الشرقاوي … وتناقض المعاني
يكاد عبد الرحمن الشرقاوي في حياته وعمله أن يوجز قصة الكاتب العربي مع السلطة في زماننا الممتد لخمسة وثلاثين عامًا إلى الوراء.
والمقصود هنا بالكاتب العربي ذلك «الحل الوسط» بين الولاء والمعارضة وبين العمل السري والنشاط العلني. وهو نوع منتشر يزدهر في ظل أي هامش ديمقراطي ويرتجف من أية عاصفة للاستبداد. ويحاول أن تكون له قدم في الشارع وأن تكون الأخرى في قصر السلطة.
مصر بالذات مليئة بهذا النموذج المأسوي غالبًا، سواء لأسباب موضوعية تتعلق ﺑ «شعبية» السلطة في مرحلة، أو لأسباب ذاتية تتعلق بانعدام القدرة الشخصية على مواصلة المشي فوق الحافة الحرجة.
ليس سرًّا أن عبد الرحمن الشرقاوي بدأ حياته الأدبية والسياسية في دائرة اليسار المصري خلال الأربعينيات الملتهبة من هذا القرن. وهو كغيره من المثقفين التقدميين الذين أصبحوا نجومًا بعد حل الأحزاب والمنظمات، كان يؤكد في سنواته الأخيرة أنه لم يكن عضوًا في أي تنظيم يساري، ولكنه كان «على الهامش» متعاطفًا ونصيرًا.
جميعهم أو غالبيتهم تقول ذلك الآن. أما في الأربعينيات وحتى نهاية الخمسينيات، فقد كان الشرقاوي مع كمال عبد الحليم وإبراهيم عبد الحليم وحسن فؤاد وزهدي وصلاح حافظ ويوسف إدريس وعبد الرحمن الخميسي ومحمد صدقي وألفريد فرج ومحمود العالم ولطفي الخولي ونعمان عاشور وغيرهم عشرات من «المناضلين الاشتراكيين» الذين رحبوا بمقدم ثورة يوليو وتناقضوا معها في وقتٍ واحد. وعندما عالجت الثوة أمرهم بفتح أبواب المعتقلات دخلوها في المرة الأولى (١٩٥٤م) بزهوة الشباب وحيويته. أما في المرة الثانية (١٩٥٩م) فقد انقسموا بين من دخل ومن ظل في الخارج «يكفي خيره شره».
وكان الشرقاوي أحد الذين لم يدخلوا السجون عام ١٩٥٩م، ولكنه كيوسف إدريس، كان قد أصبح نجمًا سطع في سماء الأدب المصري طيلة السنوات العشر السابقة على المعتقل الكبير.
كان قد أصدر عام ١٩٥٠م قصيدته الطويلة «من أب مصري إلى الرئيس ترومان»، وبالرغم من أن السياب والملائكة قد سبقاه في العراق من حيث التجديد في الوزن الشعري ومن حيث القيمة الفنية أيضًا، إلا أن تأثير السياب والملائكة في مصر بين ١٩٤٧م و١٩٥٠م كان تأثيرًا محدودًا للغاية. وعلى الأرجح كان تأثيرًا ساعيًا أكثر منه قراءة واعية مدركة. وفي جميع الأحوال كان تأثيرًا «ثقافيًّا». أما «من أب مصري إلى الرئيس ترومان» فقد تحولت إلى منشور سياسي جماهيري واسع التأثير في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
كانت محاولات علي أحمد باكثير في «إخناتون ونفرتيتي» وترجمته «روميو وجوليت» لشكسبير في قالب التفعيلة الواحدة، كما كانت ترجمة محمد فريد أبو حديد ﻟ «ماكبث» في القالب نفسه، وديوان «بلوتلاند» للويس عوض، إنجازات غير جماهيرية كذلك. وأقبلت قصيدة الشرقاوي تدريبًا مباشرًا للذوق السائد على تذوق هذا النوع الجديد من «الشعر الحر».
وهكذا، فإن هذه القصيدة التي لا ترتفع في ميزان الفن — فهي أقرب إلى لغة المنشورات فعلًا — قد حققت هدفًا جماليًّا لا غش فيه، هو الاعتراف الشعبي الواسع بأن هذا الكلام شعر وإن خلا من الإيقاع العمودي المألوف.
هذه نقطة هامة في ظني؛ لأنها المرة الأولى التي يفرض فيها الفن «تجديده» على الذوق الشعبي قبل الاعتراف الثقافي من جانب النقاد مثلًا، أو من جانب برامج التعليم مثلًا، أو من جانب أجهزة الإعلام مثلًا كذلك. وهو أمر معاكس تمامًا لما جرى مع صلاح عبد الصبور؛ فقد ظل تأثيره منذ البداية ثقافيًّا، ولذلك كان اعتراف النقد به سابقًا على اعتراف المجتمع. بل إن النقد يؤرخ به لميلاد الشعر الجديد في مصر. وليس ذلك صحيحًا؛ فقد سبقه وسبق الشرقاوي كثيرون داخل مصر وخارجها. ولكن شعر صلاح عبد الصبور كان الأقرب في موازين الفن الخالص إلى هوية الشعر الحديث. لذلك اقترنت الريادة المصرية باسمه دون غيره.
جماهيرية «من أب مصري»، مصدرها مزدوج: انغماس شاعرها في الحركة الوطنية المصرية، وخاصة جناحها التقدمي من ناحية، ولغتها الخطابية من ناحية أخرى.
ولقد كتب الشرقاوي بعدها كثيرًا من الشعر، ولكن الناس لا تتذكر إلا هذه القصيدة التي اتخذ صاحبها عنوانها ليضعه على غلاف المجموعة اليتيمة التي نشرها … فالشرقاوي، وهذه مفارقة، ليست له دواوين عديدة، بل هي مجموعة واحدة.
لماذا؟
سنحاول الجواب إذا علمنا أنه في عام ١٩٥٤م فاجأ الحياة الأدبية المصرية بروايته «الأرض». وبالرغم من أن نجيب محفوظ في ذلك الوقت قد نشر معظم أعماله (الواقعية) باستثناء ثلاثية «بين القصرين» إلا أن «الأرض» قفزت بصاحبها على الفور إلى مقدمة الصف الأول من الروائيين المصريين.
ولا شك أن الرواية كانت تحمل مذاقًا مغايرًا تمامًا لأعمال يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله، ولكنها لم تبلغ فنيًّا مستوى «زقاق المدق» أو «بداية ونهاية» اللتين أصدرهما نجيب محفوظ في عامَي ١٩٤٧م و١٩٤٩م. غير أن الفرق كان واضحًا في الاتجاه الأيديولوجي لكلٍّ من الكاتبين. وهو الاتجاه الذي انعكس في احتفال اليسار ﺑ «الأرض» احتفالًا مبالغًا فيه إلى حد كبير.
على أية حال، فإن واقع الأمر أن هذه الرواية قد أضفَت وهجًا جديدًا إلى «نجومية» كاتبها، كما أنها كقصيدة «من أب مصري» افتتحت أفقًا جديدًا للأدب المصري، وكهذه القصيدة أيضًا خاطبت الحركة الشعبية مباشرة، فتركت أثرًا لا يُمحى بسهولة في وجدان الناس؛ العاديين والمثقفين معًا.
ولكن الغريب أن الشرقاوي الذي كتب «الأرض» بكل المشابهات والمقارنات بينها وبين، «فونتمارا» للإيطالي أغنازيو سيلوني، لم يكتب رواية أخرى في مستواها. بل لم يكتب روايات كثيرة. كتب «الشوارع الخلفية» ثم «الفلاح» ومجموعتين من القصص القصيرة، ولم يعد إلى كتابة القصة بعد ذلك أبدًا. ولقد أتيح لرواية «الأرض» ما لم يتح لغيرها من رواياته؛ فقد أخرجها يوسف شاهين للسينما في واحد من أعظم الأفلام المصرية، ونقلها إلى الإنجليزية مترجمان كبيران هما ديزموند ستيوارت وتوفيق حنا. وتحولت إلى مادة لدراسات النقد والأطروحات في مختلف الأقطار وإلى الآن. ولكنه — أكرر — لم يكتب مثلها ولم يستمر في كتابة الرواية طويلًا.
وإنما فاجأنا عام ١٩٥٦م بفتحٍ جديد هو مسرحية «مأساة جميلة» التي كتبها في قالب الشعر الحر عن الثورة الجزائرية الوليدة قبل عامين فقط. وأيضًا جاءت المسرحية كقصيدة «من أب مصري» أو «عزة والرفاق» حافلة بالمواقف الخطابية والإنشاء الحماسي. ولكنها كانت قد أنجزت طريقًا جديدًا أمام الشعر «الحديث» هو الدراما. لم يتخل الشرقاوي فيها عن الغنائية ولا عن السياسة التقريرية المباشرة، ولكنه كان أول من فتح الستار عن المسرح الشعري الجديد، مع احترامنا الكامل لجهود باكثير.
وكانت الثورة الجزائرية في الوجدان العربي العام — وما تزال — شعلة مضيئة بالحماس المتقد.
ولذلك، فإن الحدث الخارجي ظل دومًا عاملًا مهمًّا في ترويج الفتوحات الشرقاوية.
كان هذا الحدث في «من أب مصري» هو غضب الجماهير العربية من الولايات المتحدة وزعيمها ترومان. وكان هذا الحدث في «الأرض» هو صدور قانون الإصلاح الزراعي عن مجلس قيادة الثورة الناصرية. وكان الحدث في «مأساة جميلة» هو الوجود الحي للثورة الجزائرية والبطلة الأسطورة جميلة بوحيرد.
ولا نستطيع أن نرصد حركة التأثير والتأثر، وهل كان الحدث الخارجي هو مصدر الإلهام أم أن الفنان قد استغله. كل ذلك لا ينفي أن التحام الشرقاوي بالحركة التقدمية المصرية والرؤية القومية العربية كان له أثره الأكبر في ظهور هذه الأعمال، وعلى النحو الذي ظهرت به … وكانت مسرحيته «وطني عكا» ضعيفةً شعريًّا ومسرحيًّا، ولكن أخطر ما فيها كان الفكر السياسي الذي اختلف معه بشأنه الكثيرون حينذاك، فلم يكن من المألوف مناقشة «السلام» بالأسلوب الذي صاغه الشرقاوي في ذلك الوقت.
غير أن مسرحيته الكبيرة المزدوجة التي لم تمثَّل إلى الآن: «الحسين ثائرًا» «الحسين شهيدًا» والتي جمعها بعدئذ في «ثأر الله» كانت فتحًا فكريًّا في رؤية إحدى أهم العلامات الفارقة في التاريخ الإسلامي. ولكن طول المسرحيتين والخطابة حالتا دون تمثيلها في المرحلة الناصرية، وكان الفكر هو الذي حال دون تمثيل «ثأر الله» في المراحل التالية.
ويأتي أكبر عمل أنجزه الشرقاوي في الستينيات، وهو «الفتى مهران» قبيل هزيمة ١٩٦٧م مباشرة. وهي المسرحية التي أخذ فيها على الشيوعيين المصريين أنهم بادروا إلى حل منظماتهم بعد خروجهم من السجون. ولكن الأهم أنها المسرحية التي حذر فيها عبد الناصر من «الحرب» المقبلة، ومن «الحاشية» المحيطة بالزعيم. كان الشرقاوي صريحًا، قاطعًا، حاسمًا، حتى إن المسرحية تحولت في ليالي العرض إلى مظاهرة سياسية من طراز رفيع. وقد أرسل عبد الناصر بعض معاونيه لمشاهدتها، فأذهلهم استقبال الجماهير للمقاطع التي يحذر فيها المؤلف وينذر بالهول قبل وقوعه. ولكن «التقرير» عن المسرحية كان إيجابيًّا فاستمر عرضها.
كان الشرقاوي الذي لا ترتفع موهبته المسرحية إلى قامة ألفريد فرج، والذي لا ترتفع موهبته الشعرية إلى قامة صلاح عبد الصبور، هو الذي جعل من «المسرح الشعري» الجديد في مصر طعامًا شعبيًّا يتزود به الناس من مختلف الطبقات، ويتغنون به، بالرغم من أنه ليس كمسرح شوقي الذي تعلموه في المدارس، ولا كمسرح يوسف وهبي الذي شاهدوه، ربما.
كان الشرقاوي قد نجح — عبر السياسة — في تهريب الشعر الجديد عن طريق المسرح إلى أعرض قطاع جماهيري، كما قد نجح في جذب المسرح إلى دائرة الشعر مؤيدًا بحماس الجماهير «للمعارضة الضمنية» — من موقع تقدمي — لما كانت قد آلت إليه الأمور في مصر الناصرية.
ولكن عبد الناصر هو الذي أنقذ أحد أهم كتب عبد الرحمن الشرقاوي فيها بعد. وهو كتاب «محمد رسول الحرية»؛ فقد احتج الأزهر على الكتاب وطلب مصادرته. وأبرق الشرقاوي للرئيس، فطلب عبد الناصر أن يقرأ الكتاب بنفسه. ولما فعل أمر بالإفراج عنه فورًا.
ولكن مشكلة الشرقاوي مع الناصرية كانت في أمرين: أحدهما عام والآخر خاص، وكلاهما مرتبط بالآخر. أما الأمر العام فهو اعتقال اليساريين من أصحابه خصوصًا. وأما الأمر الثاني فهو اعتقال شقيقه أستاذ القانون الدكتور عبد المنعم الشرقاوي.
وما يربط بين الحدثين هو الأجهزة، التي رأى الشرقاوي أنها المشنقة المعلَّقة حول النظام بأكمله والسيف المصلت على الشعب كله.
وكان الشرقاوي، كإنسان، يشعر بوخز داخلي لأنه لم يُسجن مع رفاقه. كانت علاقاته الاجتماعية والسياسية قد تشعبت واعتمدت أساسًا على يوسف السباعي الذي استطاع أن يحمي الشرقاوي. وقد استطاع غيره أن يحمي آخرين. ولكن الحماية في جميع الأحوال كانت مشروطة بالقليل الذي نعرفه — هو الولاء المطلق للنظام — والكثير الذي لا نعرفه. وقد تسبب «الولاء المطلق» في كوارث شخصية لبعض كبار أدبائنا.
ورحل عبد الناصر فجأة.
ودون تردد انضم الشرقاوي في انقلاب ١٥ مايو ١٩٧١م إلى جانب السادات. نشرت له جريدة «الأخبار» في ذلك الصباح مقالته الشهيرة «وسقطت عصابة الإرهاب».
ولا يستطع أحد أن يتهم الشرقاوي في هذا الموقف بالخوف؛ لأن الأمور لم تكن قد استتبت نهائيًّا للسادات. ولكنها المقامرة بكل شيء حتى لا يبقى في السلطة هؤلاء الذين عذبوا شقيقه جسديًّا وعذبوه نفسيًّا وعذبوا رفاقه جسديًّا ونفسيًّا على السواء.
ولم يبتعد الشرقاوي منذ ذلك اليوم عن دائرة السلطة. وكانت أبهى أيامه حرب أكتوبر المجيدة التي تلألأ فيها نجم السادات. وكانت أتعس أيامه زيارة القدس ومعاهدة كامب ديفيد. ولكنه لم يتخل في أي وقت عن السادات، حتى بعد رحيله.
كتب خلال هذه الفترة مسرحية شديدة الضعف الفكري والفني هي «النسر الأحمر» حاول فيها أن يسقط على السادات ما ليس فيه، وفي أواخر عمره كتب «عرابي زعيم الفلاحين» ورغم الموضوع الجيد فإن الفن كان قد مات.
ولم يعد الشرقاوي إلى كتابة الرواية أو القصيدة أو المسرحية، لأن الملهم الرئيسي لأعماله تلك كان التحامه الحميم بالحركة الشعبية. أما الآن؛ فقد بدأ يكتب إسلامياته الشهيرة التي لا تضيف جديدًا إلى أعمال السابقين، وخاصة طه حسين في «على هامش السيرة» و«الفتنة الكبرى» و«الوعد الحق» أو العقاد في عبقرياته العديدة، أو أحمد أمين في تاريخه العظيم للإسلام أو محمد حسين هيكل أو خالد محمد خالد.
كان الشرقاوي في عاميه الأخيرين قد بدأ يدعو إلى «جبهة وطنية» تضم اليمين واليسار والوسط لمواجهة الإرهاب. ولكن المعارضة المصرية لم تستجب له. وكان قد بدأ يشجع بعض قدامى المحاربين اليساريين لتكوين حزب يساري جديد في مواجهة «التجمع». ولكن اليسار المصري لم يستجب له.
ولذلك بقي سياسيًّا يعمل في مجلس الشورى وجمعية التضامن الأفريقي الآسيوي، وفكريًّا يكتب عن أئمة الفقه والصحابة.
وحين سارت مصر بأجيالها واتجاهاتها المختلفة وراء نعشه، كانت الصفوف تودعه حسب «المعنى» الذي أخذه عنه كل صف. لم يكن الحشد الكبير يعبر عن معنًى واحد بل عن تناقُض المعاني.