عودة القصيدة
عاش ومات كقصيدة رومانسية. وإذا كان عبد الرحمن الخميسي قد بدأ ينشر شعره عشية الحرب العالمية الثانية، فإن ذلك يعني في البداية أنه كان قد بلغ مرحلة النضج والتكوين بين الحربين. وهي الفترة التي عرفت «اختمارًا» ظنه البعض استقرارًا. كانت معركة «الديوان» التي قادها العقاد والمازني وضحيتها الأولى شوقي، كما كانت معارك «الغربال» لميخائيل نعيمة، قد انتهت كلها إلى مجموعة من الانتصارات والهزائم في الشعر والنقد والفكر والحياة.
ولم يكُن الخميسي في أي يوم من الأيام شاعرًا بالمعنى الضيق للكلمة، ولكنه كان منغمسًا في الفكر والحياة انغماسه في الشعر، بل هما يرتبطان بمختلف مراحل سيرته ارتباطًا لا علة فيه ولا معلول ولا ارتباط السالب بالموجب، ولا هو ارتباط المحرك الأول ببقية المحركات، ذلك أن الخميسي نفسه شخصية فنية ساهم التاريخ والجغرافيا والثقافة في بنائها وصياغتها مرحلة بعد أخرى، حتى إذا بدأت هذه الشخصية تكتب الشعر وتنشره عام ١٩٣٨م كانت بصمات الزمان والمكان والوعي واضحة على قصائد ذلك الوقت الحاد من عصرنا.
كان «الاختمار» الرئيسي — وليس الاستقرار — في الشعر والنقد حينذاك هو أن الشعر صوت صاحبه، وليس صوت السلطان. أي إن للشاعر «ذاتًا» تحس وتشعر وتعبر هي «النفس» أو «الوجدان» أو «القلب» حسب المفردات الشائعة في ذلك الزمان، في معجم الشعر المهجري ومعجم الشعر العربي في مصر ولبنان على وجه الخصوص، لدى العقاد وعبد الرحمن شكري ونعيمة وخليل مطران، وأصداء ما بين الحربين في سوريا والعراق. كانت «الأنا» أو الفرد، هي الخميرة الشعرية الرئيسية، بمواجهة القبيلة والخليفة، كما كانت «وحدة القصيدة» — بالتحديد عند خليل مطران — بمواجهة وحدة البيت. ومن ثَم فقد كان من الطبيعي أن يتغير ما تواضع الأقدمون على تسميته بأغراض الشعر من مديح وهجاء وفخر ورثاء، وغير ذلك من «مناسبات» لها تقاليدها الراسخة والتي لا يجوز لشاعر المساس بها لأنها من الأعراف الاجتماعية الثابتة للقبيلة. تغير ذلك كله وأضحى «موضوع القصيدة» جزءًا لا ينفصل من حركتها النفسية ووحدتها الشعرية.
ولا بد أن الخميسي الذي تتلمذ في تلك الفترة على سلامة موسى من ناحية، وخليل مطران من ناحية أخرى، قد أدرك في صباه الناضج أن عنف النقد الموجه. إلى شوقي والمدرسة القديمة كلها، ليس نقدًا «أدبيًّا» خالصًا بالمعنى الضيق. وإنما هو صراع بين تقاليد أدبية لوضع اجتماعي مستقر يمثله على نحو رمزي شاعر الخديوي أو أمير الشعراء من جهة، ورؤية اجتماعية وحضارية جديدة وبديلة عند «الشباب» من جهة أخرى. ولذلك كانت المعركة حادة وعنيفة، لأنها لم تكُن في واقع الأمر معركة «أدبية» تمامًا، وإنما كان الأدب أحد عناصر المعركة بين القديم والجديد في الشعر والفكر والحياة جميعًا. كان «الوجدان» أو «الوجدانية» أو «الذات» أو «النفس» مجرد تعبيرات شعرية عن تغييرات اجتماعية محتدمة احتدام الصراع بين أشباه البرجوازيات العربية الصاعدة والمجتمعات شبه الإقطاعية القبلية الزراعية الرعوية النائمة في سبات عميق. إنها مرحلة «الثورات المجهضة» في المنطقة كلها، وما تلاها لم يكُن استقرارًا بل اختمارًا. وكان الفكر والشعر في طليعة الخمائر الواعدة — بين الحربين — بالحلم الليبرالي. لذلك تلألأت الفترة بين عامَي ۱۹۱۸ و۱۹۳۸م بأسماء «رواد» الثقافة العربية المعاصرة. والمقصود أنهم رواد النهضة الليبرالية العربية. النهضة التي سمحت ﺑ «الشعر الجاهلي» لطه حسين و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق و«الديوان» للعقاد والمازني و«الغربال» لميخائيل نعيمة. وهي الليبرالية في الفكر والنقد والشعر حسب المصطلح الفني الخاص بكل من هذه المجالات المختلفة. حتى «اشتراكية» سلامة موسى في ذلك الوقت، هي الفابية المعتمدة أساسًا على البرلمان وما أسماه بالتدرج والتربية والتعليم.
عشرون عامًا من الريادة الليبرالية للثقافة تمثل جيلًا شامخًا، بعد أن كانت الريادات السابقة لأفراد متناثرين بين فجوات غائرة لا يشكل أحدهم في مرحلة تاريخية كاملة «جيلًا» بل علامة. البستاني في لبنان والطهطاوي في مصر وخير الدين في تونس، ليسوا رموزًا لأجيال ريادتهم الفردية والمقطوعة الصلة أحيانًا بالنموذج الاجتماعي الواقعي، أقرب إلى البشارة والنبوءة منها إلى «الجدل الاجتماعي» كبنية ذهنية ترتبط فورًا بالمجايلة. وبالكاد، فإن رجلًا كعبد الله النديم وآخر كمحمود سامي البارودي وثالثًا كمحمد عبده يصوغون تمهيدًا عربيًّا في مصر لعصر «الإحياء». ومات «الإحياء» بسرعة أثر الهزيمة العرابية. وأقبل الحلم الليبرالي ليعيش جيلًا كاملًا، وليصنعه جيل كامل، لم يكُن ممكنًا مهما كانت العبقريات الفردية أن يتجاوز مقتضيات التاريخ الاجتماعي للشعب والثقافة.
هكذا عرفت تلك الفترة، على الصعيد السياسي، أوسع تحالف جبهوي بين أحزاب البرجوازية بشرائحها المختلفة، لعقد معاهدة التهادن مع الاستعمار عام ١٩٣٦م. وفي الوقت نفسه كان مفكرو وأدباء وشعراء البرجوازية بشرائحها المختلفة ينكصون عن تجديدهم وينتكسون عن ريادتهم وينكثون عهودهم وينكسون الرايات المختلفة للحلم الليبرالي. ومن المرجح أن الخميسي وجيله قد توقَّفا طويلًا عند هذه المطابقة بين التباين الشديد لينابيع محمد حسين هيكل وطه حسين وتوفيق الحكيم وعباس محمود العقاد وبين المصب المشترك لنهاية رحلتهم في «العودة إلى الإسلام». وبالرغم من أن كتابات هؤلاء عن الإسلام تختلف جذريًّا عن كتابات التيار السلفي إلا أن اتجاههم المفاجئ للتفرغ لهذا الموضوع في ذلك الوقت يعني في جميع الأحوال نهاية مرحلة وبداية أخرى، كما يعني «هروبًا ما، من فيض المشكلات الحية التي عرفتها بلادنا خلال سنوات الحرب كمقدمة لما هو أخطر: الأربعينيات الحاسمة.
عبد الرحمن الخميسي كغالبية أبناء جيله ينتمي إلى الطبقة الوسطى، وبالتالي فهو يرتبط على نحو ما بأفكار ومشاعر جيل طه حسين والعقاد، ولا بد أنه انتشى في صباه الباكر وهو يقرأ «الديوان» و«في الشعر الجاهلي» و«ثورة الأدب» و«زينب» و«عودة الروح». ولكن الحقيقة هي أن الخميسي قد ارتبط باثنين لم تكن لهما تلك «اللمعة الخاصة» التي كانت لطه حسين مثلًا (من اقتران المجد وفقدان البصر) أو التي كانت لهيكل (الباشا الذي كتب زينب) أو العقاد (الذي تبوأ مكانه في الطليعة بلا مؤهلات دراسية واقتحم أعلى الحصون) … إلى آخر القائمة التي لا تطول كثيرًا. لم يرتبط الخميسي بواحد من هؤلاء اللامعين «لمعة خاصة»، وإنما ارتبط باثنين من الكبار في الفكر والشعر والتواضع. وهما سلامة موسى وخليل مطران. إنهما من أبناء الجيل السابق والطبقة ذاتها، ولكنهما ابنان متمردان. تمردهما لم يتوقف عند حدود التمرد العام لطه حسين أو العقاد أو نعيمة أو جبران أو المازني. كانا، كلٌّ في ميدانه، الأكثر راديكالية. لم يكن سلامة موسى في أي وقت مفكر الطبقة العاملة المصرية، ولا كان خليل مطران رسول الحداثة في الشعر العربي. وإنما كان الأول مفكر الرومانسية الاشتراكية، إن جاز التعبير عن الشريحة البرجوازية المستنيرة بروح العلم والتحديث، وبالتالي كان سلامة موسى في ظروف بلد كمصر أكبر من كونه مجرد مفكر برجوازي ولم يصل قطُّ لأن يصبح مفكرًا ماركسيًّا، فهو أحد الاختراقات النادرة لحواجز الفكر البرجوازي المثالية، وربما كان الوحيد من مفكرينا الرواد الذي رأى طريق الخلاص فأشار إليه من بعيد دون أن يستطيع الخطو فيه. كذلك خليل مطران الذي تصدق فيه كلمات طه حسين «… وهو معتدل، فلا يرفض القديم كله وإنما يحتفظ بأصول اللغة وأساليبها في حرية، كما يتأثر القدماء في إطلاق فطرتهم على سجيتها …» وهو «يمثل شيئًا من المثل الأعلى الفني في هذا العصر ويريد أن تكون القصيدة وحدة ملتئمة الأجزاء وحسنة التأليف فيما بينها … ثم هو فوق هذا كله مقتصد يرى أن الشعر ليس خيالًا صرفًا ولا عقلًا صرفًا. وإنما هو مزاج منهما» (عن كتابه حول «حافظ وشوقي»). أما محمد مندور في «محاضراته عن خليل مطران» فيؤكد أنه «رائد المدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر» (ص۱۱). وحتى لا تضللنا كلمة «الجديدة» فإن مندور يعيد تعريفها بأنها تلك التي «تمتد في جماعة أبولو خلال أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي ومن سار على دربهما».
والسؤال الآن، لماذا ارتبط الخميسي في ذلك الوقت بهذين الرجلين، وعلى أي نحو كان هذا الارتباط، وماذا كانت نتائجه في «الشخصية الفنية» التي أبدعتها مصر باسم عبد الرحمن الخميسي؟
إنني أتذكر الآن سلامة موسى عشية رحيله، وهو على فراش المرض، وقد أعطاني يومياته، التي كانت تنشرها جريدة «الأخبار» صباح كل أحد. وكانت اليوميات غالبًا من عدة فقرات ولم تختلف يوميات هذا الأسبوع الأخير من حياة الرجل في شيء سوى أن الفقرة الأخيرة منها غير مكتملة. بعد أن قرأتها قلت لسلامة موسى هذه الملاحظة، فقال لي: أعرف، ولكني لا أقدر على الكتابة، فلتُنشر هكذا، أرجوك أن تتكرم بتوصيلها يدًا بيد. وأخذت اليوميات، وقمت بتوصيلها، وعدت إلى المستشفى. كان سلامة موسى قد مات.
ونشرت اليوميات الأخيرة كما هي صباح الأحد التالي لرحيله مباشرة. وكانت الفقرة الناقصة مثار تعليقات الجميع. وقد اختارها فيما بعد محمد مندور ضمن الكتاب الذي أصدره كمختارات من سلامة موسى وكان عنوانه «انتصارات إنسان». وكان عنوان الفقرة الناقصة وقد جاء ترتيبها في نهاية الكتاب حسب التسلسل التاريخي — «أشواق إنسان». وهو عنوان لأحد دواوين عبد الرحمن الخميسي، كان قد صدر حينذاك (١٩٥٨م) وأراد سلامة موسى أن يعلق عليه، فكان آخر ما كتب عن أحد أقرب تلاميذه إلى نفسه وقلبه وعقله. يقول في التعليق إن ديوان الخميسي «ليس به بيت واحد عن الهجاء أو المديح أو الرثاء لأحد الناس؛ إذ هو يعالج الحركات والانتفاضات. وأشخاصه تمثل هذه الحركات والانتفاضات. ومع ذلك هو يعالج موضوعًا واحدًا في الكتاب كله. هذا الموضوع هو الإنسان. إنه شاعر تغتذي نفسه ويمتلئ عقله بقضايا الشعب، فهو يغضب من الاستعمار في الجزائر أو العراق، ويفرح بنهضة الهند أو الصين، وترقص نفسه بارتقاء وطنه، كما تتمزق برؤية المظالم وانتصار البغي» (ص١١٠ من انتصارات إنسان).
ولم يكُن سلامة موسى ناقدًا أدبيًّا متخصصًا، ولكن هذه الشهادة الفكرية الرفيعة تنير لنا الطريق لفهم الخميسي وفكره ومغزى ارتباطه في وقت مبكر بسلامة موسى. لذلك فهو حين يُطرد ذات مرة — بين عديد من المرات — من الصحيفة التي يعمل بها، يقوم سلامة موسى في الصباح الباكر من اليوم التالي بزيارته. يطرق الباب ويطلب منه الإذن بالدخول وتناول طعام الإفطار معه. ويدرك الخميسي المعنى الكبير في لفتة الرجل الذي ما إن جلس حتى قال له «يا خميسي، يجب أن تعي أن صفحة واحدة من كتاباتك أنت ورفاقك أشرف ألف مرة من كل كتب فلان. لأنها صفحة مغمسة بعرق هذا الشعب وفي دم شهدائه، صفحة شريفة تدفعون ثمنها ولا تقبضون عنها سوى عذابات السجون والتشرد. ولكن المشوار طويل، ولن يخذلكم الشعب ولا التاريخ».
وحين بدأت رائحة الاعتقالات القادمة تفوح، كان الخميسي مرتبطًا بمحاضرة في قاعة فوكس (المركز الثقافي السوفييتي)، فذهب سلامة موسى سرًّا إلى مدير المركز، وهو المستشرق الكبير بولجاكوف، وطلب منه أن يستبدل الخميسي به، وإنه يلتزم بإلقاء المحاضرة في موعدها ولا ضرورة لحضور الخميسي حتى لا تكتب عنه التقارير أو يقبضون عليه، فالوقت صعب وجاء سلامة موسى فعلًا، ولكن الخميسي وصل هو الآخر. وقد ترك أستاذه يتكلم من باب الاحترام، ولكنه ما إن انتهى حتى وثب الخميسي إلى المنصة وألقي محاضرته. ولم يعرف شيئًا عن «مؤامرة» سلامة موسى حتى صارحه بها بولجاكوف بعد سنوات طويلة قائلًا له إن سلامة موسى توسل إليَّ أن يعفي الخميسي لأنه شاب ومصر بحاجة إليه هو ورفاقه «أما أنا فرجل عجوز، ماذا سيفعلون بي». ولكن من المفارقات المأسوية في تاريخ الأمن المصري أن ضباط المباحث العامة توجهوا للقبض على سلامة موسى بعد خمسة أشهر من وفاته (٤ أغسطس ١٩٥٨م).
كان ارتباط الخميسي إذن بهذا الرجل الاستثنائي، دون لمعة خاصة بين أبناء جيله، هو مقدمة ارتباطه بحركة اليسار المصري. وكما كان سلامة موسى هو الوحيد بين جيل الرواد الذي لم ينتكس إلى الوراء في رحاب التهادن، كذلك كان الخميسي هو ومحمود حسن إسماعيل بين جيل الرومانسية الشعرية اللذين لم يصطدما بحركة التجديد الثوري في الشعر. ولا أعتقد أن لهذا النموذج مثيلًا في الشعر العربي إلا في العراق، حيث الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري.
كانت سنوات الحرب المظلمة (١٩٣٩–١٩٤٥م) هي سنوات القلق الرومانسي العارم. ولكن الثورة الرومانسية في مصر توقفت عن العطاء بسرعة قياسية، إن كانت متغيرات المشهد الاجتماعي لاهثة وحاسمة معًا. وبالرغم من التكوين الرومانسي المزدوج — فكرًا وشعرًا — في شخصية الخميسي، فإن ارتباطه الأصيل بحركة الشارع الشعبي لم تجعل منه شهابًا يلمع ويخبو لمعان «أبولو» وانطفائها، وإنما دفعته إلى أحضان الانتماء الحر والالتزام العفوي بمصير الوطن والشعب. نعم، لقد استفاد من سلامة موسى معنى «الأدب للشعب»، نعم، لقد استفاد من خليل مطران معنى «الوحدة العضوية» للقصيدة، ولكنه استفاد منهما قبل ذلك وبعده الرؤية الشاملة من ناحية، واستمرارية التطور من ناحية أخرى. لذلك كان من الطبيعي أن يتجاوز «اشتراكية» سلامة موسى و«تجديد» خليل مطران. يتجاوزهما في النوعية والتركيب والسياق.
هكذا تكونت شخصية الخميسي الفنية مرحلة بعد أخرى. هو المناضل السياسي حقًّا ولكنه كاتب القصة والشاعر والمسرحي والسينمائي أيضًا: هو الصحفي والمعتقل والأب والزوج والعاشق والصديق والخصم والساخر والباكي الحزين المتشرد. هو كل ذلك مجتمعًا دون تنسيق ولا سابق تصميم. أدبه ونضاله وشعره ومسرحه وصحافته وأفلامه وموسيقاه، كلها لا تغني عنه، بل تدل عليه فقط، فشخصية الإنسانية هي قصيدته الأولى وقصته الأولى ومسرحيته الأولى ومقاله الأول ولحنه الأول، وفيلمه الأول. والخميسي يبرهن على عكس الشائع، فالعمل الأول للفنان في العادة ليس أعظم أعماله، ولكن الخميسي صاغ من شخصيته الإنسانية العمل الفني الأول والأعظم من كل صياغاته الأخرى.
وربما لأنه أودع في هذه الشخصية كنوزه الحياتية كلها من تجارب وإخفاقات ونجاحات وأسرار وخطايا وعذابات وضحكات وأشجان، فإن هذه الشخصية قد ابتلعت حقوق غيرها من أشكال الأدب والفن. إن ما تركه الخميسي من قصص وقصائد ومقالات سيكون مجرد صور قديمة أو جريدة ﻟ «الأصل» البديع الذي جسدته شخصيته الفنية.
وهي الشخصية التي سيتوقف عندها المؤرخون والنقاد طويلًا بصفتها المركبة «الفن والفنان» معًا. إنها الصفة الأولى التي تتمتع بها قلة نادرة ممن تستحيل معرفتهم الكاملة بغير التعرف المباشر على شخصيتهم الإنسانية حيث لا ينفصل الفكر عن السلوك ولا الشعور عن النطق.
والصفة الثانية في حياة الخميسي وفنه هي ارتباطه بلا مساومة ذلك الارتباط المصيري بحركة التقدم المصري والعربي والعالمي. ينقد الخميسي هذا القائد أو ذاك، هذا الحزب أو ذاك، وهذا الكتاب أو ذاك، من القادة والأحزاب والكتب التقدمية ولكن ارتباطه النهائي بالتقدم كمجيئه إلى هذه الدنيا، لا يحتاج إلى تأكيد ولا يتعرض لأية تنازلات.
والصفة الثالثة هي الشجاعة التي لا تعني درجة التحمل العضوي أو النفسي فقط، بل تعني القدرة الفائقة على اتخاذ القرار الصعب وتحمل مسئوليته. إنه نوع من الشجاعة يتطلب مواجهة قاسية مع النفس وأحيانًا مع أقرب المقربين فضلًا عن الطغاة والظالمين. وكل مَن يعرف بعض سيرة الخميسي يدرك أنه في مواجهة السلطة، أيًّا كان نوعها بدءًا من سلطة الحكم إلى سلطة الرأي العام، مرورًا بسلطة الموروث، هو رجل شجاع سجنوه وشردوه في كل العهود، ولكنه لم ينحنِ قطُّ. كان المعتقل كالتشرد كالمنفى أكثر حنانًا، وظلَّت الغربة أكثر دفئًا في حياة الخميسي من المواقع والمناصب والأموال التي كان يمكن أن يحصل عليها من «كبار القوم» والحكام الذين كان بعضهم من أصدقائه الشخصيين.
لقد وجد نفسه، وهو الرجل الذي كافح ضد العهد الملكي، في الزنزانة بعد قيام الثورة بعامين فقط (١٩٥٤م)، ثم وجد نفسه مطرودًا من جريدة «الجمهورية» (١٩٥٨م)، وبعد سبع سنوات وجد نفسه منقولًا من الصحافة إلى أحد فروع باتا لبيع الأحذية (١٩٦٥م). وبعد ثماني سنوات (۱۹۷۳م) طُرد من جديد، ولم يكُن قد عاد إلا قبل قليل.
وها هو ذا يعود إلى أرض مصر بعد طول اغتراب، تعود القصيدة وإن غاب الشاعر. ولا بد من أن صاحب هذه الشخصية المتميزة قد حل في إنتاجه الرئيسي — وهو الشعر — حلولًا يستوجب نظرة أخرى.
كان من الطبيعي أن تنعكس شخصية الخميسي على إنتاجه الفني الرئيسي، وهو الشعر، وأقول «الإنتاج الفني الرئيسي» بالرغم من ملاحظتين: الأولى هي أنه مارسَ وباقتدار أحيانًا ألوانًا أخرى من الفنون قديري غيري أنها من إنتاجه الرئيسي حتى ولو لم يبدع فيها على صعيد الكم شيئًا كثيرًا. وردي في هذه النقطة أنه كان في المسرح والسينما والقصة والمقال السياسي وحتى العمل السياسي، شاعرًا أولًا وقبل كل شيء. إن دوره الصغير في فيلم «الأرض» لن تنساه الذاكرة، كمعارضته السياسية لأكثر من عهد، كلاهما قصيدة من الشعر الخالص.
والملاحظة الثانية هي أنه كان مسرفًا في الإقلال من كتابة الشعر، وإذا كتبه فهو مسرف في حجبه عن النشر، وإذا نشره فهو مسرف في عدم الاحتفاظ به ونسيانه.
هل يعني ذلك جانبًا عدميًّا خفيًّا في حياة الخميسي؛ إذ لا يؤمن بالخلود؟ أم يعني أنه يشك شكًّا عميقًا وإن يكُن لا واعيًا بجدوى الشعر، وربما الثقافة عمومًا؟ أم إنه يرى «لكل يوم شعره» وبعبارة أخرى كأني به يرددها كالصلاة «شعرنا كفافنا أعطنا اليوم»؟ أم إن الخميسي رجل لم يحترف في حياته سوى الحياة، وبالتالي فالشعر وغيره مجرد تجليات لهذه الحياة وليست احترافًا بحد ذاتها؟
وما أكثر الأسئلة التي ستواجه النقد والتاريخ الأدبي، وبالذات نقد الشعر وتاريخه، حين نتصدى لشعر الخميسي.
إننا سنصادف الرومانسية مثلًا كامنة في مختلف مراحل تطوره وفي كافة أغراض كتابة الشعر، دون أن يعني ذلك أن الخميسي ظلَّ كما كان في البدء شاعرًا رومانسيًّا. والواقع أنه تخلى عن رومانسية أبولو أو بالأحرى تخلى عن «المدرسة الرومانسية». ولكن التكوين الشخصي للخميسي يشتمل على عنصر رومانسي، وليس هو العنصر الحاسم، ولكنه أحد عناصر بنائه الإنساني. وهو بالتالي عنصر دائم غير أنه أيضًا دائم التحول حسب هوية وأوضاع بقية العناصر النفسية والفكرية الثابتة والطارئة على هذا البناء الإنساني. ومن ثَم فإن هذا العنصر الرومانسي يبرز لا في أغاني الحب وأناشيد الهوى فقط، وإنما في مراثي الشهداء وأفراح الانتصارات أيضًا قد تبقى في «الرومانسية الجديدة» كما في «ديوان الحب» الذي نظمه في النصف الثاني من ١٩٦٩م، رواسب الرومانسية القديمة التي نطالع قسماتها الجلية في قصيدة «في الليل» التي كتبها عام ١٩٣٨م كالاغتراب والفقدان والهجران، وكالطبيعة والألم والموت. ولكن الخميسي يوظف العناصر القديمة توظيفًا جديدًا لا علاقة له بالمناجاة أو الحلم، وإنما هو يستبدلها بالدراما والحضور والتجسيد. وهذا التوظيف الجديد هو ثمرة المعاناة الجديدة للتجربة الحية وليس نتاجًا لأفكار نظرية مجردة. ومن هنا فنحن نستمتع برومانسيته القديمة على حدة والرومانسية الجديدة على حدة، دون أية مقارنة بينهما.
والخميسي شاعر حُر بكل معنى الكلمة. ولا أقصد هنا أي انتساب إلى «الشعر الحر» كما كان يوصف خطأً شعر التفعيلة الواحدة. وإنما هو شاعر حر بمعنى أنه لا يتقيد بمودات الأزمنة المتعاقبة، إنه مثلًا يعشق القافية عشقًا غامرًا بالانفعال. وحتى يكتب قصيدته الرائعة «يا مصر» عام ١٩٤٥م وكأنها الفاصل بين عهدَين من الوعي، فإنه لا يتخلى عن القافية التي يستدرج بها الإيقاعات العصية، ولكنه يتلاعب بحرف الروي حتى تنسجم هذه الإيقاعات مع المخيلة الصوتية التي تصوغ الانفعال حركة حركة حتى يبلغ إلى أن الذروة دون علة أو زحاف. وسوف نلاحظ هذه «الحرية» في أكثر الأشكال الشعرية احتياجًا «للانضباط» وهي الرباعيات. هنا صرامة الوزن وفقًا للبحر والقافية وحرف الروي، ولكن النغم ينساب من البيت إلى الذي يليه وفقًا لمنطق الرباعية ذاتها ومن داخلها لا «تطبيقًا» لمقاييس الخليل بن أحمد الفراهيدي. وفي هذه الرباعيات يضفر الخميسي الموال الشعبي بالملحمة باحثًا عن شكل جديد لا علاقة له بالربابة ولا بالأوركسترا السيمفوني. هنا قلق الشكل والمضمون والموضوع والصور والموسيقى. قلق الشعر والوجود، وكأننا على أبواب مرحلة جديدة كليًّا في حياة الخميسي وفنه. والحق أن الرباعيات لم تنتهِ على النحو الذي طالعنا في المجلد الضخم «مصر الحب والثورة» فلعلنا ما نزال أسرى التوقع والانتظار الخصب، لا انتظار جودو. أي إن الشاعر أقلقنا معه حتى لا يبقى وحيدًا مع القلق.
لذلك فالخميسي كان شاعرًا «شموليًّا» إن جاز التعبير، في بنائه الشعري. ومن ثَم فإننا لا نستطيع أن نصنف شعره بين الأسوار الحديدية لإحدى المدارس الفنية، فهو يجمع أحيانًا بين الكلاسيكية والرومانسية والرمزية في قصيدة واحدة أو في ديوان واحد أو في إنتاج مرحلة تاريخية واحدة. هذا المزيج لا يخضع لمعايير مسبقة على الكتابة الشعرية، وإنما يتحقق أثناءها. ومن ثَم فقد تخدعنا القافية في «تاج الملكة تيتي شيري» (۱۹۷۹م) ونظن أننا بإزاء قصيدة كلاسيكية تمامًا حين نواجه منذ البداية هذا «الخطاب» الموجه من الذات إلى الموضوع عبر الوسائط الدرامية السابقة على الرومانسية. وقد نظن فعلًا أننا بإزاء قصيدة رومانسية بسبب هذا التركيز على الطبيعة والتاريخ، أو قد تظن أننا برفقة قصيدة «حديثة» انعتقت من وحدة البيت الكلاسيكية ودخلت في رحاب وحدة التفعيلة واتخذت من الرموز الشفافة أداتها التعبيرية الأولى في تجسيد الحزن على مصر مما جرى لها وقت كتابة القصيدة، وتجسيم «رؤيا النصر» في خاتمة المطاف.
والحقيقة هي أن الخميسي في هذه القصيدة كما في غيرها يجمع بين مختلف أدوات التعبير التي تنتمي مدرسيًّا إلى اتجاهات مختلفة حسب الحركة النفسية داخل القصيدة وحسب تطوراتها الدرامية، تأخذ من هنا وهناك ما يثمر في النهاية قصيدة «خميسية» لا تشبه غير نفسها أو لا تشبه غير الخميسي.
ومن يقرأ «أبو القاسم الجزائري» التي كتبها عام ١٩٥٧م أو «ذكرى مصطفى كامل» أو «حمزاتوف» يكتشف القاسم المشترك بين هذه الشخصيات الشعرية وغيرها من المدن: القاهرة، الجزائر، بغداد، يافا، هافانا، فهي كذلك شخصيات شعرية شأنها شأن «هي» أو «هذه» أو «تلك» من بطلات الحب في حياته، فالحب والثورة عند الخميسي ليسا من المعاني المجردة وإنما شخصيات حارة من لحم ودم تجري في عروقها دماء الشخصية الحاضرة دومًا: وهي الخميسي نفسه، الشاعر والمناضل والإنسان.