الضمير الغائب عن الحركة الأدبية المعاصرة
١
هل يمكن النظر إلى «حاضر» مؤتمرات الأدباء العرب، بغير النظر إلى حال الأدباء العرب أنفسهم؟ وهل يمكن النظر إلى «أوضاع» الأدباء العرب بمعزل عن النظر في حال الأدب العربي نفسه؟
إنها، إذن إشكالية مركبة، وليست مشكلة بسيطة … فليس المطلوب، ونحن نناقش مؤتمرات الأدباء العرب أن نتساءل عن موازنة الاتحاد العام أو مطبوعاته أو مبناه أو غير ذلك من «نتائج»، فالأهم أن نسأل أولًا عن البشر، أي عن أعضاء الاتحاد، بل وعن الأدباء الذين ليسوا هم بأعضاء في هذا الاتحاد. ثم نسأل ثانيًا عن الإنتاج الأدبي الذي يفترض في الاتحاد أنه الجهة المكلفة بحمايته وتنظيم وصوله إلى الناس.
في محاولة الجواب على السؤال الأول نقول: إن حال الأدباء العرب المعاصرين من أبرز علامات «الانحطاط» الذي وصلت إليه الأمة العربية المعاصرة. أولئك الأدباء الذين وصلوا إلى أرفع المراتب في السلطة السياسية للدولة العربية الراهنة، وأيضًا أولئك الذين حصلوا على أرفع الجوائز المادية والمعنوية من الدولة، لا يقيمون الدليل على أن حال أدبائنا قد ارتقى عما كانت عليه الأمور منذ نصف قرن أو أنه ارتفع إلى ما أضحت عليه الأمور في بعض أقطار العالم الحديث.
إن «أهمية» الأدباء الذين يعملون وزراء أو مديرين أو وكلاء وزارات أو نواب مديرين، ليست نتيجة كونهم أدباء، بل على الرغم من كونهم أدباء. إنهم كأعضاء في أحزاب أو هيئات سياسية أو طوائف دينية أو أعراق أو مذاهب أو قبائل أو عشائر، يصبحون أعضاء في الحكومة أو المعارضة، أي الحكومة الأخرى. وهم بمراتبهم السياسية وحدها يفرضون لأنفسهم وضعًا أدبيًّا موازيًا لا علاقة له إطلاقًا بحقائق الأوضاع الأدبية.
كذلك الحال في أمر الجوائز الأدبية التشجيعية والتقديرية وما استجد لها أسماء … فبالرغم من أنها كالوظائف العامة تعطى أحيانًا لمن يستحقها بالفعل، إلا أنها حينذاك تصبح كالحق الذي يراد به الباطل … فكما أنه من الصعب الفصل التام بين كتابة أي أديب والمنبر الذي يكتب فيه، كذلك من الصعب الفصل بين الجائزة والدولة، وبين الوظيفة والدولة.
وليس معنى ذلك بالقطع أن يرفض الأديب الجائزة أو يقاطع الوظيفة، فهذا الموقف الدونكيشوتي لا نتيجة عملية من ورائه. ولكن المطلوب فقط هو ألا تتحول الوظيفة أو الجائزة إلى «معيار» يشارك في صياغة الحياة الأدبية العربية. ومن معالمها الرئيسية مؤتمرات الأدباء العرب.
ولكن الحقيقة، للأسف البالغ، هي أن الاتحادات الفرعية للأدباء في عواصم الوطن العربي هي امتدادات عضوية لوزارات الثقافة والإعلام في أقطار هذه العواصم. أي أن تشكيل هذه الاتحادات، في الأغلب الأعم، هو حاصل جمع الوظيفة الإدارية أو السياسية وجائزة الدولة.
كان تشكيل «الاتحاد» في زمن مضى، إنجازًا مهمًّا، ولكنه تحول مع الأيام إلى ديكور يخفي حضور الدولة … فإذا كانت الدولة في زمن ما ومكان ما من الدول التي توصف بالوطنية والتقدمية، فإن الاتحاد يصبح بالتبعية وطنيًّا تقدميًّا، وإذا كانت الدولة من الدول التي توصف بالرجعية أو المحافظة أو المعتدلة، فإن الاتحاد يصبح على هيئتها ومثالها. وأحيانًا تصل الأمور إلى حد أنه إذا كان وزير الثقافة أو الإعلام وطنيًّا وتقدميًّا، فإنه يطبع الاتحاد بطابعه وإذا لم يكن، فإن الاتحاد بدوره لا يكون.
إن «الانتخابات الحرة» لاتحاد الأدباء في بعض الأقطار تعني تقدم الحزب الحاكم بقائمة من تمريرها بموافقة الأدباء من أعضاء الحزب عليها. وقد رفضت أن أصدق ما قيل لي من أن رئيسًا لأحد الاتحادات أجرى تحقيقًا بنفسه مع بعض زملائه الأدباء الذين لم يعطوا أصواتهم للقائمة المتفق عليها. وكانت نتيجة «التحقيق» أن تأثر الوضع الحزبي والسياسي لهؤلاء الأدباء، وما يعنيه ذلك ضمنًا في علاقتهم بالدولة.
رفضت أن أصدق أن أديبًا ما يرضى لنفسه أن يكون «محققًا» في ضمائر زملائه وهم زملاء في مهن يمكن تسميتها «بحرفة الضمير».
كذلك رفضت أن أصدق ما قيل لي في بلد آخر تصادف أن أحد مندوبيه إلى منظمة سياسية عربية ممن يحترفون الأدب. إنه في مجال الثقافة رجل يحترمه الكثيرون: لذلك لم أصدق أنه كتب في أحد زملائه تقريرًا للسلطة العليا في بلاده. باسم الانضباط الحزبي كتب هذا التقرير في زميله، فكان أن ترقى الأديب السياسي في السلَّم الوظيفي للحزب والدولة، واختفى الآخر نهائيًّا. ولما سألت عن السبب قيل لي إن الأديب المشار إليه يعتقد أن رئيس الوفد المذكور قد حجب عنه إحدى الجوائز. والحقيقة غير ذلك؛ فقد كان وزير الثقافة هو الذي حجب الجائزة.
وهكذا؛ فقد رفضت أيضًا أن أصدق ما قيل لي في بلد ثالث، من أن كاتبًا مرموقًا اعتذر عن تولي منصب رفيع في الحكومة، فما كان من اتحاد الأدباء في بلده إلا أن أسقطه من عضوية الهيئة الإدارية في أول انتخاباتٍ تلت رفضه للمنصب.
وبالرغم من أننا نسمع وأحيانًا نرى في بعض الدول أنه يمكن لحزب المحافظين مثلًا أن يكون في الحكم بينما تكون نقابة الصحفيين أو اتحاد الكتاب في هذا البلد من أهل اليسار. إلا أننا في وطننا العربي نلاحظ الانسجام المطلق بين الحكم والاتحاد والنقابة وكل شيء، فإذا كان أهل النظام من أنصار السيرك السياسي، فإنه يتعين على جميع الأدباء أن يكونوا بهلوانات، وعلى جميع الاتحادات أن تكون من أنصار البلياتشو حسن الحلو، وعلى جميع النقابات أن تجلب السباع لحراسة أعضائها.
ولقد رفضت التصديق رفضًا مطلقًا، حين قيل لي في بلد عربي آخر يؤمن حُكامه بالمذهب التعادلي، أن نقاد الأدب هناك يجتهدون في تأسيس عِلم جمال جديد يدعى «علم الجمال التكاملي»، الأمر الذي سيضحك علينا العالم، ويبكي منا القراء.
ولكن الضحية في جميع الأحوال، هم الأدباء أنفسهم. لا أقصد هؤلاء الذين لا يرفضون الوظيفة ولا يقاطعون الجائزة، وإنما أقصد هؤلاء الأدباء الذين لا حول لهم من حزب ولا قوة من حكومة أو قبيلة أو عشيرة أو طائفة أو عصبية أو وظيفة أو جائزة. وهم للأسف الفاجع غالبية الأدباء العرب. أكثرهم لا يذهب أصلًا إلى انتخابات اتحاد الأدباء ولا يعرف موقعه ولا يسمع عنه. بعضهم يعرف عنوان السجن، والبعض الآخر يعرف عنوان المستشفى العقلي، والبعض الثالث يعرف عنوان الكحول أو الحشيش، والبعض الرابع يعرف عنوان المنفى، والبعض الخامس يعرف العنوان السري تحت الأرض، والبعض السادس يبيع قوته ليشتري الرصاصة قبل الأخيرة ليضرب بها نصب الجندي المجهول، والبعض السابع يبيع أطفاله ليشتري الرصاصة الأخيرة فيطلقها على نفسه.
هؤلاء هم جميعًا أقلية الأغلبية، أي أولئك النادرون الذين يتركون لنا في قصص حياتهم وموتهم أخطر القصائد والتراجيديات التي تروي حكاية عصرنا ومأساة جيلنا. ولكن أكثرية الأغلبية لا نعرفها، يكتبون ويكتبون ويكتبون، أفضل منا جميعًا ألف مرة، أنقى وأنبل وأجمل من كل كتاباتنا. ويكتفون بقراءتها للأصدقاء في البيوت أو المقاهي. وأحيانًا يتشجعون فيستدينون وينشرونها على حسابهم في ورقٍ فقير وطباعة أفقر ويوزعونها بأيديهم على المعارف وأبناء السبيل. هؤلاء لا يعرفون اتحاد الأدباء، ليسوا أعضاء في الحزب أو الحكومة أو الجائزة أو القبيلة أو السجن أو المستشفى. إنهم الهامش المجهول في كِتاب معلوم. ولكن اتحادات الأدباء لا تعرفهم، ولا علم لها بالكتاب ولا بهوامشه … فقد تحولت هذه الاتحادات، أو أنها نشأت منذ البداية، كدوائر رسمية في إدارة الدولة.
كان لبنان هو الاستثناء لزمن يطول. كان اتحاده الأدبي منبثقًا عن الحركة الحية للأدباء وعن الحياة الحقيقية للأدب. ولم تكن صدفة أن اتحاد الكتاب اللبنانيين هو الذي انفرد طيلة مرحلة تاريخية بالدفاع عن حرية الفكر والتعبير للأدباء ولغيرهم. الحر وحده هو الذي يدافع عن الحرية لنفسه وللآخرين. ولم تكن صدفة كذلك أن لبنان دون غيره هو الذي كان منبر الثقافة العربية الحقيقي بكافة المعاني ولكل الاتجاهات. كان منبر النشر والمؤتمرات واللجوء. وهو المنبر الذي نفتقده افتقادًا كليًّا إذا ضاعت بيروت بالهيمنة أو بالتقسيم … فلا بديل لهذا المنبر خاصة في ظل احتجاب مصر. وليست الهجرة إلى نيقوسيا أو روما أو باريس أو لندن إلا تعبيرًا صريحًا عن غياب البديل.
فأين مؤتمر الأدباء العرب من هذا كله؟
يجب أن يكون هناك أدباء أولًا. قبل أن نناقش الأدب والقومية العربية أو الأدب والإمبريالية أو الأدب والألسنية والبنيوية والصهيونية. يجب أن يكون هناك أدباء قبل أن نناقش لمن يكتب الأديب أو الأدب والمجتمع، أو أهداف الأدب وغير ذلك من موضوعات بالغة الأهمية. ولكنها تفقد أهميتها فورًا إذا لم يكن هناك أدباء.
وطبعًا الأدباء موجودون، ولكنهم بمعنى آخر غير موجودين. فما دامت هناك قصة جديدة وقصيدة جديدة ومسرحية جديدة ودراسة نقدية جديدة، فإن الأدباء والنقاد موجودون، ولكن ظهور هذا العمل الأدبي أو ذاك لا يعني تمامًا أن الأديب موجود. قد تكون دلالته الوحيدة أن الجائزة موجودة أو المستشفى، قد تكون الوظيفة أكثر وجودًا أو المنفى. أما الأديب، ككائن إنساني له نشاطه النوعي الخلاق في المجتمع والعصر، فإنه موجود في أرجاء كثيرة من العالم، ولكنه نادر الوجود في وطننا.
«على المثقف العربي أن يكون غنيًّا جدًّا وأن يكون لامباليًا جدًّا حتى لا يجوع أو يمرض أو يسجن أو يجن أو يموت.» هكذا تقول إحدى الشخصيات الروائية … ترى ما الذي عاناه كاتبها لدرجة الإفصاح بهذه الكلمات القاسية؟
لنسأل الاتحاد العام للأدباء العرب، وهو كما نفترض الجسم الأدبي الشرعي. سيقول — إذا صدق — إنه حاصل جمع الاتحادات الأدبية الرسمية. وحاصل جمع الإمكانيات العربية الرسمية. وحاصل جمع القرارات والتوصيات الرسمية. يستطيع أن يقدم أيضًا كشف حساب رسميًّا.
كشف الحساب سيقول إن الاتحاد العام له مبنى فاخر في دمشق يتسع لجميع الأدباء العرب، وإنه يصدر مجلة دورية تتسع لأقلام كل العرب، وإنه يدعو إلى مؤتمر عام كل سنتين يحضره العشرات من الأدباء العرب. وماذا يستطيع الاتحاد العام أن يفعل في مثل هذه المؤتمرات أكثر من تنظيم الندوات الدراسية والأمسيات الشعرية وتعريف الأدباء بعضهم ببعض.
فعلا، ماذا يستطيع؟
«من» هو أولًا الذي يستطيع ولا يستطيع؟ إن تحديد هوية الاتحاد العام والمؤتمرات المنبثقة عنه، هو الذي يحدد لنا المطلوب منه وهو الذي يحدد لنا الإنجازات أو التقصير.
ولعلنا في السياق حددنا تقريبًا هذا الاتحاد وتلك المؤتمرات بأنها نوع من الامتداد العضوي للحكومات العربية، ولكنه الامتداد التابع لا الشريك. إن الاتحاد العام للأدباء العرب ليس انعكاسًا مثلًا لجامعة الدول العربية، فهذه الجامعة رغم كل سلبياتها، فإنها بالفعل حاصل جمع الإمكانيات العربية الرسمية، أما الاتحاد العام للأدباء العرب فوضعه يشبه وضع أي اتحاد فرعي في بلده، لا حول له ولا قوة سوى التصفيق أو برقيات التهاني. والتصفيق لا يكون بالضرورة بالأيدي، وإنما بالأقلام في الأيدي، وبرقيات التهاني لا تكون دائمًا بواسطة مصلحة التلغراف، وإنما بوساطات ومصالح لا حصر لها ولا عد.
ومن الطريف أو المأساوي أو الاثنين معًا أن دستور الاتحاد العام يؤكد استقلالية هذا المنبر عن الأنظمة والحكومات. ولكننا في الحقيقة لم نحظَ برؤية وفد يختلف مع حكومة بلاده أو أن عضوًا في وفدٍ اختلف مع وفد بلاده متفقًا في نقطة أو أكثر مع أعضاء آخرين في أقطار مختلفة. لم يحدث ذلك. في الاستراتيجية والتكتيك لا خلاف بين أي وفد وحكومة بلاده ولا اختلاف بين عضو وآخر في الوفد الواحد. هكذا تحول الاتحاد العام للأدباء العرب إلى مبنى وكلام على الورق. وهكذا تحولت مؤتمرات الأدباء العرب إلى مظاهرة سياسية في أحسن الأحوال وفرصة سياحية في مختلف الأحوال.
وهي حالة محزنة، سواء بالمقارنة إلى «النوايا» القديمة عند نشأة «التجمع» الذي دعت إليه جمعية لبنانية منذ ثلاثين عامًا، أو عندما تأسس «الاتحاد» برفقة النهوض القومي للعرب في العقد الذهبي بين أواسط الخمسينيات وأواسط الستينيات.
أما مناقشة الواقع الأدبي بشرًا وإنتاجًا للبشر، فلا مكان لها على الإطلاق في أي مؤتمر. والنتيجة؟
هي السقوط الشنيع لمؤتمرات الأدباء العرب في وهاد المكاسب الصغيرة والتشرذم والتبعية الرخيصة. ولا يعود أمام الأديب العربي الجاد أو الشريف إلا الانزواء، سواء أكرهوه على الذهاب للمؤتمر أم أنه كان حسَن الحظ فلم يطلب منه أحد شيئًا. وفي الحالين يشعر الجمهور بأن هناك مؤتمرًا مهمًّا في عاصمة بلادهم إذا عقده النجارون أو الباعة المتجولون، ولا يشعر هذا الجمهور نفسه بأي شيء إذا أخطأ أحدهم وقال إن هناك مؤتمرًا يعقده الأدباء العرب.
٢
مع احترامنا الكامل للقول بأن الآداب والفنون هي من إحدى الزوايا انعكاس للواقع الاجتماعي، فإننا نحترم أيضًا الرؤى المختلفة لعملية الانعكاس هذه … حيث يمكن للفن والأدب أن يعكسا الواقع عموديًّا أو أفقيًّا مستقيمها أو مقلوبًا باطنًا أو ظاهرًا، حسب طبيعة الجنس الأدبي والفني والبيئة التي أثمرتها والمرحلة التاريخية التي احتضنتها، والفنان أو الأديب المبدع بكل ما يشتمل عليه من خبرة وموهبة وثقافة.
ومعنى ذلك أن عصرًا قيصريًّا في روسيا لم يحُل دون ظهور أدب عظيم كتبه دوستويفسكي وتولستوي وتشيخوف، بينما نلاحظ على العصر الثوري في الاتحاد السوفيتي، أي منذ بداية الثورة الاشتراكية إلى اليوم أن أعمالًا نادرة هي التي عكست تعقيدات الواقع الاجتماعي الجديد في نماذج فنية رفيعة المستوى … فالانعكاس لا يعني مطلقًا أن الأدب «مرآة»، وإلا كانت العدسة الفوتوغرافية هي أعظم الأدباء والفنانين قاطبة.
أمهِّد بذلك إلى القول بأن الواقع العربي السائد منذ سنوات (لنقل الخمسة عشر عامًا الأخيرة) قد انعكس في الآداب والفنون انعكاسًا تناقضيًّا. أي أن الكم والكيف الأدبي والفني في هذه المرحلة يتناقض إلى حد كبير مع طبيعة الحقبة التاريخية الاجتماعية المعاصرة.
ولما كنا نعلم سلفًا أن الواقع الاجتماعي السائد هو نفسه ليس شيئًا منسجمًا موحَّدًا متسقًا، بل يشتمل على تناقضات عديدة، فإننا نقول إن سمات «الانحلال» الطاغية على سطح هذا الواقع لا تخفي الصراع الضاري في الأعماق مع ملامح أخرى نقيض هذا الانحلال. ولقد استطاع قِطاع لا بأس به من الأدباء أن يبصر هذا الصراع وأن يدرك هويته وأن يمسك بأطرافه وأن يتحاور معه في إطار «النوع» الأدبي المختلف جذريًّا عن أية نشاطات إنسانية أخرى كالسياسة أو علم الاجتماع. إنه قد يحتوي أو يستوعب هذه الظاهرة أو تلك من الظواهر السياسية أو الاجتماعية، ولكنه لا يستحيل وثيقةً سياسية أو تقريرًا اجتماعيًّا إلا عند «الأدباء» عديمي الموهبة الذين لا يستحقون هذه التسمية.
من هنا أكرر أن الواقع الأدبي العربي المعاصر قد عكس واقعنا الاجتماعي ولكنه انعكاس التناقض أو التقاطع. وسوف يؤرخون في المستقبل لهذه الظاهرة كأنها إحدى العجائب؛ إذ كيف تأتي للتفسخ والانحلال والبطش والفساد والتقهقر الذي بلغ الذروة المأسوية في الفترة ما بين أيلول الأسود عام ١٩٧٠م وأيلول الأسود عام ١٩٨٢م أن «يثمر» مرحلة خصبة من مراحل الازدهار الأدبي؟
لقد سبق أن قلنا إن المناقشة الأمينة لمؤتمرات الأدباء العرب تستدعي تحليلًا أمينًا كذلك لواقع الأدباء العرب ثم واقع الأدب العربي. ولعلنا لاحظنا أن واقع الأدباء العرب هو إحدى الصور المباشرة للواقع العربي الشامل، فكيف — مرة أخرى — يثمر هذا الواقع وهؤلاء الأدباء واقعًا أدبيًّا مغايرًا؟
-
أن «موجة جديدة» — ولا أقول جيلًا جديدًا — قد تبلورت في أحد أخطر مجالات الخلق الأدبي، هو الفن الروائي، خلال الفترة التاريخية المذكورة.
-
أن قائمة تضم أعمال — ولا أقول أسماء — غالب هلسا وعبد الرحمن منيف ورشاد أبو شاور ورشيد أبو جدرة ويوسف حبشي الأشقر وغادة السمان وسحر خليفة وجبرا إبراهيم جبرا وهاني الراهب وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ومحمد البساطي وإدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وغسان كنفاني وحليم بركات وإبراهيم عبد المجيد وعبده جبير وحنان الشيخ ومجيد طوبيا … هذه «الموجة الجديدة» التي أنقذت الرواية العربية من توقف هذا أو ذاك من «الرواد» قد عاصرت وما زالت تعاصر الواقع العربي البشع والمنحط، ولكنها معاصرة التقاطع والتناقض، لا معاصرة التشابه والانسجام. بفضل هذه الموجة لم تتوقف الرواية العربية عند «أعتاب» الرواد الذين توقفوا بالتكرار وإن سودوا آلاف الصفحات. ولم يكن ذلك إطلاقًا بفضل الاتحاد العام للأدباء العرب، ولا بفضل مؤتمراته الدورية … بل العكس، في تناقض مع هذا الاتحاد وتلك المؤتمرات.
-
أن الاتحاد المذكور لا يستطيع الزعم بأنه أسهم على أي نحو في بلورة هذه «الموجة الجديدة» أو دعمها أو تمهيد الطريق أمامها. بل لقد كان التكوين المحافظ وأحيانًا الأمي لكثير من هياكل الاتحاد والمؤتمرات عقبة حقيقية بمواجهة عناصر التجديد الفكري والفني في الأدب الروائي الصاعد.
-
لقد استعاد الأدب — في الفترة ذاتها — أهميته التي فقدها لأمد طويل في وسائل الإعلام، فأمست الصفحات الثقافية في الجرائد اليومية والمجلات الأسبوعية من معالم «الجدية» و«الرواج» لأية صحيفة. وبالرغم من أن هذا الطابع الكمي لازدهار الأدب ينطوي على قدر هائل من السلبيات، فإنه يشتمل أيضًا على قدر من الإيجابيات: بعودة القصيدة والقصة والرواية المسلسلة والمقال النقدي لأن يصبح من الغذاء الشعبي شبه اليومي للقراء. والأدب لا يصل إلى هذه الدرجة من الأهمية إلا إذا التصق التصاقًا حميمًا بهموم القطاعات العريضة من البشر، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بمشاكل زمانهم وأزمات وجدانهم وتجليات عقولهم. كذلك فإن الأدب لا يبلغ هذا المستوى من الذيوع والانتشار إلا إذا تفاعل مع وسائل الاتصال تفاعلًا عميقًا، فيأخذ من الصحافة ويعطيها على الصعيد البلاغي والبياني وأدوات التعبير وبنى الدلالات.
-
أن هذه «الأهمية البالغة» التي استعادها الأدب في الآونة الأخيرة تعكس ازدهارًا لا شك فيه، لا يرجع بشأنه الفضل إلى الاتحاد العام للأدباء العرب، بل إلى الصحافة العربية، ولا يعود الفضل فيه إلى مؤتمرات الأدباء العرب، بل إلى الملاحق الثقافية والمجلات الأدبية التي تزيد من ناحية الكم على المائة مطبوعة شهرية أو دورية يملكها الأدباء أنفسهم أو بعض الجمعيات الخاصة أو دور النشر غير الحكومية. ومن المفارقات التي لا تحتاج لعناء كبير، أن المائة مجلة ثقافية التي نشير إليها لا علاقة لها بالكم الهائل من مجلات وزارات الثقافة والإعلام التي يبتعد عنها الأدباء في الأغلب الأعم.
-
أن جيلًا بل أجيالًا من الشعراء الكهول والشباب بدءوا مسيرتهم من الستينيات إلى الثمانينيات، أي أنهم شعراء المرحلة التي نتكلم عنها، قد غيروا الكثير الكثير من الشوائب والثوابت والرواسخ التي لم يستطع «الرواد» إزاحتها من الطريق، لانشغالهم أساسًا بالرؤى الجديدة. وربما لا تكون الأجيال الجديدة قد جددت في هذه الرؤى لانشغالها أساسًا بحسم المعركة نهائيًّا لمصلحة «الجديد». من أمل دنقل إلى حسن طلب في مصر، ومن ممدوح عدوان وأحمد دحبور ومريد البرغوثي وسليم بركات إلى محمد علي شمس الدين ومحمد العبدالله وحسن العبدالله وعباس بيضون وشوقي يزيع في المشرق وعلي الفزاني ومحمد الشلطامي وعبد اللطيف المسلاتي وأحمد حمدي وعمر أزراج وعبد العال رزاقي والمنصف الوهايبي ومحمد الغزي وآدم فتحي ويوسف رزوقة وأحمد المجاطي ومحمد بنيس ومحمد الأشعري في المغرب، موجات إثر موجات من المبدعين الجدد الذين تخرجوا في السجون والمعتقلات والمستشفيات وميادين القتال مع العدو أو الحرب الأهلية.
- (١)
تعريب الأدب، حيث لم تعد هناك رواية مصرية خالصة كما كان الشأن حتى الأربعينيات والخمسينيات، وإنما أضحت هناك رواية عربية في العراق أو في الكويت أو في تونس أو في ليبيا. انعكست الحروب الواحدة والتخلف المشترك والعذابات الجامعة، على البنى الفكرية والجمالية للأدب، فأمسى الطابع القومي العربي عنصرًا تكوينيًّا لمرحلة جديدة في تاريخ هذا الأدب، تتضاد جذريًّا مع مرحلة التفتت الإقليمي والطائفي التي تنخر في الواقع العربي المعاصر.
- (٢)
شعبية الأدب في المسرح والإذاعة والتليفزيون والسينما، بإخراج القصص والقصائد والروايات والمسرحيات إخراجًا يصل بهذه الأعمال الراقية إلى السواد الأعظم من الجماهير عبر الوسائط المنسجمة مع مستواها الثقافي. هذه الشعبية للأدب والأديب تتناقض كليًّا مع الرقابة والإعلام الرسمي والأمية الساحقة، تتناقض أيضًا مع انعكاسات واقع التجزئة حيث يعامل الكتاب أو المجلة كالمخدرات أو السلاح أو أية ممنوعات يتاجر بها المهربون.
- (٣)
حل معادلة التراث والعصر المستعصية على الفكر السياسي والاجتماعي حلًّا يصل بين جذورنا وعصرنا وصلًا فكريًّا وجماليًّا قويًّا لا يعتمد التوفيق أو التلفيق. أكثر أعمالنا الأدبية نجاحًا بمختلف معايير النقد الأدبي. من اليسير ملاحظة هذه الظاهرة الجديدة التي لم يتح لها أن تنتشر في الأزمنة الإقليمية للآداب العربية، لأن جوهر هذه الأزمنة كان التوفيق الذي ينتهي به التلفيق إلى الهزائم والسقوط رغم الالتماعات والومضات والوثبات الجزئية على طول الطريق. أما التركيب الذي ينهي الفصام العقلي والشعوري، والذي ينهي الفجوة المزيفة بين الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه أحد أخطر المكاسب التي يربحها الضمير العربي المعاصر، وهو يئن تحت وطأة السلفية الكاسحة من جهة، أو الاغتراب الفاجع من جهة أخرى، وما يفرزانه من فصام جماعي في الشخصية العربية بازدواجها أو عدميتها.
إن هذه الانعكاسات الحية في أدبنا المعاصر تؤكد المفارقة المؤسية بين الازدهار الأدبي والانحطاط الواقعي. ونطرح السؤال عما إذا كان الاتحاد العام للأدباء العرب من أسباب الازدهار أم إنه يشكل أحد طرفي المفارقة المأساوية، أي أنه أحد مظاهر الانحطاط العربي.
- (أ)
فالأدب لم ينجُ من عصر النفط العربي، سواء بالكم الهائل من المنابر الثقافية والإعلامية التي جعلت الطلب أكثر من العرض، أو بفرض أصحاب رأس المال أذواقهم وقضاياهم على الساحة الأدبية.
لقد أدت زيادة الطلب على العرض إلى زيادة الأسعار لنشر الأدب زيادةً غير متوازنة مع الغلاء العام، بل إنها جعلت من الأدب سلعة تفوق في أهميتها المواد الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية الأخرى. ومن ناحية ثانية كان لا بد من غلبة الكم على الكيف، لاحتياج الفراغات إلى الحشو، والصفحات البيضاء إلى الحروف السوداء.
ومعنى ذلك بوضوح أن الآثار النفطية القاتلة للأدب، تركزت في «إثراء» مفتعل وقصير الأجل لبعض الأدباء الموهوبين الذين راحوا «يفصلون» أعمالهم بمقاسات النفط السياسية أو الاجتماعية أو حتى الفنية. وكان من هذه الآثار أيضًا أن تكاثرت أعداد غير الموهوبين وزاحموا أصحاب المواهب مزاحمة من شأنها خلط الحابل بالنابل سواء بتمييع المعايير الأدبية أو بفقدانها أصلًا أو بتزييف معايير «جديدة» لا علاقة لها بالأدب والفن.
والمغزى الآخر هو الاكتشاف المفاجئ لأهل النفط أنهم يملكون آبارًا وكنوزًا من الأدب والجمال لم يتعرفوها من قبل، فيفرضون أسماءً لا علاقة لها بالموهبة أو الفن، وإنما لها علاقة بالأرصدة والودائع في المصارف الأجنبية؛ لذلك فهي ترى أن لها «الحق» في الكتابة، ومن ثَم فهُم «يكتبون» فوق رءوسنا بالأسياخ ما تقشعر له الأبدان.
- (ب)
والأدب لم ينجُ من عصر البطش والقهر والطغيان … لذلك فهو يلجأ إلى نقيضَين ينتهيان بخاتمة واحدة. بعض الأدب يطلب حق اللجوء السياسي أو العرقي أو الطائفي إلى الرموز. ولا تولد نتيجة ذلك مدرسة رمزية في الأدب العربي المعاصر. ليس لدينا أدب رمزي، بل عندنا أدب التورية والكناية والاستعارة. وهو أدب سهل، مخنوق العصارة، عقيم. كذلك يطلب بعض الأدب حق اللجوء السياسي إلى العقيدة الفكرية وشعاراتها، فلا تعود القصص والقصائد والمسرحيات أكثر من منشورات «ثورية» لا تسمع عن الفن من قريب أو من بعيد.
ويبدو لنا الأمر كما لو أننا بصدد اتجاهَين متناقضين أحدهما غامض ومعقد، والآخر واضح ومباشر. يستطيع النوع الأول أن يبرر نفسه بأنه «عصري» وأن الغموض هو سمة العصر الرئيسية نتيجة القلق وإخفاق العلم في إنقاذ البشرية. ويستطيع النوع الثاني أن يبرر نفسه بأنه يخاطب الجماهير، وأنه أدب الشعب. ومن الممكن لكلا الاتجاهين أن يتخاصما علنًا، فيتهم أحدهما الآخر بأنه غربي وغريب ومغترب، فيرد هذا على ذاك بأنه غوغائي ودوغمائي وبغبغائي.
ولكن الحقيقة هي أنهما معًا من ظواهر الزيف نتيجة القهر … فالرمز الاضطراري أو الرمز السياسي الفج والسطحي هو تذكرة هروب من فهم الرقيب أو الشرطي أو الجاسوس، ولكنه أيضًا تذكرة هروب من الأدب. وكذلك الأدب الشعاري هو مبالغة في الخوف لدرجة الانتحار الكاريكاتيري لجوهر الخلق الأدبي.
ونتائج النوع الأول «الرمزي» هي تحول الأعمال الأدبية إلى عمليات إسقاط، وما يستدعيه ذلك من عناد في البحث عن أدوات تعبيرية غير طبيعية والاستنجاد بها لإيجاد المقابلة بين المعلن والمكبوت، أو بين الظاهر والباطن. إنها أدوات تعبيرية مفتعلة، لأن العمل الفني لم يتطلبها بشكل طبيعي، بل هو «الذهن» الذي «فكر» على نحوٍ شبه رياضي، وليس الطاقة الإبداعية هي التي خلقت. لقد شاعت في الستينيات الناصرية مثلًا فكرة «العصر المملوكي» بما يحتويه من بطش وطغيان الحاشية السلطانية، بينما الخليفة أو الوالي أو السلطان رجل طيب لا يدري ما يحدث لشعبه. وكان من الغريب أن نجد كاتبًا كتوفيق الحكيم وآخر كألفريد فرج وثالثًا كسعد الدين وهبة ورابعًا كرشاد رشدي وخامسًا كعبد الرحمن الشرقاوي، جميعهم يلجَئون إلى هذا الديكور الرمزي المباشر، إن جاز التعبير، بالرغم من اختلافهم اختلافًا حاسمًا في الجيل والرؤية والموهبة والخبرة والاتجاه.
لماذا إذن؟ السبب هو الخوف المشترك من الكلام «الواقعي» الصريح والغني، والاكتشاف الجماعي للحل في اتخاذ العصر المملوكي ديكورًا خارجيًّا وواسطة تاريخية لتوصيل «المعنى»؛ لذلك تجيء أعمال تلك المرحلة المسرحية في تاريخ مصر رغم أهميتها القصوى في قوالب تبسيطية شارحة كوسائل الإيضاح في التربية والتعليم المدرسي. ذلك أن العصر المملوكي هنا ليس عنصرًا جماليًّا أصيلًا في البناء الدرامي، بل واجهة عرض وحيلة يظن أصحابها أنها تخدع السلطة. ولم تكن السلطة في الحقيقة ضد هذه الأعمال، لأن الحاكم فيها كان باستمرارٍ رجلًا طيبًا أو غائبًا أو عاجزًا، ولكنه بالقطع لم يكن شريرًا أو داريًا بما يجري أو قادرًا على تفاديه.
لقد تفشى هذا البناء الرمزي المباشر في أدب المرحلة الراهنة جنبًا إلى جنب مع أدب الشعارات، وكانت الحصيلة كمًّا هائلًا من أدوات التعبير المزيفة والتي من شأنها في خاتمة المطاف تزييف الوعي.
۳
بين مطاردات النفط ومطاردات الشرطة تتألق على الفور قضايا زائفة ومشكلات غير حقيقية يتمحور حولها الأدب. فالعالمية المزورة والسياحات المشبوهة خارج الحدود وبريق الترجمة إلى اللغات «الحية» تشكل جميعها «نماذج أدبية» تُحتذى.
ولعله من المفهوم أن يكون الغرب منذ قرن «قدوة» أدبية لأسباب تاريخية خاصة بإشكالية عصر النهضة. ولكنه لم يعد مفهومًا أن تظل هذه القدوة بعد قرن وكأنها قدر الأقدار أن نكون أصداء لا أصواتًا، وبتعبيرٍ أكثر صراحة أن نكون عبيدًا للغرب الأدبي عبودية الطبقات والأنظمة التي نهاجم تبعيتها السياسية أو الاقتصادية للغرب.
«نموذجية الغرب» الأدبية في الفترة التي نتناولها بالتشخيص تفتح لها الطريق أفكار ووسائل محددة هي الجائزة «العالمية». وهي الأفكار والوسائل التي سرعان ما تتحول إلى أدوات وعناصر جمالية في التركيب الأدبي. أدوات مجلوبة جلبًا بلا ضرورة تحتمها، وعناصر تنجذب إلى تعاطيها كمغناطيس خارجي ليس صادرًا من القلب أو الروح أو ما نسميه بحساسية الخلق. والنتيجة هي «تفصيل» أدب لا علاقة له بقدودنا وأذواقنا واحتياجاتنا، والنتيجة أيضًا هي تثبيت مصطلحات جمالية ضلت طريقها إلينا، لا هي مستوردة ولا هي أصيلة ولا هي بين بين. وبموجب العلاقة الجدلية القائمة داخل النص بين مستوياته المختلفة، فإن ما نسميه بالأشكال الزائفة ثمرة الطموحات الزائفة لا ينفصل عن المكونات الزائفة من الإشكاليات المغتربة كليًّا عن وعينا وأرضنا وحياتنا. ولا يعود كسب قارئ عربي جديد في ذات الدرجة من الأهمية التي يعلقها أدباؤنا على الترجمة إلى الفرنسية أو الإنجليزية أو الروسية. ولا تعود معالجة قضية يكتوي بها إنساننا في نفس الدرجة من الحيوية التي يتسم بها نشاط أدبائنا في البحث عن «سفرية» إلى مؤتمر في فيلادلفيا. وبالطبع، لا تعود الرغبة أو المعاناة في اكتشاف قوانين تطورنا الأدبي بحجم الطموح المختزن لدى أدبائنا في الحصول على جائزة نوبل.
ولكن …
ما علاقة هذه السلبيات كلها بمؤتمرات الأدباء العرب … أو بأصل الأصول، الاتحاد العام للأدباء العرب؟
إننا لا نستطيع أن نقرن حال الأدباء العرب المعاصرين ولا حال الأدب العربي المعاصر، بحال الاتحاد العام ومؤتمراته. ذلك أن الأدب والأدباء أكبر وأعم وأخطر من كل الاتحادات والمؤتمرات … فضلًا عن أن الاتحاد أو المؤتمر لا يشكل عنصرًا بنيويًّا في تكوين الواقع أو الثقافة. ولو كان الاتحاد المذكور غائبًا أصلًا لما خطر على بال أحد أن هذا الغياب هو مصيبة المصائب. ولكن بما أنه «موجود» ولا أقول إنه «حاضر» فلا بد من مساءلته عن أوجه التقصير، إن وجدت.
ولا مانع من الإقرار مقدمًا بأن الاتحاد بمؤتمراته ليس مسئولًا عن كل ما جرى ويجري للأدباء وأدبهم. ولكن مجرد وجوده على النحو الماثل للجميع يدفعنا إلى محاولة التقويم وليس الاتهام.
ولا بد من التأكيد على نقطة هامة هي أن مشكلة الاتحاد ومؤتمراته لا تكمن في قيادة سليمة أو غير سليمة، وبالتالي فإنها لا تكمن في صلاحية أفراد محددين أو عدم صلاحيتهم. وإنما تكمن الإشكالية — وليست المشكلة — في التكوين البنيوي للاتحاد وهيكل مؤتمراته.
ولقد آن الأوان لشطب كلماتٍ اعتدنا عليها كأنها من المسلمات، وهي ليست كذلك … فلا ينبغي مثلًا أن نشير إلى الاتحاد المقصود بقولنا «الاتحاد الرسمي» أو «الاتحاد الشرعي» كما هو حالنا مع الأنظمة السياسية، لمجرد أنها في السلطة و«معترف بها» من المجتمع الدولي؛ فالرسمية والشرعية كلتاهما تعتمد على المصدر الذي يمنح. ومن هنا، فالحكومات تستطيع أن تشكل إحدى اللجان أو الدوائر أو الإدارات، بقرار. تستطيع أن تحدد الهدف والوسائل وأن تعين البشر. ويقال حينئذ إن هذه اللجنة رسمية أو إن هذه الإدارة شرعية، لمجرد أن صاحب القرار هو المدير العام أو الوزير أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية أو الأمير أو السلطان أو باعتبار أن أيًّا من هؤلاء هو «مصدر الشرعية».
إذا جاز التزوير في السياسة، وهو بالقطع غير جائز وبالحتم هو سبب الكوارث، فإن التزوير في الأدب والأدباء من المستحيلات الثابتة … ذلك أن جلالة الملك أو فخامة الرئيس أو سمو الأمير لا يستطيع أن يصدر قرارًا بظهور «أديب» أو فنان أو كاتب، ومن ثم فهو لا يستطيع أن يصدر قرارًا بظهور قصة أو مسرحية أو قصيدة. ولكنه يستطيع أن يعين أحدهم وزيرًا للثقافة أو مديرًا للنشر أو أمينًا عامًّا لاتحاد الكتاب، كما يستطيع أن يعتمد موازنة سنوية للوزارة أو الإدارة أو الاتحاد، توزع على المؤتمرات والسفر والنشر والجوائز، بمعرفة السادة موظفي الوزارة أو الإدارة أو أعضاء الاتحاد والمؤتمرات.
النظام العربي المعاصر هو مصدر «الرسمية» والشرعية التي يتمتع بها اتحاد الأدباء العرب ومؤتمراته. وبالتالي، فمن حق الذي يمنع ويمنح أن يجيء بالاتحاد والمؤتمرات على صورته ومثاله. وهذا ما كان. فالاتحاد ومؤتمراته ليسا تجاوزًا للنظام العربي الراهن. بل هما يستمدان رسميتها وشرعيتها من هذا النظام.
هكذا يصبح: تشكيل الاتحاد العام، والاتحادات الفرعية، والمؤتمر العام، ومختلف النشاطات المنبثقة، مجموعةً من متوازيات الظل، للمصدر الأول والرئيسي. في هذه الحال، تمتد رسمية الاتحادات الفرعية وشرعية الاتحاد العام حتى إنها لتشمل الأعضاء المشاركين فيصبح الأديب «رسميًّا» و«معتمدًا» بمقدار انتمائه للاتحاد الفرعي وولائه للاتحاد العام والمؤتمر، حتى ولو كان هذا الأديب خارج الاتحاد والمؤتمر من الأدباء الموهوبين … فموهبته وخبرته ووزنه ورصيده تتحول كلها إلى «أسرى» لدى النظام العربي المعاصر. وشتان ما بين الأسير أو الرهينة والمبدع الخلاق.
وشتان أيضًا بين الأديب «الموظف» والأديب الحر، كلاهما موهوب ربما، ولكن الموهبة الموظفة في خدمة الدولة يختلف حصادها عن الموهبة الحرة من كل قيد، وهي غالبًا الموهبة التي تستهدف الفن والإنسان. إن مأساة شاعر كبير كصلاح عبد الصبور أنه اضطر للوظيفة أو اختارها، لا يهم، فالأهم أنه ذات يوم وجد نفسه في تنافض بين الفن والإنسان ولم يكن هناك حل لهذا التناقض سوى الموت لموهبة كبيرة وحساسية رفيعة خسرنا صاحبها إلى الأبد.
إن أهم الأدباء وأكبرهم موهبة، في الغالب وليس بشكل مطلق، هم معارضون في بلادهم أو خارجها؛ لذلك فهم ليسوا أعضاء في الاتحاد «الرسمي» للأدباء أو المؤتمرات «الشرعية» للأدب. والذين يغامرون منهم بالانضمام يشعرون بالغربة والكآبة، لدرجة الانسحاب أخيرًا.
ليست القضية هنا أن قيادة الاتحاد الراهنة أو السابقة أو اللاحقة، قيادة غير ديمقراطية، وإنما القضية هي أن التكوين «الشرعي» للاتحاد يتناقض أصلًا مع أي تعريف للديمقراطية. لذلك، فالمشكلة لم تكن يومًا ولن تكون مشكلة فرد أو أفراد، بند في اللائحة أو بنود. بل تكمن المسألة في «تركيب» الاتحاد وخصائصه التاريخية التي باتت تشكل جوهره الحقيقي.
هكذا كانت «القيادة» في الزمن القديم من نصيب يوسف بك السباعي الذي قد يكون الفارس الرومانتيكي الأول رحمه الله، ولكنه من المستحيل أن يكون فارس الحياة الأدبية العربية. ثم أصبحت القيادة لمن يستطيع أن يدفع إيجار المقر وتذاكر السفر وثمن الدوريات أو المجلات التي لا يقرؤها أحد. وفي زمن الانقسام العربي أصبحت «القيادة الأدبية للعرب» صورة طبق الأصل من الصراعات السياسية بين «الأقطار» وكأن الروائي (أ) متفق تمامًا مع الرئيس (ي) حول صراع الشرق الأوسط، وبالتالي فهو يختلف مع الرئيس (ط) في أسلوب الكتابة الروائية. ومن ثَم فهو لا يرضى بأن يكون الأمين العام لاتحاد الأدباء أو المقر أو المجلة في بلد الرئيس (ط).
إلى هذا الحد وصلت الأمور، فلم تعد هناك علاقة بين الأديب والأدب، بل بين الأديب ونظام الحكم في بلاده، ولم يعد مسموحًا لي بأن أعجب بشاعر يمني ما دامت العلاقات بين رئيسه ورئيسي ليست على ما يرام. وممنوع أن أرشح كاتبًا ليبيًّا أو مسرحيًّا سوريًّا أو ناقدًا عراقيًّا، «لمنصب» شاغر في الاتحاد أو لعضوية أحد المؤتمرات، ما دامت القيادة السياسية في بلدي غاضبة من قيادة هذا القطر أو ذاك.
وهكذا حقق الاتحاد العام للأدباء العرب مطلب القيادة السياسية العربية من الباب العريض، فإذا بالمؤتمرات الدورية مجرد ملحقات زخرفية لصراعات النظم. وبالتالي، فإنه من الممكن الدعوة الحارة إلى حرية الفكر والتشهير بالذين يصادرون، الأدب والأدباء، ما دام المقصود ضمنًا أو مباشرةً هو التشهير بدولة عربية محددة، وكأن الدولة الأخرى «المضيفة غالبا» هي رائدة الديمقراطية في العالم. بينما الحقيقة أن هذه الدولة قد صادرت عشية انعقاد المؤتمر الكثير من الشعر والنثر والبشر. إن مجاملة الدكتاتوريات العربية أضحت من المسلَّمات الدستورية في أعمال مؤتمرات الأدباء العرب. ولم يحدث قط أن أصدر الاتحاد المذكور قائمةً مفصلة بأسماء المثقفين العرب المعتقَلين في كافة الأقطار العربية، وعناوين المؤلفات العربية المصادَرة في بلادنا كلها.
لم يحدث ذلك، ولن يحدث، في ظل «الهيكل» الرئيسي للاتحاد والمؤتمرات. ومن الطريف المأسوي أن البلدين اللذين يتصارعان حول «قيادة» الاتحاد ويستقطبان هذه المجموعة أو تلك من الأدباء يصطلحان بعد ذلك ويتباوسان ويشربان الأنخاب، ولكن الانقسام «غير الأدبي» بين الأدباء يتحول إلى ورطة بعيدة تمامًا عن الأدب والأخلاق والمبادئ. ولذلك كله يتحول نشاط الاتحاد المذكور من مؤتمرات وزيارات لبلدان أجنبية ونشرات وتوصيات إلى نوع من «الروتين» الأجوف الذي لا يحقق شيئًا من الأهداف «الطويلة العريضة» المرسومة بإتقان في لائحة الاتحاد وقانونه الأساسي.
وبعدُ، فإنني هنا لست أدعو إلى اتحادٍ بديل، ولا إلى ترميم الاتحاد الراهن، لأنها حينئذ تكون دعوة هزلية … فالمصالح القُطرية الضيقة، لن تستجيب أصلًا لمثل هذه الدعوات. ولكنني أدعو جماهير الأدباء من داخل الاتحاد وخارجه إلى التفكير الهادئ في بعض النقاط:
-
هل يمكن إلغاء الطابع الرسمي البيروقراطي التابع للنظم، بغير إلغاء «القُطرية» من تكوين الاتحاد العام للأدباء العرب، فيصبح اتحادًا للأدباء العرب، لا اتحادًا بين أدباء مصر وأدباء السودان وأدباء تونس وأدباء الكويت؟ أي أن العضوية الفردية تصبح هي الأساس، ومن ثَم فاللقاء لا يتم على أساس قُطري مرتبط بالدولة، بل على أساس أدبي مرتبط بالثقافة العربية؟
-
هل يمكن الاستغناء عن أموال الحكومات، وهي أتفه الأموال وأقل الموازنات شأنًا والاعتماد كليًّا على اشتراكات الأدباء القادرين … الاتحاد مستقلًّا حقًّا عن مصادر التمويل الرسمية؟
-
هل يمكن في ضوء ذلك، تكوين شركة للطبع والنشر والتوزيع، باسم الاتحاد، تصدر الكتب والمجلات لحساب الأدباء أنفسهم ومباشرة؟
-
وبدلًا من المؤتمرات الرنانة التي لا تغلق سجنًا ولا تطعم خبزًا ولا تعيد منفيًّا ولا تعالج مريضًا، هل يمكن الاكتفاء بمؤتمراتٍ نوعية صغيرة كالتي يقيمها بين الحين والآخر اتحاد كتاب المغرب حول القصة القصيرة أو الرواية أو النقد أو المسرحية أو الشعر، إلى غير ذلك من قضايا ملموسة تفيد الأدب ولا تضر الأدباء؟
-
هل يمكن تحقيق الاستقلال الأدبي، بحيث إن عضوية الكاتب في حزبٍ سياسي لا تفرض عليه بالضرورة موقفًا جماليًّا لا يُرضي ضميره الفني ولا يستجيب لحساسيته الفكرية؟ بمعنى هل يستطيع الأديب العربي أن يحقق «ازدواجية بلزاك» إن جازت التسمية، بحيث يصبح مسموحًا له أن يكون مثلًا كاثوليكيًّا في العقيدة ملكيًّا في السياسة تقدميًّا في الأدب؟
-
هل يمكن لتعبير الأدب أو الثقافة أن يتسع قليلًا ليشمل أصحاب المواهب في الكتابة غير الأدبية، أي أن يكون لنا اتحاد للكتاب لا مجرد اتحاد للأدباء، فيصبح الكاتب السياسي والصحفي المؤثر والفيلسوف والمؤرخ وعالم الاجتماع — وليس أساتذة الجامعات — من الأعضاء الشرعيين في مثل هذه المؤسسة؟
-
هل يمكن للأديب وأدبه أن يصبحا المصدر الوحيد للشرعية، ولا تعود الصفات الحكومية الصفات الرسمية؟
كلها تساؤلات نطرحها، وغيرنا يطرح غيرها، لإثارة التفكير الهادئ حول مصير العناوين الكبيرة في حياتنا دون مرادف كبير لهذه العناوين … خاصة أننا نواجه تحديات خطيرة يومية وعاجلة.
إننا نواجه وطنًا في مرحلة مصيرية فاصلة لا تحتمل المساومة أو التسويف. وطننا العربي الواحد مواجه بتحدي التفتت إلى دويلات طائفية وعرقية وعشائرية في ظل الإمبريالية الأمريكية.
إننا نواجه تناقضًا فاجعًا بين التخمة والمجاعة من شأنه تعريض أمتنا للزوال التدريجي بفضل المفارقة المأسوية بين التناسل النشيط والعقم الاقتصادي والسياسي.
إننا نواجه مسافة هائلة بين التقدم والتخلف، فجوة أسطورية يحتاج تجاوزها إلى جسر من العلم والاشتراكية والوحدة القومية لا تحطمه القنابل النووية.
إننا نواجه مستقبلًا لن يكون فيه نفط، ولكن سيكون هناك ثلاثمائة مليون إنسان عربي.
والكاتب يرى أنه المسئول الأول والأخير عن مآسي البشرية، فكم وكم عن مآسي وطنه وأمته؟
والكاتب العربي لا ينافس أية قيادة سياسية في الحكم، ولكنه يطمح لأن يكون «الضمير» بلا زيادة أو نقصان.
والاتحاد العام للأدباء العرب لم يثبت أنه مؤسسة الضمير، رغم كافة الزخارف والديكورات. ومؤتمرات الأدباء العرب لم تكرس قط مسئوليات هذا الضمير، فكان البحث عن مخرجٍ من أولى مستلزمات الضمير عند أي كاتب أو قارئ.
٦ / ١١ / ۱۹۸۳م