المقالة السابعة

رد الصحة على النفس

رد الصحة على النفس إذا لم تكن حاضرة، وهو القول في علاج أمراضها، ونبتدئ بمعونة الله تعالى بذكر أجناس هذه الأمراض الغالبة، ثم بمداواة الأعظم فالأعظم منها نكاية والأكثر فالأكثر جناية، فنقول: أما أجناسها الغالبة فهي مقابلات الفضائل الأربع التي أحصيناها في مبدأ الكتاب. ولما كانت الفضائل أوساطًا محمودة وأعيانًا موجودة أمكن أن تُطلب وتُقصد وتنتهي إليها الحركة والسعي والاجتهاد. وأما سائر النقط التي ليست بأوساط فإنها غير محدودة ولا أعيانها موجودة، ووجودها بالعرض لا بالذات. ومثال ذلك أن الدائرة لها مركز واحد ولها نقطة واحدة، ولها وجود في ذاتها يُقصد ويشار إليها، فإن لم نجدها حسًّا أو لم يمكنَّا الإشارة إليها أمكننا أن نستخرجها ونقيم البرهان على أنها هي المركز دون غيرها من النقط. وأما النقط التي ليست بمركز فإنها لا نهاية لها ولا وجود لها بالذات، وإنما توجد إذا فرضت فرضًا. وليست لها عين قائمة؛ فلذلك لا تُقصد ولا يمكن استخراجها؛ لأنها مجهولة ولأنها شائعة في جميع الدائرة. وأما الطرفان اللذان يسمَّيان متضادَّين، فهما موجودان معيَّنان؛ لأنهما طرفا خط مستقيم معيَّن والبعد بينهما غاية البعد. مثال ذلك أنا إذا أخرجنا من مركز الدائرة خطًّا مستقيمًا إلى المحيط صار طرفاه محدودَين، أحدهما المركز والآخر نهايته عند المحيط، والبعد بينهما غاية البعد. ومثاله من المحسوس البياض والسواد، فإن أحدهما يضاد الآخر، وهما محدودان موجودان، والبعد بين الضدين غاية البعد، فأما التي بينهما فهي بلا نهاية، وكذلك الألوان هي بلا نهاية. وأما أطراف الفضيلة فلما كانت أكثر من واحد لم تُسَمَّ ضدًّا؛ لأن لكل ضد ضدًّا واحدًا، ولا يمكن أن توجد أضداد كثيرة لضد واحد. والسبب في ذلك أن البعد بينهما غاية البعد. وقد نجد للفضيلة الواحدة أكثر من واحد؛ وذلك إذا تصوَّرنا الفضيلة مركزًا وأخرجنا منه خطًّا مستقيمًا، فحصلت له نهاية أمكننا أن نُخرج من الجانب الآخر المقابل له خطًّا آخر على استقامته، فتصير له نهاية أخرى، ويصيران جميعًا مقابلَين للمركز الذي فرضناه فضيلة، إلا أن أحدهما يجري مجرى الإفراط والغلو، والآخر يجري مجرى التفريط والتقتير. وإذ قد فُهم ذلك فليُعلم أن لكل فضيلة طرفين محدودين يمكن الإشارة إليهما وأوساط بينهما كثيرة لا نهاية لها ولا يمكن الإشارة إليها. إلا أن الوسط الحقيقي هو واحد، وهو الذي سميناه فضيلة. ثم ليُعلم أننا بحسب هذا البيان نجعل أجناس الشرور والرذائل ثمانية؛ لأنها ضعف الفضائل الأربع التي تقدَّم شرحها، وهي هذه: التهوُّر والجبن طرفان للوسط الذي هو الشجاعة، والشره والخمود طرفان للوسط الذي هو العفة، والسفه والبله طرفان للوسط الذي هو الحكمة، والجور والمهانة (أعني الظلم والانظلام) طرفان للوسط الذي هو العدالة. فهذه أجناس الأمراض التي تُقابل الفضائل التي هي صحة النفس، وتحت هذه الأجناس أنواع لا نهاية لها، ونبدأ بذكر التهوُّر والجبن اللذين هما طرفا الشجاعة، وهي فضيلة النفس وصحتها، فنقول:

التهور والجبن

إن سببهما ومبدأهما النفس الغضبية؛ ولذلك صارت الثلاثة بأسرها من علائق الغضب. والغضب في الحقيقة هو حركة للنفس يحدث بها غليان دم القلب شهوة للانتقام. فإذا كانت هذه الحركة عنيفة أججت نار الغضب وأضرمتها، فاحتدَّ غليان دم القلب وامتلأت الشرايين والدماغ دخانًا مظلمًا مضطربًا يسوء منه حال العقل ويضعف فعله، ويصير مثل الإنسان عند ذلك على ما حكته الحكماء مثل كهف ملئ حريقًا وأُضرم نارًا، فاختنق فيه اللهيب والدخان وعلا التأجج والصوت المسمَّى وحي النار، فيصعب علاجه ويتعذر إطفاؤه، ويصير كل ما يدنيه للإطفاء سببًا لزيادته ومادة لقوَّته؛ فلذلك يعمى الإنسان عن الرشد ويصم عن الموعظة، بل تصير المواعظ في تلك الحال سببًا للزيادة في الغضب ومادة اللهب والتأجج. وليس له في تلك الحال حيلة، وإنما يتفاوت الناس في ذلك بحسب المزاج، فإن كان المزاج حارًّا يابسًا كان قريب الحال من حال الكبريت الذي إذا أدنيت منه الشرارة الضعيفة التهب، وإن كان بالضد فحاله بالضد. وهذا في مبدأ أمره وعنفوان حركة الغضب به. فأما إذا احتدم فيكاد الحال يتقارب فيه، وتصور ذلك من الحطب اليابس والرطب ومبدأ اشتعال النار بسرعة وشدة من الكبريت والنقط، ثم انحدر منهما إلى الأدهان المتوسطة إلى أن تنتهي إلى الاحتكاك، فإن الاحتكاك وإن كان ضعيفًا في توليد النار، فربما قويَ حتى تلتهب منه الأجمَة العظيمة، وكفاك مثل السحاب الذي هو من البخارين كيف يحتكُّ حتى تنقدح بينهما النيران وينزل منهما الصواعق التي لا يُثبت أثرها شيء من المواد، ولا يفارق ما يتعلق به حتى يصير رميمًا وإن كان جبلًا أطلسًا وحجرًا أصم. وأما بقراطس فإنه قال: إني للسفينة إذا عصفت الرياح وتلاطمت عليها الأمواج وقذفت بها إلى اللجج التي كالجبال؛ أرجى منك للغضبان الملتهب؛ وذلك أن السفينة في تلك الحال يلطف لها الملاحون ويخلصونها بضروب الحيل. وأما النفس إذا استشاطت غضبًا فليس يُرجى لها حيلة البتَّة؛ وذلك أن كل ما رُجِيَ به الغضب من التضرع والمواعظ والخضوع يصير له بمنزلة الجزل من الحطب يوهجه ويزيده اشتعالًا. أما أسبابه المولِّدة له فهي العُجب، والافتخار، والمراء، واللجاج، والمزاح، والتيه، والاستهزاء، والغدر، والضيم، وطلب الأمور التي فيها لذة، ويتنافس فيها الناس ويتحاسدون عليها. وشهوة الانتقام غاية لجميعها؛ لأنها بأجمعها تنتهي إليه، ومن لواحقه الندامة وتوقُّع المجازاة بالعقاب عاجلًا وآجلًا وتغيُّر المزاج وتعجُّل الألم؛ وذلك أن الغضب جنون ساعة، وربما أدى إلى التلف باختناق حرارة القلب فيه، وربما كان سببًا لأمراض صعبة مؤدية إلى التلف. ثم من لواحقه مقت الأصدقاء وشماتة الأعداء واستهزاء الحساد والأراذل من الناس. ولكل واحد من هذه الأسباب علاج يُبدأ به حتى يُقلع من أصله، فأما إذا تقدمنا لحسم هذه الأسباب وإماطتها فقد أوهنَّا قوة الغضب وقطعنا مادتها وأمِنَّا غائلتها، فإن عرض لنا منها عارض كان بحيث نطيع العقل ونلتزم شرائطه وحدثت فضيلته؛ أعني الشجاعة، فيكون حينئذٍ إقدامنا على ما نُقدِم عليه كما يجب وبحيث يجب وبالمقدار الذي يجب وعلى من يجب.

العُجب والافتخار

أما العجب فحقيقته إذا حددناه أنه ظنٌّ كاذب بالنفس في استحقاق مرتبة هي غير مستحقة لها. وحقيق على من عرف نفسه أن يعرف كثرة العيوب والنقائص التي تعتورها؛ فإن الفضل مقسوم بين البشر، وليس يكمل الواحد منهم إلا بفضائل غيره، وكل من كانت فضيلته عند غيره فواجب عليه ألَّا يُعجب بنفسه. وكذلك الافتخار، فإن الفخر هو المباهاة بالأشياء الخارجة عنا، ومن باهى بما هو خارج عنه فقد باهى بما لا يملكه. وكيف يملك ما هو معرَّض للآفات والزوال في كل ساعة وفي كل لحظة ولسنا على ثقة منه في شيء من الأوقات؟! وأصح الأمثال وأصدقها فيه ما قاله الله عز وجل: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ إلى قوله: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، وقال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا. وفي القرآن من هذه الأمثال شيء كثير. وكذلك في الأخبار المروية عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأما المفتخر بنسبه فأكثر ما يدعيه إذا كان صادقًا أن أباه كان فاضلًا، فلو حضر ذلك الفاضل وقال: إن الفضل الذي تدعيه لي أنا مستبدٌّ به دونك، فما الذي عندك منه مما ليس عند غيرك لأُفحمه وأسكته. وقد روي عن رسول الله في هذا المعنى أخبار كثيرة صحيحة منها أنه قال: «لا تأتوني بأنسابكم وائتوني بأعمالكم.» أو ما هذا معناه. ويُحكى عن مملوك كان لبعض الفلاسفة أنه افتخر عليه بعض رؤساء زمانه، فقال له: إن افتخرت عليَّ بفرسك فالحسن والفراهة للفرس لا لك. وإن افتخرت بثيابك وآلاتك فالحسن لها دونك. وإن افتخرت بآبائك فالفضل كان فيهم دونك. فإذا كانت الفضائل والمحاسن خارجة عنك وأنت منسلخ عنها وقد رددناها على أصحابها، بل لم تخرج عنهم فترد عليهم وأنت ممن يحقق ذلك إن شاء الله تعالى. وحُكي عن بعض الفلاسفة أنه دخل على بعض أهل اليسار والثروة، وكان يحتشد في الزينة ويفتخر بكثرة آلاته، وقد حضرت الفيلسوف بصقة فتنخع لها والتفت في البيت يمينًا وشمالًا، ثم بصق في وجه صاحب البيت، فلما عوتب على ذلك قال: «إني نظرت إلى البيت وجميع ما فيه فلم أجد هناك أقبح منه فبصقت عليه.» وهكذا يستحق من كان خاليًا من فصائل نفسه وافتخر بالخارجات عنه. فأما المراء واللجاج فقد ذكرنا قبح صورتهما في المقالة التي قبل هذه وما يولدانه من الشتات والفُرقة والتباغض بين الإخوان.

المزاح والتيه والاستهزاء

وأما المزاح فإن المعتدل منه محمود، وكان رسول الله يمزح ولا يقول إلا حقًّا، وكان أمير المؤمنين كثير المزاح حتى عابه بعض الناس فقال: لولا دعابة فيه. ولكن الوقوف على المقدار المعتدل منه صعب، وأكثر الناس يبتدئ ولا يدري أين يقف منه، فيخرج عن حده ويروم الزيادة فيه على صاحبه حتى يصير سببًا للوحشة، فيُثير غضبًا كامنًا، ويزرع حقدًا باقيًا؛ فلذلك عددناه في الأسباب. فينبغي أن يحذره من لا يعرف حده، ويذكر قول القائل:

رُبَّ جدٍّ جرَّه اللعب
وبعض الحرب أوله مزاح

ثم يهيج فتنة لا يُهتدى لعلاجها. وأما التيه فهو قريب من العُجب، والفرق بينهما أن المعجب يكذب نفسه فيما يظن لها، والتيَّاه يتيه على غيره ولا يكذب نفسه، إلا أن علاجه علاج المعجب بنفسه، وذلك بأن يُعرَّف أن ما يتيه به لا مقدار له عند العقلاء، وأنهم لا يعتدُّون به لخساسة قدره ونزارة حظه من السعادة، ولأنه متغير زائل غير موثوق ببقائه، ولأن المال والأثاث وسائر الأعراض قد توجد عند كل صنف من الناس الأراذل والأشراف والجهال، فأما الحكمة فليست توجد إلا عند الحكماء خاصة. وأما الاستهزاء فإنه يستعمله المُجَّان من الناس والمُساخر ومن لا يبالي بما يُقابَل به؛ لأنه قد وضع في نفسه احتمال مثل ذلك وأضعافه فهو ضاحك قرير العين بضروب الاستخفافات التي تلحقه، وإنما يتعيش بالدخول تحت المذلة والصغار، بل إنما يتعرض بقليل ما يبتدئ به لكثير ما يعامل به ليُضحك غيره وينال اليسير من برِّه، والحر الفاضل بعيد من هذا المقام جدًّا؛ لأنه يُكرم نفسه وعرضه عن تعريضهما للسفهاء وبيعهما بجميع خزائن الملوك فضلًا عن الحقير التافه.

الغدر والضيم

وأما الغدر فوجوهه كثيرة؛ أعني أنه يُستعمل في المال وفي الجاه وفي الحرم وفي المودة وهو على كثرة وجوهه مذموم بكل لسان ومعيب عند كل أحد ينفر السماع من ذكره، ولا يعترف به إنسان وإن قل حظه من الإنسانية. وليس يوجد إلا في جنس من أجناس العبيد، فيتوقاهم الناس ويأنف منهم سائر أجناس العبيد؛ ذلك أن الوفاء الذي هو ضده موجود في جنس الحبشة والروم والنوبة. وقد شاهدنا من حسن وفاء كثير من العبيد ما لم نشاهده في كثير من المتسمِّين بالأحرار. ومن عرف قبح الغدر باسمه ونفور العقلاء منه ثم عرف معناه، فليس يستعمله وبالأخص من له طبيعة جيدة أو قرأ ما تقدم في هذا الكتاب وتخلَّق به، وانتهى في قراءته إلى هذا الموضع. وأما الضيم فهو تكليف احتمال الظلم والغضب وربما يعرض منه شهوة الانتقام. وقد ذكرنا فيما تقدَّم الظلم والانظلام وشرحنا الحال فيهما، فينبغي ألَّا نسرع إلى الانتقام عند ضيم يلحقنا حتى ننظر فيه، ونحذر ألَّا يعود علينا الانتقام بضرر أعظم من احتمال ذلك الضيم. وهذا النظر والحذر هو استشارة العقل وهو الحلم بعينه.

المقتنيات والجواهر النفيسة

وأما طلب الأمور التي فيها عزة وتتنافس فيها الناس فهو خطأ من الملوك والعظماء فضلًا عن أوساط الناس؛ وذلك أن الملك إذا حصل في خزانته علق كريم أو جوهر نفيس فهو متعرض به للجزع عند فقده، ولا بد من حلول الآفات به؛ لما عليه طبيعة عالم الكون والفساد من تغيير الأمور وإحالتها وإدخال الفساد على كل ما يُدَّخر ويُقتنى. فإذا فقد الملك ذخيرة عزيزة الوجود ظهر عليه ما يظهر على المفجوع المصاب بما يعز عليه وتبيَّن فقره إلى نظيره الذي لا يجده فيُطلع الصديق والعدوَّ على حزنه وكآبته. وحُكي عن بعض الملوك أنه أُهديَ إليه قبة بلور صافية عجيبة النقاء والصفاء مُحكَمة الخرط قد استُخرج منها أساطين وصور خاطر بها صانعها مرة بعد مرة في تلخيص النقوش والخروق والتجاويف التي بين الصور والأوراق، فلما حصلت بين يديه كثُر عجبه منها وإعجابه بها، وأمر فرُفعت في خاصِّ خزائنه، فلم يأتِ عليها كثير زمان حتى أصابها ما يصيب أمثالها من المتالف، وبلغ الملك ذلك فظهر عليه من الأسف والجزع ما منعه من التصرف في أموره والنظر في مهماته والجلوس لجنده وحاشيته. واجتهد الناس في وجود شيء شبيه بها فتعذَّر عليهم، فظهر أيضًا من عجزه وامتناع مطلوبه عليه ما تضاعف به جزعه وحزنه. وأما أوساط الناس فإنهم متى ادخروا آلة كريمة أو جوهرًا نفيسًا أو اتخذوا مركوبًا فارهًا أو ما أشبه هذه الأشياء التمسها منه من لا يمكنه رده عنها. فإن حجزه عنها وبخل عليه بها فقد عرَّض نفسه ونعمته للبوار. وإن سمح بها لحقه من الغم والجزع ما كان مستغنيًا عنه. وأما الأحجار المتنافَس فيها من اليواقيت وأشباهها مما تبعد عنها الآفات في أنفُسها، فليس تبعُد عنها الآفات الخارجة عنها من السرقة ووجوه الحيل فيها. وإذا ادخرها الملك قل انتفاعه بها عند حاجته إليها، وربما عدم الانتفاع بها دفعة؛ ذلك أنه إذا اضطر إليها لم تنفعه في عاجل أمره وحاضر ضرورة الملك. وقد شاهدنا أعظم الملوك خطرًا في عصرنا لما احتاج إليها بعد فناء أموال ونفاد ما في خزائنه وقلاعه لم يجد ثمنها ولا قريبًا من ثمنها عند أحد ولم يتحصل منها إلا على الفضيحة في حاجته إلى رعيته في بعض قيمتها وهو لا يقدر على قليل ولا كثير من أثمانها وهي مبذولة مبتذلة في أيدي الدلالين والتجار والسوقة يتعجبون منها ولا يقدرون عليها، ومن قدر منهم على ثمن شيء منها لم يتجاسر عليها خوفًا من تتبعه بعد ذلك وظهور أمره وانتزاعها منه. فهذه حال هذه الذخائر عند الملوك. أما التجار الموسومون بهذه الصناعة فربما اتفق لهم زمان صلاح وسكون من الرؤساء وأمن في السرب، وحينئذٍ تكون بضاعتهم شبيهة بالكاسدة؛ لأنها لا تُنفق إلا على الملوك الودعين الذين لا يُحزنهم شيء من نوائب الدهر، وقد استمر بهم الخفض، وفضلت أموالهم عن الخزائن والقلاع فحينئذٍ يغترون بالزمان فيقعون في مثل هذه الخدائع ثم تئول عاقبتهم إلى ما حذَّرنا منه.

أسباب الغضب

فهذه أسباب الغضب والأمراض الحادثة منها ومن عرف العدالة وتخلَّق بها كما قدمناه فيما تقدَّم سهُل عليه علاج هذا المرض؛ لأنه جور وخروج عن الاعتدال؛ ولذلك لا ينبغي أن نسميه بأسماء المديح؛ وأعني بذلك أن قومًا يسمُّون هذا النوع من الجور أعني الغضب في غير موضعه رجولية وشدة شكيمة، ويذهبون به مذهب الشجاعة التي هي بالحقيقة اسم للمدح، وشتان ما بين المذهبين، فإن صاحب هذا الخلق الذي ذممناه تصدُر عنه أفعال رديئة كثيرة يجور فيها على نفسه ثم على إخوانه ثم على الأقرب فالأقرب من معامليه، حتى ينتهي إلى عبيده وإلى حرمه فيكون عليهم سوط عذاب، ولا يقيلهم عثرة ولا يرحم لهم عَبرة وإن كانوا برآء من الذنوب غير مجترمين ولا مكتسبين سواء، بل يتجرم عليهم ويهيج من أدنى سبب يجد به طريقًا إليهم حتى يبسط لسانه ويده، وهم لا يمتنعون منه ولا يتجاسرون على رده عن أنفُسهم، بل يذعنون له ويقرون بذنوب لم يقترفوها استكفافًا لشرِّه وتسكينًا لغضبه، وهو مع ذلك مستمر على طريقته لا يكفُّ يدًا ولا لسانًا، وربما تجاوز في هذه المعاملة الناس إلى البهائم التي لا تعقل وإلى الأواني التي لا تحس. فإن صاحب هذا الخلق الرديء ربما قام إلى الحمار والبرذون أو إلى الحمار والعصفور، فيتناولها بالضرر والمكروه، وربما عض القفل إذا تعسَّر عليه وكسر الآنية التي لا يجد فيها طاعة لأمره. وهذا النوع من رداءة الخلق مشهور في كثير من الجهال يستعملونه في الثوب والزجاج والحديد وسائر الآلات. أما الملوك من هذه الطائفة فإنهم يغضبون على الهواء إذا هبَّ مخالفًا لهواهم وعلى القلم إذا لم يجرِ على رضاهم، فيسبُّون ذاك ويكسرون هذا. وكان بعض من تقدَّم عهده من الملوك يغضب على البحر إذا تأخرت سفينة فيه لاضطرابه وحركة الأمواج حتى يهدده بطرح الجبال فيه وطمَّه بها. وكان بعض السفهاء في عصرنا يغضب على القمر ويسبُّه ويهجوه بشعر له مشهور؛ وذلك أنه كان يتأذى به إذا نام فيه. وهذه الأفعال كلها قبيحة وبعضها مع قبحه مضحك يهزأ بصاحبه؛ فكيف يُمدح بالرجولية والشدة وشرف النفس وعزتها وهي بالمذمة والفضيحة أولى منها بالمديح؟ وأي حظ لها في العزة والشدة ونحن نجدها في النساء أكثر منها في الرجال، وفي المرضى أقوى منها في الأصحاء، ونجد الصبيان أسرع غضبًا وضجرًا من الرجال، والشيوخ أكثر من الشبان، ونجد رذيلة الغضب مع رذيلة الشره، فإن الشَّرِه إذا تعذَّر عليه ما يشتهيه غضِب وضجر على من يهيئ طعامه وشرابه من نسائه وأولاده وخدمه وسائر من يلابس أمره. والبخيل إذا فقد شيئًا من ماله تسرَّع بالغضب على أصدقائه ومخالطيه وتوجهت تهمته إلى أهل الثقة من خدمه ومواليه. وهؤلاء الطبقة لا يحصلون من أخلاقهم إلا على فقد الصديق وعدم النصيح وعلى الذم السريع واللوم الوجيع. وهذه حال لا تتم معها غبطة ولا سرور، وصاحبها أبدًا محزون كئيب متنغص بعيشه متبرم بأموره، وهي حال الشقي المحروم. أما الشجاع العزيز النفس فهو الذي يقهر بحلمه غضبه ويتمكن من التمييز والنظر فيما يدهم، ولا يستفزه ما يرد عليه من المحركات لغضبه حتى يتروَّى وينظر كيف ينتقم ممن وعلى أي قدر، وكيف يصفح ويغضي عمن وفي أي ذنب؛ حُكي عن الإسكندر أنه نُمي إليه عن بعض أصحابه أنه يعيبه وينتقصه فقال له بعض أصحابه: لو أدَّبته أيها الملك بعقوبة تُنهكه بها. فقال له: وكيف يكون إنهاكه بعد عقوبتي إياه في ثلبي وطلب معايبي؛ لأنه حينئذٍ أبسط لسانًا وأعذر عند الناس. وأُتي يومًا ببعض أعدائه من المتغلبين الخارجين عليه، وكان قد عاث في أطراف بلاده عيثًا كثيرًا فصفح عنه. فقال له بعض جلسائه: لو كنت أنا أنت لقتلته. فقال له الإسكندر: ولكن لم أكن أنا أنت، فلست بقاتله.

فقد ذكرنا معظم أسباب الغضب ودللنا على معالجتها وحسمها، وهو النوع الأعظم من أمراض النفس. وإذا تقدم الإنسان في حسم سببه لم يخشَ تمكُّنه منه، وكان ما يعرض له سهل العلاج قريب الزوال لا مادة له تُلهبه وتمده، ولا سبب يُسعِّره ويوقده. وتجد الرويَّة موضعًا لإجالة النظر والفكر في فضيلة الحلم واستعمال المكافأة إن كان صوابًا أو التغافل إن كان حزمًا. والذي يتلو معالجة هذا النوع من أمراض النفس معالجة الجبن الذي هو الطرف الآخر من صحتها. ولما كانت الأضداد يُعرف بعضها من بعض. وقد عرفنا الطرف الذي حددناه بحركة للنفس عنيفة قوية يحدث منها غليان دم القلب شهوة للانتقام، فقد عرفنا إذًا مقابله؛ أعني الطرف الآخر الذي هو سكون للنفس عندما يجب أن تتحرك فيه وبطلان شهوة الانتقام. وهذا هو سبب الجبن والخوَر.

الجبن والخور

وتتبعهما إهانة النفس، وسوء العيش، وطمع طبقات الأنذال وغيرهم من الأهل والأولاد والمعاملين، وقلة الثبات والصبر في المواطن التي يجب فيها الثبات. وهما أيضًا سبب الكسل ومحبة الراحة اللذين هما سببا كل رذيلة. ومن لواحقهما الاستحذاء لكل أحد والرضى بكل رذيلة وضيم، والدخول تحت كل فضيحة في النفس والأهل والمال، وسماع كل قبيحة فاحشة من الشتم والقذف، واحتمال كل ظلم من كل معاملة، وقلة الأنفة مما يأنف منه الناس، وعلاج هذه الأسباب واللواحق يكون بأضدادهما. وذلك بأن توقظ النفس التي تمرض هذا المرض بالهز والتحريك. فإن الإنسان لا يخلو من القوة الغضبية رأسًا حتى تجلب إليه من مكان آخر، ولكنها تكون ناقصة عن الواجب، فهي بمنزلة النار الخامدة التي فيها بقية لقبول الترويح والنفخ، فهي تتحرك لا محالة إذا حركت بما يلائمها وتبعث ما في طبيعتها من التوقد والتلهب. وقد حُكي عن بعض المتفلسفين أنه كان يتعمد مواطن الخوف فيقف فيها ويحمل نفسه على المخاطرات العظيمة بالتعرض لها، ويركب البحر عند اضطرابه وهيجانه ليعوِّد نفسه الثبات في المخاوف، ويحرك منها القوة التي تسكن عند الحاجة إلى حركتها، ويخرجها عن رذيلة الكسل ولواحقه، ولا يكره لمثل صاحب هذا المرض بعض المراء والتعرض للملاحاة وخصومة من يأمن غائلته، حتى يقرب من الفضيلة التي هي وسط بين الرذيلتين؛ أعني الشجاعة التي هي صحة النفس المطلوبة. فإذا وجدها وأحس بها من نفسه كفَّ ووقف ولم يتجاوزها حذرًا من الوقوع في الجانب الآخر الذي علمناك علاجه.

الخوف وأسبابه وعلاجه

ولما كان الخوف الشديد في غير موضعه من أمراض النفس، وكان متصلًا بهذه القوة وجب أن نذكره ونذكر أسبابه وعلاجه فنقول: إن الخوف يعرِض من توقُّع مكروه وانتظار محذور، والتوقع والانتظار إنما يكونان للحوادث في الزمان المستقبل. وهذه الحوادث ربما كانت عظيمة، وربما كانت يسيرة، وربما كانت ضرورية وربما كانت ممكنة. والأمور الممكنة ربما كنا نحن أسبابها وربما كان غيرنا سببها، وجميع هذه الأقسام لا ينبغي للعاقل أن يخاف منها، أما الأمور الممكنة فهي بالجملة مترددة بين أن تكون وبين ألَّا تكون، ولا يجب أن يصمم على أنها تكون فيستشعر الخوف منها ويتعجل مكروه التألم بها وهي لم تقع بعدُ ولعلها لا تقع. وقد أحسن الشاعر في قوله:

وقل للفؤاد أن ترى بك نزوة
من الرَّوع أفرِج، أكثرُ الروع باطله

فهذه حال ما كان منها عن سبب خارج، وقد أعلمناك أنها ليست من الواجبات التي لا بد من وقوعها، وما كان كذلك فالخوف من مكروهه يجب أن يكون على قدر حدوثه، وإنما يحسن العيش وتطيب الحياة بالظن الجميل والأمل القوي وترك الفكر في كل ما يمكن ألَّا يقع من المكاره. وأما ما كان سببه سوء اختيارنا وجنايتنا على أنفُسنا، فينبغي أن نحترز منه بترك الذنوب والجنايات التي نخاف عواقبها، ولا نُقدِم على أمر لا تؤمن غائلته، فإن هذا فعل من نسي أن الممكن هو الذي يجوز أن يكون ويجوز ألَّا يكون؛ وذلك أنه إذا أتى ذنبًا أو جنى جناية قدَّر في نفسه أن يخفى ولا يظهر، أو لا يخفى فيظهر، إلا أنه يتجاوز عنه أو لا تكون له غائلة، وكأنه يجعل طبيعة الممكن واجبًا كما أن صاحب القسم الأول يجعل أيضًا الممكن واجبًا، إلا أن هذا يأمن الجانب المحذور خاصة؛ وأعني بهذا أن الممكن لما كان متوسطًا بين الجانب الواجب والجانب الممتنع صار كالشيء الذي له جهتان إحداهما تلي الواجب والأخرى تلي الممتنع. ومثال ذلك خط «أ ﺟ ب»، فنقطة «أ» هي الجانب الواجب، ونقطة «ب» هي الجانب الممتنع، وموضع «ﺟ» هو الممكن وبُعده من الجانبَين بُعدٌ واحد، فله إلى نقطة «أ» جهة، وله إلى نقطة «ب» جهة. فإذا صار مستقبله ماضيًا بطل اسم الممكن عنه وحصل، إما في جانب الواجب، وإما في جانب الممتنع. وليس يصح ما دام ممكنًا أن يحسب لا من هذا الجانب ولا من ذاك الجانب، بل يعتقد فيه طبيعته الخاصة به، وهو أنه يمكن أن يصير إلى ها هنا أو إلى هناك؛ ولهذا قال الحكيم: وجوه الأمور الممكنة في أعقابها. وأما الأمور الضرورية كالهرم وتوابعه فعلاج الخوف منه أن نعلم أن الإنسان إذا حب طول الحياة، فقد أحب لا محالة الهرم واستشعره استشعارًا ما لا بد منه، ومع الهرم يحدث نقصان الحرارة الغريزية والرطوبة الأصلية التابعة لها وغلبة ضديهما من البرد واليبس وضعف الأعضاء الأصلية كلها. ويتبع ذلك قلة الحركة وبطلان النشاط وضعف آلات الهضم وسقوط آلات الطحن ونقصان القوى المدبرة للحياة؛ أعني القوة الجاذبة والقوة الممسكة والهاضمة والدافعة وسائر ما يتبعها من مواد الحياة. وليست الأمراض والآلام شيئًا غير هذه الأشياء، ثم يتبع ذلك موت الأحبَّاء وفقْد الأعزَّاء، والمستشعر لهذه الأشياء الملتزم لشرائطها في مبدأ كونه لا يخاف منها، بل ينتظرها ويرجوها ويُدعى له بها ويرغب إلى الله فيها.

فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق. ولما كان أعظم ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت، وكان هذا الخوف عامًّا، وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف وجب أن نبدأ بالكلام فيه، فنقول:

علاج الخوف من الموت

إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة، أو لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه، فقد انحلَّت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى، موجود أو ليس هو بموجود فيه، كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنه يظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم الأمراض التي ربما تقدَّمته وأدت إليه، وكانت سبب حلوله أو لأنه يعتقد عقوبةً تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يُقدِم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يُخلِّفه من المال والمقتنيات. وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولا يدري ما هو على الحقيقة فإنا نُبيِّن له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها، وهي الأعضاء التي يُسمَّى مجموعها بدنًا كما يترك الصانع استعمال آلاته، وأن النفس جوهر غير جسماني وليست عرضًا، وأنها غير قابلة للفساد. وهذا البيان يُحتاج فيه إلى علوم تتقدمه، وهو مبرهن مشروح على الاستقصاء في موضعه الخاص به، ومن تطلَّع إليه ونشط للوقوف عليه لم يبعد مرامه، ومن قنع بما ذكرته في صدر هذا الكتاب وسكنت نفسه إليه علم أن ذلك الجوهر مفارق لجوهر البدن، مباين له كل المباينة بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره. فإذا فارق البدن كما قلنا وعلى الشريطة التي شرطنا بقي البقاء الذي يخصه، ونقى من كدر الطبيعة، وسعِد السعادة التامة. ولا سبيل إلى فنائه وعدمه؛ فإن الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر ولا تبطل ذاته، وإنما تبطل الأعراض والنِّسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا ضد له، وكل شيء يفسد فإنما فساده من ضده. وقد يمكنك أن تقف على ذلك بسهولة من أوائل المنطق قبل أن تصل إلى براهينه، وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي هو أخسُّ من ذلك الجوهر الكريم واستقريت حاله وجدته غير فانٍ ولا متلاشٍ من حيث هو جوهر، وإنما يستحيل بعضه إلى بعض، فتبطل خواصه شيئًا فشيئًا منه وأعراضه. فأما الجوهر نفسه فهو باقٍ لا سبيل إلى عدمه وبطلانه. مثال ذلك الماء؛ فإنه يستحيل بخارًا وهواءً، وكذلك الهواء يستحيل ماء ونارًا، فتبطل عن الجوهر أعراضه وخواصه. وأما الجوهر من حيث هو جوهر فإنه لا سبيل إلى عدمه. هذا في الجوهر الجسماني القابل للاستحالة والتغير. فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الاستحالة ولا التغير في ذاته، وإنما يقبل كمالاته وتمامات صوره، فكيف يُتوهم فيه العدم والتلاشي. وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحلَّ وبطل تركيبه، فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه وجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، فليس يخاف الموت على الحقيقة، وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه. فالجهل إذًا هو المخوف؛ إذ هو سبب الخوف. وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به، وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن، واختاروا عليه النصَب والسهر، ورأوا أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية، وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل؛ لأنه مرض مزمن للنفس، والبرء منه خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية. ولما تيقن الحكماء ذلك واستبصروا فيه وهجموا على حقيقته ووصلوا إلى الروح والراحة منه، هانت عليهم أمور الدنيا كلها، واستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحِسِّيَّة والمطالب التي تؤدي إليها؛ إذ كانت قليلة الثبات والبقاء سريعة الزوال والفناء كثيرة الهموم إذا وَجدت، عظيمة الغموم إذا فقدت. واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة، وتسلَّوا عن فضول العيش الذي فيه ما ذكرت من العيوب وما لم أذكره، ولأنها مع ذلك بلا نهاية؛ ذلك أن الإنسان إذا بلغ منها إلى غاية تاقت نفسه إلى غاية أخرى من غير وقوف على حد ولا انتهاء إلى أمد. وهذا هو الموت لا ما ينحاف منه. والحرص عليه هو الحرص على الزائل والشغل به هو الشغل بالباطل؛ ولذلك جزم الحكماء بأن الموت موتان: موت إرادي وموت طبيعي. وكذلك الحياة حياتان: حياة إرادية وحياة طبيعية. وعنوا بالموت الإرادي إماتة الشهوات وترك التعرض لها، وبالموت الطبيعي مفارقة النفس البدن. وعنوا بالحياة الإرادية ما يسعى له الإنسان لحياته الدنيا من المآكل والمشارب والشهوات، وبالحياة الطبيعية بقاء النفس السرمدي بما تستفيده من العلوم الحقيقية وتبرأ به من الجهل؛ ولذلك وصى أفلاطون طالب الحكمة بأن قال له: مت بالإرادة تحيَ بالطبيعة. على أن من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه؛ ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان؛ لأنه حي ناطق ميت. فالموت تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى. ومن علم أن كل شيء هو مركَّب من حدٍّ، وحدُّه مركَّب من جنسه وفصوله، وأن جنس الإنسان هو الحي، وفصلاه الناطق والمايت، علم أنه سينحلُّ إلى جنسه وفصوله؛ لأن كل مركَّب لا محالة منحلٌّ إلى ما تركب منه. فمَن أجهل ممن يخاف تمام ذاته؟! ومَن أسوأ حالًا ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه؟! ذلك أن الناقص إذا خاف أن يتم فقد دل من نفسه على غاية الجهل. فإذًا الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان ويأنس بالتمام ويطلب كل ما يتممه ويكمله ويشرفه ويُعلي منزلته ويُخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر لا من الوجه الذي يشد وثاقه ويزيده تركيبًا وتعقيدًا، ويثق بأن الجوهر الشريف الإلهي إذا تخلَّص من الجوهر الكثيف الجسماني خلاص بقاء وصفو لا خلاص مزاج وكدر، فقد سعد وعاد إلى ملكوته وقرب من بارئه، وفاز بجوار رب العالمين، وخالط الأرواح الطيبة من أشكاله وأشباهه، ونجا من أضداده وأغياره. ومن ها هنا يُعلم أن من فارقت نفسه بدنه وهي مشتاقة إليه مشفقة عليه خائفة من فراقه فهي في غاية الشقاء والبعد من ذاتها وجوهرها، سالكة إلى أبعد جهاتها من مستقرها، طالبة قرار ما لا قرار له. أما من ظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم الأمراض التي ربما اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه، فعلاجه أن يُبيَّن له أن هذا ظن كاذب؛ لأن الألم إنما يكون للحيِّ، والحي هو القابل أثر النفس. وأما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. فإذًا الموت الذي هو مفارقة النفس البدن لا ألم له؛ لأن البدن إنما كان يألم ويحس بأثر النفس فيه. فإذا صار جسمًا لا أثر فيه للنفس فلا حس له ولا ألم، فقد تبيَّن أن الموت حال للبدن غير محسوس عنده ولا مؤلم؛ لأنه فراق ما به كان يحس ويتألم. فأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يُوعد به بعدُ، فينبغي أن نُبيِّن له أنه ليس يخاف الموت، بل يخاف العقاب، والعقاب إنما يكون على شيء باقٍ بعد البدن الداثر. ومن اعترف بشيء باقٍ منه بعد البدن وهو لا محالة معترف بذنوب له وأفعال سيئة يستحق عليها العقاب، ومع ذلك هو معترف بحاكم عدل يعاقب على السيئات لا على الحسنات، فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت. ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب ويجتنبه. وقد بيَّنَّا فيما تقدَّم أن الأفعال الرديئة التي تُسمَّى ذنوبًا إنما تصدر عن هيئات رديئة، والهيئات هي للنفس، وهي الرذائل التي أحصيناها وعرفناك أضدادها من الفضائل. فإذًا الخائف من الموت على هذه الطريقة، ومن هذه الجهة جاهل بما ينبغي أن يخاف منه وخائف بما لا أثر له ولا خوف منه. وعلاج الجهل هو العلم، فإذًا الحكمة هي التي تخلِّصنا من هذه الآلام والظنون الكاذبة التي هي نتائج الجهالات. والله الموفق لما فيه الخير.

وكذلك نقول لمن خاف الموت؛ لأنه لا يدري علامَ يَقدَم بعد الموت؛ لأن هذه حال الجاهل الذي يخاف بجهله. فعلاجه أن يتعلَّم ليعلم ويشتاق؛ وذلك أن من أثبت لنفسه حالًا بعد الموت ثم لم يعلم ما هي تلك الحال فقد أقر بالجهل، وعلاج الجهل العلم. ومن علم فقد وثق، ومن وثق فقد عرف سبيل السعادة، فهو يسلكها لا محالة، ومن سلك طريقًا مستقيمًا إلى غرض صحيح أفضى إليه بلا شك ولا مرية. وهذه الثقة التي تكون بالعلم هي اليقين، وهي حال المستبصر في دينه المستمسك بحكمته. وقد عرفناك مرتبته ومقامه فيما سلف من القول. أما من زعم أنه ليس يخاف الموت، وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونشبه، ويأسف على ما يفوته من ملاذِّ الدنيا وشهواتها، فينبغي أن نُبيِّن له أن الحزن تعجُّل ألمٍ ومكروه على ما لا يُجدي الحزن إليه بطائل، وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص؛ لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف. وقد أتينا منه على ما فيه مقتنَع وكفاية. إلا أن نزيده بيانًا ووضوحًا فنقول: إن الإنسان من جملة الأمور الكائنة، وقد تبيَّن في الآراء الفلسفية أن كل كائنٍ فاسدٌ لا محالة، فمن أحب ألَّا يَفسد فقد أحب ألَّا يكون. ومن أحب ألَّا يكون فقد أحب فساد ذاته. فكأنه يحب أن يَفسد ويحب ألَّا يفسد، ويحب أن يكون ويحب ألَّا يكون. وهذا مُحالٌ لا يخطر ببال عاقل. وأيضًا فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقيَ مَن تقدَّمنا، ولو بقي من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض، وأنت تتبين ذلك مما أقول؛ هب أن رجلًا واحدًا ممن كان منذ أربعمائة سنة هو موجود الآن، وليكن من مشاهير الناس حتى يمكن أن يحصل أولاده موجودين معروفين، كعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه مثلًا، ثم وُلد له أولاد ولأولاده أولاد، وبقوا كذلك يتناسلون ولا يموت منهم أحد، كم يكون مقدار من يجتمع منهم في وقتنا هذا، فإنك تجدهم أكثر من عشرة آلاف ألف رجل؛ وذلك أن بقيتهم الآن مع ما قُدِّر فيهم من الموت والقتل الذريع أكثر من مائة ألف نسمة في جميع الأرض. واحسب لمن كان في ذلك العصر من الناس على بسيط الأرض مثل هذا الحساب، فإنهم إذا تضاعفوا هذا التضاعف لم تضبطهم كثرةً ولم تُحصهم عددًا. ثم امسح بسيط الأرض فإنه محدود معروف، لتعلم أن الأرض حينئذٍ لا تسعهم قيامًا فكيف قعودًا أو منصرفين، ولا يبقى موضع عمارة يفضل عنهم ولا مكان زراعة ولا مسير لأحد ولا حركة فضلًا عن غيرها. وهذه مدة يسيرة من الزمان، فكيف إذا امتد الزمان وتضاعف الناس على هذه النسبة. فهذه حال من يتمنى الحياة الأبدية للبدن ويكره الموت، ويظن أن ذلك ممكن أو مطموع فيه من الجهل والغباوة. فإذًا الحكمة البالغة والعدل المبسوط بالتدبير الإلهي هو الصواب الذي لا مَعدِل عنه، ولا محيص منه، وهو غاية الجود الذي ليس وراءه غاية أخرى لطالب مستزيد وراغب مستفيد. والخائف منه هو الخائف من عدل الباري وحكمته، بل هو الخائف من جوده وعطائه، فقد ظهر ظهورًا حسيًّا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس، وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. وقد ظهر أيضًا فيما تقدم من قولنا أن حقيقة الموت هي مفارقة النفس البدن. وهذه المفارقة ليست فسادًا للنفس، وإنما هي فساد المتركب. وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبُّه وخلاصته فهو باقٍ، وليس بجسم فيلزم فيه ما لزم في الأجسام مما أوردناه قبيل. بل لا يلزمه شيء من أعراض الأجسام؛ أي لا يتزاحف في المكان؛ لاستغنائه عن المكان، ولا يحرص على البقاء الزماني؛ لاستغنائه عن الزمان، وإنما استفاد بالحواس والأجسام كمالًا. فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه ومُنشئه تعالى وتقدَّس. وهذا الكمال الذي يستفيده في هذا العالم الحسي قد بيَّنَّاه وعرَّفناك الطريق إليه بما سلف من القول في هذا الباب، وأنه السعادة القصوى للإنسان، وأعلمناك ضده الذي هو الشقاء الأقصى له. وبيَّنَّا مع ذلك مراتب السعادة ومنازل الأبرار ودرجاتهم من رضوان الله وجنته التي هي دار القرار، كما بيَّنَّا لك أضدادها من سخطه ودركاتهم من النار التي هي الهاوية بلا قرار. نسأل الله حسن المعونة على ما يقرِّبنا منه ويُبعدنا من سخطه، إنه جواد كريم رءوف رحيم.

علاج الحزن

الحزن ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوت المطلوب. وسببه الحرص على القنيات الجسمانية، والشره إلى الشهوات البدنية، والحسرة على ما يفقده أو يفوته منها. وإنما يحزن ويجزع على فقد محبوباته وفوت مطلوباته من يظن أن ما يحصل له من محبوبات الدنيا يجوز أن يبقى ويثبُت عنده، أو أن جميع ما يطلبه من مفقوداتها لا بد أن يحصل له ويصير في ملكه. فإذا أنصف نفسه وعلم أن جميع ما في عالم الكون والفساد غير ثابت ولا باقٍ، وأنما الثابت الباقي هو ما يكون في عالم العقل، لم يطمع في المُحال ولم يطلبه. وإذا لم يطمع فيه لم يحزن لفقد ما يهواه ولا لفوت ما يتمناه في هذا العالم، وصرف سعيه إلى المطلوبات الضافية، واقتصر بهمَّته على طلب المحبوبات الباقية، وأعرض عما ليس في طبعه أن يثبُت ويبقى. وإذا حصل له منه شيء بادر إلى وضعه في موضعه، وأخذ منه مقدار الحاجة إلى دفع الآلام التي أحصيناها من الجوع والعري والضرورات التي تشبهها، وترك الادخار والاستكثار والتماس المباهاة والافتخار، ولم يُحدِّث نفسه بالمكاثرة بها والتمني لها. وإذا فارقته لم يأسف عليها ولم يبالِ بها. فإن من فعل ذلك أمِن فلم يجزع، وفرح فلم يحزن، وسعد فلم يشقَ. ومن لم يقبل هذه الوصية ولم يعالج نفسه بهذا العلاج لم يزل في جزع دائم وحزن غير منتقص؛ وذلك أنه لا يعدم في كل حالٍ فوت مطلوب أو فقد محبوب. وهذا لازم لعالمنا هذا؛ لأنه عالم الكون والفساد. ومن طمع من الكائن الفاسد ألَّا يكون ولا يفسد فقد طمع في المحال. ومن طمع في المُحال لم يزل خائبًا، والخائب أبدًا محزون، والمحزون شقي. ومن استشعر بالعادة الجميلة ورضي بكل ما يجده ولا يحزن لشيء يفقده لم يزل مسرورًا سعيدًا، فإن ظن ظانٌّ أن هذا الاستشعار لا يتم له أو لا ينتفع به فلينظر إلى استشعارات الناس في مطالبهم ومعايشهم واختلافهم فيها بحسب قوة الاستشعار، فإنه سيرى رؤية بينة ظاهرة فرح المتعيشين بمعايشهم على تفاوتها، وسرور أصحاب الحرف المختلفة بمذاهبهم على تباينها. وليتصفح ذلك في طبقة طبقة من طبقات الدهماء، فإنه لا يخفى عليه فرح التاجر بتجارته، والجندي بشجاعته، والمقامر بقماره، والشاطر بشطارته، والمخنث بتخنثه، حتى يظن كل واحد منهم أن المغبون من عدم تلك الحالة حتى فقد بهجتها، والمجنون من غبيَ عنها فحُرم لذَّتها. وليس ذلك إلا لقوة استشعار كل طائفة بحسن مذهبها ولزومها إياه بالعادة الطويلة. وإذا لزم طالب الفضيلة مذهبه وقوي استشعاره وحسن رأيه وطالت عادته، كان أولى بالسرور من هذه الطبقات الذين يخبطون في جهالاتهم، وكان أحظاهم بالنعيم المقيم؛ لأنه مُحِقٌّ وهم مبطلون، وهو متيقِّن وهم ظانُّون، ثم هو صحيح وهم مرضى، وهو سعيد وهم أشقياء، وهو ولي الله عز وجل وهم أعداؤه. وقد قال الله عز من قائل: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وقال الكندي في كتاب دفع الأحزان: مما يدلك دلالة واضحة أن الحزن شيء يجلبه الإنسان ويضعه وضعًا، وليس هو من الأشياء الطبيعية، أن من فقد ملكًا أو طلب أمرًا فلم يجده فلحقه حزن ثم نظر في حزنه ذلك نظرًا حكيمًا، وعرف أن أسباب حزنه هي أسباب غير ضرورية، وأن كثيرًا من الناس ليس لهم ذلك الملك وهم غير محزونين، بل فرحون مغبوطون، علم علمًا لا ريب فيه أن الحزن ليس بضروري ولا طبيعي، وأن من حزن من الناس وجلس لنفسه هذا العارض فهو لا محالة سيسلو ويعود إلى حاله الطبيعي، فقد شاهدنا قومًا فقدوا من الأولاد والأعزة والأصدقاء ما اشتد حزنهم عليه، ثم لم يلبثوا أن يعودوا إلى حالة المسرة والضحك والغبطة، ويصيرون إلى حال من لم يحزن قط؛ ولذلك نشاهد من يفقد المال والضِّياع وجميع ما يقتنيه الإنسان مما يعز عليه ويُحزنه فإنه لا محالة يتسلى ويزول حزنه، ويعاود أنسه واغتباطه؛ فالعاقل إذا نظر إلى أحوال الناس في الحزن وأسبابه، علم أن ليس يختص من بينهم بمصيبة غريبة، ولا يتميز عنهم بمحنة بديعة، وأن غايته من مصيبته السلوة، وأن الحزن هو مرض عارض يجري مجرى سائر الرداءات، فلم يضع لنفسه عارضًا رديئًا، ولم يكتسب مرضًا وضيعًا؛ أعني مجتلبًا غير طبيعي، وينبغي أن نتذكر ما قدَّمنا ذكره من حال من يُحَيَّا بتحية على أن يشمَّها ويتمتع بها ثم يردُّها ليشمَّها غيره ويتمتع بها سواه، فأطمعته نفسه فيها وظن أنها موهوبة له هبة أبدية، فلما أُخِذت منه حزِن وأسِف وغضِب، فإن هذه حال من عدم عقله وطمع فيما لا مطمع فيه. وهذه حالة الحسود؛ لأنه يحب أن يسيد بالخيرات من غير مشاركة الناس. والحسد أقبح الأمراض وأشنع الشرور؛ لذلك قالت الحكماء: من أحب أن ينال الشر أعداءه فهو محب للشر، ومحب الشر شرِّير، وشر من هذا من أحب الشر لمن ليس له بعدو، وأسوأ من هذا حالًا من أحب ألَّا ينال أصدقاءه خير. ومن أحب أن يُحرم صديقه الخير فقد أحب له الشر، ويجب له من هذه الرداءات الحزن على ما يتناوله الناس من الخيرات، وأن يحسدهم على ما يصلون إليه منها، وسواء كانت هذه الخيرات من قنياتنا وما ملكناه أو مما لم نقتنِه ولم نملكه؛ لأن الجميع مشترك للناس وهي ودائع الله عند خلقه، وله أن يرتجع العارية متى شاء على يد من شاء، ولا سيئة علينا ولا عار إذا رددنا الودائع، وإنما العار والسيئة أن نحزن إذا ارتجعت منا، وهو مع ذلك كفر للنعمة؛ لأن أقل ما يجب من الشكر للمنعم أن نرد عليه عاريته عن طيب نفس، ونسرع إلى إجابته إذا استردها، ولا سيما إذا ترك المعير علينا أفضل ما أعارنا وارتجع أخسَّه. قال: وأعني بالأفضل ما لا تصل إليه يد، ولا يشركنا فيه أحد؛ أعني النفس والعقل والفضائل الموهوبة لنا هبة لا تُسترد ولا تُرتجع، ويقول: إن كان ارتجع الأقل الأخسَّ كما اقتضاه العدل فقد أبقى الأكثر الأفضل، وإنه لو كان واجبًا أن نحزن على كل ما نفقده لوجب أن نكون أبدًا محزونين، فينبغي للعاقل ألَّا يفكر في الأشياء الضارة المؤلمة، وأن يقل القنية ما استطاع إذ كان فقدها سببًا للأحزان، وقد حُكي عن سقراط أنه سُئل عن سبب نشاطه وقلة حزنه، فقال: لأنني لا أقتني ما إذا فقدته حزنت عليه. وإذ قد ذكرنا أجناس الأمراض الغالبة التي تخص النفس، وأشرنا إلى علاجاتها ودللنا على شفائها، فليس يتعذَّر على العاقل المحب لنفسه الساعي لها فيما يخلصها من آلامها وينجيها من مهالكها أن يتصفَّح الأمراض التي تحت هذه الأجناس من أنواعها وأشخاصها، فيداوي نفسه منها ويعالجها بمقابِلاتها من العلاجات الراغبة إلى الله عز وجل بعد ذلك في التوفيق، فإن التوفيق مقرون بالاجتهاد. وليس يتمُّ أحدهما إلا بالآخر.

هذا آخر المقالة [السابعة] وهي تمام الكتاب، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على النبي محمد وآله وأصحابه أجمعين، وحسبنا الله ونعم المعين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤