من مولده إلى ذهابه إلى الشام
وقد أجمع من رووا أخبار المتنبي على أنه وُلد في هذا المكان وهذا التاريخ.
ولا نعرف من نشأته إلا نتفًا قليلة، روى صاحب الإيضاح أنه «اختلف إلى كتَّاب فيه أولاد أشراف العلويين فكان يتعلم دروس العربية شعرًا ولغة وإعرابًا فنشأ في خير حاضرة.»
وكان يختلف إلى الوراقين ليفيد من كتبهم وقد لفت الناس إليه بذكائه وحفظه. روى الخطيب عن التنوخي عن أبي الحسن محمد بن يحيى العلوي الزيدي: أنه نشأ محبًّا للعلم والأدب، وأنه تعلم القراءة والكتابة ولزم الأدباء والعلماء.
قال: «وأكثر ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم، فأخبرني ورَّاق كان يجلس إليه، يومًا قال لي: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان قط، فقلت له: كيف؟ فقال: كان اليوم عندي وقد أحضر رجل كتابًا من كتب الأصمعي (سماه الوراق وأنسيه أبو الحسن) يكون نحو ثلاثين ورقة ليبيعه، قال فأخذ ينظر فيه طويلًا فقال له الرجل: يا هذا أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت تريد حفظه في هذه المدة فبعيد؛ فقال له: إن كنت حفظته فما لي عليك؟ قال: أهب لك الكتاب. قال: فأخذت الدفتر من يده فأقبل يتلوه إلى آخره ثم استلبه فجعله في كمه وقام، فعلق به صاحبه وطالبه بالثمن، فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبته لي، قال: فمنعناه منه وقلنا له: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام، فتركه عليه.»
وفي الإيضاح أن أبا الطيب «كان في صغره وقع إلى واحد يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة فهوَّسه وأضلَّه كما ضلَّ.»
أقول: وأبو الفضل هذا هو، فيما يظهر، الذي مدحه بالقصيدة:
وفي الديوان أنه مدح بهذه القصيدة رجلًا أراد أن يستكشفه عن مذهبه.
وفي هذا دليل على أنه عُني بالمذاهب المختلفة في صباه واتصل ببعض أصحابها.
ولسنا ندري متى ذهب أحمد إلى البادية، ولا كم أقام بها والعلوي يحدثنا أنه أقام سنين، وقد روى ابن الأثير وغيره أن القرامطة أغاروا على الكوفة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وأغار القرامطة على الكوفة كرة أخرى سنة خمس عشرة وثلاثمائة وهزموا جيش الخلافة وأسروا أميره يوسف بن أبي الساج، فيحتمل أن المتنبي فارق الكوفة إلى البادية أحيانًا خوفًا من هذه الغارات، ولعل أهله تبدَّوا بسبب آخر، ومهما يكن سبب إقامته بالبادية ففيها دليل على صلة بين بيته والقبائل البادية، وقد عاش الرجل بدويًّا في خُلقه وإعجابه بالبداوة وخبرته بقبائلها ومواطنها ومسالكها.
وقد بقيت ذكرى وقعة القراطة بالكوفة في نفس أبي الطيب فحدَّث بها الحسن بن عبيد الله بن طُغُج في الرملة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ووصف ما كان من القتل فهال ذلك بعض الجلساء فقال أبو الطيب لابن طغج:
ويرى (بلاشير) في مقالة المتنبي من دائرة المعارف الإسلامية أن أبا الطيب ترك الكوفة إلى البادية أواخر سنة ٣١٢، وأنه أقام سنتين في بادية السماوة، ولست أدري كيف جزم بهذا التاريخ وكيف قدَّر المدة بسنتين، وأحسب هذا التقدير من أنه قرأ «سنين» سنتين في الخبر الذي رواه الخطيب وتبعه فيه صاحب الصبح المنبي.
ويرى الكاتب كذلك أنه ترك الكوفة إلى بغداد سنة ٣١٦، ولعل دليله في هذا الاستنتاج إغارة القرامطة على الكوفة تلك السنة، ولم أجد في أخبار أبي الطيب ما يعين تاريخ إقامته في البادية أو سفره إلى بغداد.
المتنبي في بغداد
وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد فأخذت خمسة دراهم بجانب منديلي وخرجت … إلخ.
ولسنا نعرف متى ذهب أبو الطيب إلى بغداد على التحقيق، وقد روى مؤلف النجوم الزاهرة في حوادث سنة تسع عشرة وثلاثمائة: أن القرامطة أغاروا على الكوفة في هذه السنة ففرَّ أهلها إلى بغداد فلعل الشاعر ذهب إلى بغداد إذ ذاك، ولعله ذهب إليها أكثر من مرة قبل ذهابه إلى الشام.
تلقي أبي الطيب اللغة والأدب
عرفنا أن أبا الطيب تعلم في كتَّاب بالكوفة ولزم الورَّاقين يقرأ في كتبهم، وصحب الأعراب حينًا فسمع اللغة وأفاد ما كان يفيده علماؤها من الرحلة إلى البادية … وقال الخطيب في تاريخ بغداد: «وطلب الأدب وعلم العربية ونظر في أيام الناس وتعاطى قول الشعر من حداثته حتى بلغ فيه الغاية التي فاق (فيها) أهل عصره، وعلا شعراء وقته.»
وقال الثعالبي في اليتيمة: «ذكرت الرواة أنه ولد بالكوفة في كندة سنة ثلاث وثلاثمائة، وأن أباه سافر به إلى بلاد الشام فلم يزل ينقله من باديتها إلى حضرها ومن مدرها إلى وبرها، ويُسلمه إلى المكاتب، ويردِّده في القبائل، ومخايله نواطق الحسنى عنه، وضوامن النجح فيه حتى تُوفِيَ أبوه وقد ترعرع أبو الطيب وشعر وبرع.»
نأخذ من هذه الرواية أن أباه كان يسلمه إلى المكاتب ويردِّده في القبائل، وأما قول الثعالبي إن ذلك كان في الشام فأحسبه وهمًا.
أجمعت الرواة على أن المتنبي ولد بالكوفة لسنة ثلاث وثلاثمائة في كندة، وأنه من أوسطهم حسبًا، وبها نشأ وتأدَّب، ولما اشتدَّ ساعده هاجر إلى العلماء، ولقي أصحاب المبرد أبي العباس محمد بن يزيد فقرأ على أكابرهم منهم أبو إسحاق الزجاج وأبو بكر بن السراج وأبو الحسن الأخفش.
ولقي أصحاب أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب فقرأ على: أبي موسى (الحامض) وأبي عمر الزاهد وأبي نصير.
ولقي أصحاب أبي سعيد السكَّري فقرأ على نفطويه، وابن درستويه.
ثم لقي خاتم الأدباء وبقية النجباء عالم عصره أبا بكر بن محمد بن دريد فقرأ عليه ولزمه ولقي بعده أكابر أصحابه، منهم: أبو علي الفارسي، وأبو القاسم عمر بن سيف البغدادي، وأبو عمران موسى، فبرع في الأدب.
ولم يكن في وقته من الشعراء من يدانيه في علمه ولا يجاريه في أدبه.
وإذا رجعنا إلى ما نعرف من تاريخ هؤلاء الأدباء فأبو الطيب قد ولد وهم أحياء، ولكن بعضهم قد مات قبل أن يبلغ شاعرنا السن التي تمكنه من التلقي عنهم، فأصحاب المبرد الذين ذُكروا في هذه الرواية ماتوا وصاحبنا صغير، مات الزجاج سنة ٣١١، والأخفش سنة ٣١٥، وابن السرَّاج سنة ٣١٦.
وأبو موسى الحامض من أصحاب ثعلب مات سنة ٣٠٥، ومن عدا هؤلاء وهم بقية أصحاب ثعلب، وأصحابُ السكري وابنُ دريد وأصحابُه قد عاشوا إلى الزمن الذي يستطيع فيه أبو الطيب التعمق في درس اللغة والأدب، وابن دريد أسبقهم وفاة، تُوفِيَ سنة ٣٢١، وأبو الطيب إذ ذاك ابن ثماني عشرة، ثم ذِكرُ نفطويه وابن درستويه في أصحاب السكري، وذكرُ الفارسي في أصحاب ابن دريد خطأ.
فهذه الرواية عن شيوخ المتنبي تحتمل الصدق في جملتها لا في تفصيلها، وقد جعلت الرواية أخذه عن ابن دريد بعد أخذه عن أصحاب المبرد وثعلب والسكَّري، فإن صحَّ هذا فقد لقي شاعرنا ابن دريد في آخر حياته، وسنرى أنه رحل إلى الشام في السنة التي مات فيها ابن دريد، وأما الفارسي فقد لقيه في شيراز، وجائز أن يكون لقيه قبل هذا، وسنعود إلى هذا عند الكلام على معرفة أبي الطيب باللغة.