الموت لا يخطف على الهوية
لم يعد الموت في جيلنا، ربما في حياتنا كلها، ضيفًا غريبًا أو طارئًا. أضحى واحدًا من أفراد الأسرة الأعزاء الحميمين، إذا غاب يومًا افتقده الجميع.
وأمسى من طبائع الأشياء أن تغيب الوجوه الحبيبة للقلب والعين فجأةً وبلا سابق إنذار دون أن يعتبر ذلك من المفاجآت. إننا في زمن الموت العربي بعد أن أصبح الموت صاحب جلالة يملك ويحكم ويرعى شئون الأحياء الموتى والموتى الأحياء. أمسى الموت الملك والحاكم الديمقراطي الوحيد، فهو يتجول بين القصور والأكواخ دون مراسم احتفالية بلهاء ودون حراس في الليل والنهار على السواء.
ولم يعد صاحب الجلالة يهتم بفلسفة زياراته وحقوقه وواجباته، كما كان شأنه في الماضي. كان يدَّعي في الزمن القديم أنه خطف الطفل وترك الشيخ، لأن مستقبل الصغير أبشع من العدم، ورحمة به من هذا المصير التعس تحنن عليه وأخذه من حضن أمه، بينما الشيخ الطاعن في السن سيترك الدنيا في القريب العاجل ويحتاج لعمل استثنائي، وهو الأمر نفسه مع الرجل المريض والآخر الصحيح الذي يموت فجأة ويبقى الأول الموشك على الرحيل. إن «صحة» الآخر ديكور يحجب حقيقة عذاباته في عالمنا، كتلك العروس التي تموت أثناء الولادة أو أثناء الزفاف، وتعيش حماتها بعدها عشرات السنين. هذه المفارقات كلها كان الموت يفسلفها في الأزمنة السابقة برحمته الواسعة التي يسبغها على آلام البشر وبصيرته الثاقبة التي تكشف الحجاب عن حقيقة أوجاعهم.
في عصرنا لم يعد الموت محتاجًا إلى هذه الفلسفة. اكتسب الجنسية العربية عن جدارة، ولم يعد إقليميًّا. لم يكتسب جنسية مصرية أو لبنانية أو فلسطينية، ولعله المواطن الأول الذي يكتسب الجنسية العربية بلا هوية قُطرية ويفرض «قوميته» على الجميع، على المطارات والمواني والحدود وإدارات الجوازات والجمارك …
وقد اكتسب هذه الجنسية القومية عن جدارة؛ فقد أثبت لنا بشهادات الخبرة المعتمدة أنه الأكثر وفاء وتفهمًا وإخلاصًا واقتناعًا بمشاكلنا، وأنه الحل الأكثر جذريةً لمتاعبنا وآلامنا. أثبت لنا ذلك مرارًا وتكرارًا وبكافة الأشكال والألوان في حروبنا العربية الأهلية والأخوية والقبلية والعشائرية والطائفية والعائلية.
يحزن صاحب الجلالة الموت من أن بلدًا كمصر تعاني من الانفجار السكاني الرهيب، فيتكفل بجذب العرسان والعرائس إلى البنايات الجديدة وما إن تتم مواكب الاستقبال وطقوس الاستقرار حتى تسقط العمارة على من فيها، وأحيانًا على من خارجها. وما دام أعداد الذين يتنازلون عن حياتهم لمواليد عصر الانفتاح لا تتناقص على أيدي المقاولين العرب، فإن صاحب الجلالة يوصي النشالين العرب باستيراد الباصات الأمريكية المعطوبة لتسقط بمن في داخلها وعلى جانبيها وفوقها في أعماق اليم حتى يشبع سمك القرش وتخف أزمة الإسكان ويتحقق التكامل بين مصر والسودان بالانتشار السريع للجثث المصرية في وادي حلفا حتى تنال التماسيح الشقيقة نصيبها ولا تغير على الخرطوم فتأكل البشر أحياء.
ولأن الموت جنسية عربية، فإنه لا يعبأ بالزمان ولا بالمكان. في فرنسا مثلًا، تستطيع عصابة الأربعة أن تمسك بالشاب الجزائري في آخر القطار وترمي به من النافذة والسرعة في حدها الأقصى. وفي فرنسا كذلك يصوب الرجل المتحضر بندقية الصيد بدقة متناهية ويفوز برأس الطفل العربي.
في السجن العربي لا يستخدمون البنادق ولا القطارات ولا الباصات، والمقاولون العرب يضحون بأموالهم هذه المرة ويخشون على سمعتهم ويتقون الله ويبنون السجون والمعتقلات من أغلى الأحجار فوق أعمق وأمتن الأساسات. لذلك لا تسقط جدرانها ولا تنهار أسقفها على أحد. رغم ذلك يقوم صاحب الجلالة الموت في تواضع جم بزيارة السجن العربي يوميًّا، ليريح المتعبين والثقيلي الأحمال. ولأن صاحب الجلالة رجل فاضل، فإنه لا يريح اللصوص والقتلة والزناة، وإنما يريح هؤلاء الذين يسبحون للعدل ويرتلون للحرية ويصلون في محراب الكرامة والإنسانية.
الموت العربي يرحم هؤلاء الذين يفكرون أو يأملون أو يعون أو يتهدجون أو يستبصرون أو يحدسون أو يشعرون، ولا يفرق بينهم بلون الجلد والعينين، لا يخطف على الهوية، وإنما هو يعقد لهم امتحانًا في الموسيقى والغناء والرقص. والأكثر تفوقًا ينال الجائزة في هدوء. جائزة الغياب الأبدي عن صخب الأسلاك الشائكة والمكهربة والممغنطة.
الموت العربي شيخ عجوز في الظاهر. ولكنه فتًى في الخامسة عشرة، مهما بلغ أبوه وجده من طول العمر. منذ ثلاثة أسابيع قام بزيارة عاجلة إلى لندن ومنها إلى دمشق ولم يعد من الزيارتين خالي الوفاض.
١
حياتك كلها سلسلة من المفارقات، وها أنت تتوِّجُها بالموت أيها الفلاح المصري القادم من أنشاص … في لندن.
تكتب روايتك الأخيرة «أيام الأمل» فيزورك صاحب الجلالة قبل تمام نشرها. تظل عشر سنوات تقاوم زرع الكلية أو تركيب الكلية الصناعية، وتفضل عذاب تغيير الدم كل يومين أو ثلاثة، وحين تقرر «المغامرة» يتوقف عذابك فعلًا … ولكن للأبد، للأبد.
كانت مغامرتك الأولى هي القدوم من أعماق الريف الطيب إلى واجهة المدينة اللامعة بشقاء الأقدمين والمحدثين.
من القرية الشرقاوية في دلتا النيل إلى جامعة العاصمة الأولى، ومنها إلى صحافة القاهرة … لا إلى التعليم أو العودة من جديد إلى أحضان الريف الوادعة.
أتيت إلينا يا فاروق منيب من قرية الأساطير ومحافظة العالقة … وهل ينسى أحد حادث «القصاصين» الملكي، عندما كان فاروق ذاهبًا أو عائدًا من أنشاص، وكادت حياته تنتهي؟ وهل ينسى أحد أن سلامة موسى ومحمد مندور ومحمد زكي عبد القادر وخالد محمد خالد ويوسف إدريس من رجال تلك المنطقة الحافلة بالتاريخ؟
من هناك أتيت، كما فعلوا إلى العاصمة، لتجعل من القرية زادك ونبض أيامك. كم خدعتك المدينة وكم أخذت منك وكم أرهقتك وأثقلت عليك، ولكن عاصمك الأكبر كان إيمانك الصوفي بأرض الوطن وتراب الأمة، فلم تكفر. كانت الأخلاق في زمنك، زماننا، قد تحولت إلى خردة، إلى موضة قديمة، فتحالفت أنت معها ضد كل قوى الشر التي عبثت بمقدراتنا ومقدساتنا وحياتنا كلها، بدوت مثيرًا للغرابة مستفزًّا للدهشة، وقالوا إنه عبط وإنه مكر الفلاحين وإنه وإنه … الحقيقة أنك كنت أنت. عندما زمجرت الرياح السوداء لم تغلق على نفسك الأبواب ولم تتنكر لنفسك ولا لأخوتك. خرجت إلى العراء مفتوح الصدر شامخ الرأس واسع العينين عالي الصوت. ترسل البسمة جهارًا إلى أطفال الذين خطفت آباءهم، تبعث الحنان إلى ما وراء الأسوار في أغاني الحب الذي لا ينقطع. تعتصر قلبك حزنًا مع الحزانى، وتزغرد فرحًا مع السعداء، لا تشمت في الذين سقطوا بل تصلي من أجل الذين لم يسقطوا بعد، لا تجهز على الضحايا بل تأخذ بأيدي الذين لم يغرقوا بعد وتساهم في انتشالهم إلى بر الأمان.
كنت الصديق، في زمنٍ اغتيلت فيه الصداقة وشُيعت إلى مثواها الأخير. لست من أصحاب المجاملات اللزجة والنفاق الرخيص. بل كنت الصديق في زمن حذفت فيه هذه الكلمة من قاموس حياتنا، ابتذلوها حتى لم تعد تعني شيئًا، أعدموها مضغًا. أنت الصديق، لأنك باعث الكلمة ومعناها ومجدد حياتها. وهل ينسى مجاهد عبد المنعم وكمال عمار وكامل أيوب وفتحي سعيد ومهران السيد وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن وعبد الوهاب البياتي وكاظم جواد ومحمد الفيتوري وبدر نشأت وعبد المنعم عواد يوسف وكمال نشأت ذلك «العمر» العذب الحنون المزدحم المنى المغمض العيون على أسرار الجمال؟ هل ينسى أحدهم أنك أنت دون غيرك كنت «الصديق»؟
لعل واحدًا منهم لم يسِر في جنازتك. لعل واحدًا منهم لم يرك منذ اثني عشر عامًا. لعل واحدًا منهم لم يهتف لك بالتليفون. لعل واحدًا منهم لم يربح وسامًا أو جائزة أو إمارة الشعر ومملكة النثر. لعلهم ليسوا نجوم المرحلة في السماء التي كانت أو السماء التي ستجيء. ولكنك في قلوبهم جميعًا كنت «الصديق» حين لا يجرؤ أحد على الانتساب للصداقة.
•••
أيها الصديق فاروق منيب.
أنت الآن في العام الأول من السبعينيات، تنصت إلى الماضي وتستبصر المجهول، فتتوجع … تراكمت السحب والغيوم ولم تمطر، فوضعت يمينك على بطنك ولم تصرخ.
أنت الآن في العام الأول من السبعينيات، تحملق في العمر الذي راح قبل أن يجيء، وتقول للفتى المختفي بين الضلوع وقد بلغ السنوات الأربع إن الدنيا ما زالت بخير. ويلد الفتى في الزمان الأسود والأنين حبلت به الانتكاسات الرخوة وولدته الهزيمة الصلبة. تمرد بعد عام، بعد عامين، بعد ثلاثة. هو الآن في نهاية الصفر بداية البدايات. وضعت يمينك على بطنك ولم تصرخ، لأن أكوام الضباب الملون لم تهطل غيثًا.
•••
أنت الآن يا فاروق ترفع الرأس على الأيدي وتتمهل في قراءة الخط الأزرق وتترنم بأنشاص وتخطو فوق بساط الريح بأقدام ثقيلة أعياها الهوى … الزوجة الحبيبة والأطفال الملائكة والصحاب، رفاق المقاهي والأزقة والمسافات؟ أنت الآن تحلق فوق النيل والأهرام وأين أنشاص والحكايات الطويلة. ويحتجزك الأمل طيلة زمن اليأس. أكانت صدفة أن تغيب الاثني عشر عامًا الأخيرة بعيدًا عن مصر؟ أي رمز مروع أن تغيب مع احتجاب مصر؟ وأية أسطورة دامية تكوي القلب عندما تحتجب أنت وقد انتهت أيام الأمل. الأمل في شفاء مصر ربما، في شفاء جيلنا ربما، في شفائك بالتأكيد؟ وأية معانٍ وحشية رابضة ما تزال في جسدك الذي يتوسد تراب لندن. أنت الفلاح القادم من أنشاص، تنام تحت التايمز أم أنك كالمسلة المصرية الواقفة هناك شاهدًا لا يخطئ على ضراوة الأزمنة الداعرة.
مسلتنا هاجرت بالتاريخ القديم.
وجسدك هاجر بتاريخ جيلنا.
فهل تعود المسلة يا فاروق، أم أنها ستتحول إلى مشنقة لتاريخنا؟
الجواب يحمله جسدك إذا استقر في تراب لندن أو إذا انتقل إلى تراب أنشاص.
وفي الحالين، فإنك أحد براهين جيلنا على أن صاحب الجلالة الموت قد اكتسب الجنسية العربية عن جدارة، وأنه الحاكم الديمقراطي الذي لا يخطف أحدًا على الهوية، بعد أن اختطف الزمن، وأمسينا نحن الذين نحيا في زمنه الخاص.
٢
يا أبا الفضل.
كعادتي كلما زرت دمشق، سعيت إليك. وللمرة الأولى فاجأتني بأنك لم ترد. لم تكن هناك.
وكما أن أحمد الحلواني هو الذي قادني إليك في زمن الوجيعة، كان هو نفسه الذي أبلغني برحيلك عن الزمن الوغد.
في الزمن الأول كنا ننزف دمنا داخلنا، لا تمزق جراحنا سطح الجلد فيبقى الدم المنزوف من القلب في الحلق كالدموع المتجمدة في المآقي لا تطفر ولا تذوب.
في الزمن الراهن، لم يعد هناك الدم ولا الدموع، لكثرة ما أصبح. الدم أنهرًا والدمع محيطات، وبعد أن أضحى الموت ملِك الزمان والمكان.
ومن ينسى الفضل يا أبا الفضل سوى هؤلاء الذين ولدوا موتى فلم يعرفوك مؤسسًا ورائدًا وأستاذًا ومناضلًا، رغم أنهم من طلاب علمك ومن رحم كفاحك ومن عصارة روحك. لعلهم يعرفونك، ولكنهم لا يعرفون أنفسهم.
في السياسة والثقافة عشت راهبًا في محراب العروبة والتقدم والثورة، متواضعًا عزوفًا عن جَني الثمار، ولم تنضم يومًا إلى جمعية المنتفعين بالنصر وإن ثابرت دومًا على الانتساب لبيت الهزيمة. تلتمس العذر للجميع وتقسو مع نفسك، تعطي كل ما لديك وأكثر لدرجة المرض، ولا تأخذ من أحدٍ حتى الحد الأدنى من الحق.
من «علم الأدب السوفيتي» المترجَم، إلى «إن الأدب كان مسئولًا» المؤلَّف، مرورًا بعشرات المترجمات والمؤلفات المنشورة وغير المنشورة الموقَّعة باسمك والموقعة بأسماء مستعارة وغير الموقعة إطلاقًا، كنت دائمًا وستظل يا جلال فاروق الشريف مثلًا أعلى ورمزًا مضيئًا لجيل ينقرض.
في كل موقع داخل المؤسسة أو خارجها، كنت الأمين على أفكارك ومبادئك. لذلك لم يستقر بك المقام في مكان واحد فترة طويلة. تنقلت دائمًا لأنك لم تتغير، بل الآخرون هم الذين كانوا يتغيرون فيغيرون موقعك.
أنت أنت لم تتغير وإن تغيرت الأزمنة والرموز، تغيرت مواقعك فلم تتغير مواقفك. وكانت مشكلتك هي هذه، لأنك دخلت السياسة من باب المبادئ لا من غرفة الجلوس على المقاعد. أنت من أبناء الجيل العظيم الذي كان يحقق ذاته بالكفاح ويحقق وجوده بالنضال ولا يرى في الأفق نهاية للكفاح أو النضال.
لم تكن يا أبا الفضل «سياسيًّا» بالمعنى الدارج في الزمن الوغد، وإنما كنت المثقف الفنان الموهوب الذي ينشد متعته الروحية كلها في المعرفة وتوصيلها وفي خلق النموذج البشري المرادف لهذه المعرفة.
لم يكرموك في حياتك؟ نعم. وقد يكرمونك بعد موتك؟ نعم. ولكنك أبدًا لم تسعَ ولن ترضى بتكريم الحفلات والأوسمة والجوائز والتماثيل وإطلاق الاسم على شارع.
التكريم، دائمًا كنت تقول، للأفكار والمعاني والدلالات الكامنة في صدر الشعب وتجاويف الأرض، بذيوعها وانتشارها وصلابتها وتجلياتها في الحياة، يفوز أصحاب العقول النادرة بأعظم درجات التكريم.
كنت تقول لي: حتى أسماؤنا لا قيمة لها، وهْم الخلود زائف، وهم الشهرة أكثر زيفًا. الخلود الوحيد الممكن للشعب والأمة والإنسانية، الخلود للأرض والقيم والبشر. أما الأفراد، مهما بلغوا من عبقرية، فإنهم يحققون ذواتهم أثناء حياتهم إذا انسجمت أعمالهم مع مسيرة شعوبهم وإذا وظفوا مواهبهم لخدمة الإنسانية. وإذا كانوا بعد موتهم حافزًا لغيرهم على مواصلة النضال. أما هم أنفسهم فلا ينبغي أن «يتميزوا» بشيء في حياتهم مقابل مواهب ليس لهم الفضل فيها أو مقابل كونهم أخذوا موقفًا صحيحًا.
وإذا كان المرء لا يتميز بشيء في حياته، فهل يجوز له هذا التميز بعد الموت؟
يا أبا الفضل.
يا جلال فاروق الشريف.
لا نريدك متميزًا بعد الموت، نريد فقط ألا تكون متميزًا أيضًا بصورة عكسية. نريدك كما أردت لنفسك وكما أرادت لك مواهبك وسيرتك، حافزًا للآخرين على مواصلة النضال ضد الموت.
إنه صاحب الجلالة الذي لا يخطف على الهوية، اكتسب الجنسية وغاص في دمنا، إنه الزمن السرطان، الحاكم الديمقراطي الوحيد، يساوي بين جميع الذين بلغوا الخامسة عشرة من العمر، وإن بدوا في الرابعة والخمسين كفاروق منيب أو في الثامنة والخمسين كجلال فاروق الشريف.
۳
نام أشهر «مسحراتي» في مصر والوطن العربي … نام فؤاد حداد.
ومن المفارقات التي تستدعي التأمل، أن أكبر شاعرَين في تاريخ العامية المصرية ينحدران من عائلات غير مصرية، وهما فؤاد حداد وبيرم التونسي.
وقد فوجئت ذات مرة في لبنان حين قال لي المطران غريغوار حداد: لنا قريب في مصر من عائلتنا هو الشاعر فؤاد حداد.
فؤاد إذن من أصل لبناني قديم، ولكنه كبيرم التونسي، عثر على اكتشاف العمر في العامية المصرية. وإذا كان بيرم هو الرائد العظيم، فإن فؤاد حداد هو العبقري الذي صاغ من لغة الشعب عناقيد من اللؤلؤ تزين روح بلادنا. فؤاد كبيرم، انغمس في طين هذه الأرض وتنفس رحيق أنسامها وامتدت جذوره إلى أغوار تراثها.
ولكن فؤاد جيل آخر، بعد بيرم.
كان التونسي أحد أصوات ثورة ١٩١٩م في مصر، وبقية الثورات المعاصرة لها في الوطن العربي.
أما فؤاد حداد، فهو ابن الأربعينيات المشحونة ببارود الحرب العالمية الثانية والحرب العربية الصهيونية الأولى والحروب الأهلية غير المعلنة من المحيط إلى الخليج.
ولم يتردد ابن الأستاذ الجامعي الذي يتعلم في المدرسة الفرنسية في اختيار موقعه منذ بداية البدايات. اختار أن يكون شاعر الشعب. لا أقول إنه أصبح «شاعرًا» و«مناضلًا» فهو لم يكن شخصيتين، وإنما قد ولد — وعيًا وموهبة وقدرة — شاعرًا للشعب.
وبهذا الاختيار أضحى السجن بيته الأول، وأمسى الشعر هو حريته الأولى، أو أن المعتقل كان عنوانه شبه الدائم، والقصيدة بطاقته الشخصية.
انغرست أيامه وأشعاره في روح ودم وتراب هذا الوطن الجريح في كل العهود، من الاستعمار إلى السلطة الوطنية. ودفع الثمن غاليًا من زهرة أيام عمره، ولكنه لم يتصور في أي يوم أنه يدفع ثمنًا لشيء، وإنما كان على يقين من أنه يعيش حياته، بصدق وشهوة ظل يعيشها، صدق المعاناة وشهوة الأمل في التغيير.
والذين يتصورون أن فؤاد حداد قد أنقلب في سنواته الأخيرة إلى الصوفية يخطئون، لأنه في الحقيقة كان صوفيًّا طول الوقت. صوفيًّا في شعره وفي سلوكه. ولكن صوفيته لها تجليات مختلفة. وهذه التجليات لا تغير من المضمون الأساسي لرؤاه، ولكنها تصوغ بدقة أساليب تفاعله مع الحياة.
وفي السجون كما في خارجها، كان فؤاد حداد نموذجًا للصلابة الداخلية العميقة، صلابة الروح. لم تكن صلابة من أجل البطولة، ولم تكن حتى في مقاومة أوجاع الجسد، وإنما كانت صلابة الروح، صلابة «الشعر».
كان يردد دائمًا أن أوجاع الجسد زائلة، حتى الموت نفسه هو الشفاء الناجز من هذه الأوجاع. وكان يقول داخل المعتقل إن الذين يعذبونه هم أنفسهم أعداء جمال عبد الناصر. كان من الفريق الذي يؤيد الرئيس، وفي التعذيب لم يكن ثمة فرق بين من يؤيد ومن يعارض. وكانت القوة — يقول — هي ألَّا نفقد الاتجاه فلا نعود نميز تحت وطأة السياط بين الصديق والعدو.
ولم يكن «سياسيًّا» بالتعريف الاصطلاحي لهذا التعبير، ولكنه تحمل مع السياسيين كل أهوال العمل السياسي في مصر. وكان، وما يزال، من أكبر شعراء العربية على مدى تاريخها، ولكنه لم يحصل على أي مغنم من مغانم الشعر في زماننا.
بل لعله حصل على ما لم يحصل عليه أحد، هو محبة الملايين ممن لا يعرفون «نجوم» الشعر في عصرنا، فقد استطاع فؤاد حداد وحده أن يخترق حاجز الموت الإعلامي ويصل إلى آذان وقلوب الملايين من بساط الناس.
وهذه الجائزة تتهالك في ظلها الأوسمة والنياشين ونقد النقاد والجوائز التقديرية والتشجيعية والمآدب الرسمية والرحلات والندوات.
ولم يكتب فؤاد حداد بيتًا واحدًا من الشعر عن أي حاكم عربي، باستثناء جمال عبد الناصر، وبعد وفاته.
وسوف يتوقف الجميع بعد رحيله المبكر — من وجع القلب — أمام ظاهرتين في تكوينه العبقري. الأولى، هي تلك الثقافة الإنسانية الواسعة التي نهلها بشغف وعمق في مصادرها الأصلية، وخاصة في اللغة الفرنسية … والثانية هي تلك الحافظة التراثية الغنية غنًى لا نظير له بين معاصريه.
وحتى لا ننسى؛ فقد كان فؤاد حداد يكتب بالعامية، فتأملوا ماذا فعلت ثقافته الإنسانية وتراثه الغني بهذه العامية. إنها الموهبة الفذة التي تصل إلى حدود العبقرية، ولكنها عبقرية الإبداع الفني والإنساني معًا ودون تجزئة.
فقد كان فؤاد حداد من النادرين الذين عانوا أهوال الدنيا إلا هولًا واحدًا، هو الازدواجية … كان شخصًا واحدًا، شاعرًا في الإنسان وإنسانًا في الشعر.
٤
غافلنا ليلة رأس السنة وغاب.
كأنه على موعد قديم، وفي مهرجان ليلة العيد قرر أن يذهب إلى الموعد.
يدري أن الدنيا كلها ستحتفل برحيل العام ورحيله، ويدري أكثر أننا «سننهمك» في الاحتفال حتى ننسى أنه بيننا لثوانٍ معدودة، بعدها سيغيب.
•••
حامد عبد الله يطارد الغياب منذ «حضر».
عندما ترك ابن الفلاح قريته وذهب إلى المدينة كان «رحيله» الأول ضد الغياب … لم يرَ الريف أشجارًا باسقة وقمرًا في ليالي الحصاد، فوضع قلبه على كفه ورحل إلى المدينة.
دخل كلية الفنون التطبيقية باحثًا عن الحضور، وما لبث أن رحل عنها «رحيله» الثاني؛ إذ اكتشف الغياب من جديد في القواعد والعادات والأعراف، ولم يجد المأوى ولا الملاذ، لم يجد الرؤيا أو الخلاص.
خرج إلى الشارع مرتحلًا في أعماق الحارة والزقاق والإنسان. عانق الحضور للمرة الأولى في أحضان الشعب وحركة الثورة، وفتح بيته مدرسة للفن والفنانين الأحرار.
كان «الشباب» في ذلك الوقت: رمسيس يونان وتحية حليم وإنجي أفلاطون ومنير كنعان، يحفرون الأرض والإنسان بحثًا عن الينبوع. وكان هو يغرف من سخاء الينبوع وعطائه اللامحدود. وربما تساءل الكثيرون حينذاك، لماذا يجنح زملاؤه وتلاميذه إلى السوريالية أو التكعيبية، بينما ترتاح فرشاته في أحضان التصوير الواقعي للأجواء الشعبية.
حامد عبد الله جندي في كتيبة الحرية؛ لذلك فبيته — مدرسته؟ — يتسع للثوار جميعًا سواء كانوا على ضفاف التجريد أو على شاطئ الواقعية الرحب.
إنه يمزج في حياته وفنه معًا بين المنظور والرؤيا، وبين الممكن والمستحيل، وبين الواقع والحلم. وعندما ارتبكت الخيوط كلها وتشابكت لدرجة التعقيد في منتصف الخمسينيات، كان الرجل يستعد «لرحيله» الثالث بمواجهة الغياب الفاجع لرؤيا الفرح.
•••
كان الرحيل، هذه المرة، إلى الغرب بحثًا عن حضور اليائس. لذلك كان ما يشبه التجريد وما يشبه العتمة في لوحة الفنان الذي عاش عمره عاشقًا للضوء.
ولم يكن الغرب، كما تعود المصريون — والعرب عمومًا — هو باريس أو لندن أو حتى … روما، عاصمة الجمال المعتق في خمر التاريخ. كلا، وإنما ارتحل حامد عبد الله إلى كوبنهاجن عاصمة الدنمارك.
كان ذلك عام ١٩٥٦م.
وفيها عاش عشر سنوات، تزوج خلالها وأنجب، وكأنه على وشك «الاستقرار». والحقيقة أنه كان على وشك «الرحيل» الرابع.
في أحد معارضه تطاول البعض على قضية الشعب الفلسطيني، فما كان من حامد عبد الله إلا أن رد على هذا «البعض» بما يستفز السلطة الدنماركية. والتقت هواجسه العميقة دفعة واحدة. رغبته الغامضة في رحيل ما، وقرار الدنمارك بترحيله إلى جهة ما.
واختار باريس.
كانت كوبنهاجن قد تحولت إلى غياب، وفي باريس كان الحضور مباغتًا … تفتحت الغابة الأوروبية الرمادية عن ألوان جديدة وعن رؤيا جديدة، للحرف العربي. لم يكن رسم الحرف العربي اختراعًا بكرًا. ولكن حامد عبد الله وحده هو الذي جعل «الكلمة» صاحبة السيادة التشكيلية على اللوحة، فلم تعد عنصرًا بين عناصرها، وإنما هي العنصر الرئيسي والحاسم.
ومن ناحية أخرى لم يعد الحرف تجريدًا لونيًّا أو من إيقاع الخطوط، وإنما أدخل التشخيص في قلب الحرف الذي لم يعد يعني فقط جزءًا من اللفظ، بل أمسى «صورة مضافة» تتكامل مع بقية الأحرف-الصور في تكوين كلمة تشكيلية هي لوحة تصويرية في الآن نفسه.
وقد اتاحت له هذه الرؤيا أن يواصل نضاله القديم من أجل الحرية، فشارك فنه مشاركة مؤثرة في العمل السياسي المضاد لمناخ الهزيمة العربية طيلة السبعينيات.
•••
وعاش في باريس عشرين عامًا كأي فلاح مصري، أخذ بيتًا في ضاحية، وكما رفض الجنسية الدنماركية لأبنائه فقد رفض لهم الجنسية الفرنسية أيضًا … وبالرغم من تقدمه في السن، كان أكثرنا سؤالًا عن الجميع.
وحققت أعماله نجاحًا كبيرًا على كافة المستويات في مختلف العواصم التي عرضت فيها.
وذات يوم وصلته دعوة لعرض بعض هذه الأعمال في مصر. ولم يصدق. كان الزمن قد باعد بينه وبين وطنه أكثر من ربع قرن. ولكنه ذهب إلى مصر، وعرض أعماله، وعاد سعيدًا كطفل. وقرر العودة النهائية، أو الرحيل الأخير نحو الحضور، بعد أن كادت باريس تتحول إلى الغروب الكامل.
•••
وفي ليلة رأس السنة الجديدة — أي بعد ثلاثين عامًا — على رحيله إلى الغرب فاجأنا وقد نفَّذ وعد العودة الأخيرة إلى مصر. وكان رحيله الأخير إلى الحضور النهائي في تاريخ الفن المصري والوجدان المصري والروح العربية كلها.
إنه حضور ما بعد الغياب.
فهل تلتفت وزارة الثقافة المصرية إلى الكنوز التي تركها حامد عبد الله قبل أن تتبدد في باريس وبقية عواصم العالم؟ هل نكون أوفياء لبلادنا كما كان حامد عبد الله، فنحرص على عودة تراثه إلى مصر، كما عادت رفاته إلى ترابها؟
٥
باستثناء المقال الجميل الذي كتبه عنه رجاء النقاش عام ١٩٥٩م تحت عنوان «القصاص الشاعر» لم أكن قرأت حول أدبه شيئًا قبل ذلك التاريخ. ولا أعتقد أن أحدًا اهتم به بعدئذٍ اهتمامًا يرقى إلى المستوى الذي حققه في إبداعه القصصي أو في اجتذاب القراء لهذا الإبداع.
ومحمود البدوي لا ينفرد بهذا «التجاهل» المثير، فهو يعبر عن ظاهرة عامة في النقد العربي الحديث … وهي الظاهرة التي تشمل الكاتب الراحل منذ وقت قريب سعد مكاوي، فبعد رحيله بدأ البعض يتذكر أنه كان بيننا. وهذا ما يحدث الآن لمحمود البدوي؛ فقد تذكر البعض فجأة أنه كاتب كبير الموهبة متميز، ولكن بعد أن رحل. والغريب أن أول مجموعة قصصية صدرت له كان عنوانها «الرحيل» منذ نصف قرن؛ فقد نشرها عام ١٩٣٥م.
والأغرب أنني كنت قبل شهر أستمع لصديقي الكاتب أبو المعاطي أبو النجا في الكويت، وهو يحكي لي اكتشافه لمحمود البدوي ويقول إنه يشعر بالألم لأنه لم يتعرف على إنتاج الرجل في وقتٍ مبكر.
بعدها بأسابيع قليلة، رحل عنا صاحب «الرحيل».
•••
ولا بد أن شيئًا ما خطأ في النقد أو في الإعلام الثقافي أو في محمود البدوي نفسه، حتى إنه يعيش بيننا خمسين عامًا كائنا موهوبًا لا غش في موهبته، وكاتبًا معطاءً لا شك في قيمة عطائه، ولكن دون أن يحفر لنفسه مكانًا بارزًا في اللوحة الثقافية العامة للعصر الذي عاش فيه.
ولنناقش أولًا ما إذا كان الرجل صاحب موهبة كبيرة، والمدى الذي وصلت إليه هذه الموهبة بصاحبها في الواقع الأدبي.
عندما ظهر البدوي في الثلاثينيات، كانت القصة العربية القصيرة في مصر وغيرها تعاني من آثار الولادة الحديثة، بساطة التعبير وسذاجة المضمون ورومانسية الرؤى والميلودراما وكانت هناك الاستثناءات التي حاولت أن تشق طريقًا صعبًا، ربما كان خاليًا من القراء والجوائز والأضواء الصحفية، وربما كان مليئًا بالجهد والغنى في اكتشاف المجهول، ولكنه الطريق الذي شقه في مصر عيسى وشحاتة عبيد وأحمد خيري سعيد ومحمود البدوي ويحيى حقي وطاهر لاشين والمازني. كانت الساحة وقتئذ احتكارًا لمحمود تيمور من ناحية (صدرت له ٢٤ مجموعة قصصية بين عامَي ١٩٣٥ و١٩٦٣م) ومحمود كامل من ناحية أخرى (۲۰ مجموعة قصصية بين عامَي ۱۹۳۲، ١٩٦٢م). وهما التياران اللذان استحوذا على اهتمام القراء في عصرهما، وهما أيضًا التياران اللذان أثمرا فيما بعد أشهر الأسماء: إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي عبد الحليم عبد الله، أمين يوسف غراب وجاذبية صدقي. أما عيسى عبيد فلم تصدر له سوى مجموعتين في ۱۹۲۱ و۱۹۲۲م على التوالي، وشقيقه شحاتة عبيد صدرت له مجموعة واحدة عام ١٩٢٢م أيضًا، ومحمود طاهر لاشين أصدر ثلاث مجموعات بين عامي ١٩٢٦ و١٩٤٠م أما محمود البدوي فقد نشرت له ١٤ مجموعة بين عامي ١٩٣٥ و١٩٦٣م. وهؤلاء هم الآباء الشرعيون للمدرسة «الحديثة» في القصة المصرية القصيرة، ومن أشهر أبنائها شكري عياد وفتحي غانم وأبو المعاطي أبو النجا وسليمان فياض ويوسف إدريس على اختلاف اتجاهاتهم وتباين مواهبهم وتجاربهم وثقافاتهم.
وهي مدرسة لم تجذب القراء في البداية، لأن الميلودراما التيمورية ورومانسية محمود كامل كانت الأقدر على التجاوب مع المناخ الاجتماعي غداة انكسار ثورة ١٩١٩م وعشية الحرب العالمية الثانية. وكان من الصعب في ذلك الوقت أن يلمع كاتب «حديث» يترجم تشيخوف ويكتب عن المصير الإنساني ومأساة الوجود، كمحمود البدوي، في لغة شعرية مكثفة، ونحت عميق لشخصيات من لحم ودم وأحداث بسيطة ومواقف دون افتعال. هذا الكاتب لا يلمع في ذاك المناخ، وإنما لا بد له من الانتظار حتى عام ١٩٤٨م حين تصدر له مجموعة «العربة الأخيرة»، وإذا بالأنظار تلتفت إليه. أية انظار؟ إنهم القراء الذين راحوا يلتهمون «الذئاب الجائعة» و«الأعرج في الميناء» و«عذارى الليل» وبقية أعمال محمود البدوي القديمة والجديدة. وانتبهت دُور النشر فلم يعد أسير الثلاثة آلاف نسخة، وإنما عرفت مؤلفاته الطبعات الشعبية الأنيقة في «الكتاب الذهبي» الذي يصدره شهريًّا نادي القصة في ١٥ ألف نسخة (كان ذلك منذ ثلاثين عامًا) و«الكتاب الفضي، الذي تصدره دار روز اليوسف، شهريًّا كذلك، وراجت أعمال البدوي بين القراء ودور النشر رواجًا عظيمًا. ولكن ظل بعيدًا عن أضواء الشهرة الاجتماعية والإعلامية والنقدية. لماذا؟
•••
في محاولة الجواب، يجب أن نلاحظ أولًا مفارقات التاريخ، فالكاتب الاستثنائي ظهر في غير زمانه، ظهر في زمن تيمور ومحمود كامل. وعندما انطفأت أنوار المجد التيموري والرومانسي، وأقبل زمن الواقعية الاشتراكية كانت هناك أجيال جديدة ورثت محمد البدوي دون أن تدري، ورثته وهو بعدُ حي … ولكن الجديد كان قد استوعب القديم وتجاوزه. وهكذا خسر البدوي مرتين، الأولى حين ظهر في غير زمانه، والثانية حين انتصر في زمن تلامذته ونلاحظ، ثانيًا، أن أخصب عطاء لمحمود البدوي كان في الفترة الواقعة بين عامي ١٩٤٨ و١٩٥٨م وهي فترة مشحونة بالأحداث الجسام. ولكن البدوي آثر الاعتكاف المطلق والانزواء واللاانتماء. وهي صفات شخصية قبل أن تكون موقفًا سياسيًّا. كان محمود البدوي موظفًا صغيرًا في إحدى الوزارات. ولم يشأ أن يغير موقعه في أي وقت، وكان يستطيع. لقد انتقل نجيب محفوظ من سكرتارية وزير الأوقاف إلى وزارة الثقافة، وانتقل يحيى حقي من الدبلوماسية إلى مصلحة الفنون. وأي وزير ثقافة كان سيسره أن يرحب بمحمود البدوي في وزارته. ولكن البدوي لم يفكر في هذا الأمر مطلقًا. ولم يكن يرتاد الندوات أو الصحف، ولا يزور الأصدقاء. وكان يذهب إلى السينما ليشاهد فيلمًا أو اثنين يوميًّا. وكان كثير السفر إلى أبعد بلاد العالم، وخاصة الشرق الأقصى.
تلك كانت شخصيته، وقد عرفته عن قرب، على درجة كبيرة من الانطواء، حتى إن أحدًا لم يكن يعرف شيئًا عن حياته الخاصة.
ومثل هذا النموذج أبعد ما يكون عن الارتباط السياسي أو التنظيمي بحزب أو سلطة. ولذلك مرت السنوات العشر المجيدة في عطائه والمشحونة بالأحداث الجسام دون أن يحفر لنفسه حضورًا فاعلًا يليق بقامته الأدبية. لقد اختار البرج العاجي على النقيض من طريقة توفيق الحكيم الذي غرق حتى العنق في الكتابة والمواقف السياسية والإعلامية، بحيث بقي حاضرًا و«فاعلًا» أكثر من ستين عامًا متصلة، أيًّا كان الموقف من حضوره وفعاليته. كان الحكيم يدعو إلى البرج العاجي، وهو أبعد ما يكون عن هذا البرج إلا بمعنى انتهائه الطبقي والفكري، ولكن الحكيم لم يعتزل السياسة ولا الناس. أما البدوي فقد اعتصم فعلًا بالبرج العاجي بمعنى التوحد مع الكتابة، بعيدًا عن رهانات السياسة ومغامرات الواقع اليومي، بينما كان انتماؤه الاجتماعي والفكري إلى جانب المقهورين. وقد أدى اعتزاله المستمر إلى انكسار مستمر في الخط البياني لإنتاجه الأدبي خلال ربع القرن الأخير، بحيث إنه عند الرحيل كان أقل إبداعًا مما كتبه في مجموعته البكر «الرحيل». وهكذا سبح البدوي ضد التيار مرتين. الأولى في غمرة البداية، والثانية قرب النهاية.
•••
ولكن محمود البدوي سيبقى في الحالين سؤالًا كبيرًا بمواجهة النقد الأدبي والحركة الثقافية عامة.
وإذا تغاضينا عن النقد في الثلاثينيات، فماذا نقول عن الأربعينيات والخمسينيات، عندما كان البدوي مزدهرًا؟
نقول إن «النقد» الإعلامي لم يهتم بأمثال البدوي لأنه لم يكن نجمًا في المجتمع ولا في السلطة، ونقول إن النقد الذي غلبت عليه الرؤية الأيديولوجية، لم يكن بعضه يحترم الجمهور الواسع الذي يقرأ لأديبٍ ما يختلف أيديولوجيًّا. ولم يكن بعضه الآخر قادرًا على اكتشاف أدبية الأدب.
وبين إعلام النجوم وأيديولوجية النخبة ضاعت أسماء غالية من ذاكرة النقد الجاد، ولكنها لن تغيب من ذاكرة الأدب، وثقافة الأمة.
٦
عندما نتذكر «والله زمان يا سلاحي» ربما تتجسد في خيالنا أم كلثوم، وعندما نتذكر «احنا الشعب» و«بالأحضان» و«يا أهلًا بالمعارك» و«المسئولية» و«بستان الاشتراكية» و«صورة … صورة» ربما يتجسد في خيالنا عبد الحليم حافظ، وعندما نتذكر «الليلة الكبيرة» قد يتجسد في خيالنا سيد مكاوي. ولكن المؤكد أن «كلمات» صلاح جاهين هي التي احتلت وجداننا وذاكرتنا لأمد يطول … حتى إذا تلاشت ذات يوم أصوات أم كلثوم وعبد الحليم وسيد مكاوي. ذلك أن مبدع الكلمات هو صاحب المبادرة الخلاقة والارتباط الحميم بالأرض والإنسان والأحداث بينهما. يبقى لصاحب الصوت الجميل فضله في التجاوب مع القصيدة والترويج لها، ولكن الشاعر هو العبقري.
وصلاح جاهين عدة عبقريات في رجل، لا بالمعنى الشائع عن كونه «فنانًا شاملًا» وإنما لأن عبقريته الأولى كانت الإنصات العميق لصوت الشعب. وهو الصوت الذي تجلى رسمًا وشعرًا وتمثيلًا وفي غير ذلك من الفنون. ولذلك كان أحد ألمع وجوه اليسار المصري في الخمسينيات والستينيات، وفي الوقت نفسه أحاطه المصريون جميعًا، على اختلاف اتجاهاتهم، بالحب … لأن رهافة إحساسه كانت تصل بينه وبين الملايين من الناس، بمشكلاتهم البسيطة والمعقدة والأكثر تجانسًا مع مشكلات الوطن.
والعبقرية الثانية لصلاح جاهين أنه أدرك في سنٍّ مبكرة أن الفنان الأكبر هو الشعب، وأن إبداعات الفرد هي قطرة في بحر الإبداع الجماعي للشعب. ولذلك كان اختياره الحاسم لشعر العامية، بعد تجارب عديدة مع الشعر الفصيح، كما كان اختياره الحاسم للكاريكاتير، بعد تجارب عديدة من التصوير الزيتي، هو اختيار لتراث الشعب المصري وإلهاماته الأساسية. وليست صدفة أن يكون هذا العبقري تلميذًا في مدرسة حسن فؤاد من ناحية، وفؤاد حداد من ناحية أخرى … فالتلمذة هنا تعني «الاختيار» فقط، اختيار الطريق. وهو طريق الشعب الذي كانت تمثل إحدى محطاته أو إحدى علاماته دار روز اليوسف ومجلة «صباح الخير» ودار الفكر ومجلة «الغد» ودار النديم ومجلة «كتابات مصرية».
والعبقرية الثالثة لصلاح جاهين أن مصريته الخالصة لم تحجب في أي يوم عروبته الصافية، بلا شعارات غوغائية ودون كليشهات ديماجوجية. وكان يحلو له أن يعيد كل لفظة عامية إلى «أصلها» الفصيح من غير أن يهتم بثمرة هذا الاجتهاد. كان يقول ويفعل كل ما من شأنه «تثوير» وفي الأقل «تنوير» القلب العربي والعقل العربي ضد الاستعمار الأجنبي والصهيونية والاستغلال المحلي البشع.
والعبقرية الرابعة أن صلاح جاهين ظل دومًا ابن الجماعة، فهو يكتب الأغنية التي يلحنها غيره ويغنيها ثالث، وهو يكتب السيناريو لفيلم له مخرج وممثلون ومصور، وهو يشارك في أغاني المسرحية التي يصوغ عرضها العشرات، وهو يمثل في الفيلم السينمائي ويغني كفرد من أفراد الكورس، حتى الكاريكاتير، كان «يقول» النكتة والبهجوري يرسمها. كان «يجد» نفسه في الجماعة، سواء وهو تلميذ أو وهو «عبقري» صاحب مدرسة … إننا لا نستطيع القول مثلًا إن صلاح جاهين كان حدًّا فاصلًا في الكاريكاتير أو في شعر العامية، ولكننا نستطيع القول إنه من غير صلاح جاهين كان «الحد الفاصل» يبدو مستحيلًا … فالجماعة التي تحرك هو في القلب منها هي التي غيرت معنى الكاريكاتير في مصر، والجماعة التي تحرك هو كجزء من طليعتها هي التي جددت شعر العامية المصرية.
وهل كانت عبقريته الخامسة أنه — بالانتماء الاجتماعي — لم يكن من أبناء الطبقات الشعبية، ومع ذلك فقد انحاز لها، أم أن هذا الانتماء كان السبب الخفي المعقَّد لكثير جدًّا من الخيبات التي أصابته بالكآبة حتى الموت؟
في ظل الناصرية عاش صلاح جاهين أروع سنوات مجده وبعضًا آخر من أكثرها عذابًا. في حرب السويس — ١٩٥٦م — ازدهر جيله وأجزل العطاء. كانت مجلة «صباح الخير» منبره، وعلى صفحاتها أثبت وجماعته أن الكاريكاتير يستطيع أن يلعب دورًا مغايرًا للشتم والابتزاز. وراح يكتب «موال عشان القنال» و«كلمة سلام» و«زهرة في موسكو» و«القمر والطين» هذه الأشعار العامية حقًّا، وإن كان معجمها «الثقافي» قد ارتبط عضويًّا بالمخيلة الاجتماعية للبيئة التي عاش فيها. ولكن فجر العام الأخير من الخمسينيات يشهد ابتلاع السجون لأقرب أصدقائه وأخلص زملائه. ويكبت الصدر دموع القلب الحزين أربع سنوات ونصف سنة.
وفي «الأهرام» يدخل في معارك مباشرة مع خصوم النور وحلفاء الهزيمة. وتأتي المظاهرات إلى باب المؤسسة، تهتف ضده وتطالب برأسه. ولكنه لا ينحني. كان القلب قد انحنى منكسرًا مع الهزيمة. ويقف صلاح جاهين إلى جانب «الشباب» في مواجهتها. كانت الناصرية قد أمست له منذ زمن بعيد خشبة الخلاص، ما دام أصدقاؤه خارج الأسوار.
ولكن الهزيمة كانت «الزلزال» في عمق الأعماق. وكان رحيل عبد الناصر إيذانًا بنهاية «الحلم». وكذلك كان توقيع صلاح جاهين على بيان الكتاب الذي صاغه توفيق الحكيم عام ۱۹۷۲م أحد أسباب الفزع الذي أصاب الرئيس السادات وهو يتلو أسماء الموقعين على البيان المذكور في الاجتماع الذي ضم كبار المسئولين عن الصحافة آنذاك. كان البيان دعمًا مباشرًا لحركة الطلاب واحتجاجًا مباشرًا على ما آلت إليه الأمور. وربما كان هذا التوقيع هو آخر مبادرات الفعل الشعبي لصلاح جاهين، وبداية التناقضات المريرة التي كوَته بالأمراض المتتالية حتى النهاية.
وبالرغم من أنه لم يكن أحد «المفصولين» من أعمالهم بسبب هذا البيان (۱۲۰ كاتبًا وصحفيًّا) إلا أن المدعي الاشتراكي حقق معه. وكانت حرب أكتوبر (تشرين الأول) إنقاذًا لموهبته، ولكن ما توالى بعدها من أحداث كان تبديدًا مروعًا لهذه الموهبة. ولذلك، فإنني أختلف كل الاختلاف مع الذين يتصورون «عبقريته» هي التعددية الفنية التي كان يمارسها، فالحق أنه ليس ممثلًا، وليس مغنيًا، وليس كاتبًا مسرحيًّا، وإنما هو في هذه الأعمال كلها كان «يهرب» من فنه الحقيقي وتناقضاته الأصيلة. لقد رأى بعينيه عالمه ينقلب رأسًا على عقب، رأى الحلم مهزومًا، فما كان منه إلا أن مضى متجولًا في شوارع الكابوس الجديد … يكتب هذا السيناريو ويمثل ذاك الدور وينظم هذه الأغنية، لمجرد أن يكتب ويلعب ويرقص حتى ينسى.
ولأنه موهوب كبير الموهبة فقد لمع أكثر من أي وقت مضى وأكثر من أي نجم سطع في سماء الزمن الأخير. ولكنه لم يكن زمن صلاح جاهين.
زمنه كان التحرر الوطني والاجتماعي. لم تزدهر براعمه إلا في الحروب الوطنية والقومية، ولم يتألق إلا في المعارك ضد الاستغلال. وعندما لم يستطع اجتياز «الاختبار» الأول عند منحنى السبعينيات، كان عليه أن يهاجر من عالم «الاختيار» الأول في منحنى الخمسينيات، وقد فعل.
ولكن صلاح جاهين — العبقرية الوطنية المتعددة — لم يسكن في «عالمه» الجديد كوطن، بل كمنفى. كان الحاضر الغائب.
وقد شاء أن يحل التناقض بالغياب المطلق، ويدخل «الليلة الكبيرة». ولكنه في هذا الغياب يبقى ما هو أكثر حضورا: إبداعاته التي تضيء ليالينا السود بصوته الصارخ «احنا الشعب» و«والله زمان يا سلاحي».
٧
منذ عشرين عامًا لم أره.
آخر مرةٍ رأيته فيها كنا في زنزانة ضيقة من زنازين سجن طره، وبعدها انتقلنا إلى سجن القلعة، ثم عدنا إلى طره.
قلت له: ستكون لحظة تعيسة حين تخرج من هنا، لأننا لا ندري لماذا دخلنا ولا ندري لماذا يمكن أن نخرج؟
ونظر فوزي جرجس في اتجاه آخر، وهو ما زال يكلمني: ومع ذلك، فما أحوجنا إلى هذه اللحظة التعيسة. لا معنى لوجودنا هنا، وقد لا يكون ثمة معنى لوجودنا خارج السجن وعندما يتوازى اللامعنى هنا وهناك، لا أتردد في اختيار «الخروج» من هنا.
وبعد سبعين يومًا على وجه التقريب، أقبل أحد الضباط ينادي على خمسة عشر اسمًا، كان من بينها فوزي جرجس، وقال لنا: أحضروا معكم كل ما يخصكم. وفهمنا أنه «الإفراج».
سألت فوزي: قبل أن نخطو الخطوة الأولى إلى الشارع ماذا ستفعل؟ أجابني: سأفتح محل «مواسير». ولم يمنحني فرصة الدهشة. كان قد غاب في الظلال.
ولم أره منذ عشرين عامًا.
بالأمس، قال لي محمود العالم: لقد مات.
•••
قبل أن ألقاه في سجن «طره» بحوالي العام كنت قد رأيته في أحد شوارع القاهرة. قال لي إنه يكتب للإذاعة بعض المواد الدرامية. كان ذلك أيضًا جديدًا عليَّ تمامًا.
كنت قد قرأت له في النصف الأول من الخمسينيات كتابه الوحيد «دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي» وأعجبت به. أعجبني أسلوبه الروائي في عرض التاريخ وفي اختياره الذكي لقضاياه، وتأويلاته الجذابة لتطور مصر.
كنت من جيل يعيد قراءة تاريخ بلاده في صفحات يكتبها شهدي عطية الشافعي وإبراهيم عامر وفوزي جرجس.
كانت الأبحاث الأكاديمية، والمدرسية السابقة قد وصلت بنا إلى طريق مسدود: فقد كان «التاريخ» في هذه الأعمال هو ميلاد وحياة وموت الفراعنة والأباطرة والسلاطين والملوك، أو هو بطولات الرجال والأحزاب. وأقبلت في الخمسينيات موجة من الكتابات غير الأكاديمية، ولكنها الأعمق تأثيرًا في حياتنا وعقولنا. تلك هي مؤلفات شهدي عطية وإبراهيم عامر وفوزي جرجس. كانت كتاباتهم تجسد مصر في أحلامها وإحباطاتها، في مصانعها ومزارعها وأرباحها وخسائرها، وفي غلائها واحتلالها ومظاهراتها وجامعاتها وإضراباتها، في أمراضها ومقاومتها، وفي مسارحها وموسيقاها ورقصها وتمثيلها وغنائها.
تحولت مصر في أعالهم إلى كائن حي ينبض بالحب والكراهية، ويتنفس ويزهو ويغضب ويحزن. وأصبح «التاريخ» أشبه ما يكون بالعمل الفني.
فوزي جرجس، كإبراهيم عامر صاحب «ثورة مصر قومية» و«الأرض والفلاح» لم يحمل «الدبلومات» ولا الشهادات. ولكنه كان يحمل عشقًا كبيرًا لمصر والحياة والدنيا كلها. ولم تكن ثمة حواجز تحول دونه والشعور بالظلم، بل كان واحدًا من المظلومين الكادحين الواعين بمغزى الظلم ومعنى الكدح.
وقاده وعيه في الخط المستقيم إلى «العمل» ضد الطغاة والمستبدين وكل أصناف الرجعية الاجتماعية والسياسية والثقافية. وكان من الطبيعي أن يدخل السجون في كل العهود، لأن الثقافة والوعي لم يصعدا به من طبقة إلى أخرى، بل من معتقل إلى آخر.
وبالرغم من أنه «كمثقف» كان أهم من غالبية حاملي الشهادات، إلا أنه ظل محصنًا من الدبلوم الذي يرتفع بالآخرين إلى مرتبة اجتماعية جديدة. كما أنه لم يستخدم الثقافة في محاولة الوصول إلى الحاكم والتمسح به والتوظف في بلاطه. ولو أراد لاستطاع أن يكون قناعًا لامعًا وبوقًا جميلًا لصوت … سيده.
ولكن فوزي جرجس المثقف الموهوب وصاحب القلم، لم يسخر موهبته أو قلمه لأي حاكم. وكنت قد التقيت به للمرة الأولى منذ ٢٦ عامًا في سجن «القناطر الخيرية» واكتشفت فيه على مدى سنوات طاقة كبيرة من العطاء في الفكر والسلوك.
وعندما خرج الجميع من السجون عام ١٩٦٤م كان يستطيع أن «يتوظف» هنا أو هناك من مؤسسات الدولة الوطنية، في أجهزة الإعلام والتنظيم السياسي. ولكن رأيته بعدها بعام واحد، وهو يحاول عبثًا تسويق برنامج فني في الإذاعة. كان أكبر كثيرًا من الذين يتوجه إليهم. ولكنه لم يفلح. كان عليه أن يختار بين الضوء الساطع والظلام الشامل. ولا حل وسطًا بينهما.
واختار فوزي جرجس المثقف والمناضل الاشتراكي أن يتحول إلى «بائع أنابيب» في حي شعبي من أحياء القاهرة، «سأتاجر في المواسير» قال لي، وهو يخرج من باب السجن للمرة الثانية.
كان ذلك عنوانًا على نهاية مرحلة كاملة.
لم يحاول أحد أن يثني الرجل الكبير عن عزمه. لم يسترده زملاؤه من أحضان اليأس. لم يبادر المثقفون إلى إنقاذ موهبة وخبرة وذكرى من الضياع والتبدد.
لم يحاول أحد. كأنه مات.
ولكن فوزي جرجس، بقي عشرين سنة يتاجر في المواسير، بعيدًا عن الثقافة والسياسة.
لماذا؟
بعد أشهر قليلة من «الإفراج الأول» لم يكن أمامه سوى الانخراط في «نضال الحكومة» أو الرضا بالتقاعد … فتجربته التنظيمية السياسية كانت قد هُزمت.
وبعد أشهر قليلة من «الإفراج الثاني» كانت هزيمة الوطن بأكمله.
جيل كامل من الهزائم.
ولأن فوزي جرجس لا يعرف الحلول الوسط، فقد «طلق» الوعي أولًا، ثم طلق الحياة.
مأساته عارنا جميعًا.
٨
ربما كان من حق عبد الرحمن الجبرتي أن ندعوه «رائدًا» للكتابة التاريخية العربية الحديثة وربما كان من حق عبد الرحمن الرافعي أن ندعوه «رائدًا» للمؤرخين المصريين، وربما كان من حق شفيق غربال أن ننسب له فضل تحويل التاريخ المصري الحديث إلى «علم» له مقومات الرؤية الموضوعية … ولكن سيظل لمحمد أنيس فضل الانعطاف الجذري بمعنى التاريخ من كونه بحثًا في «الماضي» إلى أن أصبح «بحثًا عن الحياة» في الماضي والحاضر والمستقبل.
هذا الفرق الخطير بين ما كان وما أصبح عليه «التأريخ» هو الذي يحدد المكانة الرفيعة التي نالها محمد أنيس في حياته، والتي ستترسخ يومًا بعد يوم في غيابه. إنها مكانة «الدور» و«الرؤيا» و«المنهج» فحصاد التجربة التي عاشها هذا الرجل لا تخص زملاءه وتلاميذه من الدارسين للتاريخ، وإنما هي تخص كل مصري وكل عربي يستنشق «الوعي» الذي يربط بينه وبين مصير وطنه وأمته والعالم. ولذلك، فأهمية محمد أنيس تتجاوز تأثيره في الحقل الأكاديمي، إلى ما يمكن أن يثمر في مجموع الشعب من عمال وفلاحين ومثقفين.
•••
محمد أنيس ينتمي إلى التراث التاريخي العربي العظيم، وإلى التراث النوعي للمؤرخين المصريين السابقين عليه، ولكنه إضافة كيفية إلى هذا التراث، لأنه ينتمي أولًا وأخيرًا إلى الشعب الذي نبت من صلبه. ومن روح هذا الشعب، أي من جملة تراثه العقلي والوجداني والاجتماعي، اختار محمد أنيس أن يكون «التاريخ» هو الدور والرؤيا والمنهج الذي يستطيع أن «يفعل» في الحياة، أن يخلقها بتعبيرٍ أدق، ومن أجلها اختار الأسلوب والإطار الفكري وطبيعة العمل.
أما الإطار الفكري؛ فقد كان هناك من تناول التاريخ المصري والعربي من زاوية المفهوم المادي الجدلي التاريخي، كفوزي جرجس وشهدي عطية الشافعي وإبراهيم عامر. ولكن محمد أنيس لم يتخذ من «التاريخ» مادة لإثبات النظرية، ولا العكس، فلم يتخذ من النظرية أداة لتصنيف التاريخ. وإنما اعتمد «الجدل التاريخي» بمعناه الحي الخلَّاق الذي يكتشف الخاص والعام في حركتها الاجتماعية غير المحدودة.
ولذلك كانت الخصوصية عند محمد أنيس هي عروبة مصر من ناحية، والديمقراطية من ناحية أخرى. لم تكن هذه أو تلك «مبادئ» مسبقة، بل اكتشاف من خلال الصراع الرئيسي والتناقضات الثانوية داخل الظاهرة الكبرى: تاريخ مصر. ولذلك، فإن موقفه من السلطنة العثمانية والغرب هو نتيجة لا مقدمة، لهذا الاكتشاف: أن مصر جزء من الأمة العربية، وأن الديمقراطية هي المسار السياسي الاجتماعي الثقافي القادر على إنجاز التقدم في حياة شعبنا.
وفي ضوء هذا التصور الشامل لحركة التاريخ والمجتمع، اتخذ محمد أنيس مواقفه الأيديولوجية والحياتية والعلمية. إنه، مثلًا، يحترم الوقائع التي سجلها المقريزي وابن إياس والجبرتي ويحترم وجهة النظر التي تبناها الرافعي في تصوير السياسة المصرية من محمد علي إلى فاروق، ولكنه في غمار البحث عن منهج ورؤيا وتحقيقًا للدور الذي اختاره لنفسه، يعيد ترتيب هذه الوقائع وتحليل وجهات النظر. وهو في سبيل ذلك يصطدم ببعض أدوات المناهج الغربية، وربما وجد في بعضها الآخر ما يضيء له الطريق. وفي جميع الأحوال، نجا محمد أنيس من أن يكون دوجماتيًّا أو براجماتيًّا، ولم يساوم الكل بالجزء أو العكس فلم يجنح قط إلى التلفيق والتوفيق، بل إلى الاكتشاف والخلق والتركيب. ومن هنا كان رائدًا على نحو جديد. أعاد النظر في وجهات النظر (الغربية الاستشراقية، والعربية الموالية للغرب، والحزبية الضيقة)، وتوجه بخطابه العام إلى الشعب من جهة، في الحاضر الذي نحياه على مشارف المستقبل من جهة أخرى.
وهذا ما حدد له طبيعة «العمل» و«أسلوبه». أكاديميًّا، حقق أقصى ما يمكن للجامعة ومراكز البحث العلمي من غايات. إنه أولًا «المؤسس»، فهو الذي أسس بالفعل لا بالمجاز أقسام «التاريخ» في العديد من الجامعات. وهو، ثانيًا، «الموثق» الذي يسعى إلى الوثيقة في مظانها ومجاهلها، ويثير حولها كل المشكلات ليفوز في النهاية بالحفاظ عليها، لا بحفظها. الحفاظ عليها لدى مالكها الشرعي: الشعب. وهو، ثالثا، «الميداني» الذي يدرس الأمور من كافة جوانبها «على الطبيعة». وفي ذلك كله، كان يبدو وهو في الستين كأنه طالب في العشرين، يبذل من الجهد والحيوية ما يدفعه إلى السفر من القاهرة إلى بغداد إلى صنعاء، وهكذا فهو لم يكن فقط أستاذًا بالمعنى العظيم للمعلم الذي تخرجت عليه أجيال وأجيال، وإنما كان صاحب «مدرسة في التاريخ» تربي المثقف العضوي بتعريف جرامشي، فهي تضم داخل الفرد هموم الوطن من عمق الأعماق، وأعباء السياسي والفنان والمفكر في شخصية واحدة تستهدف تغيير الواقع الراهن «بعمل تاريخي».
ولذلك، فمحمد أنيس ليس مؤرخًا وحسب، وإنما هو «مفكر» و«سياسي» في وقت واحد، أي أنه ذلك النموذج الرفيع للمثقف العضوي. ومن هنا، تحولت الكتابة التاريخية على يديه إلى «خبز يومي» للناس الذين كتب لهم في الصحافة اليومية والمجلات الأسبوعية، ولم يأنف مطلقًا من أن يتخذ «الأكاديمي» منبرًا شعبيًّا، وأن يكتب للمواطن العادي بلغته التي لا تتخلى عن العلم حقًّا ولا عن ممارسة الدور والتأثير والتغيير … فلم يكن يعني محمد أنيس أن يكون قراؤه من «الخاصة» بل كان المخاطب في أعماله كلها المواطن العادي صانع التاريخ والحياة.
وربما أصبح التاريخ من هذه الزاوية في حياة محمد أنيس عملًا فنيًّا، ثم كانت ظاهرة الظواهر التي تابعها بقلبه وعقله حتى اللحظة الأخيرة هي الإبداع التاريخي.
٩
لشادي عبد السلام وحده الحق في أن يقول: أعظم قصائدي هي التي لم أكتبها بعد؛ فقد كان شاعرًا، وكان إخناتون هو القصيدة التي حيل بينه وبين كتابتها. أبدعها في الوعي واللاوعي، في الحلم والذاكرة، ولكنه لم ينقل إبداعه إلى الآخرين.
«كان» فنانًا تشكيليًّا، مهندسًا للديكور، مخرجًا سينمائيًّا؟ هذا ما كان، ولكنه شاعر، والشاعر «يكون» دائمًا، حتى بأعماله التي لم يكتبها، بل خاصة بأعماله التي لم يكتبها … لو أنه كتبها لنقصت أعظم قصائده بيتًا. ولأنه لم يكتبها، أي لأن إبداعه المنقول إلى الآخرين يخلو من هذه القصيدة، فإن هذا الإبداع قد اكتمل.
بالموت، يكتمل.
بموت إخناتون يكتمل، فاليوم فقط يموت إخناتون.
عن إخناتون عرفنا الكثير، ولكننا لم نعرف ما عرفه شادي عبد السلام، فبموته يموت إخناتون.
شادي لم يحتكر «المعرفة» دوننا. كل ما تقوله الكتب والحفريات والأحجار، لا علاقة له ﺑ «معرفة» شادي. ظل يرجونا أن يبوح لنا بما يعرف. راح يبتهل لكل من يدري ولا يدري، لمن يستحق ومن لا يستحق: خذوا عمري وأعطوه عمره. كلوا جسدي واشربوا دمي، ولكن دعوه يحيا. سأقول لكم ما لم تسمع به أذن ولم تره عين وما لا يخطر على قلوبكم، فقط أعطوني آذانكم وأبصاركم وافتحوا أفئدتكم على آخرها. هذا إخناتون، لا يباع ولا يشترى. إنه القصيدة، أستأذنكم أستحلفكم أن أكتبها.
ولكن صاحب «المومياء» كان عليه أن يدفن مكانها وسره معه. كان عليه أن يموت وإخناتون تحت جلده.
هل هي النبوءة أن يعرض ذات يوم على الشاعر أمل دنقل أن «يمثل» دور إخناتون؟ ويموت أمل بالسرطان، وبعده بثلاث سنوات يموت شادي بالمرض ذاته؟ يموت البطل الذي سيكونه الشاعر، ويموت الشاعر الذي كانه البطل؟ أية نبوءة، وأي سر؟
ما معنى أن يكون الشاعر صاحب بيت واحد من الشعر؟ إنه شادي عبد السلام، صاحب القصيدة الناقصة، بل القصيدة الغائبة عن وعينا. اليوم يموت إخناتون، وتبقى القصيدة تبحث عن شادي عبد السلام. ولكن الشاعر يموت أيضًا، ما دامت القصيدة التي لم يكتبها بعد، لن يكتبها أبدًا.
أكلنا جسده وشربنا دمه، ولكن لن ننال غفران الخطايا.
ولا تصدقوا أن «المال» هو الذي حال بين شادي عبد السلام و«إخناتون». هو قال ذلك، وسوف يستشهد بأقواله كل الذين سيلطمون ويندبون رحيله. ولكن الحقيقة أن المال لم يكن هو الذي احتجب، وما كانت المأساة أن مخرجًا لم يجد المنتج الذي يتحمس لإخراج فيلم عن «إخناتون». لا، ليست هذه مأساة، فسيموت مخرجون كثيرون دون أن يُخرجوا كل الأفلام التي يحلمون بها. وسيموت علماء وأدباء ومفكرون كثيرون دون أن يحققوا كل ما يطمحون لتحقيقه قبل الرحيل.
ولكن المفارقة أن شادي عبد السلام الذي يحمل بين جوانحه الفنان التشكيلي والمخرج السينمائي والمفكر، حمل في قلبه لؤلؤة سحرية أو جوهرة مسحورة أو رسالة مقدسة كان عنوانها الأول «المومياء» التي هزت أركان الدنيا السينمائية، وأصبح صاحبها «مخرجًا كبيرًا» بفيلم، واحد. نظر الآخرون إلى «المخرج الكبير صاحب الفيلم الواحد» وقالوا إنه يستطيع أن يخرج فيلمًا جديدًا كل عام. أما هو فلم يكن يفكر بالإخراج والأفلام، وإنما ﺑ «الروح» التي أعطت عنوانها فقط، ولا تملك سوى الانطلاق بإخناتون الرسالة المقدسة التي تستوجب البلاغ أو الموت دونها.
كان «المال» موجودًا إذا شاء شادي أن «يخرج» عشرات الأفلام الجيدة ولكن الأمر عنده لم يكن إخراجًا وأفلامًا، بل روح كانت تتسرب من يدي الوطن على مدى السنين. ما كان يستطيع أن يتجاوز «إخناتون» إلى هذه الرواية أو تلك الفكرة، لأن إخناتون — ببساطة — لم يكن فيلمًا. رسالة مقدسة وروح.
وما لم يكن يدريه شادي عبد السلام هو أن التوحد بالوطن له مخاطره، فالنهضة الوطنية هي التي أخرجت «المومياء» والهزيمة المستمرة هي التي حبست إخناتون في صدر شادي، فصادرته حتى الموت. ولم يكن المال وغيره من الصعوبات إلا طقوس الدفن. موت شادي هو انفجار صدره بإخناتون السجين في القلب. ولكن هذا الانفجار ليس مباغتًا، فحتى السرطان لم يكن مفاجئًا، وإنما كانت الروح تتسرب من انتكاسة وطنية إلى أخرى. والتوحد مع الوطن يفعل فعله، فتتسرب الروح من الجسد، الذي يتحلل كلما تحلل قوام الوطن … وإلا فأية مصادفة جهنمية أن يغيب نجيب سرور ويحيى الطاهر عبد الله وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وحسن فؤاد وفؤاد حداد وصلاح جاهين وإبراهيم عبد الحليم ومحمد أنيس رحيلًا مأسويًّا متصلًا لا يتوقف إلا ليؤرخ؟
وأي تاريخ؟
هنا يأتي شادي عبد السلام ليضع النقطة الأولى على الحرف الأخير ويموت، ما دامت روح إخناتون قد فارقت جسد الوطن.