الوحدة في زمن الانفصال
١
هذه مجموعة من التأملات فيها سمعته وعشته ورأيته، خلال مشاركتي في ندوة طرابلس حول «تصور عملي للوحدة العربية» بين ۲۲ و۲۹ فبراير ١٩٨٤م.
وسلفًا أقول إنه إذا كانت هناك سلبيات واضحة في مسيرة الندوة المذكورة، فإنها جزء لا يتجزأ من سلبيات الحياة العربية ذاتها، فالأساتذة المتكلمون ليسوا مستوردين من كواكب أخرى، إنهم من الملامح الأصيلة لعقل هذه الأمة في هذه المرحلة من تاريخها. بتعبيرٍ آخر هم آباء وأبناء وأحفاد واقع عربي مستمر على كافة الأصعدة الفكرية والعملية منذ فجر «النهضة» التي انتكست وسقطت العديد من المرات.
لست أبرر بذلك أية ثغرات في أبحاث السادة المشاركين، وإنما قصدت التأكيد بأن الندوة في سلبياتها وإيجابياتها منحتنا صورة لا ينقصها الوضوح عما آلت إليه الحياة العربية المعاصرة في انتصاراتها وانكساراتها.
ولعلي أميل إلى تحديد الإيجابيات أولًا، لأنها بالفعل جديرة بالتحية والانتباه وضرورة تطويرها لمرحلةٍ أرقى.
إن اجتماع أكثر من مائة وخمسين مفكرًا وباحثًا ومناضلًا سياسيًّا في قاعةٍ واحدة، وعلى مدى أسبوع كامل، هو أول الإيجابيات رغم بساطتها. لقد أتاح هذا الاجتماع المطوَّل فرصةً نادرة إلى مواجهات ومصادمات ومصارحات وتناقضات، ما أحوجنا إلى معرفتها وتحليلها والتوصل إلى نتائج بصددها. خاصة أن أية مواجهة أو مصادمة أو مصارحة لم تنته كالعادة بالخصام أو بالعناق، وإنما كانت تنتهي دائمًا بتسجيل نقاط الخلاف ونقاط اللقاء تسجيلًا أمينًا شجاعًا.
إن هذه النقطة تعني أننا بدلًا من وضعنا السابق الذي كنا فيه «عينة» أو «موضوعًا» للباحثين الأعداء، بدأنا رحلة مواجهة الذات، لا بالندب والنهش والتعذيب، وإنما بالتفكير الهادئ والحوار العقلاني والرغبة المشتركة في تجاوُز الهزيمة والاعتراف بأن «الحقيقة» لا يملكها طرف واحد، والاعتراف الآخر بأننا جميعًا مسئولون عما جرى ويجري.
تعني هذه النقطة أيضًا أننا لم نعد «مجاملين» لأنفسنا وللآخرين، لم نعد نخفي ما في القلوب والصدور، وأن المناورات السياسية لم تعد قادرة على حجب ما لا يعجبها وإبراز ما يعنيها، وأن الشهوات المصلحية الموقوتة لم تعد سيدة الموقف الأيديولوجي، بل أضحت هناك مشاعر مشتركة وأحاسيس جماعية بخطر ما يقف بنا عند حائط مسدود لا أمل في اختراقه أو تحطيمه إلا بجهد الجميع وإرادة الجميع وصدق الجميع.
تعني هذه النقطة أخيرًا أن الفرق شاسع بين الكاتب أو القائد السياسي حين نراه سطورًا من الحبر الأسود أو صورة من الملامح الملونة، وبين هذا الكاتب نفسه أو القائد السياسي الذي نراه وجهًا لوجه بشرًا من لحمٍ ودم. إن الاجتماع الواقعي الملموس يسد الفجوة الملعونة بين الخيال المجرد أو الصورة الذهنية من ناحية، والحقيقة الإنسانية المباشرة من ناحية أخرى. لذلك تساعد مثل هذه اللقاءات الحية أحيانًا في إذابة جليدٍ مصطنع أو استئناف حكم متعجل أو نسف جدار وهمي.
كانت هذه هي النقطة الإيجابية الأولى. أما الثانية، فقد تبلورت في ذلك الاتفاق المدهش حول ضرورة الوحدة وأهميتها القصوى، والاختلاف المدهش حول السبل المؤدية إلى تحقيق الهدف. كان هناك من الأجيال ما يمتد بين رواد في السبعينيات من أعمارهم وبراعم في العشرينيات. وكان هناك من الأقطار ما يمتد من الخليج إلى المحيط. وكان هناك من الأيديولوجيات ما يمتد من محمد إقبال إلى سيد قطب ومن نجيب العازوري إلى نديم البيطار ومن ماركس إلى ألتوسير ومن ساطع الحصري إلى محمد خلف الله … وكان هناك من القوميات ما يمتد من العرب إلى الأكراد والأرمن. وكان الجميع يرى في الوحدة العربية طريقًا للخلاص من الأحلام المحرمة والآمال المزورة، طريقًا للاستقلال والعدل والديمقراطية رغم تنوع الاجتهادات في صياغة كل منها. وكان من الطبيعي أيضًا أن يختلف الجميع في نفس الوقت اختلاف الينابيع الأولى والمسيرات المعقدة، في تلمس وسائل تحقيق الوحدة، في شكلها وهياكلها ومؤسساتها. كيف يتفق ابن العشرين مع ابن السبعين على «كيفية» إقامة الوحدة؟ كيف يتطابق القومي العاطفي مع البعثي مع الناصري مع الماركسي على أسلوب «بناء» الوحدة؟ ماذا يجمع الشامي على المغربي في تشييد المعمار الوحدوي؟ اختلف الجميع في «المنهج»، وهذا طبيعي. ولم يختلفوا حول الهدف، وهذه نقطة إيجابية بالغة الخصوبة والثراء.
إنها تعني أول ما تعني أن الوحدة العربية لم تعد إشكالًا سياسيًّا بين إشكالات متعددة يعانيها العرب … بل أمست «رؤية» واضحة للمستقبل الوحيد الممكن بديلًا للانقراض الحضاري التدريجي. الانقراض الذي لا علاقة له بعدد السكان. بالعكس، ربما كانت الانفجارات السكانية العربية من الظواهر المعقدة للانقراض الحضاري، أي الهجرة من التاريخ. الوحدة هنا، تصبح لدى العربي في مستوى الهوية لا في مستوى الأيديولوجية، دخولًا في صميم التاريخ ومشاركة حضارية في إنقاذ العالم.
إنها تعني، ثانيًا، أن ما نراه من حولنا بشعًا قبيحًا غاية القبح، ليس أكثر من بثور المرض المتقيح على الجسد العربي: حروب أهلية، حدودية، طائفية، قبلية، عشائرية، كلها «تبشر» بعصر الدويلات وملوك الطوائف. وفي هذا الزمن الذي نناضل فيه بالكاد من أجل «وحدة لبنان» يأتي هذا الفريق الوحدوي ليقول لنا «بل وحدة العرب». يبدو على السطح خياليًّا أو مخدرًا. ولكنه في الندوة يكاد يقول لنا إن غياب الوحدة العربية هو سر الأسرار أو الأسباب في غياب وحدة لبنان ووحدة أي قطر عربي آخر، فالوحدة العربية هي الأصل وغيرها فروع وفروع الفروع، الوحدة ليست علاجًا لمرض أو حلًّا لمشكلة، فهي جسد الأمة وروحها، هي المريضة وهي التي تعاني الأهوال في أزمنة الانحطاط. إنها «موضوع» الصحة والمرض، وليست صفة أو حالًا.
لذلك كان الاتفاق الشامل في ندوة طرابلس حول «الوحدة» رغم اختلاف السبل إليها، النقطة الإيجابية الثانية.
أما النقطة الإيجابية الثالثة، وقد يعتبرها بعض العلماء من السلبيات بينما يراها بعض السياسيين غير كافية، فهي رفع الحواجز بين العلم والسياسة أو بين الثقافة والجماهير أو بين الأكاديمية والعامة.
ومنذ البدء لا بد من الإقرار بأن الهوية الرئيسية للقضية المطروحة، هي الهوية السياسية. ولا بد من الإقرار كذلك بأن الأسلوب الذي اختارته اللجنة التحضرية للندوة هو الإطار الأكاديمي للبحث العلمي. ولا بد من الإقرار أخيرًا بأن افتراض التناقض بين طبيعة القضية ومنهج التناول، كان واردًا. غير أن ما كان واردًا أيضًا، هو ذلك النجاح المؤكد لمؤتمر «مواجهة الغزو الثقافي الإمبريالي والصهيوني» في تونس قبل عامين.
كان هناك العلم.
وكانت هناك السياسة.
وكان هناك البحث الأكاديمي الرفيع المستوى، وكانت هناك الجماهير المتعددة المستويات.
وكان الحصاد راقيًا، بمختلف المعايير. كانت القضية هي الأخرى «سياسية» بطبيعتها وكان الباحثون في غالبيتهم العظمى من أساتذة الجامعات والعلماء المتخصصين. وكان الجمهور الحاضر والمستمع في غالبيته الساحقة من شباب الجامعات والأحزاب والهيئات والنقابات.
ونجحت التجربة.
فقد اكتملت علنًا دورة الفكر والحياة، فلم تعد صومعة المفكر هي كل العالم، ولم يعد رهبان الفكر من زملاء الدير الجامعي أو مركز الأبحاث أو دائرة الدراسات هم كل البشرية. وإنما أضحى الاتصال المباشر بين الفكر والجمهور من معايير «الاختبار الثقافي» الأصيل.
وكانت لهذا النجاح شروطه.
كانت ضوابط التنظيم الدقيقة، تتيح من الوقت للباحث ومناقشيه فرصة متكافئة البحث والقدرة العامة على الاستيعاب، خاصة أن توزيع البحث مطبوعًا قبل أو بعد إلقائه ومناقشته، قد أكمل غالبًا أية مسافة بين الباحث والجمهور.
وكان حق الاختلاف في الرأي مكفولًا لكل طرف، دون حق السباب أو التسيب. كانت هناك حقوق للأفكار دون عدوان على الأشخاص الذين يحملونها. وكانت هناك حقوق للعقائد والأيديولوجيات دون افتئات على الأفراد الذين يعتنقونها.
وبدلًا من أن يتحول الفكر إلى «مائدة مستديرة» في غرفة مغلقة لا يتنفس خارج المصطلح، وبدلًا من أن تتحول «السياسة» إلى مهرجان حماسي للتصفيق والهتاف، أثبت لقاء تونس منذ عامين أن الجدل بين العلم والسياسة ليس مستحيلًا، وأن الجماهير ليست نقيضًا للأكاديمية بل استكمال حي لها.
كان النجاح العلمي والشعبي في مؤتمر تونس حافزًا لاختيار هذا الأسلوب الجامع بين العلم والناس. وكان موضوع الوحدة العربية عاملًا حاسمًا في القبول النهائي لهذا الاختيار.
والحقيقة، أنه ما كان أيسر أن يلتقي عشرون أو ثلاثون عالمًا في قاعة صغيرة مغلقة يحاسبون بعضهم بعضًا على دقة المصطلح والتوصيف والفرز والتبويب والمراجع والأطر المعرفية والشواهد، وغير ذلك مما يجعلنا نحصل في النهاية على ثورة أكاديمية من الحوار العلمي الخصب.
ولكن الحقيقة الأخرى هي أننا في أحوالٍ كثيرة نقول مع أساطين السينما المصرية «الجمهور عايز كده» لتبرير «الحضيض» الذي وصل إليه الشريط المصري. وفي أحوال أخرى نقول «أين هي الجماهير التي تركتنا وحيدين في العراء» كما قال أحد الزعماء مؤخرًا. لماذا لا نواجه هذه الجماهير إذن، إذا كانت هناك الفرصة لذلك؟ هذا القطاع أو ذاك من «الجماهير» ألا يعبر عن لمحة أو علامة أو لحظة في حياة العرب؟ أليس هذا القطاع «عينة» حية نستطيع بالتفاعل معها أن نضع أفكارنا في مختبر حقيقي غير مصطنع؟
حتى ما يصدم مشاعرنا وأذواقنا وتقاليدنا العلمية وأقدارنا السياسية وأعرافنا، لماذا لا نضعه في سياق المواجهة بين الفكر والواقع؟
هل شبابنا هؤلاء مستوردون؟ ألسنا نحن أنفسنا مسئولين، سواء عما قالوه أو ما لم يقولوه؟ ولماذا نفاجأ بأسلوبهم في التعبير، وهم غيرنا في الجيل والتكوين والعصر؟ ولماذا نفاجأ باعتراضهم على طرائقنا في التفكير ومناهجنا في التعبير، وقد سبق لنا الاعتراض على أساتذتنا وآبائنا وأجدادنا؟ ولماذا نخفق في إقامة الجسور بيننا وبين «هؤلاء» إذا كان الهدف من ثقافتنا هو الوصول إليهم والتأثير فيهم؟
لقد عمدت إلى طرح هذه الأسئلة، لأصور ما كادت تصل إليه الندوة من طريق مسدود، حين ارتفعت الأسوار عالية بين القاعة الغاصة بجمهور يريد «تصورًا عمليًّا» لتحقيق الوحدة العربية كما جاء حرفيًّا في عنوان الندوة، والمنصة المكتملة بالباحثين الذين أرادوا «تأصيل» التصور العلمي بتجارب التاريخ وقوانينه.
وبدت الأمور في إحدى اللحظات، كما لو أن طلاقًا بائنًا سوف يقع بين العلم والسياسة.
ولكني أعتقد أن تلك «اللحظة» كانت عنوان النجاح على عكس ما تصوره المتشائمون. كانت نقطة إيجابية ثالثة.
لأنها «اللحظة» التي انجلت فيها عيانًا ملامح الخلاف الجوهري بين فكر قومي مستقر في العقل والمخيلة، ولكنه رافق الهزائم العربية المستمرة منذ المواجهة العربية-الصهيونية في أواسط الأربعينيات … وفكر جديد لم يتبلور بعدُ في قوالب ذهنية جاهزة.
ولأنها «اللحظة» التي تواجه فيها الرأيان مواجهة علنية صريحة غاية الصراحة، بالرغم من أن الفكر القومي التقليدي كان يحتل مقاعد الأغلبية، بينما كان الفكر الجديد وغير المتبلور يحتل مقاعد الأقلية. وأيضًا بالرغم من التباين الشديد في جذور الفكر القومي السلفي، وكذلك اختلاف ينابيع الفكر الجديد. وهي التباينيات والاختلافات التي كادت أن تخلط الأوراق أحيانًا كثيرة فوق السطح. كان هناك مثلًا من أبناء السبعين عامًا وأكثر، وهو في الحقيقة من آباء الفكر الجديد. وكان هناك العكس، من أبناء الثلاثين عامًا، وفي الواقع هو من مشايخ الطرق الصوفية إلى القومية العربية. كثيرًا ما وقع اللبس والغموض، ولكن الانقسام الأيديولوجي بين قديم يحتضر رغم غالبية الأغلبية، وجديد يولد، كان جوهر «اللحظة» التي نتكلم عنها.
وهي أيضًا «لحظة» المواجهة الشجاعة مع الذات، لا بهدف انتقادها أو نهشها أو ندبها، وإنما بهدف تعرفها دون تزويق أو تشويه. هل نحن على أعتاب عصر الدويلات الطائفية والقبلية والعشائرية حقًّا، أم نحن على أعتاب عصر الوحدات الإقليمية الشهيرة: المغرب العربي، وادي النيل، الخليج … إلخ. أم على أعتاب المخاض العسير لولادة الوحدة العربية الكبرى؟
تعددت الإجابات تعدد الانتماءات والولاءات والأصول والثقافات والطبقات الاجتماعية والأقطار ونظمها السياسية وبيئاتها الحضارية.
هنا، كانت ذروة التمزق في «المرآة» التي أمامنا، داخلنا وخارجنا. وهنا كانت ذروة الوحدة بين «العلم» و«السياسة». أي ذروة نجاح الندوة. منحتنا في خاتمة المطاف صورة بانورامية صادقة لواقعنا الفكري-السياسي حول أخطر محاور حياتنا وموتنا. صورة يعترف بها الجميع دون مواربة.
وهل كنا ننتظر «وصفة سحرية» تتقدم بها مجموعة من الخبراء لإقامة الوحدة العربية فورًا؟ إن أقصى ما تطمح إليه ندوة علمية سياسية من هذا النوع هو تقديم لوحة واقعية شبه تفصيلية لواقع القضية المطروحة للبحث. أي أن الفائدة المرجوة من هذه الندوات هي الحصول على صورة أكثر وضوحًا.
وأعتقد أن ندوة «حول تصور عملي لتحقيق الوحدة العربية» التي دعت إليها الشعبة الثقافية وشعبة العمل القومي بالأمانة الدائمة لمؤتمر الشعب العربي في الأسبوع الأخير من فبراير ١٩٨٤م، قد حققت رؤية هذا الهدف.
٢
إذا كان شعار «الوحدة أولًا» جائزًا سماعه — وإن لم يكن مبررًا — منذ أكثر من عشرين عامًا فإنه اليوم أكثر جوازًا، ويمكن تبريره بشرط امتلائه على آخره بالمضامين الاقتصادية والاجتماعية التي تجيز وتبرر.
هذه المضامين حاضرة في قليل من أبحاث ندوة طرابلس. وقبل انعقاد الندوة بأربع سنوات كان هناك كتاب «الوحدة أولًا» للمفكر العربي السوري جورج صدقني، يعيد للشعار القديم رونقه ومغزاه ورؤيته الجديدة. وهو الكتاب (البرنامج) الذي يملأ الشعار المطروح بكل ما تطمح إليه جماهير دولة الوحدة. هذه الوحدة التي هي «حركة نضالية جماهيرية للتحرر من الاستعمار والإمبريالية والقضاء على التجزئة وبناء الاشتراكية» (ص۳). ويرى جورج صدقني في الفصل الأول من هذا الكتاب أنه لا يجوز السؤال عن الوحدة «رجعية أم تقدمية» لأن الوحدة «حق طبيعي» للأمة المجزأة (ص۹)، ولأن القومية العربية «حركة معادية بطبيعتها للاستعمار والإمبريالية» (ص۱۳)، ولأن الوحدة لن تكون إلا إذا كانت «وحدة الجماهير العربية الكادحة. وبالتالي هي وحدة طاقات هذه الجماهير، ووحدة نضالها. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يعني أن أعداء الاشتراكية لن يكونوا قادرين في ظل الوحدة، على الوقوف في وجه المد الجماهيري الكاسح الهادف إلى بناء الاشتراكية، وإذا كان بعض المناضلين في سبيل الاشتراكية لا يدركون مدى أهمية الخدمة التي تقدمها الوحدة للاشتراكية، باعتبار أنها توحد قدرات الجماهير الكادحة وتفجر طاقاتها، فإن أعداء الاشتراكية يدركون ذلك تمامًا. إن أعداء الاشتراكية أعداء طبيعيون للوحدة العربية. ولنا من تاريخنا القريب شاهد على ذلك. إن القوى الانفصالية التي انقضَّت على وحدة سوريا ومصر في عام ١٩٦١م وضربتها لم تكن قوى معادية للوحدة بقدر ما كانت قوى معادية للاشتراكية. لقد اتخذت من ضرب الوحدة طريقًا للانقضاض على المكاسب الاشتراكية» (ص۱۷).
بقية الكتاب الصغير المنير، هي تفصيل لهذه المعاني التي من دونها لا يعود لشعار «الوحدة أولًا» أي معنى، سواء كنا نتكلم في الاقتصاد أو في الآداب والفنون أو في الاستراتيجية العسكرية. ولقد تناولت ندوة طرابلس الوحدوية هذه المسائل، ولكنها في أغلب الأحوال، كانت معالجات جزئية لا يدعمها هذا التصور الشامل.
فباستثناءات نادرة كان المثقفون العرب في هذه الندوة يتوقفون عن العطاء بعد الحدود التي رسمها ساطع الحصري مثلًا أو زكي الأرسوزي. ولربما كان نديم البيطار وحده هو الذي حاول أن يقدم نظريته الخاصة التي تعرفنا أصولها منذ «الأيديولوجية الانقلابية» إلى «جذور الإقليمية الجديدة».
وبالطبع ليس مطلوبًا من كل باحث أن يقدم لنا نظرية جديدة، ولكن المطلوب منه بالتأكيد أن يضيف لنا ما طرأ من متغيرات، سواء على المجتمعات العربية أو العصر الذي نعيش فيه أو المفاهيم الوافدة مع هذه المتغيرات لمعنى القومية. ولعله من الملاحظات البارزة في السوسيولوجيا المعاصرة أن المفارقة الرئيسية في عالم اليوم هي الميل الشديد إلى التجمعات الكبرى كالسوق الأوروبية المشتركة، والميل الشديد أيضًا وفي نفس الوقت إلى التكتل القومي. إن عالمية رأس المال الغربي لم تستطع محو الحدود القومية حتى إن تجاوز قارب صيد إسباني للمياه الإقليمية الفرنسية يؤدي إلى سفك الدماء، كما أن الأسعار المنخفضة للنبيذ الإيطالي تدفع التجار الفرنسيين إلى سفك هذا النبيذ على الطريق قبل وصوله إلى الشفاه الفرنسية الظامئة وجيوب أصحابها الخاوية. كذلك فإن اشتراكية الشرق والأممية البروليتارية لم تستطع حتى الآن معالجة قضايا الحدود بين أكبر دولتين اشتراكيتين هما الصين والاتحاد السوفيتي، ولم تستطع أن تحتفظ بماء الوجه للاقتصاد البولوني.
أكثر من ذلك أن التفتت القومي، وليس التكتل، هو الذي يمزق النسيج الاجتماعي لأكثر أمم أوروبا عراقة وتقدمًا، فالكورسيكيون في فرنسا يشعلون حربًا مستمرة من أجل «الانفصال» والاسكتلنديون في بريطانيا — دعك من أيرلندا صاحبة القضية العادلة سلفًا — يطرزون برامج «الانفصال عن الإنجليز» بالجماجم واللون الأحمر علامة الاستعداد للموت استشهادًا من أجل «كيانهم القومي المستقل».
كلها متغيرات تقول إنه في قلب الظاهرة الرئيسية (الميل الشديد نحو التجمعات الكبرى) تربض الظاهرة القومية وتزداد مع الأيام احتدامًا.
لقد غابت عن ندوة طرابلس الوحدوية المتغيرات الرئيسية في الوطن العربي المعاصر. وهي المتغيرات التي لم يعرفها الحصري أو الأرسوزي. بل إن إعادة نظر راديكالية في الأطروحات القومية السابقة، لم تحدث على الأطلاق، كان الغوص في التاريخ وصفيًّا سرديًّا لا تحليليًّا ولا تركيبيًّا. لذلك ضج الشباب في القاعة من «التاريخ» وطالبوا بالبرامج العملية. ولم يكن الشباب وحدهم، كان معهم شيخ جليل هو محمد أحمد خلف الله، يشاركهم التساؤل حول «جدوى التاريخ». ولم يكن الملل من التاريخ نفسه، وإنما كان مللًا من الموقف السردي الوصفي الذي اتخذه البعض من هذا التاريخ. كان ما يعنينا هو قوانين التاريخ، قوانين الحركة من الماضي إلى المستقبل، ولم يكن يعنينا «تقرير ما حدث» في التاريخ.
لقد كانت محاور الندوة المبينة في أوراق العمل كفيلة بأن تلفت نظر الباحثين إلى مجموعتين من الأسئلة، يتطلب الجواب عليها استخلاص «الجوهري» من التاريخ، والتقدم نحو «الجوهري» في المستقبل. حينئذ ما كان من الممكن أن نرادف الماضي والتاريخ، كما حدث بالفعل في غالبية الأبحاث «التاريخية»، على العكس، كان من الممكن أن نصوغ برامج العمل.
المجموعة الأولى من الأسئلة الغائبة، تدور حول «المرحلة القطرية» في حياة العرب المعاصرين: هل هي مرحلة أصلًا أم هي «الطبيعة» والحدود النهائية؟ هل يفيد هنا «الإثبات» بأننا كنا دولة واحدة في هذه أو تلك من مراحل «الماضي»؟ هل يفيد أيضًا «الإثبات» بأننا كنا وما نزال أمة واحدة جزأتها المطامح والامتيازات والشهوات ثم الاستعمار والصهيونية، وأن التجزئة ليست من طبائع الأشياء أو ثوابت الأمور؟
لقد قال أحد أبرز الحاضرين في الندوة إننا الآن — عروبيًّا — أفضل كثيرًا مما كنا عليه منذ ثلاثين عامًا فقط؛ فقد أصبح المغرب الذي ينتمي إليه المثقف المذكور أكثر عروبة لغويًّا وثقافيًّا. وكان تعليق مثقف مشرقي من أبرز الحاضرين أيضًا أن الحال تدهورت بنا في الثلاثين عامًا الأخيرة كما لم يحدث لنا من قبل، ولعل «الحالة اللبنانية» هي أصدق الشواهد على انحسار الفكر القومي إن لم يكن هزيمته وانحدار الخط البياني العروبي إلى مهاوٍ سحيقة.
لقد كان من أجمل أوراق الندوة تلك الورقة اللغوية التي تقدم بها جورج صدقني، وأدان فيها أسلوب تعليم اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا وصحافتنا. وهو الأسلوب الذي يؤدي إلى كراهية اللغة والازورار عنها وإلى تكريس تقاليد سلبية من شأنها تكريس التجزئة لا الوحدة. أي أن التعريف اللغوي بحد ذاته ليس دليلًا على الاقتراب خطوات من الوحدة.
لا شك أن سيادة العربية في أقطار المغرب العربي انتصار لا شك فيه. ولكن المشرق العربي الذي لا يعاني من الازدواجية اللغوية يعاني من التجزئة القومية والقطرية … فالتعريب ليس لغويًّا فقط، ولا يمكن القياس القومي عليه.
ومرة أخرى، هل «القطرية» في حياتنا مرحلة أم صياغة نهائية سرمدية؟
أجابت الندوة، بتفاؤل جميل، أن القطرية مرحلة مفتعلة (دون أن نفهم معنى الأصالة والافتعال في التاريخ الاجتماعي للشعوب) أي أننا كنا (في الماضي دائمًا نعثر على الحلم) دولة واحدة، وسنكون في المستقبل كذلك (هكذا يصبح المستقبل هو الآخر حلًّا، وبالتالي فالوحدة قدر مقدور). وتتحول الأبحاث من هذا النوع إلى «مدينة فاضلة» تجد في نجيب العازوري وعبد الغني العريس وساطع الحصري وزكي الأرسوزي وعبد الله الريماوي وقسطنطين زريق ونديم البيطار، مجموعة من المتصوفة أصحاب الرؤى الباطنية أكثر منهم مفكرين أو دعاة لهم اجتهادات تقبل الصواب والخطأ وتقبل الحوار والتعديل والحذف والإضافة.
جواب هؤلاء «الرواد» منطقي إلى أبعد الحدود: ألسنا أمة واحدة؟ (من يجيب بالنفي يخرج من الساحة لأن الافتراض هو أن المخاطب قومي ووحدوي بالضرورة، فالجماهير شيء والحكام شيء آخر، الجماهير وحدويون بطبيعتهم والأنظمة عكس ذلك. لم يحلل لنا أحد هذه البديهيات، تحليلًا يعتمد الحركة الحية للجماهير وأنظمتها. لم يحلل لنا باحث واحد تحليلًا عينيًّا معاني العروبة في بيئة عربية محددة، كذلك معاني الوحدة. ولم يحلل لنا باحث آخر موقف إحدى الفئات التي ندعوها بالجماهير وموقف قطاع في سلطة نظامها السياسي من هذه المعاني وتلك بشرط المقارنة النقدية بين الموقف النظري الذي يصوغ البنية الذهنية، والموقف العملي في السلوك الاجتماعي أو السياسي). لم يحدث شيء من ذلك كله في ندوة طرابلس الوحدوية، بل اكتفينا بالسؤال الذي يحمل الجواب: ألسنا أمة واحدة؟ ولما كان الجواب الضمني من المخاطب الافتراضي هو الإيجاب؛ فقد كان الانتقال إلى الجواب (المنطقي، الشكلي، السهل الممتنع، المنتصر في الحلم) هو: إذن فالوحدة قدرنا، حياتنا، كفاحنا، طريقنا استقلالنا، عزتنا ومجدنا، الوحدة أولًا.
وبالطبع لم يكن المعنى البرنامجي في كتاب جورج صدقني ذائع الصيت أو مقبولًا. لذلك كان المعنى الرابع هو أن «الوحدة تسبق الحياة» أو «الشكل يسبق المضمون» أو «الفكر يسبق الواقع» فالوحدة أولًا بهذا المعنى، أي «قبل خلق الكون العربي».
في مجال الفكر المحض وفي سياق الرد على الطوباويين الوحدويين من أصحاب النوايا الحسنة نقول إنه ليس هناك أي شيء في الوجود يدعى «أولًا». ففي اللحظة التي نطالب فيها بالوحدة فورًا أو نضعها في صدر جدول الأعمال، فإننا في واقع الأمر نوافق ضمنًا على جملة الشروط الاقتصادية الاجتماعية السياسية الراهنة أثناء تحقيق الوحدة. فالوحدة هنا تصبح ثانيًا وثالثًا ورابعًا لأنها تالية بالضرورة لمجموعة المقومات المادية والفكرية الحالَّة (بتشديد اللام) في المجتمع خلال التغيير الوحدوي المنشود.
لنأخذ أبرز الأمثلة في تاريخنا القريب، وهو الوحدة المصرية السورية. لقد تمت تحت شعار «الوحدة أولًا». ولكن الحقيقة أنها لم تكن «أولًا». لقد أقبلت على «واقع» اقتصادي اجتماعي سياسي، وفدت إليه، فهي تالية له. ومن ثَم أصبح لدينا «دولة واحدة» لها مواصفات سابقة على عملية التوحيد، وليست مواصفات كامنة في الوحدة ذاتها تضمن نجاحها واستمراريتها، كالمواصفات التي أشار إليها كتاب جورج صدقني، بحيث تصبح «الوحدة أولًا» بمعنى ثورة الطبقات الشعبية ذات المحتوى الاشتراكي والإطار الديمقراطي في نسق التجزئة الإقليمية وإقامة السلطة العربية الواحدة.
سيطر الفكر التقليدي على أبحاث الندوة ومناقشاتها سيطرة الفارس في حلبة خالية من الفرسان، فالفكر البديل لم تتهيأ له مقومات الصراع بعد. تهيأت له الفرصة. أما مقومات الصراع فشيء آخر. المقومات تنبع من الداخل؛ لذلك بقيت «السهولة» و«الشكلية» و«الخلقية الضيقة» و«التكتيك السياسي» من علامات ورواسب الميراث الثقيل الذي تشترك فيه كافة الاتجاهات التقليدية، ورغم ذلك تتناحر فيما بينها ولا تتحاور. ولكنها تقيم في نفس الوقت سدًّا منيعًا يوجه «الجديد» الذي لم يكد يعلن ميلاده حتى ارتفعت الأيدي تخنق أنفاسه: بالإرهاب الأكاديمي تارة، كالأستاذ الذي اهتز من مقعده ليلقن غيره درسًا في الفرق بين البرجوازيات الصناعية والتجارية، وبالإرهاب الأبوي تارة أخرى، كالأستاذ الذي نعى إلينا الأخلاقيات والقيم في عصر يتجرأ فيه «الأولاد الصغار» على الكلام بلا حساب ولا توقير للكبار. وبالإرهاب السياسي الذي يجعل من الراحلين أصنامًا ومن كلامهم كتابًا مقدسًا وعقيدة لا يجور المساس بها.
من هنا بقيت الأطروحة الأخاذة «ألسنا أمة واحدة؟ إذن فالوحدة قدرنا» هي سيدة الحوار المقطوع، هي سيدة المنولوج بتعبير أدق. أما السؤال «المشبوه سلفًا»: لماذا إذن لا نتوحد، حتى نحن الذين تتقارب أقطارنا جغرافيًّا أو تتقارب أيديولوجيًّا أو تتقارب سياسيًّا؟ فلا جواب سوسيولوجيًّا عليه. هناك أجوبة سياسية مجتزأة من سياقها، أو أجوبة سياسية مقطوعة الجذور مع الاستراتيجية، لتفسير ما جرى بين مصر وسوريا وليبيا والسودان، ثم بين ليبيا وتونس وبين سوريا والعراق، وبين ليبيا وسوريا وغير ذلك من «مشاريع وحدة» لم تتم أبدًا.
لم يجرؤ أي من الباحثين في ندوة طرابلس الوحدوية على الكلام حول النفط ودوره التخريبي في ظل التبعية للغرب، حيث تحول إلى عنصر خطير في بعث الإقليمية وإحياء الشوفينية العرقية أو الطائفية وأحيانًا القبلية. لم يربط مفكر واحد بين النفط وعصر التفتت الإثني والمذهبي. ولم يحاول مثقف واحد أن يرى العلاقة العضوية رغم هذا التفتت بين النفط و«نظام الشرق الأوسط» الذي «يضم الكيان الصهيوني إلى بقية الكيانات (العربية).»
وكان من الطبيعي أن تتجاهل الغالبية الساحقة العلاقة العضوية بين مختلف المجتمعات العربية التابعة من ناحية، والإمبريالية العالمية من ناحية أخرى، حيث تصبح بلادنا امتدادات للشركات المتعددة الجنسية لا تتطابق فيها الأرض مع الهوية.
في ظل المجتمع البرجوازي الممسوخ والمنسوخ، التابع جوهريًّا وكليًّا للإمبريالية العالمية، وفي ظل الثروة غير الإنتاجية غير التنموية، تواجه الظاهرة القطرية الناشئة مع العصر الكولنيالي امتحانًا تاريخيًّا هو التحول إلى نظام الدولة-البئر الموجبة، والدولة-البئر السالبة. كلها دويلات-آبار أو مخيمات «البترودولار». هي المخيمات التي يتحول سكانها إلى «هنود حمر» العصر الأمريكي-الصهيوني الذي يفسح للكيان العنصري الغريب مكان القيادة.
والبديل الوحيد الممكن، هو الدولة العربية الواحدة، لا باعتبار «الوحدة أولًا» حيث الإبقاء المتعمد على مواصفات المجتمع الانفصالي، وإنما «الوحدة أولًا» حسب المدلولات البرنامجية التي وضع جورج صدقني مؤشراتها الحاسمة في كتابه المذكور. الوحدة هنا تصبح عملًا تاريخيًّا مستمرًّا قبل وأثناء وبعد إنجازها، لا شعارًا ينتهي مفعوله بانتهاء «الخطاب». أي أن «القطرية» حالة ومرحلة معًا.
هي مرحلة استجابت لتحلل الإمبراطورية العثمانية، وانعكست في صميم تكوينها مقومات عصر الاستعمار. وهي حالة سوسيولوجية تزدهر وتذبل بازدهار وذبول ميزان القوى الاجتماعي داخل «القطر».
في جميع الأحوال، ليست هي الطبيعة ولا الأزل، ليست الوجود أو الكينونة. غير أن حياتها لا تتم خارج السياق التاريخي. إنها «تتكون» يوميًّا ودائمًا. ليس صحيحًا أنها «تكونت» وانتهى الأمر. الصحيح والخطر أنها ما زالت تتكون وتتحلل. أية حسابات على أساس بقائها، وهمٌ ورجم بالغيب. وهي تتكون وتتحلل منفتحة على كافة الاحتمالات: أن يصل التحلل إلى ذروة منتهاه بالتلاشي والانقراض المموه أي التشرذم الإثني والطائفي، أو نضج التغيرات الكمية المتعاظمة وصولًا إلى التغير النوعي الأكبر، وهو الوحدة.
لم تكن هناك في ندوة طرابلس الوحدوية دراسة واحدة صدامية، رغم كثرة الصدامات السطحية بين تسميات هي ذاتها تستوجب إعادة النظر.
بين هذه الأيديولوجية وذاك المصطلح، كانت هناك الفجوة النظرية والعلمية التي اتسعت على مدى أسبوع من حوارات ندوة طرابلس الوحدوية، وظلت تتسع حتى سقطت فيها جواهر الأشياء وسبحت فوق السطح ظواهر الأمور.
۳
بالرغم من التعقيبات الحادة والمناقشات الملتهبة في كثير من مراحل ندوة طرابلس الوحدوية، إلا أن الانسجام بين المنصة والقاعة ظل السمة أو «النغمة» الرئيسية. وهو انسجام «الوحدة» العقلية والشعورية في كثير من الأحوال، وانسجام الجيل الواحد والذكريات المشتركة. كانت الغالبية العظمى من الحاضرين، متكلمين ومنصتين، ممن يمكن أن نطلق عليهم بضمير مطمئن تسمية «القوميين البرجوازيين» أو أصحاب الفكر القومي البرجوازي.
هو الفكر القومي البرجوازي بامتياز، سواء وهو يتكلم عن التاريخ باعتباره حاضرًا، أو وهو يتكلم عن الآفاق المحتملة والرؤى الممكنة باعتبارها المستقبل. ولم يحدث قط أن رأى أحدهم الماضي والحاضر والمستقبل باعتبار الأزمنة الثلاثة هي التاريخ، وأن حداثة العصر هي رؤية تستكشف الماضي والمستقبل جميعًا.
وليست هذه هي المشكلة … فنحن الآن مع المجموعة الثانية من الأسئلة الضائعة في زحام الأجوبة التي أجابت عن كل شيء ولم تجب عن شيء. أو هي الأسئلة الغائبة تحت ركام الأجوبة التي صارت أنقاضًا وأشتاتًا يصعب جمعها.
أليس الناصريون قوميين؟
أليس البعثيون قوميين؟
والقادمون من حركة القوميين العرب؟ أين نضعهم؟
والماركسيون الذين يؤمنون بالقومية العربية. كيف نصفهم؟
والمستقلون عن كل الدمغات التاريخية من القوميين والديمقراطيين الاشتراكيين، ماذا نقول بشأنهم؟
والوحدويون الذين رحبوا بالانفصال ذات يوم ليس ببعيد، أليسوا قوميين؟
وغير ذلك عشرات من الأسئلة الضالعة في تكوين «المأزق» غير المرئي في محاورات الندوة.
كان علينا أن نواجه بعضنا بعضًا بعديد من المحاور الضمنية أو المبطنة، والبدء بالقومية ذاتها، بين الهوية والماهية، أي هل هي تعريف لشخصية تاريخية معاصرة، أم هي مشروع أيديولوجي؟ في ضوء هذا الطرح قد نلاحظ أن أكثر المنفعلين حماسًا للقومية لا ينظر إليها كتوصيف ذاتي للأمة والوطن، بل كمشروع أيديولوجي لبناء فكري.
وكان علينا أن نواجه بعضنا بعضًا بأننا لا نستطيع أن نبلور رؤًى وحدوية بغير مراجعات قومية تتابع مراحل «المفهوم القومي» وجدلية العلاقة بينه وبين التاريخ العربي الحديث، وعلاقة الفكر القومي المهزوم بكلٍّ من عصر النهضة والناصرية.
كان لا بد من هذه المواجهات مهما قادتنا إلى صدامات أو صدمات، فالحصيلة النهائية لن تكون «الفوضى» بأية حال.
وإنما كان يمكن لهذه الحصيلة أن تمد أبصارنا إلى المكونات الأولية والرئيسية للمجتمع الذي نعيش فيه … فلا يكفي القول إنه مجتمع برجوازي، كما لا يكفي القول إن الفكر القومي العربي في غالبيته هو فكر برجوازي.
وإنما لا بد من الإقرار سلفًا بأننا نحيا ونموت في مجتمع برجوازي تابع، هو المجتمع المنسوخ الممسوخ منذ أكثر من قرن ونصف، قوامه الطبقي وُلد بسيادة شرائح تجارية وزراعية وصناعية وبيروقراطية وتكنوقراطية هي ثمرة زواج غير مقدس بين شبه الإقطاعي والكومبرادوري. مساومة تاريخية في أرض الواقع قبل أن تصبح معادلة فكرية في الثقافة والفنون. الحل الذهبي الوسط بين قوانين السوق وقيم السلف، بين نمط الإنتاج الحديث والعلاقات الاجتماعية السائدة. وفي الحلول الوسط الذهبية يصبح الاختزال والتجريد وربما الغموض، هو سيد الصياغات. التراث والعصر، هما محور «حداثة» عصر النهضة. التراث هو العودة إلى «الينبوع» أي النص المجرد، والعصر هو «الحضارة» التي بدورها هي «الغرب». هكذا يؤدي الاختزال والتجريد وربما الغموض إلى تشويه المعاني وأحيانًا قلبها رأسًا على عقب. التراث يصبح «نصًّا مجردًا» من التاريخ الاجتماعي للشعب هو الينبوع المقدس، والعصر أي الزمن يتحول إلى جغرافيا عندما تتطابق الحضارة والغرب كمترادفين.
تلك كانت «التوفيقية» عماد البرجوازيات الممسوخة الناشئة بالضرورة بمعزل عن بعضها البعض، فهي انفصالية بالولادة، إقليمية بالتطور، تابعة في جميع المراحل.
عندما تصبح السوق المحلية كنمط إنتاج وعلاقة اجتماعية امتدادًا عضويًّا ومصيريًّا لحركة الاحتكارات الكولنيالية ثم الإمبريالية، لا تعود هناك أية إمكانية لتوحيد «الوطن» أو «الأمة». وحينذاك تتحول «الهوية» إلى «ماهية»، والقومية إلى مشروع أيديولوجي … فالمفروض أصلًا ألا يكون هناك قوميون عرب وغير قوميين وكأن القومية مذهب سياسي كالليبرالية أو الماركسية. جميع العرب قوميتهم عربية، ولا يجوز في هذه الحال قصر الهوية القومية على بعض العرب دون البعض الآخر. ولا يجوز تخفيض القومية من منزلة الهوية إلى منزلة التوصيف الأيديولوجي.
ولكن هذا ما حدث. أصبحنا نفرق بين العربي والقومي العربي. في تلك اللحظة تحولت الهوية إلى ماهية أو بتعبير آخر إلى مشروع أيديولوجي.
متى حدث ذلك، وكيف، ولماذا؟
حدث ذلك، من الطبيعي، في مراحل الجزر العنيف في تاريخ الأمة العربية. وهي المراحل التي تكاد تشكل المساحة الكبرى من هذا التاريخ، حتى إن البعض رآها جوهر التاريخ. عندما يتراكم التاريخ المضاد للتاريخ يصبح الشك في الهوية هو الخلفية السائدة على ينابيع الرؤية، ويصبح الأمر محصورًا في المعيار النوعي للانتهاء كسؤال مطروح بالفعل، كماهية تستحق عناء البحث عنها، كمشروع أيديولوجي قابل للتكوين والتكامل.
في الظلال الوارفة للهيمنة العثمانية ثم الهيمنة الغربية ثم الهيمنة الإمبريالية والصهيونية، يصبح «الدفاع» عن ذاتية الأمة العربية، عن مجرد وجودها، عن كونها هوية العرب المقيمين فوق «أرض» أو «وطن» محدد الجغرافيا … يصبح الدفاع عن ذلك كله مشروعًا أيديولوجيًّا. و«ماهية» معيارية في توصيف الانتماء.
في مراحل المد العربي لا يشك أحد في الهوية العربية، بل ينتسب إليها مَن ليس منها. في مراحل المد لا تعود القومية ماهية أو مشروعًا، لأنها كينونة متحققة في إطار.
هذا الإطار ندعوه دولة الوحدة. المد العربي مرتبط بوجودها. الجَزر مرتبط بغيابها. الهوية القومية والانتماء القومي ليس سؤالًا مطروحًا على الإطلاق في دولة الوحدة المتحققة. وهو سؤال ضاغط بكل أهوال الشك والحاجة القصوى إلى اليقين في ظل تفككها وانفصام عراها.
لذلك تشابكت العلاقة منذ البدء بين الدولة والأمة لدى العرب أكثر كثيرًا من هذا التشابك لدى شعوب أخرى.
نتوقف هنا لحظة لنقول إن السرد التاريخي للأمة العربية ليس مهمًّا بحد ذاته ما لم يكن استخلاصًا لقوانين المد والجزر في قيام الدولة الواحدة أو الأقطار العديدة أو القبائل-الدويلات العرقية والطائفية، كذلك فإن دراسة التجارب الوحدوية في تاريخ بقية الشعوب ليست مهمة بحد ذاتها ما لم تكن استكشافًا للعلاقة بين العام والخاص، لقوانين الخصوصية القومية في علاقتها بقوانين التطور الإنساني الشامل.
وما لم نضع أيدينا على الصراع-المحور بين مختلف الصراعات التي يمكن أن تضللنا، فإننا لن نستطيع اكتشاف الحلقة الرئيسية في نضالنا من أجل الوحدة.
والصراع-المحور في تاريخنا الحديث هو الصراع ضد البرجوازيات الممسوخة الإقليمية التابعة … فالقانون التاريخي الأول الذي يمكن تمثله من المسيرة الحضارية الاجتماعية للأمة العربية، هو أن البرجوازيات العربية ليست وحدوية، ولا تستطيع أن تكون كذلك. إنها قومية في أزمنة المد وعربية في أزمنة الجزر، ولكنها انفصالية في جميع الأزمنة. ولا تملك بحكم تبعيتها المطلقة لرأس المال الاحتكاري العالمي أن توحد أسواقها المترامية في سوق قومية واحدة. لقد أتيح لهذه البرجوازيات العربية المنسوخة والممسوخة على مدى قرنين من الزمان «الحديث» أن تتوحد مرتين حاسمتين: الأولى في بداية الحلم الإمبراطوري لمحمد علي، والأخرى في ذروة النضج القومي لجمال عبد الناصر. وفي كلتا المرتين سقطت التجربة لأسباب مشتركة.
السبب الأول خارجي، هو تحالف الرأسماليات العالمية ضد «استقلالية» أي سوق. والاستقلال العربي هنا هو الترجمة السياسية للدولة الواحدة.
السبب الثاني داخلي، هو أن القوى الاجتماعية صاحبة السلطة في الدولة الإمبراطورية أو الدولة القومية ليست هي القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة النهائية في دولة الوحدة.
السبب الثالث إشكالي، وهو غياب الركيزة البنيوية لأية دولة عربية موحدة، وأعني بها الديمقراطية التي تستجيب من ناحية للتاريخ والخصوصية حيث تتعدد ينابيع وأصول الأمة العربية تعددًا إثنيًّا ودينيًّا ومذهبيًّا وحضاريًّا. وتستجيب من ناحية أخرى لمقتضيات العصر الاستراتيجية حيث يستحيل على القوى الاجتماعية المؤهلة وحدها لصنع دولة الأمة الواحدة أن تتخلى عن مصلحتها في صنع القرار السياسي لهذه الدولة وحقها في رقابة تنفيذه.
ولقد تكاتفت العناصر الثلاثة المذكورة في ضرب التجربة الإمبراطورية لمحمد علي والتجربة القومية لجمال عبد الناصر … مهما اختلفت التفاصيل والأسماء والمسميات.
ولربما كان التناقض في تجربة محمد علي — غير العربي — أنه الرجل الذي أرسل الطهطاوي إلى فرنسا ليعود ببذور المعادلة النهضوية التوفيقية. وهي في الأصل معادلة ليبرالية. ولكن المضمون الاقتصادي لهذه الليبرالية لم يكن قائمًا، فالبرجوازية المصرية لم تكن قد تبلورت بعد. ومن ثَم فقد كان الطهطاوي رسول التحديث إلى حكم أوتوقراطي لا علاقة له بالديمقراطية. أراد أن يستقل بمصر ليضرب الرجل المريض — تركيا — في عقر داره بالأستانة، ولتصل قواته إلى اليونان، بالرغم من أن ابنه إبراهيم باشا وعد قبل موته بأن جواده سيتوقف عند آخر رقعة يتكلم أهلها العربية.
أما التناقض في التجربة الناصرية فقد كان بين المدخل الجديد لمعادلة جديدة قوامها القومية العربية في طرف والعالم في الطرف الآخر — بدلًا من توفيقية التراث والعصر — وبين المبنى الاقتصادي الاجتماعي السياسي لدولة الوحدة. وهو المبنى الذي سقط بالأيدي ذاتها التي أقامت «تلك الدولة».
لذلك كانت المفاهيم القومية السائدة منذ «فجر اليقظة» هي في الأصل والمسار والنتائج مفاهيم البرجوازية التابعة أيًّا كانت الأيديولوجيات الفلسفية أو الاقتصادية أو الاجتماعية لأصحابها. إنها المفاهيم التي نشأت في عصور المد التاريخي للأمة العربية، عصور الدولة الواحدة، أو عصور الطموح في الاستقلال عن الهيمنة العثمانية أو الغربية أو الصهيونية.
ولعله من المفارقات أن القومية حين كانت تتحول من كونها الهوية العربية إلى اعتبارها ماهية أيديولوجية، كانت «الأصالة» من الادعاءات الكامنة في تفصيل هذه الماهية. أن تكون قوميًّا، يعني أن تكون أصيلًا. وأن تكون أصيلًا يعني أن تكون ذاتًا منغلقة على تراثها وتراث تراثها دون أدنى علاقة بالآخر أو الغير.
والمفارقة هي أن أصحاب هذا الادعاء، قد عرفوا ما يسمى خطأ بالفكر القومي وما يسمى صوابًا بالحركة القومية عن طريق الفكر الغربي وحركات الوحدة القومية الأوروبية. الصواب أيضًا هو أن حركات الوحدة القومية الأوروبية قد عرفت أفكارًا متعددة وأيديولوجيات مختلفة لا سبيل لجمعها في وعاء واحد نطلق عليه وصف الفكر القومي. بينما «الفكر القومي» تعبير يُطلق على مجمل الفكر في وطن معين بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. هناك ثقافة قومية بريطانية أو فرنسية أو ألمانية، يُقصد بها الفكر الذي أضافه البريطانيون أو الفرنسيون أو الألمان إلى كافة الأيديولوجيات. أما الحركات القومية التي وحدت هذه الأمم في دول، فإن لها أفكارها وأيديولوجياتها التي تختلف من بسمارك إلى غاريبالدي إلى … هوشي منه.
على أية حال؛ فقد كان أمرًا طبيعيًّا أن تغترف الحركات القومية العربية البرجوازية أفكارها وأيديولوجياتها من الغرب، من الوحدة الإيطالية ومن الوحدة الألمانية وأحيانًا من برجسون.
وحسب تعريفهم للأصالة القومية، فإنهم ليسوا أُصلاء على الإطلاق.
لقد ترك المجتمع البرجوازي التابع بصماته على كافة المدارس الفكرية العربية. ترك بصماته على اليسار الستاليني مثلًا، فلم يحدث التطابق بين تعريف ستالين للقومية والأمة وواقع الحال في بلادنا. وهكذا انضم الستالينيون العرب إلى دعاة الإقليمية من عتاة البرجوازيين الممسوخين، ولم يكن ذلك من الماركسية في شيء، وإنما كان التخلف الحضاري المرعب والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم.
ومع ذلك فالمشكلة لم تكن هنا. وإنما كانت مع أدعياء الوحدة والقومية والأصالة، وهم الذين «استوردوا» — بلغتهم — الأفكار «القومية» الأوروبية وحاولوا زرعها في غير أرضها.
وكانت النتيجة هي تحول ما يسمى بالفكر القومي البرجوازي العربي إلى فكر شوفيني عنصري عرقي فاشستي يعادي في جوهره العميق الاشتراكية — بأي معنى للعدل الاجتماعي — والديمقراطية، بأي معنى من معاني الحرية. إنه الفكر المسئول عن الانفصال والهزائم أمام العدو وقهر الجماهير العربية وانقلابات القيم والضمائر.
لم ينجُ من التخلف والتبعية أي تيار فكري في الثقافة العربية المعاصرة. لم ينج اليسار ولا الوسط ولا اليمين، فالإصلاح الديني الذي بدأ مع الأمام محمد عبده والكواكبي، سرعان ما انتكس «باستيراد» الفكر الهندي-الباكستاني القادم من صلب تجربة انسلاخ طائفي عن «الأمة الهندية» ذات التاريخ العريق والحضارة المتميزة بتعدد اللغات والأديان والأعراق. إن فكر الإخوان المسلمين والجماعات المسماة «متطرفة» هو انقلاب مستورد على الفكر العربي، فكر الإصلاح الديني. وهو انقلاب على القومية العربية باسم الدين. لماذا؟ لأن أدعياء «الأصالة» لا يتخيلون أن مسارنا التاريخي يختلف عن الغرب، وأن القومية عندنا تختلف، وأن علمانيتنا تختلف. لا يدركون مطلقًا أننا نختلف. لاشعوريًّا وفي عمق الأعماق، هم منسحقون أمام الغرب، تحت أقدامه. يطبقون معاييره ويشيعون أحكامه وينفذون برامجه حين يخططون وفق مناهجه.
لقد ظل المثقفون العرب عشرات السنين يحاربون طواحين الهواء عندما تفرغوا لمقاتلة «تيارات» فكرية لم تزد عن كونها تيارات لم يحدث قط أن تحققت أهدافها في دولة أو حكم أو دستور أو مجتمع.
وكان ذلك هروبًا من واقع الأفكار المهزومة. كان هروبًا من المواجهة. مواجهة النفس والعالم والتاريخ.
ما أيسر أن نستدير عن واقعنا لنسب النماذج الأخرى البعيدة، شرقًا وغربًا.
وما أصعب أن نتلفت إلى واقعنا الأصيل، لنواجه حقائقه المادية والفكرية. هذه الحقائق الصارخة بأننا لم نعرف مطلقًا مجتمعًا اشتراكيًّا أو ديمقراطيًّا هو سبب الفساد والهزائم. وإنما عرفنا مجتمعات قبلية وعشائرية وطائفية يسودها فكر قومي برجوازي مشوه ومستورد من تجارب لا تنير طريقنا إلى الجذور، أو فكر طائفي مستورد هو الآخر من تجارب مضادة للوحدة القومية تغلق علينا الطريق إلى الأصول.
هاتان المدرستان، بتنويعات مختلفة، كانتا الجسر السري الممتد بين القاعة والمنصة في ندوة طرابلس الوحدوية. وكان العبور صعبًا إلى الفكر القومي الجديد.
٤
وها أنا ذا أختتم تأملاتي حول ندوة طرابلس الوحدوية متسائلًا: ما هي احتمالات الفكر «القومي» الجديد؟
ولعله يبطن التساؤل حول ممكنات الحركة الوحدوية في المستقبل المنظور. خاصة أنه من بين القرارات أو التوصيات التي حرصت عليها الندوة إحياء الحركة العربية الواحدة تنظيمًا جبهويًّا وفكرًا وحدويًّا.
-
الأولى هي الانفصال شبه المطلق بين الثقافة والشعب … فالمقولات الواردة في الوثيقة تجنح إلى الاختزال والتجريد، بحيث لا يعود الواقع الحي للأمة أكثر من أشباح ورموز يقتصر تعاملها على البنية الذهنية — الفوقية إن شئت — وتكاد تهمل التعامل مع البنى الإنتاجية — التحتية — حيث التكوينيات الاقتصادية الاجتماعية هي سيدة أي تغيير حقيقي «ليس في الهواء».
-
الحقيقة الثانية هي أن الانحصار الأيديولوجي لم يؤدِّ إلى مجابهة صريحة للنظام العربي المعاصر، إلا في حدود الشعارات الاستعراضية التي تعني كل شيء ولا تعني شيئًا على الإطلاق. لم يحدث قط أن أشارت الوثيقة إلى ظاهرة «الوحدة التي تقتل الوحدة» بدءًا من جامعة «الدول» العربية … إلى آخر القائمة التي تكرس أشكالًا وحدوية قاتلة للوحدة في نهاية المطاف.
-
الحقيقة الثالثة هي «تجفيف المشكلات» في برادات الوعظ والإرشاد، حيث ينقطع الاتصال نهائيًّا بين الأيديولوجيا والسوسيولوجيا، وتختلط الأماني بالوقائع، ويمسي التمايز مستحيلًا بين التقرير والتحريض.
ونتيجة حتمية لهذه «الحقائق»، فقد بقيت في الساحة الفكرية للحوار «إشكاليات عالقة». دون أية محاولات جادة لتفكيك السؤال-الإشكالية، وتركيب الجواب الافتراضي.
مثلًا، إشكالية الطموح أو النزوع القومي، والأيديولوجيات البرجوازية في مراحلها المتعددة. أي أنه إذا كنا قد اتفقنا بشكل عام على أن البرجوازيات المنسوخة والممسوخة ليست من القوى الاجتماعية ذات المصلحة في قيام دولة الوحدة وبالتالي فإن الفكر القومي البرجوازي ليس مؤهلًا لحل الإشكالات العالقة، فهل معنى ذلك أن هناك «حتمية» تاريخية تحول دون إنجاز المجتمع العربي الموحد في ظل نسيجه البرجوازي؟
مثلًا أيضًا، إشكالية العلاقة بين الطبقة والأيديولوجية القومية، فإذا افترضنا أن مجموع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في الوحدة لا تملك أيديولوجية وحدوية، فهل يمكن للتراث القومي البرجوازي أن يتحول ليصبح رصيدًا ولو معدلًا بالأيدي القادرة على إحداث التغيير القومي؟ وكتعبير واقعي عن هذا الاحتمال، أيمكن إعادة فحص معادلة «التراث والعصر» من ناحية ومعادلة «القومية العربية والعالم» من ناحية أخرى في طريقنا نحو تركيب المعادلة الجديدة؟ والإشكالية هنا ليست نظرية فقط، وإنما هي مطروحة بإلحاح على متغيرات الشارع الشعبي.
مثلًا كذلك، ما هي التشابكات البنيوية بين المسألة الفلسطينية وبناء الوحدة القومية، ما هو الدور الفلسطيني إن جاز التعبير، أين مكانه كعنصر سواء على «كل» التراب الفلسطيني أو على «جزء» من هذا التراب، هل نحن بهذا الشعار الاستراتيجي نقدم مساهمة فلسطينية في الوحدة القومية أم أننا أمام معضلة الحلقة المفرغة بين أن يكون تحرير فلسطين محطة إلى الوحدة أو أن الوحدة هي الطريق إلى التحرير؟
مثلًا أخيرا: ما هي الأسس الموضوعية في الفكر والواقع الاجتماعي القُطري لقيام ما دعت إليه ندوة طرابلس الوحدوية من «حركة عربية واحدة» تقود حركة النضال القومي؟
•••
ربما تبدو محاولة الجواب على هذه التساؤلات نوعًا من «التأمل» أكثر منها نوعًا من «العلم» وربما كانت البداية من النهاية أفضل السبل لاستعادة الشمول في وجهة النظر.
هكذا يمكن القول إن ما طرحه البعض في ندوة طرابلس الوحدوية من أن تحالفًا استراتيجيًّا بين القوى القومية والقوى الماركسية على الصعيد السياسي من شأنه أن يحقق مدخلًا إلى معادلة فكرية جديدة، هو الطرح الجدير بأن يكون اختيارًا عمليًّا لأية حركة عربية واحدة.
في هذا السياق لا بد من الإقرار بأن هناك ظاهرة موضوعية تنمو ببطء منذ «انفصال» ١٩٦١م ثم تسارعت وتيرة النمو منذ هزيمة ١٩٦٧م هذه الظاهرة هي النواة الفكرية للمعادلة البديلة، وهي الظاهرة التي لا أحب تسميتها باللقاء بين الأيديولوجية القومية والأيديولوجية الماركسية، لأن القومية هوية أولًا وقبل تحولها إلى مشروع أيديولوجي ولا يجوز عمليًّا ووطنيًّا مساواة الهوية بأية أيديولوجية. ولا يعنينا هنا الغوص في أسباب القطيعة الحقيقية أو التناقض الموهوم بين أية هوية وأية أيديولوجية، وبين القومية العربية بالذات والماركسية تحديدًا. ذلك أن القطيعة أو التناقض في المثال العربي، كان وما يزال بين إحدى الأيديولوجيات البرجوازية (التي تتستر بالقومية أو تحتكر الهوية القومية وتدَّعي وحدها ملكية الوطن وتطابق بين الطبقة التي تمثلها والأمة) من جهة، وبين إحدى الأيديولوجيات الاشتراكية (هي الستالينية لا الماركسية) من جهة أخرى.
على هذا النحو يصبح التناقض موضوعيًّا، والقطيعة مفهومة، وإن كان «الضرر» عائدًا في النهاية على الوحدة من كلا الجانبين. وقد كانت الآثار الفادحة لهذا الضرر من بين الدوافع التي قادت بالانفصال والهزيمة إلى مراجعات فكرية ونضالية أثمرت على مدى عشرين عامًا وأكثر، هذه الظاهرة الجديدة التي لا أحب تسميتها باللقاء بين القومية والماركسية. وإنما أفضل وصفها من الخارج بأنها تطور قطاع من الوحدويين العرب في الاتجاه الاشتراكي، وتخلي قطاع من الماركسيين عن الستالينية. ومن هذا التخلى وذاك التطور اللذين أرهقت بهما أرض الواقع النضالي للأمة العربية، تشكل تيار جديد في الفكر والعمل العربيين يشق طريقه في الصخر. صخر البرجوازية الممسوخة، وصخر الستالينية على السواء.
•••
وكان جمال عبد الناصر، هو أول من أعاد النظر عمليًّا في معادلة عصر النهضة «التراث والعصر». أعاد النظر بثورة هائلة أصابت وأخطأت، وانتصرت وانهزمت، ولكنها رسخت مدخلًا صحيحًا إلى معادلة جديدة بديلة هي القومية العربية والعالم.
رفض عبد الناصر عمليًّا الاختزال والتجريد في المعادلة التوفيقية، حيث اكتشف في أرض الواقع أن اختزال التراث من ناحية يؤدي إلى العنف الطائفي وربما الحرب الأهلية، وأن اختزال العصر يؤدي إلى التبعية للغرب.
كذلك كانت القومية العربية بديلًا متطورًا بما تتضمن من تراثات المنطقة وفي مقدمتها التراث الديني، وبما تتضمن من صياغة حضارية لهويتنا القومية المتعددة الينابيع والأصول ولكنها الموحدة الغاية في بناء دولة العرب الواحدة.
كذلك كانت فكرة العالم — مكانيًّا وزمانيًّا — بديلًا متطورًا لفكرة «العصر» التي كانت تنتهي بالتجريد إلى أبواب «الغرب» وحده، أي أنها تنقلب من الزمان إلى المكان وفي المكان لا نجد سوي الغرب.
ومن المفارقات المأسوية لعصر السادات، أنه وزبانيته يسمون العصر الناصري بالانغلاق، ويدعون عصرهم بالانفتاح … وهو قلبٌ مزر للحقائق. لقد كان الانفتاح على الغرب هو سمة عصور ما قبل الثورة، وجاءت الناصرية بالانفتاح على الشرق والغرب وعلى الشمال والجنوب (العالم)، فكيف يسمى ذلك بالانغلاق، بينما جاء السادات ارتدادًا إلى العصور (العربية) السالفة منغلقًا على الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وحدهما، أغلق النافذة الشرقية والأخطر أنه أغلق البوابة الوحيدة الصحيحة لهويتنا ومصيرنا. البوابة العربية. ومع ذلك فهو رمز الانفتاح … ولكنها قضية أخرى.
على أية حال، فقد نجح عبد الناصر في صياغة المدخل الصحيح إلى المعادلة البديلة. ولم يتح له العمر ولا مقومات المجتمع ولا الظروف العربية أن يفضي هذا المدخل إلى المبنى الصحيح أيضًا. كانت الهزيمة وكان الرحيل المفاجئ والمريب في زمن قياسي … وبدأ زمن التراجع عن استكمال المبنى، بل وبدأ تحطيم المدخل. وعدنا من جديد إلى معادلة النهضة ولكن في عصر السقوط.
ما هو المدخل الناصري إلى المعادلة البديلة؟ إنه استبدال القومية العربية بالتراث تحديدًا واستبدال العالم كله بالعصر.
ما هو الفراغ الذي ملأته الهزيمة والارتداد الساداتي؟ إنها ثغرة «التوفيق» أو التوفيقية، وكأن استبدال القومية بالتراث أو العالم بالعصر لا يتطلب استبدالًا آخر أكثر أهمية هو «ميكانيزم» العلاقة بين القومية والإنسانية، أو بين العروبة والعالم.
عملية «الاستبدال» في ذاتها لا تعني شيئًا ما لم تكن المعادلة كلها مهيأة للاستبدال. وإلا تحول الأمر إلى مجرد «قطع غيار» إذا تآكلت قطعة حلت مكانها أخرى.
إن حضور القومية العربية ليس تناقضًا مع حضور التراث، وحضور العصر ليس تناقضا مع حضور العالم. وبالتالي فليس هناك في الحقيقة أي «استبدال» شيء بآخر. وليس هناك أي «استكمال» شيء بآخر. فالتراث لا ينقص بحضور القومية العربية والعصر لا ينقص بحضور العالم، والعكس أيضًا صحيح … فالعروبة لا ينقصها التراث والعالم لا ينقصه العصر.
فإذا لم يكن هناك استبدال ولا استكمال، ماذا يكون الأمر؟
إنه التغيير الذي لم تتوافر للناصرية إمكانية إنجازه حتى المنتهى. لقد نجحت في تغيير المدخل. وهو ما يجب أن نحرص عليه، أن نبدأ منه، فهو علامتنا ونقطة انطلاقنا ورصيدنا. ولكن علينا أن نكمل المهمة على أساس أنها «التغيير». وهو التغيير الذي لا يتم بالتوفيق لأن التوفيق يؤدي إلى الإصلاح ومنه إلى السقوط. وعلينا أن نكمل المهمة على أساس أنها «البناء» لأن الاكتفاء بالمدخل وحده يؤدي إلى التضليل أو إلى ملء الثغرة بالثورة المضادة.
لقد سقطت معادلة عصر النهضة في أرض الواقع الاجتماعي للشعب العربي سقوطًا مدويا عديدًا من المرات. سقطت منذ أكثر من قرن باستيلاء أوروبا على بلادنا استيلاءً مباشرًا، وسقطت منذ ثلاثة أرباع قرن بإجهاض الانتفاضات (الثورية) الإقليمية المتباعدة ومداواة الجراح بمن كانوا هم الداء. وسقطت منذ نصف قرن مع خيانة الشعارات والرموز (الوطنية) التي استبدلت اللسان بالسلاح وآزرت الاستعمار في ضرب الأهل من الكادحين. وسقطت ربع قرن في الانفصال ومنذ خمسة عشر عامًا في الهزيمة ومنذ عامين في بيروت ومنذ يومين في … وفي … وفي. سقطت معادلة النهضة ولم يبقَ لها من أنصار سوى تجار الشنطة الكبار والصغار وسماسرة البورصة ومهربي الحشيش والأفيون، سواء كانوا من المثقفين أم من الحكام أم من الشطار والفهلوية أم من المساكين والغلابة.
سقطت المعادلة، ولم يعد أمامنا سوى الانقراض تحت عجلاتها المهترئة، تحت سنابك الخيل الصهيونية الأمريكية الغربية، تحت نيران الطائفية والعرقية والقبلية والحدود الاستعمارية … أو النجاة بأرضنا وإنساننا ومستقبل حياتنا، بصياغة معادلة جديدة تعتمد «القومية العربية والعالم» مدخلًا صحيحًا إلى مبنى ما يزال ينتظر التشييد.
وليست الأرض خلاء. إنها مليئة لحد التخمة بالدماء والجماجم والأحلام والذكريات التي استشهدت في جحيم اللعنة، أو المعادلة البرجوازية المنسوخة والممسوخة.
•••
هذه المعادلة الجديدة لم يكن لها مكان في ندوة طرابلس الوحدوية … كانت هناك إشارات، ومضات، انبلاجات خاطفة تؤكد أن ثمة مخاضًا حقيقيًّا وإن يكن أليمًا وعسيرًا. وأن «الحركة العربية الواحدة» ممكنة الولادة دون لقاء أو تحالف بين «القوميين» و«الماركسيين» إذا حللنا التناقض الموهوم بين القومية والأممية أو بين العروبة والإنسانية أو بين «القومية العربية والعالم»، وإذا حسمنا أمرنا مع قوميتنا فاعتبرناها هوية لا أيديولوجية، وإذا حسمنا أمرنا مع الأيديولوجية وتمكنا من رؤية الهوية والقومية والاشتراكية والديمقراطية كثوابت يستحيل الاستغناء عنها في بناء المعادلة الجديدة.
وهي المعادلة التي تعيد الزواج بين الثقافة والشعب، ولكنها في نفس الوقت تؤكد الطلاق مع النظام العربي المعاصر، نظام الشرق الأوسط الذي يضم الكيان الصهيوني. ثم هي الشهادة على الالتحام بين الأيديولوجيا والسوسيولوجيا.
إن هذه المعادلة التي يمكن لها أن تكون العمود الفقري للحركة العربية الواحدة هي التي ستخلق مناضليها وتفرزهم، وهم أيضًا الذين سيخلقونها ويناضلون بها. عندها يصبح البرنامج العملي لندوة طرابلس الوحدوية أكثر جدوى من الوثيقة الفكرية التي لم ترتفع إلى مستوى ما نحن فيه من مواجهات أخيرة.
١٦ / ٤ / ١٩٨٤م