تأملات في المربد السادس
١
حسنًا، فليأتِ الشعراء إلى المربد كل عامين، وليتبارزوا بقصائدهم حتى نفوز نحن في خاتمة المطاف بأجود الأخيلة وأروع الصور وأجمل الموسيقى.
وحسنًا كذلك، أن يأتي النُّقاد إلى المربد، لنطَّلع منهم على أسرار الوجود الشعري حتى نزداد وجودًا، ولندرك منهم أسباب الموات الشعري حتى نتجنب الموت.
وحسنًا فعلت بغداد حين دعت هذا الحشد الهائل من الشعراء والنقاد، حتى نحصل على أكثر تفاصيل اللوحة تنوعًا في الأضواء والظلال. وفي هذا السياق لا بد من التنويه بأن أكبر الوفود عددًا وعتادًا كان الوفد المصري الذي جمع باقة من ألمع المواهب بلغت الخمسين شاعرًا وناقدًا جاءوا أساسًا من مصر وبعضهم من الكويت وباريس والولايات المتحدة.
وفي المقابل لا بد من التنويه بأن عددًا من أكبر الشعراء العرب والنقاد العرب لم يعرف طريقه إلى المربد، سواء وصلته الدعوة ولم يستطع الحضور أو أنه لم يُدع أصلًا إلى الحضور.
وبالرغم من ذلك، أكرر أن الحضور كان كثيفًا. وأيضًا كان الحضور الجماهيري كثيفًا هو الآخر. وهو حضور متنوع في الحالين.
حضور الشعر تراوح بين كبار المحافظين شكلًا ومضمونًا، وكبار المجددين تراثًا ومعاصرة، ولكن الكبار من كلا الفريقين كانوا قلة قليلة، فالمساحة الأكبر كانت لأواسط الموهوبين أو عديمي الموهبة أحيانًا وصغارها في معظم الأحيان.
حضور النقد غلبت عليه المفارقات والتناقضات، فالذين ينسحقون أمام الغرب هم أكثر الناس صياحًا ضده، والذين يتغنون بالتراث هم أكثر الناس بعدًا عنه. وقليلون هم الذين استقامت رؤاهم غربًا أو شرقًا ماضيًا أو حاضرًا. وأقل من القليل هم الذين يمكن الوصول بهم إلى شاطئ الجمهور. كان الجمهور غائبًا، لا عن قاعة النقاد، وإنما عن وعي غالبيتهم التي انتشت بالحديث إلى النفس والنظر إلى المرآة بدلًا من الحوار مع الآخر.
حضور الجمهور، ربما كان أمام أجهزة التليفزيون أكثر رقة في الإنصات والتصنيف منه إلى جمهور مسرح الرشيد، فالأرجح أن الجمهور الذي حضر للاستماع كان من الرسميين أولًا، ومن المثقفين العراقيين والشعراء العرب المدعوين ثانيًا. ولكن الشعر في العراق له من يتذوقه بعيدًا عن قاعات الإلقاء.
•••
بالرغم من هذا الحضور المثلث الأطراف: الشعر والنقد والجمهور، يستحيل القول بأن اجتماعًا واحدًا قد ضم الثلاثة. انفصلت جلسات الشعر عن جلسات النقد، فانشطر الجمهور بين الاثنين.
ولا شك أن إعداد بحوث في النقد من قبل الذهاب إلى المربد، أمر هام، غير أنه كان من الممكن إيجاد همزة الوصل بين الشعر والنقد، بتخصيص جلسة أو أكثر لنقد الشعر الحاضر أمامنا في ندوة موسعة. حينذاك كان اللقاء بين الشعر والنقد والجمهور، سيغدو أكثر من طبيعي، وبالتأكيد أكثر فائدة.
ولكن شيئًا من هذا لم يحدث، ولعله لم يخطر على بال أحد، بالرغم من أن عكاظ الأصلي والمربد الأصلي، كليهما كان شعرًا ونقدًا في الوقت نفسه. ولكنه النقد على طريقة الأولين، الأكثر عفوية، ولمزاجه. ليتنا نتعلم من الأسلاف بعض الأمور التي ما زالت تحظى بقدر كبير من الصحة والفعالية. بل، وقد كان من الممكن الحصول على القصائد قبل وصول الشعراء، وما أيسر إرسالها إلى النقاد المعنيين بالأمر فيستعدون لمناقشاتها وجهًا لوجه أمام أصحابها وجمهورهم.
على أية حال؛ فقد تسبب الانفصال بين النقد الحاضر والشعر الحاضر في أن يكون الجمهور الحاضر هو الناقد.
وهو، كما قلت، جمهور متنوع، ولكنه لا يمثل تمثيلًا دقيقًا جماهير الشعر في العراق، وأغلبها تابع القصائد في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.
وقد أسهمَت هذه الأجهزة دون ريب في إيصال الشعر والشاعر إلى الجمهور العريض، وقد ساوت بينهم مساواة ربما رآها البعض ظلمًا … فكم من «النجوم» القديمة لم تعد نجومًا، وكم من أسماء يستحق أصحابها أضواء النجوم دون أن تكون لهم القدرة على جذب هذه الأضواء، وكم من نجوم ما زالت مشاريع. ولكن التساوي بين الجميع كان صارمًا.
هذا كان في الإعلام. ولكن الذوق العراقي المرهف الحساسية كان معيارًا ذهبيًّا ناطقًا بالمتغيرات والثوابت؛ فقد كان إقبال الناس على البعض القليل وإعراضهم عن الكثرة الكاثرة، بمثابة التعويض عن المساواة الإعلامية. وهي مساواة المجاملة ومساواة الاحتفال بالحدث. أما ميزان الذوق العراقي فقد كان الناقد الأول والأخير في تخليه الواضح عن بعض النجوم القديمة وتثبيته لقيمة البعض الآخر، وكذلك في استقباله للمشاريع الواعدة بالضوء.
والوضوح العراقي في هذه النقطة حاد كالسيف، بالرغم من احتفاظه بكل حرارته المعهودة في تكريم الضيف.
وكم كان الشعور بالمرارة قاسيًا على أفئدة الناس من هول التخلف المزري الذي أصاب بعض الشعراء، ومن هول الازدواجية الملعونة التي أصابت بعض المثقفين، ومن هول التزوير المفضوح في العيون المريضة بأدوار النفاق والارتداد.
•••
المربد إذن، هو ربح صافٍ لمن أراد التعرف على بعض حقائق الموقف الثقافي العربي الراهن، ولمن أراد أن يقرأ بعض الوقائع العقلية والوجدانية في حياتنا دون أوهام. ولكن المربد يكشف عن نفسه لمن أراد أن يبصر الأمر الواقع دون نظارات ملونة.
تعالوا إذن لنقرأ حصاد الشعر.
٢
ومعذرة من القارئ لهذا العنوان المسجوع الذي لا يختلف عن شعر المربد السادس إذا استثنينا القليل النادر من الشعر الشعر، أما غالبية ما سمعناه وتلظَّينا بناره فكان ألفاظًا مسجوعة وأفكارًا مسجوعة وأخيلة مسجوعة. فالسباب أو المديح، كلاهما شمل الحاكم والمحكوم والموت والحياة والقمع والحرية والنور والظلمة، لا فرق بين الحكم والشعب أو بين السوط والصوت أو بين الصفاء والضوضاء.
كان الشعراء على دين ملوكهم؛ لذلك أخلص كل شاعر لمليكه على حساب الآخر، فجاءت قصيدته مدحًا وهجاء في وقتٍ واحد، مدحًا لأمير الشاعر وقدحًا في أمراء الشعراء الآخرين.
ولكن البعض اختار طريق المساواة بين الجميع، فشتم الحاكمين. ولم يستجب جمهور القاعة، فشتم المحكومين، ولم يستجب الجمهور فسب الشياطين ولم يستجب أحد، فسب القديسين، ولكن الدنيا قد تغيرت ولم تصفق يد.
وبالرغم من كل التحفظات التي يمكن رصدها على جمهور القاعة وجمهور الشعراء — فكلاها جمهورٌ مختار — يمكن الجزم بأن جمهور القاعة كان يفرق في الأغلب والأعم بين الجيد والرديء، وأن جمهور الشعراء في الأغلب الأعم كان صورة تقريبية لحركة الشعر العربي المعاصر. الجمهور لم يكن نموذجيًّا، نعم. وصورة الشعر كانت ناقصة الملامح، نعم. ولكن اللوحة المزدوجة الخطوط والظلال كانت بالغة الإيحاء بليغة التقويم.
نعم، كان هناك نزار قباني ومحمود درويش وأحمد عبد المعطي حجازي ومحمد عفيفي مطر والمنصف المزغني وخليل الخوري وسليم بركات وعمر أزراج ومحمد إبراهيم أبو سنة وحميد سعيد، وفاروق شوشة وأحمد طه وإلياس لحود وسامي مهدي ومهران السيد والمنصف الوهابي وعبد الرزاق عبد الواحد ويوسف الصائغ وعبد الرحيم عمر. ولم يكن هناك محمد مهدي الجواهري وسعدي يوسف وعلي الجندي وممدوح عدوان وقاسم حداد ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وجيلي عبد الرحمن. ولكن الكثير من الحاضرين لم يشعر بهم أحد، والكثير من الغائبين كانوا حاضرين. وكانت اللوحة الشعرية العامة تمثل حالة الشعر العربي الراهنة وهي «حالة» بعيدة كل البعد عن الازدهار الذي تشهده فنون أخرى كالرواية مثلًا.
كانت الاستثناءات التي صفق لها الجمهور والنقد طويلًا، هي الأكثر اقترابًا من هموم الناس الحقيقية وجراحهم العميقة. وهي ذاتها القصائد التي جددت ألوان الحياة وألحانها واستحدثت في الشعر إيقاعات وتركيبات تعكس غني التجارب وعمق الرؤى.
أما غالبية النظم فلم ترتفع إلى مستوى الشعر، وإنما دارت مؤشراتها حول نقطتين: الأولى هي أن ما يسمى بالقصيدة العمودية قد خلت كليًّا من مقومات الشعر، فافتقرت القافية إلى الإيقاع ولم يعد لحرف الروي تلك الضرورة الموسيقية القديمة وابتعدت «وحدة البيت» عن أن تكون مصطلحًا لبلاغة الحكمة المعتقة. نظم، أين منه ألفية ابن مالك، كلمات مرصوصة في توابيت من أردأ أنواع الخشب. وليس هذا في ظني عائدًا إلى استحالة الإبداع في الشكل الخليلي التقليدي، وإنما إلى غياب المبدعين في إطار ذلك المصطلح.
لم تكن هناك أغنية وسط هذه الانقاض والأطلال المتبقية من العمارة الكلاسيكية الشامخة، وإنما كانت هناك شعارات مجففة وسباب معلب وبطاقات انتساب وقلادات مديح من الورق المقوى. وكلها بكائيات حاولت أن تستدر البكاء من العيون أو الأكف فلم تستطع، بكاء من الفرح الفارغ وبكاء من الخوف المزور وبكاء من الأشباح المصنوعة. لم تكن هناك دموع صادقة ولا ضحكات صافية، بل تقريع للجمهور على ذنوب وهمية.
وقد بذل هؤلاء النظامون أقصى ما يستطيعون من جهود صوتية، واتخذوا «أجمل» البوزات الفلكلورية، غير أن الجمهور لم يبادلهم الجهود؛ فكان صمته أكبر النقاد.
أما النقطة الثانية، فهي أن الشعر العربي الحديث، يعاني في الوقت الحاضر من أزمة حقيقية. ولم يعد السكوت، إزاء الظواهر السلبية، ممكنًا. منذ ربع قرن كان من الجائز تمهيد الطريق أمام الشعر «الحر» أو «الجديد» أو «المنطلق» بغض النظر عن بعض الهنات. أما اليوم فلا بد من القول إن العطاء الرئيسي لجيل من نسميهم بالرواد، ما يزال هو عصب العطاء الشعري لبقية الأجيال. والإضافات الهامة التي أضافها من نسميهم بجيل الستينيات، ما زالت إضافات غير نوعية، وفي مرحلة التجريب.
وفي تقديري أنه ليس جائزًا لا علميًّا ولا أكاديميًّا ولا فنيًّا ولا نقديًّا أن نطلق مصطلح الجيل كل عشر سنوات على مجموعة من الشباب تمارس الكتابة الأدبية … فالجيل رؤيا كاملة للأدب والحياة، يتمايز بها إنتاج موجة من الأعمال الأدبية قد تنتمي إلى عدة أجيال.
وهذا ما أراه مثلًا في الرواية والقصة القصيرة لأدباء الستينيات، ولا أراه في الشعر. وبالتالي، فإن جيل الستينيات هو جيل الرواية والقصة القصيرة التي اختلفت في بنائها ورؤاها عن إنجازات الأجيال السابقة. وهذه الموجة الجديدة ما زالت تتفاعل إلى اليوم، وربما غدًا. ولا يجوز بأية حال أن نطلق على من ينتجونها «لقبًا زمنيًّا» جديدًا كإشارة البعض إلى جيل السبعينيات أو الثمانينيات وهكذا … فالمجايلة علاقة فكرية وجمالية، أو هي رؤيا تضم مجموعة من الأدباء والفنانين تشكل بهم تيارًا يحاور أو يصارع غيره من التيارات.
لا ينفي هذا التحديد مطلقًا أن مناخ الهزيمة المستمر منذ ١٩٦٧م إلى الغزو الصهيوني للبنان عام ١٩٨٢م قد أثر ويؤثر في ميلاد وتطور «مويجات» شعرية متلاحقة تتسم بميزات خاصة، ولكنها لا تنسلخ من المجرى العام لحركة الشعر العربي الحديث ذات «الرؤيا» المتعددة الخبرات والمواهب والأطراف: من السياب والبياتي والحيدري وخليل حاوي وأدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج إلى صلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وحسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف ومحمد عفيفي مطر وأمل دنقل وعلي الجندي وممدوح عدوان. وهذه مجرد أمثلة لسياق «الريادة» التي لا تقتصر على عمل واحد لفرد واحد في يوم واحد، بل هي حركة تاريخية لم تنتهِ موجتها الرئيسية الأولى بعد.
لماذا يختلف الشعر عن الرواية أو القصة القصيرة أو المسرح؟
لأن ميراثنا العريق في الأدب هو الشعر. عمره المعلوم في وجداننا مئات السنين. ومن ثم، فإن أربعين عامًا من الشعر «الجديد» لا تصلح مساحة زمنية كافية لتعدد الموجات. والعكس تمامًا في حالة الرواية أو غيرها من الفنون ذات الميلاد الحديث نسبيًّا في تاريخنا الأدبي.
لذلك فإن القصائد القليلة لشعراء الحداثة العربية — من أي جيل زمني انتموا — كانت هي الشموع المتلألئة في ليالي المربد. ولكنها أفصحت بأكثر من لسان عن أزمة حقيقية في تطور القصيدة التي كانت «جديدة» يومًا. وهي أزمة تطور، بينما أزمة القصيدة التقليدية من علامات النزع الأخير.
•••
يبقى أن الشاعر العربي سواء كان تقليديًّا أو مجددًا قد أثبت أنه مُخرج وممثل من طرازٍ خاص يفيد القصيدة حينًا ويضيرها في أغلب الأحيان.
ويبقى أن ما أتيح لشعراء المربد من مناخ التكريم وأجهزة الإعلام، لم يسبق أن أتيح لهم في أي وقت، مما يتناقض مع الآمال التي أحبطوها بنشاط لم نعرفه عنهم في أي عصر.
٣
من أبرز علامات المربد السادس اهتمامه بالنقد عمومًا، ونقد الشعر خصوصًا. ولم يكن هذا الأمر واردًا في المربد القديم، لأن الجمهور نفسه كان هو الناقد. وكانت «المبارزة» بين الشعراء مهرجانًا لنقد الجمهور. وكان الجمهور، بطبيعة الحال، ينقد الشعر الذي يسمعه والشعراء الذين يراهم أمامه.
هذا الجمهور-الناقد، ما زال حاضرًا في العراق، سواء في قاعة المسرح الوطني التي أقيم فيها مهرجان الشعر، أو أمام شاشات التليفزيون. وهؤلاء الذين جلسوا في دورهم يتابعون ما يجري في قاعة المهرجان هم الأغلبية الساحقة، وهم الذين نقدوا الشعر بتعليقاتهم السافرة أو بإطفاء الجهاز أو بالصمت التام أو بالتصفيق الحار وتسجيل القصيدة وأسلوب إلقاء الشاعر على أشرطة الفيديو.
هذا النوع من النقد الشعبي — إن جاز التعبير — كان في واد، والنقد الذي أقيمت له «حلقات» في إحدى قاعات فندق المنصور كان في وادٍ آخر. وفي جميع الأحوال، كانت الدراسات النقدية أرقى بكثير من شعر المهرجان، والمناقشات الجادة التي دارت من حولها كانت أرقى منها. ولكني شعرت خلال متابعتي لما يقال أنني في برج بابل حيث تعددت الألسنة — أو أساليب النقد — بحيث بات الأمر يهدد بسقوط البرج.
كيف ذلك، رغم أن النقد الكلاسيكي كان واضحًا كالعادة، والنقد «الحديث» كان غامضًا كالعادة أيضًا؟
وتذكرت الناقد الفرنسي الراحل بارت، وهو يقول لي في منزل جاك بيرك منذ سنوات إن السباق بيننا وبين النقد الجامعي (يقصد الكلاسيكي) هو سباق نحو الحقيقة، والحكم بيننا هو الجمهور.
وإنني الآن أنقل عن الدفتر الصغير الذي دونت فيه هذا الحوار، فقد أضاف بارت: «إننا» و«هم» ننطلق من أرضية واحدة، فأنا لست من معسكر الأعداء، وهم ليسوا من معسكر الأنصار، كلانا يقترح مذاقًا معينًا للوجدان، ولكن لهم طرائقهم ولي طريقتي. والذي سيحسم الأمر في خاتمة المطاف هم الناس. الناس الذين يقرءون راسين إلى الآن، ويقرءون مارجريت دورا أيضًا … والنقد الأقرب إلى الحياة هو الذي يضيف غنًى إلى الذوق العام في تلقيه المستمر لشكسبير أو صامويل بيكيت. إنه النقد المتصل اتصالًا حميمًا بجمهور الآداب والفنون.
وأعترف أنني اندهشت في البداية من أن ناقدًا أوروبيًّا من رُواد الحداثة والتجديد، يؤكد أن «الرهان» بينه وبين الآخر يعتمد على قدرة وسرعة أيها في الوصول إلى الناس.
في الحلقات الدراسية التي أقيمت لنقد الشعر في بغداد، كان الأمر على النقيض تمامًا؛ فقد تسابق «القديم» و«الجديد» حقًّا في الوصول إلى متاهات لا علاقة لها بالجمهور من قريب أو بعيد.
والحق أن الفرصة أتيحت «للحداثة» كاملة غير منقوصة. أي إن ما ندعوه بالنقد الكلاسيكي لم ينل حظوة «النقد الجديد» سواء في دعوة ممثليه للاشتراك أو في الحيز الزمني. وربما كانت المناقشات وحدها هي التي أفسحت المجال لبعض ممثلي القديم.
ولكن الصورة النهائية كانت تشرذمًا لا مثيل له، فلا أرضية واحدة تجمع ناقدًا بآخر، ولا بوصلة واحدة يمكن أن تحدد لنا الهدف.
ظهر للحداثة أكثر من صاحب وأكثر من وريث وعدة أولياء أمور وأوصياء، كلهم يدعون تبني هذا «الشيء» الذي اختلفوا جميعًا على اسمه ورسمه، أي على صفاته ومصطلحاته.
وتحول «التنظير» من أداة هداية إلى غاية الضلالة. أحدهم جمع عدة مصطلحات في صفحة واحدة، كل مصطلح منها ينتمي في النقد الغربي إلى مدرسة مختلفة تمامًا عن المدرسة التي ينتمي إليها المصطلح المجاور له. أي إن صاحبنا أوهم الحاضرين أن هذه المصطلحات ذات الجذور المتباينة كأنها من جذر واحد. سألته عن جدوى هذه «السلاطة» فقال لي: إنها ما بعد البنيوية. ألم تقرأ فلانًا وفلانًا من مشاهير ما بعد البنيوية؟
وسألت زميلًا له: هل من ضرورة قصوى لاستخدام هذه اللفظة البعيدة عن روح العربية، حتى ولو كان اشتقاقها شرعيًّا؟ أجابني: وكيف إذن تترجم أصلها الإنجليزي؟ هل لديك كلمة أخرى؟
ولم تكن لدي كلمة أخرى.
ولكن الجمهور كان له كلام آخر. هو الانفضاض عن الأدب والنقد جميعًا.
كان النقد قد سقط من قمة برج بابل، فلم يعد أحد من النقاد يفهم لغة الآخر. وإذا استمر الحال على هذا المنوال، فسوف ينمو الأدب بمعزل عن النقد، وسوف يتطور الذوق، العام للجمهور بعيدًا عن فلسفة الفن ومعايير الجمال.
وهي ظاهرة خطيرة.
لأن ما ندعوه نقدًا كلاسيكيًّا — كما تشهد أبحاث المربد — يقيم حاجزًا من الحجر بينه وبين الجمهور، كما أن ما ندعوه نقدًا حديثًا يقيم حواجز لا حصر لها. ومن ثَم ينقطع الحوار بين الجميع، أو يصبح حوارًا بين الطرشان؛ وهذا يعني في خاتمة المطاف موت النقد. موت البوصلة أداة الوعي والتطوير والبناء، وذلك بتوقف دورة الكتابة والنقد والجمهور عن التفاعل.
غير أن موضوع «قصيدة الحرب» أنقذ الحلقات الدراسية من هذا المصير، لا لأن هناك قضية ساخنة هي الحرب، وإنما لأن هناك أفقًا شعريًّا جديدًا من جنوب لبنان إلى جنوب العراق، بل ومن شمال لبنان إلى شمال العراق. هذا الأفق الشعري الجديد يرتبط عضويًّا بحياة الناس البسطاء وبمقاومة جيل كامل من الشباب لحروب مفروضة علينا. «قصيدة الحرب» أهم بكثير من ادعاءات الحداثة، ولذلك هرب منها الكثيرون من النقاد إلى «إشكاليات» نظرية تبدأ ولا تنتهي. في العراق حصاد شعري ضخم لقصيدة الحرب، يحتاج إلى التحليل والتقويم، بل إنه يحتاج إلى المعرفة أولًا. هذه تجربة يقدمها الواقع الإنساني والواقع الشعري، فأين براعة النقد والنقاد؟
كان هناك من اقتحم عرين التجربة الجديدة، وكان هناك من قفز على حواجز الحجر الكلاسيكي والحديث وحاول بثباتٍ أن يطور أفضل التقاليد النقدية في أدبنا. ونجح العديد منهم. وهذا الذي نجح وصل إلى الجمهور، إلى هدف الأهداف من كل أدب وفن.
قلت لأحد الأصدقاء المدافعين بحماس عن «الكتابة» كفن لا علاقة له بغير الكاتب: ربما أجد لأديب ما عذرًا في أن يكتب أدبًا غامضًا، وربما أجد لهذا الأديب سببًا في قوله إنه يكتب لنفسه، أما الناقد فكيف؟ إنه حين يمسك بالقلم فإنه يعلم يقينًا أنه يكتب للناس أولًا، وأن وظيفته الأولى هي تحليل الرموز وتوضيح الغموض. أما إذا كان الناقد هو الآخر يكتب لنفسه نقدًا غامضًا، فإن القارئ يفضل في مثل هذه الحال أن يكتفي بقراءة العمل الأدبي وحده دون «مساعدة» النقد، أو هو يكف عن عادة القراءة إذا أصبحت كوجع الأسنان.
•••
لا ينفي ذلك كله أن الحلقات الدراسية كانت جادة وأكثر أهمية من الشعر الغالب على المربد السادس. ولكن الأمر ما زال يحتاج إلى نظرة عامة قبل التحضير للمربد السابع.