المصطلح الغائب في سوسيولوجيا القمع الثقافي
نماذج مصرية
حياة الكاتب أو المفكر أو الفنان، هي في السياق التاريخي لمجتمعات الحرية، دلالة تتجاوز مقامات الأفراد. ولكنها في سياق القمع هي إفادة شخصية تتناسب خطورتها مع مقام الفرد.
ولما كان القمع ليس هو الشكل الوحيد للإرهاب، فإن تباين الإفادات يصبح مبررًا لأقصى الحدود، فلربما يصبح المنصب أو الجاه الاجتماعي أو الدخل السنوي، هو الشكل الآخر للإرهاب … ومن ثَم فهو يرتبط على نحوٍ ما بالقمع ارتباطًا من نوع خفي شديد الالتصاق بآلية المجتمع المحصن ضد الحرية.
حياة الكاتب أو الفنان في هذه الحالة أشبه بأسطورة، إفادتها الموجهة للرأي العام لا للنائب العام، هي الحلم الأقرب في تفاصيله إلى شمول الرمز.
لا تتوانى السوسيولوجيا الثقافية في هذه الحال عن التصدي لمصطلح القمع بالامتحان اليومي كجزء لا ينفصل عن نشاط ماكينة الإرهاب.
ولكن واقع الحال في علم الاجتماع الثقافي العربي هو اتخاذ العينة الثقافية كمنتوج فردي أو اجتماعي بالمعنى الحرفي للمصطلح دون اعتبار كبير للمنتج نفسه، كعينة هو الآخر، لا كمصدر عينات كما جرت العادة «العلمية» الشائعة.
العرض التالي يخالف الشائع والمألوف خلافًا حاسمًا.
العينة هنا عشوائية تمامًا ضمن ظاهرة غير عشوائية مطلقًا. سلامة موسى مات منذ ربع قرن، مات بالمرض على فراش المستشفى. صلاح عبد الصبور سمع الشعر وسط الأصدقاء ومات فجأة. يحيى الطاهر عبد الله انقلبت به السيارة في الصحراء، عاش مَن كانوا معه ومات وحيدًا.
أجيال مختلفة، مواقف سياسية مختلفة، أسباب مباشرة للموت جد مختلفة، فما الذي يرتفع بهؤلاء إلى مستوى «العينة» الثقافية الاجتماعية؟
الجواب هو جملة الإفادات التي يقدمونها، وتقول ما يلي:
الموت فجأة، والمرض الخطير، والاغتيال، والانتحار، والموت في التعذيب، كلها ليست مجموعة من المصادفات العشوائية، بل هي عناصر «الموت الشامل» كمصطلح اجتماعي حضاري عام. مثلًا، لم يمُت صلاح عبد الصبور فقط بالسكتة القلبية، ولم يمُت سلامة موسى وحده بالسرطان، كلهم جزء من ظاهرة أكثر شمولًا، تضم الموت المفاجئ والانتحار والاغتيال في دائرة واحدة تخص الرموز الحية للثقافة العربية المعاصرة.
لذلك كان المصطلح الغائب عن سوسيولوجيا القمع الثقافي العربي هو المبدع نفسه، هو ذاته «العينة» الثقافية الاجتماعية، لا كجواب بين أجوبة على إطار محدد من الأسئلة، بل كمصطلح مفقود ضمن معالجاتنا السوسيولوجية للقمع الثقافي.
- (أ)
كم ونوع الأسماء الأدبية والفنية المأسورة في السجن العربي منذ ولادة الدولة العربية الحديثة بعد الاستقلال، وبيان الأسباب الرسمية.
- (ب)
كم ونوع المصنفات الأدبية والفنية المصادرة في الرقابة العربية.
ولكن هذا كله وغيره لا ينفي حاجتنا القصوى إلى المصطلح الغائب عن سوسيولوجيا القمع الثقافي، أعني المبدع ذاته. هنا بعض النماذج.
الإفادة الأولى
اسمي سلامة موسى.
قد يتذكرني بعضكم بالخير أو بالشر. لقد صفَّيتُ حسابي مع التاريخ في عام رحيلي عن دنياكم ١٩٥٨م، وكنت قد عشت بينكم سبعين عامًا فتنفست طفولتي رائحة الهزيمة العرابية في أواخر القرن الماضي، وقد لفظت النَّفَس الأخير في الحياة وأنا أتنسَّم رائحة العدوان الثلاثي على وطني وتباشير الوحدة بين مصر وسوريا.
أي إنني عشت معكم عصرًا تاريخيًّا بكل ما للتعبير من معنًى، هو النصف الأول من القرن العشرين بكامله، قبله بقليل وبعده بقليل.
وكانت عائلتي على درجة من اليُسر؛ فقد كان أبي الذي غاب عن ناظري بعد عامَين من مولدي موظفًا إداريًّا مهمًّا في محافظة الشرقية، ويملك «عزبة» ورثها عن جدي تبلغ مائة وخمسين فدانًا. أتاح لي هذا اليُسر أن أتعلم، وبعد العلم أن أكافح أعدائي، وهم أعداء مصر، سواء كانوا رجالًا أو أفكارًا أو أنظمة ومؤسسات ومجتمعات.
أذكر الظروف الحسنة لعائلتي لأنها صاحبة الفضل الأول في تنشئتي؛ إذ كان الإنجليز يحرِّمون على المصريين التعليم والصناعة. وقد نجحوا في ذلك أيما نجاح؛ إذ منعوا حتى عام ١٩٢٥م (بعد ثورة ١٩١٩م بست سنوات) قيام مدرسة ثانوية للبنات. وكانت مناهج دنلوب تعلِّمنا أن مصر بلد زراعي فقط، لا تناسبه الصناعة.
وكان البريطانيون حرَّاس «تقاليدنا»، فرغم أن مديرة المدرسة السنية للبنات في الحي الشعبي المعروف، السيدة زينب، كانت إنجليزية، إلا أنها لم تسمح لأية فتاة في العاشرة أن تخلع البرقع عن وجهها ورأسها. وكان أستاذ اللغة العربية الذي يجرؤ على خلع العمامة والقفطان ويرتدي البنطلون والقميص والمعطف يُفصل من عمله. وحين تقدَّمَت نبوية موسى (العالمة المصرية الشهيرة بعد ذلك) إلى امتحان الباكالوريا عام ١٩٠٧م من بيتها، رفض دنلوب المستشار الإنجليزي لوزارة المعارف قبولها، فأحدث القرار دويًّا في الصحافة المحلية والأجنبية، وكان الحل الوسط هو تقدمها للامتحان في العام التالي فنجحت. وكانت «مصيبة» إذ لم تحصل فتاة مصرية على شهادة إتمام الدراسة الثانوية منذ عام ١٩٠٨م إلى عام ۱۹۲۹م.
ولكم أن تتصوروا بعد ذلك المناخ الذي عشت فيه طفولتي وصباي داخل المدرسة وخارجها. مناهج بالية غاية في الجمود اللفظي والأسجاع الميتة التي تنفر من الثقافة العربية، وغاية في الانفتاح على الثقافة الإمبراطورية التي تغذِّي الشعور بالدونية وتولد مركب النقص وتبهر القلب الطري بعظمة المحتلين وأمجادهم. ولأنني مسيحي فقد لمست بنفسي بذور التفرقة بين المواطنين يمارسها الإنجليز في السر والعلن، فهم أمام الناس حفظة الإسلام وحماته، وفي الخفاء يجندون المسيحيين للتحوُّل عن كنيستهم الوطنية إلى الكنيسة الإنجليكانية. يستغلون قوانين ورثها المجتمع المصري عن العثمانيين، ويشيعون حاجة الأقليات إلى الحماية.
لذلك كنت في ذلك الوقت الباكر متوتر القلب والنفس والعقل بين وطنية مصطفى كامل، ومحمد فريد في حزبهما الوطني الذي شابه عندي التقارب مع الأستانة، وبين وطنية أحمد لطفي السيد في حزب الأمة الذي شابه عندي التقارب مع الإنجليز. ولكن مصطفى كامل في النهاية هو صاحب الكلمات الذهبية «لو لم أكُن مصريًّا لوددت أن أكون مصريًّا»، ولطفي السيد هو صاحب الشعار اللامع «مصر للمصريين» لا للأتراك ولا للإنجليز. كنت أميل بعاطفتي إلى تطرُّف مصطفى كامل، ولكني خشيت دائمًا المسحة الإسلامية في دعوته أن تفرق بين الأقباط والمسلمين. وكنت أميل بعقلي الغض إلى اعتدال لطفي السيد، دون أن أفهم عن أي قطاع من المصريين يعبر كلٌّ منهما في كفاحه. ذلك أن الخلاص من الاحتلال وقيوده كان أمل الحياة لجميع المصريين، فالاستقلال يُعيد إليهم السيادة والكرامة والحرية. ولكن هناك مشكلة، بل مشكلات، أخرى قبل الاستقلال وبعده. وأقصد بها مشكلة الغالبية الساحقة من شعب مصر الذي يعيش في بيوت بلا مراحيض ويأكل البتاو والمش بالدود وفحل البصل، وينام مع الجاموسة أو البقرة أو الحمار في غرفة واحدة بُنِيَت من الطين، ينجب الكثير من الأطفال لمساعدة الأهل في الغيط، فيموت نصفهم من الجوع والمرض والجهل، ويبقى النصف الآخَر ليعيد الكرة تحت سياط الباشا الكبير والبيك الصغير، وأحيانًا مشانق الإنجليز التي تدلَّت منها رءوس الفلاحين في دنشواي عام ١٩٠٦م.
كانت الصحف المقروءة في ذلك الزمان ثلاثًا: «المؤيد»؛ وكانت تؤيد الخديوي، ويقرؤها أبناء البيوتات التركية والقريبون أو المتقربون إليهم من الأرستقراطيين المصريين، و«اللواء»؛ التي كانت تحرك ضمير الأمة بصوت مصطفى كامل، ثم «الجريدة»؛ التي أسَّسها لطفي السيد. وكما كنت حائرًا متوترًا بين دعاوى الحزبين؛ فقد كنت كذلك بين الجريدتين. وكان الخديوي عباس مكروهًا من الإنجليز، غير أن نزعته الوطنية باعدت بينه وبين الاحتلال فخلعوه. ولا أنسى أننا حوالي ١٨٩٨م أنشأنا مصنعًا في القاهرة لغزل القطن ونسجه، فلم يعجب ذلك كرومر، رغم أن أصحاب رأس المال المصريين عيَّنوا للمصنع مديرًا إنجليزيًّا، فما كان من لورد كرومر إلا أن فرض ضرائب باهظة على المصنع حتى أغلق أبوابه وعين المدير الإنجليزي وزيرًا في الحكومة المصرية، مما قطع شعرة معاوية بين الخديوي ولندن.
كنا في ذلك الوقت نتذوَّق شيئًا من الجمال الفني في اللواء ومصباح الشرق. وكنا في المدرسة نقرأ أدب الدين والدنيا للماوردي أو كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع. وقد أعجبني الثاني أكثر من الأول. وكنا نسمع عن الإمام محمد عبده وقاسم أمين، وقد أعجبت بهما كليهما، فالأول حاول أن يجعل من الأزهر جامعة عصرية، والآخَر حاول الدعوة إلى تحرير المرأة.
ولكني أعترف بأنني وجدت ضالتي صدفة في ثلاثة رجال قدموا أواخر القرن الماضي من بر الشام كما كنا ندعو سوريا ولبنان وفلسطين، وهم: يعقوب صروف صاحب «المقتطف» وقد تجسدت لي نقيضًا لمجلة «البيان» التي كان يصدرها الشيخ عبد الرحمن البرقوقي، وعن طريقها سمعت للمرة الأولى عن نظرية التطور. والرجل الثاني هو شبلي شميل الذي أدين له بالكثير في نشأتي العلمية والاشتراكية. والرجل الثالث هو فرح أنطون صاحب مجلة «الجامعة» التي قرأت فيها للمرة الأولى أسماء فولتير وروسو وديدرو وأروع ثمرات الآداب الأوروبية.
كانت القراءة في حياتي اكتشافًا كاللذة، ومع الأيام والسنين أضحت معاناة هائلة وألمًا يكوي. فكما أنني عانيت وتألمت في التردد بين حزبي مصطفى كامل ولطفي السيد، عانيت وتألمت كذلك في التردد بين الأدب العربي الذي نتلقَّاه في المدرسة والثقافة الأوروبية التي نتلقاها في المقتطف والجامعة.
لذلك اتخذت في ذلك الوقت المبكر قرارًا جريئًا، هو الانقطاع عن الدراسة المنظمة، وأنا في خاتمة المرحلة الثانوية، والسفر إلى أوروبا لمعرفتها عن قرب. قررت أن أثقف نفسي بنفسي، فسافرت إلى باريس عام ١٩٠٨م حيث تعلمت الفرنسية وقرأت بها في سنة واحدة، ثم أمضيت عام ١٩٠٩م في لندن، وكنت أعرف الإنجليزية سلفًا. وقد التحقت في كلتا المدينتين بمعاهد خاصة أقرب ما تكون إلى التثقيف الذاتي في العلوم والآداب والفنون. وقد أكببت على المعرفة الأوروبية آكلها أكلًا. كان «التقدم» أمامي في الفكر والسلوك والحياة مائدة شهية عامرة بكل ما لذ وطاب، فلم أفرق بين الألوان والأذواق. بهرني نيتشه كبرناردشو وﻫ. ﺟ. ويلز اللذين تعرفت عليهما في الجمعية الفابية. وبهرني هنريك أبسن ودوستويفسكي وجوركي. وزلزلني ماركس وداروين وفرويد من عمق الأعماق.
وحين عدت إلى مصر عام ١٩١١م لم يكُن دوار البحر وحده هو الذي ألمَّ بي، بل دوار الرؤية التي دوَّخَتني في أوروبا. وكنت طيلة الطريق إلى الإسكندرية أرمي ببعض الكتب التي أنتهي من قراءتها قبل وصولي إلى الشاطئ، لأنها ممنوعة بأوامر الإنجليز. ولكني في إنجلترا كتبت رسالة صغيرة دعوتها «مقدمة السوبرمان» أبتسم من ذكراها الآن، وأعجب كيف جمعت كل ما جاء فيها من تناقضات على طبق واحد. كان همي هو محاربة الغيبيات بنيتشه أو داروين أو فولتير، لا يهم. كان همي تغيير المجتمع، بماركس أو برناردشو، لا يهم. كان همي تحرير المرأة والرجل، بفرويد أو إبسن، لا يهم. كان همي الاتجاه نحو العلوم والصناعة، وتحرير الأدب من البلاغة العقيم.
أعتقد أن هذه «البذور» كلها رافقتني طيلة العمر. ولكن بعضها نضج وأثمر، والآخَر مات وإن بقي معلَّقًا بوجداني. مثلًا، حين عدت ترجمت جزءًا من رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي طبعته على حسابي. ولكني حين ألفت كتابًا كان عن برناردشو الذي ظلَّ ماثلًا في معظم كتاباتي عن الاشتراكية والأدب، وحين كتبت رسالتي الصغيرة الثانية عن «الاشتراكية» عام ١٩١٢م، كانت الصورة الفابية هي السائدة على رؤيتي وليست الصورة الماركسية. ويتكرَّر الأمر بعد ذلك: عام ١٩٢٧م في كتابي «أحلام الفلاسفة» أرسم مدينتي الفاضلة «خيمي» على الأساس الفابياني نفسه، وهو الأساس الواضح في كتابي «الدنيا بعد ثلاثين سنة» عام ١٩٣٢م (غداة الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاسها الحاد على مصر بالاضطرابات الدموية) … فلم تفارقني قطُّ فكرة الاشتراكية التدريجية، والديمقراطية الليبرالية، والعلم والتصنيع ولكنها محاور شو وويلز لا ماركس، رغم ذلك أجدني أكرِّر الاعتراف بأن ماركس وداروين وفرويد هم العمود الفقري الرئيسي لثقافتي كلها.
ليس هذا هو المهم، فالأهم أنني حين عدت إلى مصر كانت الثقافة والتنظيم الشرعي أو القانوني هما سلاحي في تحقيق الوجود، بعد أن اكتسبتُ معنى وجودي في الحياة من الثقافة. ولن أنسى تلك اللحظات المريرة التي قضيتها مسهدًا وحدي في لندن أسأل نفسي مَن هم أصدقائي ومَن هم أعدائي، وأدركت بالمعاناة شِبه الصوفية أنني عدو الاحتلال الأجنبي لبلادي بكل ما يعنيه من ماديات ومعنويات، وأنني عدو الرجعية المحلية في وطني بكل ما تعنيه من ماديات ومعنويات. لذلك كانت الصحافة والنشر سلاحي الأول في المعركة، فأسست عام ١٩١٤م أول مجلة أسبوعية في مصر هي «المستقبل» وقد صدر منها ١٦ عددًا ثم أوقفتها الرقابة الإنجليزية. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى أسستُ مع آخَرين أول حزب اشتراكي في مصر، ولكن الغالبية حوَّلَته إلى حزب شيوعي سري، فخرجت مع آخَرين لأن هذه الصيغة لم تكُن تناسب تكويني. وفي عام ١٩١٩م شبَّت نيران الثورة المصرية التي قادها سعد زعلول. ويعلق بذاكرتي من هذه الثورة الموقف الوطني العظيم الذي اتخذه الأقباط برفضهم أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات. وكان القسيس سرجيوس هو الذي وقف في الأزهر يقول بأعلى صوت «إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية» وكان عدد الأقباط لا يتجاوز المليون في ذلك الوقت. وحين أرادت لجنة الدستور أن تجامل الأقباط تكريمًا لهذا الموقف بسَن قانون يأتي بممثليهم إلى البرلمان بالتعيين إذا لم ينجحوا في الانتخابات رفض الأقباط ذلك رفضًا حاسمًا وقالوا إن التعيين مبدأ غير ديمقراطي.
تعلق بذاكرتي أيضًا وثبة المرأة المصرية بتمزيقها للحجاب، وخروجها إلى ميادين المجتمع الواسعة. كذلك النهضة الاقتصادية المستقلة التي قادها طلعت حرب وغيره. وكان نجاح الثورة الاشتراكية الأولى في روسيا عام ١٩١٧م من ناحية ومبادئ الأمريكي «ولسن» عام ١٩١٩م من ناحية أخرى، كلاهما يدفع بنا إلى التفاؤل بمستقبل ثورتنا التي عوضت قليلًا من إخفاق ثورة عرابي.
وبين عامَي ۱۹۲۳ و۱۹۲۹م دعاني شكري وإميل زيدان للإشراف على تحرير مجلة «الهلال». وكان من شروط العقد أن أؤلف كتابًا جديدًا كل عام يصدر في العطلة السنوية للمجلة، وكانت تدوم شهرين. لذلك فإني مَدين بمؤلفات «أشهر قصص الحب التاريخية» و«حرية الفكر وأبطالها في التاريخ» و«العقل الباطن» و«مختارات سلامة موسى» و«اليوم والغد» و«الحياة والأدب» للوفاء بهذا الشرط. وقد ساعدني منذ بداية الحرب الأولى إلى الثورة، أنني لست وحدي في الدعوة إلى تجديد الثقافة والحياة. كان طه حسين قد أثار الضجة بخلعه الزي الأزهري حتى إنني وضعت صورته على غلاف «المستقبل». وأخذت من مي زيادة حديثًا جريئًا مطوَّلًا عن تلك المجلة الموقوفة أيضًا. وكان هيكل من الأحرار الذين نقلوا جان جاك روسو إلى لغتنا، وكان توفيق الحكيم قد بدأ يطل على استحياء. كانت تجمعنا دعوة «مصر للمصريين» كوطن حر علماني ودعوة «الاتجاه نحو الغرب» لنغرف الحضارة. وكنا بعدئذٍ نختلف في كل شيء. وقد شهدت هذه المرحلة معركتين خطيرتين تمسَّان المقدسات: طه حسين بكتابه «في الشعر الجاهلي» ١٩٢٦م، وعلى عبد الرازق بكتابه «الإسلام وأصول الحكم» ١٩٢٥م. كان الكتاب الأول ضد الخرافات، والثاني ضد الخلافة. وقد فصل عبد الرازق من هيئة كبار العلماء، كما سبق أن فصل طه حسين من الأزهر. ولكن المعركتين تركتا أثرًا عميقًا في الثقافة المصرية.
وفي أواخر عام ١٩٢٩م قررت أن أستقل عن دار الهلال فأقدمت على تأسيس «المجلة الجديدة» التي أرَّخ لها الروائي نجيب محفوظ في ثلاثيته باسم «الإنسان الجديد» وسماني «عدلي كريم». وكانت المجلة شهرية ولكنها تصدر ملاحق بكتب أو كتيبات. وقد أوقفتها الرقابة مرارًا، ولكنها صمدت أكثر من عشر سنوات حين أعطيت امتيازها مجانًا لمجموعة من الشباب اليساري.
وفي عام ١٩٣٠م أسست مع فؤاد صروف المجمع المصري للثقافة العلمية، ومن ناحية أخرى أنشأت «جمعية المصري للمصري» متأثرًا بغاندي والحركة الوطنية الهندية، وقد ألَّفتُ عنهما كتابًا مستقلًّا. كان القصد من المجمع هو أن يكون بؤرة لإشعاع المناهج العلمية في المعرفة، فأغلقه إسماعيل صدقي مع المجلات والصحف، وحين أعيد كان الحل الوسط هو إبعادي عنه. وكان القصد من الجمعية هو الاعتماد على الصناعة الوطنية ومقاطعة البضائع الأجنبية.
وهنا أحب أن ألفت النظر إلى الادعاءات والمزاعم الاستعمارية الرجعية التي لاحقت مجلتي ومؤلفاتي وزملائي وتلامذتي، وقد تبنَّاها البعض أحيانًا عن حُسن نية دون قراءة لما كنا نكتبه ونعمله والمحيط الذي كنا نكتب فيه ونعمل: لقد اختصروا دعوتنا كلها في كلمتين هما الفرعونية والإلحاد. ولكوني أعتقد في الحرية اعتقادًا مطلقًا فإنني لست ضد أية دعوة فكرية تلتزم الحوار الديمقراطي. ولكن الحقيقة بعد ذلك أنني قلت في كتاب «مصر أصل الحضارة» إن لهذا الكتاب هدفًا سياسيًّا تربويًّا، هو أننا أعرَق حضارة من الغرب، و«مَن يتصوَّر أنه يمكن بعث الفراعنة ومحاكاتهم في عصرنا يستحق الإيواء في مستشفى الأمراض العقلية»، لقد استنجدنا بتاريخنا الحضاري في مواجهة الاستعمار، فكانت الدعوة «مصر للمصريين» أقرب إلى الرومانسية الوطنية، ولم تكُن بمواجهة العروبة. وقد كنت أنا دون غيري عام ١٩٣٥م في كتاب «ما هي النهضة؟» الذي دافعت عن العروبة في مواجهة بعض فقرات لم تعجبني لابن خلدون. وقلت إن فضل العرب على النهضة الأوروبية هو الفضل الرئيسي لتطور تلك النهضة إلى حضارة اليوم. وحين نأخذ من هذه الحضارة فإننا لا نستورد، بل نعالج أسباب تخلُّفنا التي كان الغرب واحدًا بارزًا منها.
كذلك كان كتابي «البلاغة العصرية واللغة العربية» محاولة لتحديث اللغة وتخليصها من قيود عصور الانحطاط العثماني. وأعتقد أن الزمن قد حكم لمصلحة اللغة الحديثة التي لم أكُن سوى أحد دعاتها. أما في الأدب؛ فقد قلت وكررت القول إن هناك عمالقة في التراث العربي، كالجاحظ الذي لم أترك له كلمة، وكابن رشد وابن خلدون والفارابي وابن سينا. لذلك كان هجومي الحاد على «قشور» التراث المتهالكة على وسائد التخلُّف، لإنقاذ أدبنا لا لتدميره. ولا يستطيع أحد أن ينكر الأثر البالغ للآداب الأجنبية في تطوير آدابنا المحلية دون أن تفقد هويتها الوطنية.
تبقى رسالتي الصغيرة «نشوء فكرة الله» وكتابي «نظرية التطور وأصل الإنسان»، وكلاهما يبحث في تطور العقل البشري والوجدان البشري والجسم البشري، كلاهما مقال في الأنثروبولوجيا لا علاقة له بفكرة الدين. رغم ذلك أقول إنني علماني، وضد اتخاذ الدين مطية من جانب رجال الدين أو المؤسسات الدينية. كما أنني ضد الجماعات المتطرفة التي نشأت عندنا، كالإخوان المسلمين الذين يعودون بنهضتنا إلى الوراء، إلى عصور الانحطاط العثماني.
وربما أكون مسئولًا فكريًّا عن أجيال من الشباب تناقضت اتجاهاتهم تناقضًا حادًّا، فمن جمعية «المصري للمصري» تخرج أحمد حسين بحزبه الذي داعب الفاشية «مصر الفتاة»؛ إذ كان شعاره «مصر فوق الجميع». ولكن مَن ينكر أن هذا الحزب كان إسلاميًّا أيضًا، وأنه تحول قرب نهاية الأربعينيات إلى نوع من الاشتراكية؟ ومن «المجلة الجديدة» وملحقاتها تخرَّج جيل كامل من الشباب الماركسي الذي نظم أو انضم إلى تنظيمات شيوعية سرية. وفي الوقت نفسه كان لي تلامذة — كما يسمون أنفسهم — من شباب الطليعة الوفدية الداعية إلى الاشتراكية والليبرالية معًا.
إذَن فقد كان كل فريق يأخذ مني ما يستهويه وما يتلاءم مع تكوينه الاجتماعي أو الثقافي. أقول ذلك، لأن عام ١٩٣٦م كان عامًا فاصلًا في تاريخ مصر على كل المستويات. كانت معاهدة التهادن مع الاحتلال البريطاني على المستوى السياسي. وكان توقف جيل عظيم عن العطاء على المستوى الثقافي، هو جيلي. وقد نجوت شخصيًّا بأعجوبة هي إيمان الراسخ بالاشتراكية التي كانت تتطلب استقلالًا وطنيًّا غير مشروط. وهو الأمر الذي لم تحقِّقه المعاهدة.
وبدأت مسيرة النضال التي بلغت ذروتها بعد عشر سنوات في أحداث ١٩٤٦م العظيمة حين التحم الطلبة والعمال في جبهة ديمقراطية واحدة، وكان الشباب الصغار قد بلغوا من النضج ما يؤهلهم لحمل راية الكفاح رغم مأساة كوبري عباس الذي فتحته الحكومة لإغراق الطلبة، وقد شعرت بذلك في العمق حين أخذتني قوات الأمن من بيتي في إحدى ليالي عام ١٩٤٦م لتزج بي في السجن بحجة الدعوة إلى قيام الجمهورية وتحقيق الاشتراكية، فإذا بي أجدني في الحبس مع طليعة الشباب الثوري المتحمس. كنت وحدي الشيخ بينهم. وكانوا جميعًا حولي لا يصدقون عيونهم أنني أنا. وتألَّقَت في عيني دمعتان: الأولى جسَّدت سعادتي بأنني لم أعِش هدرًا في هذه الدنيا، فلقد سويت حسابي مع التاريخ بتخريج هؤلاء الشباب من معطفي. والدمعة الثانية على مصر التي ما زال نظامها يستجيب لسُلطة الاحتلال ويسجن الفكر الحر، ويظن أنه بمنجاة من أعاجيب الزمن.
كذب الإنجليز بعد نصرهم على النازي الذي حاربناه دفاعًا عن الحرية والاستقلال الموعود، فلم ينجزوا الاستقلال إلا لفلسطين بعد أن أهدوها إلى اليهود قبل جلائهم. وما كان نظام كالنظام المصري وغيره من أنظمة العرب المتردية في وهاد العفن والتخلف أن تنقذ فلسطين بحرب الأسلحة الفاسدة والخيانات الرابحة. لذلك كانت إيجابية الحرب الوحيدة أنها جاءت بالضباط الأحرار ونظامهم الجديد إلى قمة السلطة في مصر.
وسارت الثورة التي شرحتها في كتابي «الثورات» في تدرج: التخلص من السراي، ثم التخلص من الإقطاعيين، ثم البناء والإصلاح.
«وكان أعظم ما قامت به الثورة، بعد ذلك، هو الإقدام على تأميم قناة السويس في ١٩٥٦م، وتاريخ هذه القناة لا يقرؤه مصري إلا مع الألم والغيظ، فإنه أكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر. وأذكر أنني في ١٩٤٧م دعوت في مقال بمجلة «مسامرات الشعب» إلى تأميم هذه القناة. وقلت في تدليلي وتبريري إن هذه القناة تقع في أرض مصرية، وإن تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم الترام في القاهرة. ولا أعتقد إلا أن الوفديين كانوا يقرءون مقالاتي هذه في استهزاء وسخرية. ولكن أحد الصحفيين سأل النحاس باشا عن إشاعة التأميم فأجاب بأنه ليس لدى الحكومة أية نية للتأميم، وأنها تنتظر انتهاء الامتياز حين تستولي عليها، أي في عام ١٩٦٩م … كان الوفد قد فقد روح الكفاح. وأُمِّمَت القناة في ١٩٥٦م وأحسَّ الشعب أنه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط، بل استرد كرامته.»
«إن «الديمقراطية الغربية» كانت تنوي إيجاد مجاعة في بلادنا كي نخضع، ولكن الاشتراكية السوفياتية أنقذتنا، فلم نجُع ولم نخضع، ولم ينقلب نظام الحكم ولم يرجع فاروق وبقيت جمهوريتنا سليمة.»
«وقصة علاقتنا مع الدولة السوفياتية من أروع القصص التاريخية، فإنها تحوي ألوانًا من النذالة والشهامة والشرف والدناءة. والشهامة والشرف في جانب الاتحاد السوفياتي، والنذالة والدناءة في جانب الدول الغربية التي نصفها بأنها حُرَّة وأنها ديمقراطية، ولا تذكر نفسها بأنها دول استعمارية قتلت عشرات الألوف من الهنود والمصريين والجزائريين.»
حين أعرض لأحداث بلادنا فيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٧م أجدها على اختلاف بارز بين نصفيها. فالنصف الأول كان انحدارًا كاد يكون انهيارًا في السياسة والأخلاق. فقد ظهرت حركات رجعية أوشكت على إحالة بلادنا إلى جهنم. كما فسد الجهاز الحكومي وطغى العرش واستخفت الأحزاب بالقيم الأخلاقية بل استهترت. وأصبح الزعماء والساسة الذين كنا نحترمهم لكفاحهم متسلِّقين يرغبون في الوصول إلى القمم. وهي في الأغلب قمم الثراء والسلطان دون حساب للشعب. بل تجاوزت هذه الحال إلى مَن نسمِّيهم أدباء ومؤلفين وصحفيين كبارًا؛ فقد ارتشوا إلا الأقلين، وتخلَّوا عن ضمائرهم، وصاروا يؤلِّفون ويكتبون إعلانات مأجورة في الصحف، بل إعلانات خادعة غاشة.
«أما النصف الثاني، أي من بداية الثورة في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م إلى ١٩٥٧م فيمثِّل نهضة الشعب. وهي نهضة إنشائية بنائية في جميع المرافق ما زلنا ماضين في طريقها الذي لن يكون له آخِر. وأنا لذلك كبير التفاؤل بالمستقبل.»
فيما بين ١٩٤٧ و١٩٥٢م كان البوليس السياسي أو القلم المخصوص، كانت كل هذه الهيئات تُعربد وتعمل للتخريب في السياسة والصحافة والتفكير. وكانت جميع هذه الهيئات على اتصال بالسلطات الإنجليزية الاستعمارية بدعوى مكافحة الشيوعية. ولم يكُن بعيدًا عن بعض هؤلاء الجواسيس، بحُكم هذا الاتصال وطبيعته، أن يخدموا الإنجليز في خططهم الاستعمارية.
«وها أنا ذا في ١٩٥٧م أجد الجمهورية التي اتهمت بالدعوة إليها وحبست من أجلها. وأجد نجاح دعوتي للصناعة، وهي دعوة أمضيتُ فيها أكثر من ثلاثين سنة، وأجد دعوتي للعلم كما أجد الإيمان بنظرية التطور، وأخيرًا أجد تهمتي بأني أحب دولة الاتحاد السوفياتي، هذه التهمة قد أصبحت فخرًا، بعد أن عرفنا وعايَنَّا موقفها الأبيَّ الكريم نحونا في هجوم الغرب علينا في ١٩٥٦م، وأجد مصريًّا صميمًا على رأس حكومتنا هو جمال عبد الناصر الذي نشأ في عائلة من الفلاحين، ولذلك أستطيع أن أقول إنني انتصرتُ.»
الإفادة الثانية
عندما قرأت نعي صلاح عبد الصبور في «الأهرام»، أصابني الفزع لا من الموت بل من الجنازة الإعلامية الصاخبة بأكثر الأسماء والمؤسسات عقمًا في تاريخ مصر الثقافي.
أقامت الدولة إذَن سرادقًا في الصحافة والإذاعة والتليفزيون، تتلقى العزاء في الشعر والشاعر … في وقت لا يزال أحمد فؤاد نجم يُعاني الأهوال في سجنه بعد إضراب عن الطعام دام ثلاثة أسابيع كاد يودي بحياة الشاعر السجين. وفي وقت لا يزال إسماعيل المهدوي في المستشفى العقلي منذ اثني عشر عامًا. وفي وقت ما زالت فريدة النقاش في زنزانتها.
كيف يمكن إذَن لدولة واحدة أن تعامل الشعر والثقافة بمكيالين، ألأنَّ صلاح عبد الصبور يختلف عن نجم والمهدوي والنقاش؟
أين يختلف؟
يختلف فقط في أسلوب الاغتيال. لقد قررت الدولة اغتيال الشعر والثقافة بأسلوبين قديمَين قِدم الزمن: سيف المعز وذهبه. إنها ضد الشعر والثقافة من حيث المبدأ، ولكنها ليست ضد انتحار الشعر وسقوط الثقافة إذا كان ذلك ممكنًا … فإنه يوفر عليها صورة السيف الذي تنفر منه إنسانية الربع الأخير من القرن العشرين. ولأن الذهب يحوِّل الشعر إلى حلية على صدرها، يعلن موت الشعر وإنْ تلألأت أشعته البراقة.
ومرَّة أخرى، أين يختلف صلاح عبد الصبور عن زملائه الذين يموتون في السجن والمنفى والمستشفى العقلي والجوع والرفض اليائس؟
يختلف في أن نجم والمهدوي والنقاش وعشرات غيرهم ارتضوا مواجهة سيف المعز منذ البداية، فهو يحاول قتلهم ولكنه لا يقتل الشعر. لا يقتل القصيدة. لا يقتل حياتهم الممتدة بعد الموت أو السجن أو المستشفى.
رفض صلاح عبد الصبور في وقت مبكر أن يواجه السيف، ورفض أيضًا ذهب المعز. وفي وقت من الأوقات كانت هذه المعادلة ممكنة الوجود؛ أن يتجنَّب الفنان السيف والذهب.
في الجوهر كان صاحب «الناس في بلادي» و«شنق زهران» و«همجية التتار» مقاتلًا عن الأرض والبشر والحرية والجماهير المسحوقة. قاتل الاستعمار بالكلمة الحرة الشريفة، حتى نزفت الثورة بعض الصديد فأصابه الذعر. دخل رفاقه السجون والمعتقلات يتغنون بقصيدته «عودة ذي الوجه الكئيب»، فأصابه الهلع في منتصف الخمسينيات، لأن أجهزة السلطة الوطنية كشفت «الشيفرة»، وفهمت الرموز.
حينذاك، ضمَّها إلى الديوان الأول تحت إهداء يقول «إلى الاستعمار». كان تحايُلًا ذكيًّا ولكنه مكشوف الدلالة. كانت القصيدة عارية وتقريرية ومباشرة ولا تحتمل التأويل، وما أبعد صورها وسخريتها عن الاستعمار. ولكن صلاح كان قد آثَر السلامة؛ سلامة الشعر والنفس والحلم.
وفي دواوينه الثاني والثالث والرابع، كان قد ترك زهران والتتار وانشغل بالحب والحرية والموت، فكتب شعرًا باقيًا يشهد على ضراوة الصراع بين «الكلمة» و«الحياة» من حولها. في عام ١٩٥٩م كتب في «روز اليوسف» سلسلة مقالاته الشهيرة «حوار مع شيوعي عراقي» ليحسم الأمر بينه وبين السلطة، وليستعد القدر العاتي، فانكفأ على ذاته ينادي «أقول لكم» ويتذكر «أحلام الفارس القديم».
وراح ينزف في صمت، شعرًا رقيقًا حزينًا، يتكتم اللوعة ويفيض بالأسى، كان يتعذب لأنه كان شاعرًا. لم يكُن صدًى. كان صوتًا. في «الأهرام» كان زميلي. ذات يوم توجَّه إلى هيكل برجاء أن يقبل استقالته، لأنه وجد مكانًا في وزارة الثقافة. يومها سُئل «لماذا؟» أجاب «لأنني هنا لا أعمل شيئًا». قيل له «أنت حلية في عنق الأهرام كالآخرين». قال «لست أريد لنفسي هذا الوضع» سألته «ماذا ستفعل يا صلاح في دار التأليف والنشر؟» أجابني مازحًا «كان أبي يتمنى لي أن أكون مديرًا، وها أنا ذا سأكون».
وفي اليوم التالي لرحيل عبد الناصر ذهبتُ إليه مع أمل دنقل. قال بصدق مروع «لم أدمع ولم أحزن لحظةً واحدة» … كانت الكلمات حادة كنصل السكين، ولكنها بريئة وصادقة إلى أبعد الحدود، منذ كتب «عودة ذي الوجه الكئيب» حتى «مأساة الحلاج». كان في الشعر رافضًا لكل أوجُه السلب في التجربة، وقابلًا لأن ينتقل من «الأهرام» إلى «الميري» كما تقول اللهجة المصرية عن «الحكومة».
في الذكرى الأولى لرحيل عبد الناصر، كان صلاح يُلقي قصيدة رثاء. وكان صالح جودت يرفض أن يُلقي أحمد حجازي قصيدته.
هذا هو التناقض الجوهري العميق داخل صلاح عبد الصبور. كان صادقًا كل الصدق حين قال «لم أحزن» ولم يكُن صادقًا حين وقف على المنصة حزينًا. كان القناع الذي يتكلم، وليس الوجه الأصيل.
وبدأ النظام الجديد حربه ضد الثقافة، فور الانتهاء من «حرب أكتوبر». طرد مائة وعشرين كاتبًا من أعمالهم، وتوجه إلى المنابر. وبدأ بمجلة «الكاتب». طرد أسرة التحرير وأراد الإبقاء على المنبر، وراح يبحث عن رئيس تحرير يرضى عنه المثقفون، حتى يسهل تفسير الأمور بأن الخلاف كان شخصيًّا بين المجلة والحكومة.
ورفض الكثيرون أن يكونوا الواجهة الجديدة لتصفية منبر وتيار قومي. وفوجئ الجميع بصلاح عبد الصبور يقبل. كان «موظفًا» في وزارة الثقافة، وعليه أن يقبل «الأمر الإداري» وقبل. ونزف الشعر دموعًا ساخنة على هذه «النهاية».
وأدرك صلاح أن الحاجز الوهي بين الشعر والسياسة ليس قائمًا، وطلب «اللجوء» إلى السلك الدبلوماسي، فعُيِّن مستشارًا ثقافيًّا لسفارتنا في الهند.
كان صلاح قد توقف عن الغناء. وكانت الدوامة المركبة في أعماقه تغلي بالتناقضات منذ الهزيمة؛ لذلك كان «المسرح» ملجأه من التوقف. لم يكتب بعد «أحلام الفارس القديم» و«تأملات في زمن جريح» — الزمن المتخم بالغناء الخصب — أكثر من قصائد معدودة ضمَّتها مجموعتان صغيرتان «شجرة الليل» و«الإبحار في الذاكرة». أما في «المسرح» فقد اختلف الأمر … فقد كان الصيغة الجمالية القادرة على امتصاص التناقض بين الواقع والغناء، بين الذات والموضوع، بين الشعر والسياسة. كانت الصيغة الوحيدة أمامه، للحيلولة دون التوقف عن العطاء وهو في ذروة النضج.
بعد أربع سنوات عاد صلاح عبد الصبور من الهند. كانت الدنيا قد تغيرت في مصر، إلى أقصى الاستقامة المنطقية للنهج السياسي القائم. كانت زيارة القدس المختلفة قد تمَّت، واتفاقيات كامب ديفيد قد أُبرمت. صُفِّيت مجلتا «الكاتب» و«الطليعة» واستأنف المثقفون المبدعون دخول السجن والمعتقل وأقبية التعذيب والموت. وإسرائيل تستعد لدخول مصر، والعرب يستعدون للخروج منها.
في هذا المناخ عاد صلاح عبد الصبور.
يحتمي بظل السيف من السيف، وألا يحصل على الذهب.
كانت الوظيفة هي الملجأ، ولكنه زمن صعب.
وكما برهن الميري، في قضية مجلة الكاتب، أن الحاجز الذي أقامه الشاعر بين الشعر والسياسة هو حاجز وهمي، كذلك تجدد الأمر حين ترقى صلاح من «مدير عام» إلى وكيل وزارة إلى وكيل أول إلى رئيس مجلس إدارة هيئة الكتاب، منصبه الأخير. وراح الشاعر يتحايل على السياسة بنشر كتب التراث وإصدار مجلة نقدية ذات وزن. ولكن السياسة كانت بالمرصاد. كان عليه كممثل للحكومة في تطبيع العلاقات الثقافية بين مصر وإسرائيل أن يسمح للدولة الصهيونية بالاشتراك في معرض الكتاب الدولي.
واستعان صلاح بالروتين والبيروقراطية لكي يفوِّت الفرصة على الاشتراك الإسرائيلي، ولكن قمة السلطة أمرت بتأسيس جناح إسرائيل.
وكان مشهدًا مروعًا لصاحب «الناس في بلادي» أن يرى إخوته وزملاءه يقتحمون المعرض ويوزعون المنشورات ضد العدو وتقبض عليهم الشرطة، بينما هو يطالع اسمه في «القائمة السوداء» العربية لمقاطعة المتعاملين مع إسرائيل.
كانت لحظة لم تخطر على بال صلاح في اليقظة أو المنام، في الحلم أو الكابوس. كان قد أدرك متأخرًا أن الوقت الذي كان يمكن فيه تجنب السيف والذهب معًا قد فات، وأننا في زمان الاختيار الأخير.
وكان قد توقف عن الشعر والمسرح معًا.
وقرر أن يحل المشكلة حلًّا لا يخطر على بال أحد؛ أن يموت.
ولكنه في الحقيقة كان قد اغتيل، وإن شارك بأزمته الخاصة في عملية الاغتيال.
وترك لنا علامة تقول إن سيف المعز يقتل جميع المبدعين، سواء الذين يواجهونه أو الذين يحاولون الاختفاء في ظله.
ومعذرة لجلال الموت وصداقة العمر، فلم أحب أن أمشي في جنازة يتقبل فيها القاتل واجب العزاء.
الإفادة الثالثة
يثير الموت المفاجئ للشاعر صلاح عبد الصبور قضية مثيرة للانتباه والتأمل خلال العام الأخير في مصر.
فقد كان السيد علي حمدي الجمال رئيسًا لتحرير «الأهرام» حين توجه برفقة نائب الرئيس حسني مبارك إلى واشنطن. وكانت الرحلة الجوية إلى العاصمة الأمريكية على خير ما يرام، كما كان الزميل الجمال في صحة جيدة. ولكنه ما إن هبط من سلم الطائرة وتجاوز شرطة مراقبة جواز السفر حتى سقط ميتًا قبل استلامه حقيبته.
كذلك، كان الأستاذ أحمد رشدي صالح رئيسًا لتحرير «آخر ساعة» حين أمضى إجازة طيبة في بريطانيا، وأثناء وجوده في مطار هيثرو بلندن، بعد أن سلَّم حقيبته وتجاوز شرطة مراقبة جواز السفر سقط من مقعده في صالة الترانزيت، وإذا به قد فارق الحياة.
شاعرنا صلاح عبد الصبور، توجه إلى منزل صديقه أحمد عبد المعطي حجازي الغائب عن القاهرة منذ سبع سنوات، فإذا به لا يكمل السهرة لأنه قرر الموت فجأة.
وللشاعر حجازي قصيدة من أروع ما كتب عنوانها «الموت فجأة»، ربما كانت استيحاءً لموت بعض أصدقائه فجأة وبلا مقدمات وفي عمر الزهور. ولكن الشعر العظيم ليس تسجيلًا للماضي بل نبوءة بالمستقبل.
ولا شك أن حياة المثقفين والفنانين رادار، لا يقل حساسية عن فنهم لذلك كانت السنوات العشر الأخيرة في مصر، مليئة بهذه الظواهر الاستثنائية في صفوف الكتاب والشعراء وكافة المبدعين، كالانتحار أو الجنون أو … الموت فجأة.
وإذا كان مبررًا إلى أقصى الحدود أن يُفرض «الموت» على نجيب سرور أو «الجنون» على إسماعيل المهدوي، أو «الانتحار» على ثروت فخري وأحمد عبيدة، و«المنفى» على العشرات من زملائهم، فإن التبرير هو معارضتهم لكل ما يجري في مصر، معارضة لا تحتمل المرونة أو النسبية، فهي معارضة شاملة ومطلقة للنظام، وأحيانًا للمجتمع نفسه، وأحيانًا لدور الكلمة وعدم جدوى الثقافة أو الفن، وأحيانًا هي معارضة للذات المبدعة لدرجة الرفض يأسًا.
أما صلاح عبد الصبور، ومن قبله علي الجمال ورشدي صالح ومرسي الشافعي، فهم من المؤيدين بدرجات متفاوتة. بل إن ثلاثة منهم وصلوا إلى أعلى منصب إداري في مصر، وهو رئاسة مجلس الإدارة لمؤسسة حكومية، وثلاثة منهم وصلوا إلى قمة العمل المهني هو الصحافة، فهم رؤساء تحرير. وكلها مناصب قيادية عليا في الجهاز الإعلامي والثقافي للدولة، مما يعني ثقتها الكاملة في كفاءتهم وولائهم.
لماذا إذَن تصيبهم لعنة «الموت فجأة» التي سبق لها أن تخصصت في المعارضين أو الرافضين وحدهم؟ وإذا كان اليأس الشخصي أو الموضوعي هو جرثومة الموت المبكر المفاجئ عند المعارضين أو الرافضين، فما هي جرثومة الموت المبكر أو المفاجئ عند غير المعارضين أو الموالين؟ وإذا كان اليأس القاتل لدى الأولين قد عبَّر عن نفسه بما يمكن تسميته «الاحتجاج موتًا»، فهل يحمل موت الآخرين احتجاجًا من نوع آخر؟
هذه الأسئلة وأمثالها تحتاج إلى وقفة أبعَد ما تكون عن تجريح الموتى أو عبادتهم على السواء. لأن نظام السنوات العشر الماضية هو المتهم الرئيسي في اغتيال المعارضين والمؤيدين على السواء. إنه ليس نظامًا سياسيًّا فقط، بل هو نظام اجتماعي وثقافي وأخلاقي لا تتوقف حدوده عند أعتاب المعارضة أو التأييد بالمعنى السياسي وحده، بل هو يتدخل بقوانينه وإجراءاته وقراراته في الحياة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية للبشر. لذلك قد يؤيده البعض عن اضطرار أو اختيار في مواقفه السياسية. ولكننا لا يجب أن نسحب هذا التأييد السياسي على بقية مجالات الحياة.
-
أن تأييدهم ليس مطلقًا حتى للجوانب السياسية، لأنهم لا يُستشارون في كل قرار سياسي من جهة، ولأنهم ملزمون بحكم موقعهم الثقافي أو الإعلامي، أن يعلنوا تأييدهم كل يوم أو كل أسبوع، لا أن يخفوه في الصدور.
-
أن تأييدهم السياسي لا يشمل موافقة اجتماعية أو ثقافية أو أخلاقية على كل ما يجري في هذه الميادين. وباستثناء المرحوم مرسي الشافعي الذي لا أعرفه، فإنني لا أجيز لنفسي الإقرار بأن شاعرًا كبيرًا كصلاح عبد الصبور أو باحثًا كبيرًا في الأدب الشعبي كرشدي صالح يمكن لأيهما أن يوافق على التدهور الاجتماعي والثقافي والأخلاقي الراهن في مصر.
-
هذا الاعتراض المفترض والمبرر لإجراءات النظم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية لا يأخذ طريقه إلى العلانية بموجب قرارات القهر الساداتي للديمقراطية. وهكذا لا يرى النور سوى «التأييد» الجزئي أو النسبي أو الشامل والمطلق لسياسة النظام، ولا تتيسر «المعارضة» لبقية الجوانب. ولكن الناس، كل الناس، وهم معذورون لغير حد، لا يعرفون سوى الظاهر والمعلن. ومن حقهم الشك في الباطن المضمر، بل واليقين أن لا فرق بين هذا وذاك.
-
الأول هو تاريخهم السياسي والثقافي. إن صلاح عبد الصبور عاش ومات شاعرًا ومسرحيًّا وطنيًّا تقدميًّا قوميًّا ينادي بالحرية والعدل، حرية الوطن والمواطن وحرية الأرض والبشر، في أدبه وفنه لم يتنازل قط عن هذه المعاني. ولم يكن الرجل ناصريًّا في أي يوم، فلكم تناقض مع الثورة ولكم عانى من سلطانها. ورشدي صالح هو أحد قيادات الحركة الاشتراكية في الأربعينيات والخمسينيات ورائد البحث في الأدب الشعبي، دخل السجن لثلاث سنوات ولمَّا طلبوه للاعتقال مرة أخرى، انهار الرجل ولم يستطع الصمود. من أيامها والخوف يعربد في الصدور. إن هذا الرصيد القديم، يتناقض بغير شك مع «التأييد» للعهد الجديد، وهو الأكثر قهرًا والأقل عدلًا. وإذا كانت الوطنية والتقدمية سببًا في التجاوزات الديمقراطية للعهد الناصري الذي عارض بعض هؤلاء، فإن التفريط اللاوطني والاستسلام للعدو في ظل النظام الراهن، يستوجب ما هو أكثر من المعارضة، أي مزيدًا من المعاناة. لذلك أثمر الخوف القديم خوفًا مضاعفًا بدلًا من المعارضة المضاعفة، وكان التأييد الذي يتناقض مع الرصيد التاريخي من الشعر والثقافة الوطنية. ألا يصيب ذلك القلوب المرهفة بالزلزال لدرجة الموت فجأة؟
-
الثاني هو أن المثقف والإعلامي داخل مصر، لم يعد أمامه سوى البقاء في الأسر الحكومي، أو البقاء في الأسر الحكومي الآخر، وهو السجن أو الصمت. فمنذ أن أصبحت الثقافة والإعلام أجهزة ومؤسسات تابعة للدولة لم يعُد بمقدور المثقف والإعلامي إلا أن يختار بين الطريقين؛ إما الطريق الثالث، وهو العمل في الخارج، فإن البعض يرفضه ومن حقه البقاء في مصر. وما دام غير قادر على الصمت أو النضال فإن العمل الحكومي قدَره. لذلك كان التناقض بين الإبداع والوظيفة أليمًا، وبين الحرية والصمت أكثر إيلامًا ومن ثَم كان التأييد الذي يرادف البقاء في المنصب وليس الصمت الذي يرادف الجوع أو السجن أو المستشفى العقلي أو المنفى. ألا يتسبب ذلك الاختيار الكابوسي في انفجارات المخ والموت فجأة؟
-
الثالث هو عذاب الضمير الذي لم يمُت، فالكاتب أو الفنان لا يمارس عمله سرًّا، وبالتالي فما آمن به وعانى بسببه أحيانًا في الماضي، يتعرض الآن لسخرية الأقدار والبشر. فليس هناك كاتب مصري واحد نادى بالصلح مع العدو أو بالتنازل عن القضية الفلسطينية، طيلة الثلاثين عامًا السابقة على زيارة السادات للقدس المحتلة. لقد كافحت غالبيتهم العظمى عن قناعة راسخة ضد الاحتلال الصهيوني سواء كانوا يمينًا أو وسطًا أو يسارًا. والقلة القليلة التي انشغلت عن هذه القضية لم يخطر ببالها يومًا أن تتورط فجأة في انحياز لإسرائيل وضد العرب. إن الصراع العربي الإسرائيلي أكبر بما لا يقاس من مجرد «تأييد رئيس» بل يحتاج لقناعات فكرية وسياسية وطنية قومية راسخة. وما حدث لهؤلاء المؤيدين أنهم لم يبتدعوا فكرة الصلح ولا نادوا بها ولا تحمسوا لها ذات يوم، وكل ما في الأمر أنهم أيدوا قرارًا سياسيًّا لرئيس الجمهورية. وليس هذا من الفكر أو الإبداع أو الغريزة الوطنية والقومية في شيء، ولو لم يُقدِم الرئيس على خطواته لما كانت هناك قضية أصلًا. لذلك كان عذاب الضمير محتومًا لدى بعض مَن لم تمُت بين جوانحهم ذبالته. ألا يعبر هذا العذاب عن نفسه أحيانًا بالموت فجأة؟
وإذا كان اليأس يقتل بعض الشرفاء احتجاجًا داميًا على ما يجري، فإن عدم القدرة الداخلية العميقة على التكيف لدى بعض المؤيدين تقتل هي الأخرى. إنه الاحتجاج الأكثر ضراوة، فمن الطبيعي أن يقتل النظام اليائسين منه، ولكن المأساة الأعمق أنه يقتل الذين يؤيدونه أيضًا، ولو بتحفُّظ داخلي لا يسمع عنه أحد.
كانوا يستطيعون الرفض بالاستقالة أو الصمت. نعم، فهم جزء من النظام يشاركونه المسئولية في قتل أنفسهم، ولكنه يبقى المسئول الأكبر في الحالين عن الموت فجأة.
الإفادة الرابعة
انقلبت السيارة التي كانت تقل داخلها ثمانية ركاب، نجًا سبعة من بينهم السائق نفسه ومات شخص واحد.
حادث عادي؟ ربما يقع كل يوم في الطريق الزراعي من القاهرة إلى الإسكندرية، أو على حوافي الجبل والصحراء في الصعيد.
حادث عادي، يصلح بداية لقصة قصيرة؟ ممكن، إذا بدأ المحقق أو الكاتب يسأل الركاب السبعة مَن هم، ومن أين جاءوا، وإلى أين ذاهبون. وأيضًا إذا تناول من سترة القتيل بطاقته الشخصية (الهوية) وقرأ:
الاسم: يحيى طاهر عبد الله.
وبالتأكيد، لن يهتم المحقق والشرطة والجمهور المزدحم حول الجثمان الممدد لشاب نحيل أسمر، ببقية معلومات الهوية. فالقتيل كما يبدو من ثيابه ليس من ذوي الشأن، ولا من النجوم. شاب صعيدي من الكرنك، ربما كان موظفًا صغيرًا أو عاملًا في متجر أو فلاحًا يرتدي ثياب الأفندية في المدينة.
وأقصى ما يمكن حدوثه، هو أن يحاول السائق المسكين أن يبرر خطأه، بهزال السيارة والطريق غير المعبَّد وزيادة عدد الركاب. وسيحاول الركاب البحث عن وسيلة مواصلات أخرى ينسون فيها الجثمان الممدد والموت الذي كان يحدِّق بهم، وشكر الله على «النجاة». أما المحقق فسوف يحيل القضية، برمتها إلى محكمة الجنح، لأن القتل الخطأ لم يكُن متعمدًا ولا مع سبق الإصرار والترصد.
ولن يقرأ الناس اسم يحيى طاهر عبد الله في صفحة الوفيات بالأهرام، العامرة بألقاب الراحلين من البكوات والباشوات حتى لنظن أن «المرحومين» والمغفور لهم، قد انتقلوا إلى الرفيق الأعلى منذ ثلاثين عامًا، وأننا نقلب أعدادًا قديمة من الصحيفة العريقة.
ولكننا نُفاجأ بأحد النجوم، يوسف إدريس، يكتب في الصحيفة ذاتها عن «النجم الذي هوى» وإذا به ليس جنرالًا ولا ممثلًا مشهورًا ولا كاتبًا مرموقًا في الصالونات وصفحات المجتمع، بل هو يحيى الطاهر عبد الله، ذلك الراكب الثامن الذي مات في حادث سيارة فلم يسمع بوفاته أحد ولم يتلقَّ فيه العزاء سوى مجموعة من الصعايدة على باب مقبرة مجانية وجدوا له فيها مكانًا بشق النفس وشق الجيب عن جنيهات معدودة أعطوها لسكان المقبرة من الأحياء!
بعد كلمات النجم اللامع يوسف إدريس في صفحات الجريدة اللامعة — الأهرام — انقلبت الدنيا، فجأةً. ولو كان الركاب السبعة يقرءون وليسوا من الثمانين في المائة الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، لتوجهوا في مظاهرة إلى الصحافة والإذاعة والتليفزيون ليقولوا: نحن الذين عرفناه وعايشناه في ساعاته الأخيرة حتى مات. كان واحدًا منا. يتكلم بلهجتنا. يأكل مثلنا. يضحك ويبكي كالأطفال. طيب القلب طاهر العين يحب الأطفال. يحكي لهم ولنا أشياء مدهشة. نعرفها ولكنه حكاها بلسان عذب جعل لها معنًى آخر في نفوسنا. كنا معه نحلم الحقائق ونحقق الأحلام بطريقة سرية كالسحر. لما نزف أنفه دمًا قليلًا لم نصدق أنه وحده الذي مات. قالت إحدى نسائنا بهمهمة ملتاعة إنه ابن موت، ولطمت أخرى دون أن يراها أحد. والله الموت بيختار.
ولكن الركاب السبعة لم يذهبوا إلى الصحافة والإذاعة والتليفزيون، فهم لم يقرءوا أصلًا كلمات يوسف إدريس، رغم أنهم أول مَن عرف الخبر. بعدئذٍ، أصبح يحيى الطاهر عبد الله خبرًا وصورة، في الصحف والإذاعات العربية. قبل ذلك لم يكتب عنه أحد حرفًا، بموته اكتشفوه. بموته نجا من الصمت. كان الراكب الوحيد الذي تحققت له النجاة بالموت.
كانت آخر كلماته التي لم يتح له أن يقرأها، وقد نشرتها إحدى المجلات منذ شهر:
– أنا المطارد المطرود من الطبيعة … من البشر … العدائي في مواجهة الأشياء لأنه يرفض أن يتشيَّأ.
هل كان المحقق يستطيع أن يقرأ هذا التعريف، في الهوية التي عثر عليها برفقة الجثمان؟ بل هل اكتشف أحد من «النجوم» الذين كانوا يعرفونه، هذا التعريف قبل نجاته منهم بالموت؟
ويقول: «فرحي النهائي والعرس الأخير هو الثورة وتحرُّك الشعب الراقد.»
فهل مات اختناقًا بدخان اليأس المنتشر بطول وعرض الوطن، وهل «رأى» رقدة الشعب ستطول؟
يجيب: «إنني الآن بعد موت أبي وموت ابني محمد، سأكتب أشياء أعتقد أنها ستكون كبيرة.» فهل كتب بموته، هذه الأشياء؟
ربما لن يذكر التاريخ الأدبي أن حادث انقلاب السيارة وموت يحيى الطاهر عبد الله، كان أكبر الإبداعات في حياته. ولكن هذا التاريخ إذا استوعب الزمن في مجراه المتدفق، كماضٍ وحاضر ومستقبل، فسيرى أن «المحقق» في حادث السيارة قد أمضى ليلته في أرق التداعيات: لماذا بدأ المسلسل، طيلة هذه السنوات العشر، بأن يختفي أبناء هذا الجيل الأدبي والفني الجديد على نحو غير متوقع؟ ثروت فخري الفنان التشكيلي الثائر على قيود كلية الفنون يقول لزملائه في الأتيليه: سأموت غدًا. ويضحك الجميع. أما هو فيذهب ويتناول سيانور البوتاسيوم ويموت قبل أن يكمل الخامسة والعشرين، وبعد أن افتتح معرضه الموهوب بلوحاته الرائعة. أحمد عبيدة الشاعر الشعبي الذي يدخل السجن في انتفاضة الشعب الكبرى، وحين يفرجون عنه يتوجه إلى بيته المتواضع ويجمع شعره وكل محتويات مكتبته فيُشعل فيها النيران ثم يتقدم إلى اللهب بقدم ثابتة ويحترق وهو دون الثلاثين. نجيب سرور في سن النضج بعد أن تجاوز الأربعين، وأحد أبرز علامات المسرح والشعر والنقد، يمشي في الشوارع حافيًا حاملًا طفله مستعطيًا المارة الذين يعرفونه والذين لا يعرفونه. لم يكُن محتاجًا، بل محتجًّا، فقالوا إنه مجنون، وقال لأصدقائه سأذهب إلى أخي الذي خاصمته منذ خمسة عشر عامًا، وذهب إلى دمنهور وصافح أخاه، ومات.
والمسلسل لا ينتهي، كما سيقول المحقق لزوجته في تلك الليلة المسهدة، لا للتاريخ ولا للدولة … فها هو ذا يحيى الطاهر عبد الله يموت وحده في انقلاب سيارة لا يعرف سائقها شيئًا عن الركاب الذين معه سوى أنهم جميعًا من الفقراء المطحونين، وأن أحدهم مات كغيره من الفقراء الذين لا يدري بهم أحد، فموته لا يعني شيئًا أكثر ولا أقل.
لا يعرف السائق المسكين أن هذا الراكب الثامن ربما أراد كبقية رفاقه أن يموت، وأنه بهذا الموت كتب الأشياء الكبيرة، التي أكد قبل رحيله أنه سيكتبها. وأنه بذلك ربما كان الناجي الوحيد بين «الركاب الأحياء».
قصة لم تخطر على بال سعد الدين وهبة حين كتب مسرحية «سكة السلامة» فحاصر ركابه في أوتوبيس تعطَّل بين القاهرة والإسكندرية في جوف الصحراء. وحين أقبلت سيارة تطوَّعَ صاحبُها أن يأخذ معه راكبًا واحدًا فقط، وضع المؤلف جميع الركاب على المشرحة ليكشف لنا ادعاءاتهم وكذبهم وعهرهم، فكلٌّ منهم يرى أنه الأحق بأن يكون الناجي الوحيد من الموت جوعًا وعطشًا. ولكن التحقيق الذي أجراه السائق مع كلٍّ منهم على انفراد عرَّاهم جميعًا من الثياب الأخلاقية والاجتماعية المزيفة. كان سعد وهبة يقول قبل الهزيمة بعامين إن سكة الندامة — لا السلامة — هي التي نمضي خلالها ولا منجاة فيها لأحد.
قصة لم تخطر على بال نجيب محفوظ حين كتب روايته «ثرثرة فوق النيل» فحاصر أهل العوامة الراسية على شاطئ النيل. وحين أراد الجميع أن يخرجوا في «نزهة» وقعت الجريمة التي تنصَّل منها الجميع، جريمة اكتساح السيارة المخمورة لأحد العابرين، فكان الهلاك من نصيب الكل، قبل أن تقع الهزيمة بعام واحد.
تلك كانت النبوءة التي سقط فيها ومعها الجيل السابق من أدباء مصر، أما جيل يحيى الطاهر عبد الله فقد رأى ما هو أعمق وأكثر شمولًا. لذلك لم يسقط في أوحال الأمر الواقع، الممتد عن الهزيمة، لأنه في الأصل لم يكن من أهل البيت — أوتوبيس وهبة أو عوامة محفوظ — حين سقط. كان يبحث ويبني بيتًا جديدًا. كان الجيل كله من فقراء الفلاحين والأحياء الشعبية في المدينة. لم يكُن واحد منهم في منصب رفيع قبل الهزيمة أو بعدها. كانوا شركاء الانتفاضة على الهزيمة عام ١٩٦٨م، وكانوا المبدعين الجدد لفن وأدب جديدَين منذ أواسط الستينيات. كَوَتهم الهزيمة، ولكنهم لم يكونوا جزءًا منها. كانوا أبناء «المقاومة» من قبل أن يقع انقلاب ۱۹۷۱م. وحين وقع كانوا في طليعة المقاومين إلى اليوم.
وكان يحيى الطاهر عبد الله أكثر أبناء جيله صمتًا وبعدًا عن الأضواء. كان يكتب ويحفظ قصصه ليحكيها للآلاف ممَّن لا يقرءون. يقول في كلماته الوداعية الأخيرة: «أنا لا أعتقد أن مخاطبة المثقفين مسألة ذات وزن، بل هناك مثقفون يخدمون باستمرار الوضع القائم عن طريق «الرطن» بلغة البروليتاريا واستثمار الفكر اليساري.» لذلك تميزت أعماله المروية أو المكتوبة بنكهة فريدة لا تُضاهى، في اختيار الموضوع والمفردات وتركيب الفقرات، بحيث جاءت طليعيتها بعيدة كل البعد عن التأثر «بمودات» الغرب.
ولعله في هذا السياق، كان أشجع النقاد، حين ضرب مثلين متناقضين على رؤية الإنسان المصري لدى غيره من الكتاب. يقول بصراحته المعهودة «ينشغل كاتب مثل جمال الغيطاني بالصفوة، بالطبقة المسيطرة، فيقول إنها المماليك وإننا نحيا في عصر المماليك الذين يتصارعون ونحن نعاني. وهذه الطبقة المسيطرة ليست موضوعي ولا أراها. كاتب آخر مثل إحسان عبد القدوس يرى (نادي الجزيرة) وبناته وحياتهن بما فيها من رغبة في التحرر وأيضًا الثورة على الواقع الاجتماعي من وجهة نظرهن … أما أنا فأتكلم عن ذلك المتخلف اللاواعي غير المدرك المستلب، وأتكلم عن عراكه من أجل الحياة وعشقه للإنسانية ورغبته في تحقيق إنسانيته. ثمة مسافة واسعة جدًّا بين أشخاص هؤلاء الكتاب في قصصهم وبين الواقع. وهذه المسافة ضرورية لكي يكونوا كتابًا. لذا أنا أنفي كوني كاتبًا أو مؤلفًا. الآخرون يحيون الشخوص القائمة في القواميس والروايات التي سبقتهم ويضيفون إليها. أما الواقع الحي بإنسانه وبطبيعته وأشيائه ووجه تفرده، كل هذا غير موجود لديهم.»
تلك هي البصيرة النافذة المتوهجة في حياة يحيى الطاهر عبد الله وأدبه، في عشرات القصص القصيرة التي كتبها والمئات التي لم يكتبها، في رؤيته الملحمية بروايتيه والطقوس الجنائزية التي نحت بها معماره الفني على نحو يجعل «الشكل» تابعًا له وليس العكس.
دخل السجون والمعتقلات ولم ينحنِ. ظلَّ فقيرًا لا يجد أحيانًا المكان الذي يبيت فيه ولم ينحنِ. بقي بعيدًا عن لمعان الشهرة يكتب في الصمت ولم ينحنِ. لم ينحنِ للسلطة ولا للمجتمع ولا للنقد والإعلام. وفي قصصه كما في حياته، كان يترصد الموت، ولم يكن الموت هو الذي يترصده. لذلك حين لاقاه الموت منذ أسابيع واجهه دون أن ينحني. بل لعله كان الناجي الوحيد من أوتوبيس وهبة وعوامة محفوظ ومن السيارة التي انقلبت قبل موته في الحقيقة، بأكثر من عشر سنوات.