والخوف من الأمور العارضة والمترقبة والشهوات الهائجة قصدنا علاجها بما يخصها. وإن كان مبدؤها من المزاج ومن الحواس كالخور الذي مبدؤه ضعف حرارة القلب مع الكسل والرفاهية وكالعشق الذي مبدؤه النظر مع الفراغ والبطالة قصدنا أيضًا علاجه بما يخص هذه. وأيضًا لما كان طب الأبدان ينقسم بالقسمة الأولى إلى قسمين أحدهما حفظ صحتها إذا كانت حاضرة والآخرة ردها إليها إذا كانت غائبة، وجب أن نقسم طب النفوس هذه القسمة بعينها، فنردها إذا كانت غائبة، ونتقدم في حفظ صحتها إذا كانت حاضرة، فنقول: إذا كانت خيِّرة فاضلة تحب نَيل الفضائل وتحرص على إصابتها، وتشتاق إلى العلوم الحقيقية والمعارف الصحيحة، فيجب على صاحبها أن يعاشر من يجانسه ويطلب من يشاكله، ولا يأنس بغيرهم ولا يجالس سواهم. ويحذر كل الحذر من معاشرة أهل الشر والمجون والمجاهرين بإصابة اللذات القبيحة وركوب الفواحش المفتخرين بها المنهمكين فيها، ولا يصغي إلى أخبارهم مستطيبًا، ولا يروي أشعارهم مستحسنًا، ولا يحضر مجالسهم مبتهجًا؛ وذلك أن حضور مجلس واحد من مجالسهم وسماع خبر واحد من أخبارهم يعلق من وضره ووسخه بالنفس ما لا يغسل عنها إلا بالزمان الطويل والعلاج الصعب، وربما كان سببًا لفساد الفاضل المحنك وغواية العالم المستبصر حتى يصير فتنة لهما فضلًا عن الحدث الناشئ المسترشد. والعلة في ذلك أن محبة اللذات البدنية والراحات الجسمية طبيعة للإنسان لأجل النقائص التي فيه، فنحن بالجبلة الأولى والفطرة السابقة إلينا نميل إليها ونحرص عليها، وإنما نزم أنفُسنا عنها بزمام العقل حتى نقف عند ما يُرسم لنا، ونقتصر على المقدار الضروري منها، وإنما استثنيت في أول هذا الكلام وشرطت بما شرطت؛ لأن معاشرة الأصدقاء الذين ذكرت أحوالهم في المقالة المتقدمة، وحكمت بتمام السعادة معهم ولهم، لا تتم إلا بالمؤانسة والمداخلة.
اللذة التي تطيقها الشريعة
ولا بد في ذلك من المزاح المستعذَب والأحاديث المستطابة والفكاهة المحبوبة وإصابة اللذة التي تطيقها الشريعة ويقدرها العقل حتى لا يتجاوزها إلى الإسراف فيها، ولا يقصر عنها تهاونًا بها؛ ذلك أن الخروج إلى أحد الطرفين إن كان إلى جانب الزيادة سُمِّيَ مجونًا وفسقًا وخلاعة وما أشبهها من أسماء الذم، وإن كان إلى جانب النقصان سُمِّيَ فدامة وعبوسًا وشكاسة وما أشبهها من أسماء الذم أيضًا. والمتوسط بينهما هو الظريف الذي يوصف بالهشاشة والطلاقة وحسن العشرة ويعرض من الصعوبة في وجود هذا الوسط ما يعرض في سائر الفضائل الخلقية. ومما يؤخذ به من يحفظ صحة نفسه أن يلتزم وظيفة من الجزء النظري والعملي لا يسوغ له الإخلال بها البتَّة لتجري النفس مجرى الرياضة التي تلزم في حفظ صحة البدن، وأطباء النفوس أشد تعظيمًا لها في حفظ صحة النفس؛ وذلك أن النفس متى تعطلت من النظر وعدمت الفكر والغوص على المعاني تبلَّدت وتبلَّهت وانقطعت عنها مادة كل خير. وإذا ألِفت الكسل وتبرَّمت بالرويَّة واختارت العطلة قرُب هلاكها؛ لأن في عطلتها هذه انسلاخًا من صورتها الخاصة بها ورجوعًا منها إلى رتبة البهائم. وهذا هو الانتكاس في الخلق نعوذ بالله منه. وإذا تعوَّد الحدث الناشئ من مبدأ تكوينه الارتياض بالأمور الفكرية ولازم التعاليم الأربعة ألِف الصدق، واحتمل ثقل الروية والنظر وأنس بالحق، ونبا طبعه عن الباطل وسمعه عن الكذب. فإذا بلغ أشُدَّه وانتقل إلى مطالعة الحكمة استمر طبعه فيها وتشرَّب ما يستودع منها، ولا يرد عليه أمر غريب ولا يحتاج إلى كثير تعب في فهم غوامضها واستخراج دفائنها، فيصل إلى سعادتها التي ذكرناها سريعًا. وإن كان حافظ هذه الصحة قد توحَّد في العلم وبرع فلا يحملنَّه العُجب بما عنده على ترك الازدياد؛ فإن العلم لا نهاية له، وفوق كل ذي علم عليم. ولا يتكاسلنَّ عن معاودة ما علمه والدرس له، فإن النسيان آفة العلم، وليتذكَّر قول الحسن البصري رحمة الله عليه: «اقدعوا هذه النفوس فإنها طائعة، وحادثوها فإنها سريعة الدثور.» واعلم أن هذه الكلمات مع قلة حروفها كثيرة المعاني، وهي مع ذلك فصيحة واستوفت شروط البلاغة، وليعلم أيضًا حافظ هذه الصحة على نفسه أنه إنما يحفظ عليها نعمًا شريفة جليلة موهوبة لها، وكنوزًا عظيمة مدخَرة فيها، وملابس فاخرة مفرغة عليها. وإن من كانت هذه المواهب الجليلة موجودة له في ذاته لا يحتاج إلى تطلُّبها من خارج ولا إلى بذل الأموال فيها لغيره، ولا يُكلَّف العناء والمؤن الثقال في تحصيلها، ثم أعرض عنها وأهمل أمرها حتى انسلخ عنها وعريَ منها، لملومٌ في فعله مغبون في رأيه غير رشيد ولا موفق، لا سيما وهو يرى طالبي النعم الخارجة كيف يتجشمون الأسفار البعيدة الخطرة، ويقطعون السبل المخوفة الوعرة، ويتعرضون لضروب المكاره وأنواع التلف من السباع العادية وطبقات الأشرار الباغية، وهم يخيبون في أكثر الأحوال مع مُقاساة هذه الأهوال. وربما عرضت لهم الندامات المفرطة والحسرات المعطبة التي تقطع أنفاسهم وتفصل أعضاءهم، فإن ظفروا بشيء من مطالبهم كان لا محالة زائلًا عن قرب أو معرَّضًا للزوال وغير مطموع في بقائه؛ لأنه من خارج، وما كان خارجًا عنها فهو غير ممتنع عما يطرقه من الحوادث التي لا تحصى كثرة. وصاحبه مع هذه الحال شديد الوجل دائم الإشفاق متعب الجسم والنفس، يحفظ ما لا يجد إلى حفظه سبيلًا، والحذر على ما لا يغني فيه الحذر فتيلًا. وإن كان طالب هذه الأشياء الخارجة عنا سلطانًا أو صاحب سلطان تضاعفت عليه هذه المكاره أضعافًا كثيرة بقدر ما يلابسه وبحسب ما يقاسيه من الأضداد والحساد على البعد ومن القرب، وبكثرة ما يحتاج إليه من المؤن في استصلاح من يليه ويلي من يليه من مداراة من يواليه ويعاديه. وهو في كل ذلك ملوم مستبطأ ومعتب مستقصر، ويستزيده جميع أهله والمتصلين به، ولا سبيل له إلى إرضاء واحد منهم فضلًا عن جميعهم. ولا يزال يبلغه عن أخصِّ الناس به من أولاده وحرمه ومن يجري مجراهم من حاشيته وخوله ما يملؤه غيظًا وحنقًا. وهو غير آمن على نفسه من جهتهم مع التحاسد الذي بينهم من مكاتبة الأعداء إياهم ومواطأة الحساد لهم. وكلما ازداد من الأعوان والأعضاد والأنصار زادوه في شغل القلب وجلبوا إليه من المكاره ما لم يكن عنده، فهو غني عند الناس وهو أشدهم فقرًا، ومحسود وهو أكثرهم حسدًا. وكيف لا يكون فقيرًا وحد الفقر هو كثرة الحاجة، فأكثر الناس حاجة أشدهم فقرًا، كما أن أغنى الناس أقلهم حاجة؛ ولذلك حكمنا حكمًا صادقًا بأن الله تعالى أغنى الأغنياء؛ لأنه لا حاجة له إلى شيء من الأشياء.
الملوك
وقد حكمنا أيضًا أن الملوك منَّا هم أشد الناس فقرًا؛ لكثرة حاجتهم إلى الأشياء. ولقد صدق أبو بكر الصديق في خطبته حيث قال: «أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك.» ثم وصفهم فقال: «إن الملك إذا ملك زهَّده الله فيما في يده، ورغَّبه فيما في يد غيره، وانتقصه شطر أجله، وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخَّط بالكثير، ويسأم الرخاء، وإن انقطعت عنه اللذة لا يستعمل الغيرة، ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع، جَلْد الظاهر حزين الباطن. فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومُحِيَ ظِلُّه حاسبه فأشدَّ حسابَه وأقلَّ عفوه، ألا إن الملوك هم المرحومون.» فهذه صفة الملك إذا تمكن من ملكه لا يغادر منه شيئًا. ولقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام، ثم يستعير لموافقته ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته. ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسِرَّة والفُرُش والزينة والأثاث، ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين بين أيديهم الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحُجَّاب والحشم يَرُوعه ذلك، فيظن أنهم مسرورون بما يراه لهم. لا والذي خلقهم وكفانا شغلهم، إنهم لفي هذه الأحوال ذاهلون عما يراه البعيد لهم مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما قلناه من ضروراتهم. وقد جرَّبنا ذلك في اليسير مما ملكناه فدلنا على الكثير مما وصفناه. ولعل بعض من يصل إلى الملك أو السلطان فيلتذ في المبدأ مدة يسيرة جدًّا بمقدار ما يتمكن منه وتنفتح عينه فيه. لكنه بعد ذلك يصير جميع ما ملكه كالشيء الطبيعي له، لا يلتذ به ولا يفكر فيه ويمد عينه إلى ما لا يملكه، فلو ملك الدنيا بحذافيرها لتمنى دنيا أخرى أو نزقت همته إلى البقاء الأبدي والملك الحقيقي، حتى تتبرَّم بجميع ما وصل إليه وبلغته قدرته؛ ذلك أن حفظ الدنيا صعب جدًّا لما في طبيعتها من الإخلال والتلاشي، ولما يضطر الملك إليه من الأمور التي وصفناها والأموال الجمة المصروفة إلى الجند المرتبطين والخدم المتسومين والذخائر والكنوز المعدَّة للآفات والحوادث التي لا يؤمَن طروقها. فهذه حال طلاب النعم الخارجة عنا. وأما تلك النعم التي هي في ذواتنا، فإنها موجودة عندنا وفينا، وهي غير مفارقة لنا؛ لأنها موهبة الخالق جل وعلا. وقد أُمرنا باستثمارها والترقي فيها. فإذا قبلنا أمره أثمرت لنا نعمًا بعد نعم ورُقِّينا درجة بعد درجة حتى تؤدينا إلى النعم الأبدية التي وصفناها فيما تقدم، وهو الملك الحقيقي الذي لا يزول والغبطة الأبدية الصافية التي لا تحول، فمن أخسر صفقة وأظهر سقطة ممن أضاع جواهر نفيسة باقية عنده وموجودة له وطلب أعراضًا خسيسة فانية ليست عنده ولا موجودة له، فإن اتفق أن يجدها لم تبقَ له، ولم تترك عليه؛ وذلك أنها تنقل عنه أو ينقل عنها لا محالة.
القناعة
لذلك قال الحكيم لمن رُزق الكفاية ووجد القصد من السعادة الخارجة: ألَّا يشتغل بفضول العيش فإنها بلا نهاية، ومن طلبها أوقعته في مهالك لا نهاية لها. وقد أعلمناك فيما تقدم ما الكفاية وما القصد. وإن الغرض الصحيح بينهما هو مداواة الآلام والتحرُّز من الوقوع فيها لا التمتع وطلب اللذة. وإن من عالج الجوع والعطش اللذين هما مرضان مؤلمان حادَّان لا ينبغي له أن يقصد لذة البدن بل صحته، وسيلتذ لا محالة. فإن من طلب بالعلاج اللذة لا الصحة لم تحصل له الصحة ولم تبقَ له اللذة. وأما من لم يُرزق الكفاية واحتاج إلى السعي والاضطراب في تحصيلها فيجب ألَّا يتجاوز القصد وقدر حاجته منها إلى ما يضطر معه إلى السعي الحثيث والحرص الشديد والتعرض لقبيح المكاسب أو ضروب المهالك والمعاطب. بل يُجمل في طلبها إجمال العارف بخساستها وأنه يضطر إليها لنقصانه فيطلب منها كسائر الحيوانات في ضروراتها. فإن العاقل إذا تصفَّح أحوالها وجد منها ما يأكل الميتة ومنها ما يأكل الروث وما في الحش وهي مسرورة بما تجده من أقواتها قريرة العين بها. وليست تُحسن من نفوسها نفورًا ولا تنصرف نفوسها عنها كما تنصرف نفوس الحيوانات المضادة لها، بل إنما تنصرف من أقوات تلك الأخر التي تضادها في النظافة. مثال ذلك الجعل والخنافس إذا قيست إلى النحل، فإذا تلك تهرب من الروائح الطيبة والأقوات النظيفة وهذا يطلبها ويُسَرُّ بها. فإن نسبة كل حيوان إلى قُوته الخاص به ككلِّ مقتنع بما يحفظ بقاءه وحياته فهو طالب مسرور به. فينبغي أن ننظر إلى أقواتنا بهذه العين ونُنزلها منزلة الحش الذي نضطر إلى ملابسته لإخراج ما كنا نحرص على الوصول إليه، فلا نبعدها من هذا الآخر؛ لأنهما ضرورتان لنا، فنحن نلابسهما لأجل الضرورة، ولا نشغل عقلنا باختيارهما والتمتع بهما وإفناء أعمارنا في التأنق لهما والتوصل إليهما، ولا نتكاسل أيضًا عن إعداد ضروراتنا منهما. وإنما يُفضَّل أحدهما على الآخر ويُستحسن السعي في طلب الدخل، ولا يُستحسن السعي في طلب الخرج؛ لأن الأول منهما هو غذاء موافق لنا يخلف علينا ما تحلل من أبداننا ولا نستقذره. كذلك لا ننفر مما نضعه مكان ما ينقص منه وينوب عنه. وأما الثاني منهما فهو عصارة ذلك الغذاء وما نفقته الطبيعة وأخذت حاجتها منه؛ أعني الذي أحالته دمًا صافيًا وفرقته في العروق على الأعضاء واطَّرحت التفل الذي لا حاجة بها إليه، وهو في غاية المخالفة والبعد من أمزجتنا، فنحن نستوحش منه وننفر عنه لأجل الضدية والمخالفة. إلا أننا مضطرون إلى إخراجه وتنحيته ونفضه عنا بالآلات الموهوبة المستعملة في ذلك؛ ليفرغ مكانه لما يأتي بعده ويجري مجراه، وينبغي لحافظ الصحة على نفسه ألَّا يحرِّك قوته الشهوانية وقوته الغضبية بتذكُّر ما أصاب منهما موجدًا لذته، بل يتركهما حتى يتحركا بأنفُسهما؛ وذلك أن الإنسان ربما تذكر لذاته في إصابة الشهوات وطيبها ومراتب كرامته من السلطان وغيرها فاشتاق إليها. وإذا اشتاق إليها تحرَّك نحوها، فقد جعلها غرضًا له فيضطر إلى استعمال الروية واستخدام النفس الناطقة فيها لتدبر له الوصول إليها. وهذه صورة من يثير بهائم عادية ويُهيج سباعًا ضارية ثم يلتمس معالجتها والخلاص منها، وليس يختار العاقل لنفسه هذه الحال، بل هي من أفعال المجانين الذين لا يميزون بين الخير والشر ولا بين الصواب والخطأ؛ ولذلك يحب ألَّا يتذكر أعمال هاتين القوتين لئلا يشتاق إليهما، ويتحرك نحوهما، بل يتركهما فإنهما سيثوران لأنفُسهما ويهيجان عند حاجتهما، ويلتمسان ما يحتاج البدن إليه، ويتخذان من باعث الطبيعة ما يغنيك عن بعثهما بالفكر والروية والتمييز، فيكون حينئذٍ فكرك وتمييزك في إزاحة علَّتهما وتقدير ما تطلقه لهما في الأمر الضروري الواجب لأبداننا الحافظ لصحتها. وهذا هو إمضاء مشيئة الله تعالى وإتمام سياسته؛ لأنه تعالى إنما وهب هاتين القوتين لنا لنستخدمهما عند حاجتنا إليهما لا لنخدمهما ونتعبَّد لهما. فكل من استعمل النفس الناطقة في خدمة عبدها، فقد تجاوز أمر الله وتعدى حدوده وعكس سياسته وتقديره؛ وذلك أن خالقنا عز وجل رتب لنا هذه القوى بتدبيره وتقديره ولا عدل أشرف وأفضل من ترتيبه وتقديره، وكل من خالفه وعدل عنه فهو أعظم جائر على ذاته وأكبر ظالم لنفسه.
حافظ الصحة على نفسه
ينبغي لحافظ الصحة على نفسه أن يلطف نظره في كل ما يعمل ويدبر ويستعمل فيه آلات بدنه ونفسه؛ لئلا يجري فيها على عادة تقدمت له مخالِفة لما يوجب تمييزه ورويَّته، فما أكثر ما يعرض للإنسان من بُدوِّ أفعالٍ تُخالف ما قدم فيه عزيمته وعقد عليه رأيه. فمن عرض له مثل هذا، فيجب عليه أن يضع لنفسه عقوبات يقابل بها أمثال هذه الذنوب. فإذا أنكر من نفسه مبادرة إلى طعام ضار وترك حمية قد كان استشعرها أو تناول فاكهة غير موافقة أو حلواء، كذلك عاقب نفسه يصوم لا يفطر فيه إلا على ألطف مما يقدر عليه وأقله، وإن أمكنه الطي فليطوِ، ويزيد في الحمية من غير حاجة إليها، ويمكن في توبيخه لنفسه أن يقول لها: إنك قصدت تناول النافع فتناولت الضار، وهذا فعل من لا عقل له، ولعل كثيرًا من البهائم أحسن حالًا منك؛ لأنه ليس فيها ما تقصد لذة لها ثم تتناول ما يؤلمها، فاستمسكي الآن للعقوبة. وإن أنكر من نفسه مبادرة إلى غضب في غير موضعه أو على من لا يستحقه أو زيادة على ما يجب منه، فليقابل ذلك بالتعرُّض لسفيه يعرفه بالبذاء ثم ليحتمله، وليتذلل لمن يعرفه بالخيرية ممن كان لا يتواضع له قبل ذلك، أو ليفرض علي نفسه مالًا يخرجه صدقة، وليجعل ذلك نذرًا عليه لا يخلُّ به، وإن أنكر من نفسه كسلًا وتوانيًا في مصلحة له فليعاقب نفسه بسعي فيه مشقة أو صلاة فيها طول أو بعض الأعمال الصالحة التي فيها كد وتعب، وبالجملة فليرسم على نفسه رسومًا تصير عليها فرائض، وحدودًا لا يخل بها، ولا يترخص فيها إذا أنكر من نفسه مخالفة لعقله وتجاوزًا لمرسومه. وليحذر في جميع أوقاته ملابسة رذيلة أو مساعدة رفيق عليها أو مخالفة صواب. ولا يستحقرن شيئًا مما يأتيه من صغار السيئات، ولا يطلبنَّ رخصة فيها؛ فإن ذلك يدعوه إلى أعظم منها. ومن تعوَّد في أول نُشُوِّه وحدثان شبابه ضبط النفس عن شهواتها عند ثورة غضبه، وحفظ لسانه واحتمال أقرانه، خف عليه ما يثقل على غيره ممن لم يتأدب بهذا الآداب. وبيان ذلك أنَّا نجد العبيد وأشباههم إذا بُلُوا بموالي سوء يسفهون عليهم ويسبون أعراضهم، هان عليهم الخطب فيما يسمعونه حتى لا يؤثِّر فيهم، وربما تضاحكوا عند سماع مكروه شديد ضحكًا غير متكلَّف، ويعملون عند ذلك أعمالهم ودِعِين طَلِقِين غير قلقين، وقد كانوا قبل ذلك شرسين غضوبين غير محتملين ولا ممسكين عن الأجوبة والانتقام بالكلام وطلب التشفِّي بالخصام. وهذه سبيل إذا ألِفنا الفضائل وتجنَّبنا الرذائل وأمسكنا عن مقابلة السفهاء ومجاراتهم والانتقام منهم. ويجب على حافظ الصحة على نفسه أن يتشبَّه بالملوك الموصوفين بالحزم، فإنهم يستعدون للأعداء بالعدة والعتاد والتحصن قبل هجوم العدو وهم في مهلة من زمانهم وفي اتساع من نظرهم، ولو أغفلوا ذلك إلى أن تحل بهم المكاره وتطرقهم الشدائد لأذهلهم الأمر عن الحيلة وعن الرأي السديد. فعلى هذا الأصل يجب أن تُبنى أمورنا في الاستعداد لأعدائنا من الشره والغضب وسائر ما يزيلنا عن أغراضنا من الفضائل بأن نتعود الصبر على ما يجب الصبر عليه، والحلم عمن ينبغي أن يحلم عنه، ونضبط النفس عن الشهوات الرديئة، ولا ننتظر دفع هذه الرذائل وقت هيجانها، فإن الأمر عند ذلك صعب جدًّا، ولعله غير ممكن البتَّة.
معرفة المرء عيوب نفسه
ويجب على حافظ الصحة على نفسه أن يطلب عيوب نفسه باستقصاء شديد، ولا يقنع بما قاله جالينوس في ذلك؛ فإنه ذكر في كتابه المعروف بتعرُّف المرء عيوب نفسه: «إنه لما كان كل إنسان يحب نفسه خفيت عليه معايبه ولم يرها وإن كانت ظاهرة.» وأشار في كتابه هذا بأن يختار من يحب أن يبرأ من العيوب صديقًا كاملًا فاضلًا، فيخبره بعد طول المؤانسة أنه إنما يعرف صدق مودته إذا أصدقه عن عيوبه حتى يتجنبها، ويأخذ عهده على ذلك، ولا يرضى منه إذا قال له: لا أعرف لك عيبًا. بل ينكر عليه ويُعلِمه أنه قد اتهمه بالخيانة، ويعاود مسألته والإلحاح عليه. فإذا لم يخبره بشيء من عيوبه زاد في العتب الصريح والإلحاح قليلًا، فإذا أخبره ببعض ما يعثر عليه منه فلا يُظهر له في وجهه أو كلامه نُكْرة ولا انقباضًا، بل يبسط له وجهه، ويُظهر السرور بما أخرجه إليه ونبَّهه عليه، ويشكره على الأيام وفي أوقات المؤانسة ليتطرق له إلى إهداء مثله إليه، ثم يعالج ذلك العيب بما يزيل أثره ويمحو ظله؛ ليعلم ذلك المُهدي إليك عيبك أنك من وراء نفسك، وفي طريق علاج مرضك، فلا ينفض عن معاودتك ونصيحتك. وهذا الذي أشار به جالينوس مُعوز غير موجود ولا مطموع فيه، ولعل العدو في هذا الموضع أنفع من الصديق؛ فإن العدو لا يحتشمنا في إظهار عيوبنا، بل يتجاوز ما يعرف منا إلى التحرض والكذب فيها، فلنتنبه على كثير من عيوبنا من جهتها، بل نتجاوز إلى ذلك أن نتهم نفوسنا بما ليس فيها، ولجالينوس أيضًا مقالة يقول فيها: إن خيار الناس ينتفعون بأعدائهم وهذا صحيح لا يخالفه فيه أحد؛ وذلك لما ذكرناه. فأما ما اختاره أبو يوسف بن إسحاق الكندي في ذلك، فهو ما حكاه بألفاظه، وهو هذا، قال: «ينبغي لطالب الفضيلة لنفسه أن يتخذ صور جميع معارفه من الناس مرآة له تريه صور كل واحد منهم عندما تعرض له آلام الشهوات التي تثمر السيئات حتى لا يغيب عنه شيء من السيئات التي له؛ وذلك أنه يكون متفقِّدًا سيئات الناس، فمتى رأى سيئة بادية من أحدٍ ذمَّ نفسه عليها كأنه هو فعلها وأكثر عتبه على نفسه من أجلها، ويعرض عليها كل يوم وليلة جميع أفعاله؛ حتى لا يشذ عنه شيء منها؛ فإنه قبيح بنا أن نجتهد في حفظ ما نقضناه من الحجارة الدنيئة والأرمد الهامدة الغريبة منا التي لا ينقصنا عدمها البتَّة في كل يوم، ولا نحفظ ما ينفق من ذواتنا التي بتوفيرها بقاؤنا وبنقصانها فناؤنا. فإذا وقفنا على سيئة من أفعالنا اشتد عذلنا لأنفُسنا عليها، ثم لنقيم عليها حدًّا نفرضه ولا نضيعه. وإذا تصفَّحنا أفعال غيرنا ووجدنا فيها سيئة عاتبنا أيضًا نفوسنا عليها؛ فإن نفوسنا ترتدع حينئذٍ عن المساوئ وتألف الحسنات وتكون المساوئ أبدًا ببالنا لا ننساها، ولا يأتي عليها زمان طويل فيُعَفِّي ذكرها؛ ولذلك ينبغي أن نعمل في الحسنات لنفرغ إليها ولا يفوتنا منها شيء. قال: وينبغي ألَّا ننقطع بأن نصير أشباه الدفاتر والكتب التي تُفيد غيرها معاني الحكمة وهي عادمة اقتناءها أو كالمِسَنِّ يشحذ ولا يقطع، بل نكون كالشمس التي تفيد القمر كلما أشرقت عليه إنارةً من ذاتها فتفعل له تمامًا حتى يكون له شبهها وإن قصر عن نورها. فهكذا ينبغي أن يكون حالنا إذا أفدنا غيرنا الفضائل.» وهذا الذي ذكره الكندي في ذلك أبلغ مما قاله من تَقدَّمه.