من حلب إلى الفسطاط
وفي شرح المعري: فأجمع رأيه على الرحيل من حلب فلم يجد بلدًا يأوي إليه أولى من دمشق؛ لأن حمص من عمل سيف الدولة.
وقال في الصبح المنبي: «ولما عزم أبو الطيب على الرحيل من حلب وذلك في سنة ست وأربعين وثلاثمائة لم يجد بلدًا أقرب إليه من دمشق؛ لأن حمص كانت من بلاد سيف الدولة.»
يتبين من هذه الروايات أن أبا الطيب لم يؤذن سيف الدولة بعزمه على الرحيل، بل أوهمه أنه سائر إلى إقطاعه بمعرة النعمان فعائد إليه، وأنه وقد سار غير مستأذن لم يستطع النزول بحمص إذا كانت في ولاية سيف الدولة، فهل يؤخذ من هذا أن الشاعر أوجس خيفة من الأمير بغير إذنه، وأن سيف الدولة ما كان ليأذن له بالرحيل لو استأذنه؟ فأما الإذن فأكبر الظن أن الأمير ما كان يرضى به، وأما الخوف فالظاهر أن الشاعر قد أحسه، خاف أن يأخذه سيف الدولة برحيله دون إذن وخاف أن ينتهز حساده الفرصة فيغروا الأمير به، ومما يؤيد هذا قول أبي الطيب في قصيدة كافورية بعد التعريض بغدر سيف الدولة ومنِّه في الأبيات التي تقدمت في هذا الفصل:
يقول: «لما رأت الخيل غدر الدهر بي وفت لي فأنجتني» وليس غدر الدهر الذي يذكره هنا إلا ما لقي من سيف الدولة آخر أيامه عنده، وأما المهالك التي خلفها فهي ما خشيه من بني حمدان وما خافه من أهوال الطريق، كما قال في القصيدة البائية التي مدح بها كافورًا إنه كان يكمن نهاره ويسير ليله في سفره إلى مصر.
سار أبو الطيب من حلب إلى دمشق فانتقل من مملكة سيف الدولة إلى مملكة كافور الإخشيدي.
وفي شرح المعري أنه كان بدمشق يهودي يعرف بابن ملك من قبل كافور الإخشيدي، فالتمس من أبي الطيب أن يمدحه، فثقل عليه وكتب إلى كافور أن أبا الطيب في دمشق، فكتب كافور إلى ابن ملك يطلب مسير الشاعر إلى مصر، فأجابه أن أبا الطيب قال: لم أقصد العبد، وإن دخلت مصر فما قصدي إلا ابن سيده.
وفقه هذه الرواية أن ابن ملك رأى أبا الطيب شاعر سيف الدولة ترك صاحبه مغاضبًا وقدم إلى مملكة الإخشيديين فكتب إلى كافور ينبئه، ولا أصدق أن ابن ملك كتب إلى كافور أن أبا الطيب قال لم أقصد العبد إلخ، فما كان الشاعر ليقول هذا وهو يعلم أنه ليس في البلاد التي أمها إلا سلطان كافور، وما كان ابن ملك ليجترئ على أن يفتري سب كافور على لسان أبي الطيب.
وأحسب الشاعر عزم على مصر وهو في حلب، وتلبث بدمشق ريثما يبلغ كافورًا قدومُه، فيدعوه فيذهب إلى مصر مطلوبًا لا طالبًا.
تقول الرواية بعد هذا:
وهذه الأبيات الرائية مثبتة في ديوان أبي الطيب مع الشعر الذي مدح به ابن طغج سنة ٣٣٦، والحق أنه أنشأها حين سار إلى الرملة في طريقه إلى مصر سنة ٣٤٦ وهي:
وفي الديوان أبيات أخرى قالها يودع ابن طغج حين عزم على المسير إلى مصر وهي:
وأرى أن امتناع أبي الطيب عن مدح ابن طغج، وهو أول من أغدق عليه العطاء وجذب بضبعه، يدلنا على أنه خرج من دمشق قاصدًا كافورًا، فقد أشفق أن يمدح أحدًا قبل كافور فيغضبه، ولولا هذا ما ضن بمدحه على ابن طغج وهو ابن عم أنوجور، ملك مصر إذ ذاك.
تستمر رواية شرح المعري في قصص رحلة أبي الطيب فتقول: «واتصل به أن كافورًا يقول أترونه يبلغ الرملة ولا يبلغ إلينا؟ وأنه واجد عليه، ثم كتب كافور من مصر إلى أبي الطيب يستدعيه إلى حضرته فلم يمكنه إلا المسير إليه.»
تريد هذه الرواية أن تصور أبا الطيب كارهًا المسير إلى كافور مضطرًّا إليه، فلذلك قال الراوي إن كافورًا كتب إليه مرتين وأنه «لم يمكنه إلا المسير إليه»، ومرمى هذه الرواية وروايات أخرى الاعتذار عن ذهاب الشاعر الكبير إلى كافور ومدحه بالقصائد الغراء ثم هجائه من بعد أقبح هجاء، وقد ادعى بعض الأدباء أن مدح أبي الطيب كافورًا كان هجاء في باطنه.