المثقف والغابة
لا أعرف فيمَ كان يفكر عبد الوهاب الكيالي حين انطلقت الرصاصة إلى «رأسه»، ولكن الشيء الوحيد المؤكد أنه لم يكُن يفكر لحظتها في هذه «الرصاصة».
ولو أنه فكر فيها لكان الطريق إلى مكتبه صفوفًا من حملة الرشاشات والبنادق والمسدسات، وربما كانت هناك دبابة أو مصفحة تحرس البناية كلها التي يقيم فيها.
ولكنه، لآخر نسمة في حياته، لم يتخيل قطُّ، أنه محتاج لهذه «المظاهرة المسلحة».
لأنه، ببساطة، كان قد اختار طيلة السنوات السبع الماضية، أن يبتعد تمامًا عن العمل السياسي المسلح في الغابة اللبنانية.
لم يعُد أمينًا عامًّا لجبهة التحرير العربية.
لم يعُد عضوًا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لم يعُد عضوًا بالقيادة القومية لحزب البعث.
كان الرجل مع بداية الحرب اللبنانية ذا بصيرة بعيدة كزرقاء اليمامة، فرأى ما لم يرَه غيره، واتخذ «موقفًا» من كل ما سيجري ولا يراه الآخرون.
وربما …
ربما، وقتها شبع نقدًا وإدانة لهذا «الموقف». ربما وصفوه بالهارب من المعركة، وربما أكثر!
ولكن الأمور كانت واضحة أمامه بجلاء، كشريط سينمائي للمستقبل، فاتخذ موقفه بشجاعة رغم أنف الأقاويل ولم يتراجع.
كان قد اتخذ قرارًا استراتيجيًّا في حياته أقرب إلى المغامرة.
وحين كانت تمر الأيام والأسابيع والشهور والسنون ويرى ما سبق أن تنبأ به يتحقق، كان قلبه ينشطر نصفين: الأول هو الحزن على ما يجري لوطنه من فوضى دموية كالكابوس لا علاقة لها بأية حروب أو ثورات عرفها التاريخ، بل هي إيجاز مروع لفوضى التخلف والتجزئة وفقدان الوعي وغير ذلك من أوبئة تراكمت خلال السنوات وانفجرت بجسد الأمة العربية فجأة، وتكاد تعصف بروحها.
كان حزينًا إذن، لأن نبوءته تحققت. وكان مرتاحًا في نفس الوقت أنه في مواجهة المأساة اختار الطريق المضاد لليأس. كان مرتاحًا أنه لم يشارك في هذه «الحرب القذرة» وأن نقطة دم واحدة لم تلوث يده أو ضميره، وأنه «انسحب» في الوقت المناسب.
… وأنه «اختار».
اختار أن يتوجه إلى «الجذور».
واختار أن يتوجه إلى «الزهور».
اختار أن يشارك في إعادة تأسيس العقل العربي، أن ينبش أمراضه الدفينة، أن يرجع إلى أصول الفكر العربي والإسلامي والإنساني العالمي، فشيد المؤسسة العربية للدراسات والنشر، التي عُنيت أولًا وأخيرًا بدوائر المعارف المتخصصة في الفكر السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي … إلخ، والتي عُنيت بإحياء فكر النهضة العربية الحديثة، من رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده والأفغاني والكواكبي إلى علي عبد الرازق، والتي عُنيت بتقديم الرموز الكبيرة في مسيرة الفكر العالمي، والتي عُنيت بتقديم الفكر والأدب العربي الحديث في مختلف مجالاته وتياراته وأجياله.
كانت ولا تزال وزارة ثقافة عربية كاملة، تفضل جميع وزارات الثقافة العربية مجتمعة وعنها تصدر مجلته الرصينة «قضايا عربية» وإلى جانبها «مركز العالم الثالث، للأبحاث في لندن».
ذلك كان اختياره في التوجه نحو «الجذور» الاستراتيجية مبتعدًا عن القشور السطحية والصراعات الفوقية الهامشية والمنشورات السريعة الزوال.
كان قد توجه إلى تربية العقل العربي، أصل الأصول ومسألة المسائل، وكأنه يختزل «عصر تنوير» كاملًا.
وكان قد اختار التوجه — بهذه المؤسسات الفكرية العملاقة — إلى الزهور، إلى الأجيال العربية الجديدة العطشى إلى الثقافة الحقيقية الأصيلة، فلا تجدها في المدارس ولا في الجامعات ولا في دور النشر التجارية اللاهثة وراء «الدين» في المجلدات الصفراء ووراء «الجنس» في علب الليل المنثورة على هيئة كتب ومجلات، وبذلك كانت مؤسساته ولا تزال تقوم بواجبات وزارات قومية عربية غير موجودة للإعلام والتربية والتعليم العالي.
كان قد اختار الزهور، لأنه آمن بالمستقبل، لأنه لم يفقد «الأمل». وكان يعرف أن معركة الفكر هي أطول المعارك، ولكن ربحها القومي، مؤكد.
كان يستطيع بعد «الانسحاب» من الحرب السوداء، أن يعيش في أية عاصمة بالعالم لا يحتاج حتى للتدريس في جامعة، ولا لتأليف الكتب. كان يستطيع أن يضع نقوده في أي بنك، ويعيش من فوائدها في الريف البريطاني أو الفرنسي أو السويسري. وكان يستطيع أن يستثمرها في أي شكل من أشكال التجارة «الشرعية».
ولكنه لم يفعل.
لأنه مقاتل عربي ثوري حقيقي.
فهو عندما انسحب من الدائرة الجهنمية، كان قد انسحب من … التلوث، إلى الميدان الحقيقي المؤهل له، إلى القتال الحقيقي المرشح له. كان قد أراد أن يظل مناضلًا قوميًّا فاختار الطريق الأصعب.
وهو الطريق الذي لا يضر عربيًّا واحدًا من المحيط إلى الخليج، عربيًّا جديرًا بهذه الهوية عنيت.
لأنه طريق العقل، أولًا، فكل مؤسساته لا علاقة لها بغير الفكر والثقافة والفنون والآداب.
ولأنه طريق «قومي» ثانيًا، فإنتاج هذه المؤسسات كلها ينطلق من الإيمان المقدس بالأمة العربية الواحدة، بلا محاور أو إقليميات تكرسها السياسات العربية القائمة. كل الذي عناه في اختيار كتاب أو مقال أو ترجمة، أنها تخدم العرب في جملتهم والعروبة كهوية.
ولأنه طريق «ديمقراطي» ثالثًا. فمختلف التيارات والعقائد السياسية والفكرية العربية وجدت في مؤسساته منبرًا حرًّا من أي قيد سوى المستوى العلمي أو الفكري أو الفني.
لهذه الأسباب كلها، ما كان من الممكن لعبد الوهاب الكيالي أن يفكر في «الرصاصة» التي انطلقت نحو رأسه لحظة كان في مكتبه. ربما كان يقرأ مخطوطًا في تراثنا العربي أو الإسلامي، أو مشروعًا جديدًا لتوجيه الجيل العربي الجديد، أو يراجع بحثًا أو رواية أو مقالًا أو قصيدة من الشعر كتبها أديب مجهول من صعيد مصر.
لم يفكر في «الرصاصة» أبدًا.
إنه بالإضافة إلى اختياراته وإنجازاته، إنسان بلا خصومات مريرة، فشخصيته الإنسانية، كانت مجموعة من أرق المشاعر وأنبل الأحاسيس المفعمة بالود والمحبة. فكان إنسانًا وديعًا يأسر بأخلاقه العالية كل مَن يعرفه.
لم يفكر في الرصاصة أبدًا.
فهل أخطأ؟
كلا، فالمثقفون العرب جميعًا ومن دون استثناء. لا يضعون المتاريس ولا الدبابات أو المصفحات حول بيوتهم أو مكاتبهم، ولا يمنطقون حضورهم بالمسدسات والرشاشات والخناجر. إنهم الحالمون العظماء بالمدينة الفاضلة التي لا يخترقها الرصاص.
ولذلك فهم الذين يسهل قتلهم بالرصاص أو السجن أو المنفى أو الجنون أو الانتحار. أما الجديرون بالقتل بطول وعرض الأمة العربية، فلا يُعدم منهم سوى السادات، فداءً لكامب ديفيد الذي يستمر، وباستمراره يستمر اغتيال عبد الوهاب الكيالي في أسماء أخرى كثيرة.
لم يخطئ الكيالي حين لم يفكر في الرصاصة، لأن الخطأ كل الخطأ هو القول بأن هذه العاصمة العربية أو تلك هي القلعة الأخيرة أو أن غيرها — كبيروت — هو الغابة.
كلا، فالعقل العربي هو القلعة الأخيرة. أينما كان في أية عاصمة أو قرية أو زقاق عربي من المحيط إلى الخليج. والغابة أيضًا هي تلك الرقعة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، نعم. العقل العربي هو حصن الحصون. هو الحصن الأخير في بناء وطننا المتداعي، ونعم. وطننا المتداعي هذا هو الغابة الكبيرة المتوحشة السوداء.
لذلك، سنبقى يا عبد الوهاب مثلك «لا نفكر» أبدًا في الرصاصة. لحظة إطلاقها سنحاول أن نكون مثلك نفكر في المستقبل يحدونا الأمل.
لأننا جميعًا لا نملك سوى إيمانك المقدس بهذه الأمة، واختيارك الصامد لطريق نهضتها مهما دفعنا الثمن غاليًا من دمائك.
… أقصد من دمائنا.