أبو الطيب في مصر
(١) قدومه على كافور في نسخة شرح المعري
فلما قدم عليه أبو الطيب أخلى له دارًا ووكل به، وأظهر التهمة له، وطالبه بمدحه وخلع عليه، (وأعطاه) آلافًا من الدراهم فقال يمدحه في جمادى الثانية سنة ست وأربعين وثلاثمائة:
وفي الصبح المنبي: «فطالبه بمدحه فلم يمدحه فخلع عليه فقال أبو الطيب … إلخ.»
ولست أدري لماذا يظهر كافور التهمة لأبي الطيب ويوكل به بعد أن كتب إليه يدعوه واحتفى به فأخلى دارًا لنزوله، ولماذا يمتنع الشاعر عن مدحه أول الأمر، وما قصد مصر إلا ليمدحه؟
لعل مجيبًا يقول: إن الشاعر قدم من عند سيف الدولة خصم كافور ومنافسه على الشام، فكان أهلًا للتهمة حتى يتبين أمره. لا أرى في الأمر ما يدعو إلى هذا، ولكن الراوي كما قدمت يريد أن يمثل لنا أبا الطيب مكرهًا على قصد كافور سجينًا عنده ليصوره مضطرًّا إلى مدحه، والناقد الخبير لا يعبأ بهذه الزيوف، ومدائح أبي الطيب الأولى تبين عن نفس مغتبطة آملة عظيمة الرجاء.
(٢) كم أقام وكم أنشأ من شعر؟
أقام أبو الطيب بمصر أربع سنين وستة أشهر، من جمادى الثانية سنة ست وأربعين، إلى تاسع ذي الحجة سنة خمسين وثلاثمائة.
ومدح كافورًا حين قدم عليه، وختم مدائحه بقصيدة أنشده إياها في شوال سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وبقي بعد ذلك سنة وشهرين لم ينشد كافورًا شيئًا من شعره.
وبين القصيدتين الأولى والآخرة ثلاث سنين وأربعة أشهر مدح فيها أبو الطيب كافورًا بتسع قصائد وقطعتين فيها كلها ثلاثة وسبعون وثلاثمائة بيت، وذلكم ربع ما مدح به سيف الدولة.
(٣) مدحه كافورًا وصلته به، وأحواله عنده
- (أ)
أبان أبو الطيب في القصيدة الأولى عن حزنه واضطراب قلبه بين صديقه الذي غدر به (يعني سيف الدولة) وبين كافور الذي رجا عنده بلوغ غايته، وأعرب عن عظم أمله في أميره الثاني وبالغ في مدحه، وليس في القصيدة ما يبين أو ينم عن أن الشاعر قصد كافورًا كارهًا، ومدحه مرغمًا كما يدَّعِي راوي القصة التي نقلنا بعضها من شرح المعري، بل رضي بالوقوف بين يديه وقيل له مرة: قد طال وقوفك في مجلسه فقال:
يقل له الوقوف على الرءوسوبذل المكرمات من النفوسويقول أبو الطيب في أول قصيدته:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيًاوحسب المنايا أن يكنَّ أمانياتمنيتها لما تمنيت أن تَرىصديقًا فأعيا أو عَدوًّا مُداجياإذا كنت ترضى أن تعيش بذلةفلا تستعدَّنَّ الحسام اليمانياولا تستطيلنَّ الرماح لغارةولا تَستجيدنَّ العِتاق المَذاكيافما ينفع الأسدَ الحياءُ من الطوَىولا تُتَّقى حتى تكون ضوارياوفي هذا إشارة إلى سيف الدولة، وتحامله عليه، واضطراره إلى مفارقته، وقد بلغ به الحزن في هذا أن جعل مطلع قصيدته هذه الأبيات التي يتطير منها السامع، وبعد هذه الأبيات:
حببتُك قلبي قبل حبك مَن نأىوقد كان غدَّارًا فكن أنت وافياوأعلمُ أن البين يُشكيك بعدهفلستَ فؤادي إن رأيتك شاكيافإن دموع العين غُدرٌ بربهاإذا كنَّ إثر الغادرين جواريافتراه يطالب قلبه بأن يفي له هو ويترك سيف الدولة؛ فإنه أحب قلبه قبل أن يحب القلب هذا الأمير، وفي هذا إغراب عن توزع قلبه بين أصدقائه القدماء وبين انتصافه لنفسه بمفارقتهم ومدح غيرهم، ويسوغ ما فعله بقوله:
إذا الجود لم يُرزَق خلاصًا من الأذىفلا الحمد مكسوبًا ولا المال باقياوللنفس أخلاقٌ تدل على الفتىأكان سخاءً ما أتى أم تساخياثم رجع إلى قلبه فيقول:
أقلَّ اشتياقًا أيها القلبُ ربمارأيتك تُصفى الودَّ من ليس صافياثم ينثني فيذكر ما في نفسه من إلف بني حمدان، ويتخلص إلى مدح كافور يقول:
خُلِقْتُ ألوفًا لو رجعتُ إلى الصِّبَىلفارقت شيبي موجَع القلب باكياولكنَّ بالفسطاط بحرًا أزرْتهفؤادي ونُصحي والهوى والقوافياثم يصف سيره وخيله إلى أن يقول:
قواصدَ كافور تواركَ غيرهومن قصد البحر استقل السواقيافجاءت بنا إنسان عينِ زمانهوخلَّت بياضًا خلفها ومآقياثم يقول في أثناء المدح معربًا عن رجائه وأمله:
إذا كسب الناس المعالي بالندىفإنك تعطي في نداك المعالياوغيرُ كثير أن يزورَك راجلفيرجع ملكًا للعراقين واليافقد تهبُ الجيش الذي جاء غازيالسائلك الفرد الذي جاء عافياوتحتقر الدنيا احتقار مجرِّبيرى كل ما فيها، وحاشاك، فانيا - (ب) وفي أواخر الشهر التالي (لثلاث بقين من رجب، عشية يوم الاثنين)، أنشد أبو الطيب قصيدة يهنئ بها كافورًا بدار جديدة بناها١ أولها:إنما التهنئات للأكفاءولمن يدَّني من البُعداءوأنا منك لا يهنئ عضوبالمسرَّات سائر الأعضاءقال الواحدي:
وهذا طريق المتنبي يدَّعي لنفسه المساهمة والكفاءة مع الممدوحين، في كثير من المواضع، وليس ذلك للشاعر فلا أدري لِمَ احتُمل منه.
وقال العكبري:وهذه عادة أبي الطيب يدعي المساهمة والكفاءة لنفسه ويشركها مع الممدوحين في كثير من المواضع، وليس ذلك للشاعر وإنما كان هو يعمله إدلالًا عليهم.
وجوابنا للواحدي والعكبري أن أبا الطيب قد وضع نفسه فوق الشعراء وتعود ذلك منه الممدحون، والمرء حيث يضع نفسه، ولكل امرئ من دهره ما تعودا.
ويقول في آخر هذه القصيدة:
يا رجاء العيون في كل أرضلم يكن غير أن أراك رجائيولقد أفنت المفاوزُ خَيليقبل أن نلتقي وزادي ومائيفارم بي ما أردتَ منِّي فإنيأسدُ القلب آدميُّ الرُّواءوفؤادي من الملوك وإن كانلساني يُرى من الشعراءفهو يدعوه إلى أن يكل إليه بعض الشئون ولكن في كلام يُخيف كافورًا ويوهمه أنه أمام ملك لا شاعر.
وفي شرح المعري بعد هذه القصيدة، ولما أنشده أبو الطيب حلف ليبلغنه جميع ما في نفسه. وإنه لأكذب ما يكون إذا حلف.
- (جـ)
ويمضي شهران فنرى أبا الطيب ينشد الأستاذ أبا المسك يوم عيد الفطر قصيدة أولها:
مَن الجآذر في زي الأعاريبحُمرُ الحلى والمَطايا والجلابيبوفي هذه القصيدة يُعرِّض بسيف الدولة في قوله:
قالوا هجرتَ إليه الغَيثَ قلتُ لهمإلى غيوثِ يديه والشآبيبإلى الذي تهبُ الدولاتِ راحتُهولا يمنُّ على آثار موهوبولا يَروع بمغدور به أحدًاولا يُفزِّع موفورًا بمنكوبثم يفخر فيقول بعد ذكر الخيل:
تهوي بمنجَرِد ليست مذاهبُهللبس ثوب ومأكول ومشروبيرى النجومَ بعيني مَن يحاولهاكأنها سَلَب في عين مسلوبوهذا فخر جدير بأن يفزع كافورًا.
ونجد ريح الشكوى في آخر هذه القصيدة حيث يقول:
يا أيها الملك الغاني بتسميةفي الشرق والغرب عن وصف وتلقيبأنتَ الحبيب ولكني أعوذ بهمن أن أكون مُحبًّا غيرَ محبوبذلكم ولما يمض على أبي الطيب عند كافور أكثر من أربعة أشهر!
- (د)
وفي عيد الأضحى من السنة أنشده القصيدة الرابعة:
أودُّ من الأيام ما لا تَودُّهوأشكو إليها بيننا، وهي جُندهوهو مطلع ناطق بالشكوى والتحسر.
ويقول في القصيدة:
وأتعبُ خلق الله من زاد همُّهوقصَّر عما تشتهي النفس وجدُهفلا ينحلل في المجد مالُك كلُّهفينحلَّ مجد كان بالمال عقدُهودبِّره تدبيرَ الذي المجدُ كفُّهإذا حارب الأعداءَ والمالُ زَندهفلا مجدَ في الدنيا لمن قلَّ مالهولا مالَّ في الدنيا لمن قلَّ مجدهوفي هذا إبانة عما يختلج في فؤاد الشاعر من الأسى وقد طمح إلى مجد قصر عنه ماله، فطوف في الآفاق يبغي ما يبني به مجده فلم يظفر ببغيته.
ويقول أبو الطيب بعد هذا، ومثل هذا الكلام يروع الممدوح ولا يستعطفه:
وفي الناس من يَرضى بميسور عيشهومركوبُه رِجلاه والثوبُ جِلدهولكنَّ قلبًا بين جنبيَّ ما لهمَدًى ينتهي به في مُراد أحُدُّهيرى جسمَه يُكسى شُفوفًا تَرُبُّهفيختارُ أن يُكسى دُروعًا تهدُّهثم يقول عن كافور:
أنا اليوم من غلمانه في عشيرةلنا والدٌ منه يُفَدِّيه وُلدهفمِن مالِه مالُ الكبير ونفسُهومن ماله دَرُّ الصغير وَمهدهنجرُّ القنا الخطيَّ حول قِبابهوتَردى بنا قُبُّ الرباط وجُرْدهونمتحن النشَّاب في كلِّ وابلدَويُّ القسيِّ الفارسيةِ رَعدهفإلا تكن مصر الشرى أو عرينهفإن الذي فيها من الناس أُسدُهويقول العكبري في شرح البيت الأول:يريد أنه وهب له غلمانًا وأنه منهم في عشيرة؛ لأنه إذا ركب ركبوا معه وأطافوا به فكأنهم عشائره وأقاربه.
ولست أرى في الأبيات إبانة عن هبة وهبها كافور، ولكن أبا الطيب يخبر عن نزوله بين غلمان كافور ومشاركته إياهم في رمي النشاب، فالأبيات تصف جندًا لا خدمًا وليس فيها ولا بعدها شكر على هبة.
وفي القصيدة يكرر أبو الطيب سؤال كافور أن يصطنعه ويجربه، ويستنجز وعده، ويتبين من كلامه أن كافورًا كان قد وعده بولاية:
فإن نلتُ ما أمَّلت منك فربماشَرِبتُ بماءٍ يُعجز الطيرَ وِردهووَعدُك فعلٌ قبل وعد لأنهنظيرُ فعال الصادقِ القولِ وعدُهفكن في اصطناعي محسنًا كمجرِّبيبن لك تقريبُ الجواد وشَدُّهإذا كنت في شكٍّ من السيف فابلُهفإمَّا تُنفِّيه وإمَّا تُعِدُّهوما الصارم الهندي إلا كغيرهإذا لم يفارقه النِّجادُ وغمدهوإنك للمشكورُ في كل حالةولو لم يكن إلا البشاشةَ رِفدُهفكل نوال كان أو هو كائنفلحظةُ طرف منك عندي نِدهوإني لفي بحر من الخير أصلُهعطاياك أرجو مدَّها وهي مدُّهوما رَغبتي في عسجد أستفيدهولكنَّها في مفخر أستجِدُّهيجود به من يفضح الجودَ جودُهويحمدُه من يفضح الحمدَ حمدُهفإنك ما مرَّ النحوس بكوكبوقابلتَه إلا ووجهُك سعدُه - (هـ) والقصيدة الخامسة أنشدها أبو الطيب يوم الأحد رابع عشر ربيع الثاني سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، أي بعد ثلاثة أشهر من القصيدة السابقة، وكان فرس أبي الطيب جرح فحزن عليه فتبين كافور الحزن في وجهه، فأرسلَ خلفه من يسأله فلما عرف هذا بعث إليه فرسًا أدهم.٢
وفي هذه القصيدة يمدح سيف الدولة، بعد أن فضَّل كافورًا عليه فيما تقدم.
ويذكر أن الحمدانيين بكوا لفراقه رجالًا ونساء، ويُلقي التبعة على سيف الدولة.
وأول القصيدة:
فراقٌ ومن فارقتُ غير مذمَّموأمٌّ من يَمَّمت خيرُ مُيَمَّموما منزلُ اللذاتِ عندي بمنزلإذا لم أبَجَّلْ عنده وأكَرَّمسجيةُ نفس ما تزال مُليحةًمن الضَّيم مَرميًّا بها كلُّ مَخرَمرحلتُ فكم باكٍ بأجفان شادنعليَّ وكم باكٍ بأجفان ضيْغموما ربَّة القُرط المَليح مكانُهبأجزعَ من ربِّ الحسام المصمِّمفلو كان ما بي من حبيب مقنَّععَذَرتُ ولكن من حبيب مُعمَّمرمَى واتقى رميي، ومن دون ما اتقىهوًى كاسرٌ كفِّي وقوسي وأسهميويقول في آخر القصيدة يتنجز وعده، ويستبطئه:
ولو كنت أدري كم حياتي قسمتهاوصيَّرت ثلثَيها انتظاركَ، فاعلمولكنَّ ما يمضي من الدهر فائتٌفجُدْ لي بحظٍّ البادر المتغنمرضيتُ بما ترضى به لي محبةًوقُدْتُ إليك النفسَ قَود المسلِّمومثلُك من كان الوسيطُ فؤادهفكلَّمَه عنِّي ولم أتكلَّم - (و) ووقع خلاف بين أنوجور وكافور؛ لأن جماعة من الجند اتصلوا بالأمير فأنكر كافور هذا وطالبه بتسليمهم فوقعت بينهما وحشة أيامًا ثم سلمهم إليه فقتلهم.٣ واصطلحا وطولب أبو الطيب بذكر الصلح فقال قصيدة هي خير ما يُقال في ثمرات الوفاق وعواقب الشقاق، ومدح فيها كافورًا، وأنشدها في شعبان سنة ٣٤٧ بعد شهرين من القصيدة السابقة، ومطلعها:حسم الصلحُ ما اشتهته الأعاديوأذاعته ألسن الحسَّادوأرادته أنفس حال تدبيرك ما بينها وبين المراد
- (ز)
مضت على أبي الطيب سنة وثلاثة أشهر ولم يبلغ من كافور منيته، فلما جاء عيد الفطر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة أنشده القصيدة التي أولها:
أغالب فيك الشوقَ والشوقُ أغلبوأعجبُ من ذا الهجر، والوصل أعجبوفي شرح المعري ونسخ من الديوان: «كان كافور تقدم إلى أصحاب الأخبار يُرجفون بأنه ولاه موضعًا من الصعيد، وينفذ إليه قومًا يعرفونه ذلك، فلما كثر هذا وعلم أن أبا الطيب لا يثق بكلام يسمعه حمل إليه ستمائة دينار ذهب، فقال هذه القصيدة.»
ومهما يكن فقد أظهر فيها أبو الطيب ندمه على ترك سيف الدولة إلى كافور، وهذه جرأة على الممدوحين لا يعرفها الشعراء. يقول بعد المطلع:
أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرىبغيضًا تُنائي أو حبيبًا تقرِّبولله سَيرى ما أقل تئيَّةًعشيةَ شَرقيَّ الحَدالى وغُرَّب٤عشيةَ أحفى الناس بي من جفوتهوأهدى الطريقين التي أتجنَّبُويقول بعد أبيات:
لحى الله ذي الدنيا مُناخًا لراكبفكلُّ بعيد الهمِّ فيها معذَّبألا ليت شعري هل أقول قصيدةفلا أشتكي فيها ولا أتعتَّبوبي ما يذود الشعر عني أقلُّهولكنَّ قلبي يا ابنة القوم قُلَّبويقول:
أبا المسك هل في الكأس فضلٌ أنالهفإني أغنِّي منذ حين وتشربوهبت عَلَى مقدار كفَّيْ زمانناونفسي على مقدار كفَّيك تطلبإذا لم تَنُط بي ضيعة أو ولايةفجُودك يكسوني وشُغلك يسلُبيضاحك في هذا العيد كلٌّ حبيبَهحذائي وَأبكي من أحب وأندبأحِنُّ إلى أهلي وأهوى لقاءهموأين من المشتاق عَنقاء مُغرب - (ح)
ويصمت أبو الطيب بعد هذه القصيدة ثمانية أشهر لا يمدح كافورًا، وما كان قبل يسكت عن مدحه أكثر من شهرين أو ثلاثة، وهذا يدل على أن سخط أبي الطيب، ونقمته على أبي المسك، قد اشتدا ولا سيما إذا عرفنا أن عيد الأضحى سنة ٣٤٧ كان في هذه الأشهر الثمانية فلم يهنئه به خلافًا لما عوده، وفي هذه الأشهر نظم الشاعر قصيدتين، نظم الأولى حين بلغه أن جماعة نعوه في مجلس سيف الدولة، وقد أعرب فيها عن حزنه، وسخطه على زمانه، وعتبه على الحمدانيين، وعرض بفراق كافور كما فارقهم، وأول القصيدة:
بم التعلل؟ لا أهل ولا وطنولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكَنُأريد من زمني ذا أن يبلِّغنيما ليس يبلغه في نفسه الزمنويقول فيها لسيف الدولة:
يا من نُعيتُ على بُعدٍ بمجلسهكلٌّ بما زعم الناعون مرتَهَنكم قد قُتلت وكم قَدْ مِتُّ عندكمثم انتفضتُ فزال القبر والكفنقد كان شاهَد دفني قبل قولهمجماعةٌ ثم ماتوا قبلَ مَن دَفنواويصف بني حمدان بأنهم لا يرعون الجوار وينغِّصون رفدهم بالمن ثم يقول:
سهرتُ بعد رحيلي وحشةً لكمثم استمر مريري وارعوَى الوسَنوإن بليتُ بودٍّ مثل ودِّكمفإنني بفراق مثله قَمِنُقال ابن جني: حُكي أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال: سار وحق أبي.
ولم ينشد كافورًا هذه القصيدة، ولكن ختمها بأبيات في مدحه واستنجازه الوعد علمًا بأنها ستبلغه. يختم القصيدة بقوله:
أبلى الأجلة مهري عند غيركموبُدِّل العُذْرُ بالفسطاط والرسَنعند الهمام أبي المسك الذي غرقتفي جُوده مضرُ الحمراء واليمنوإن تأخر عني بعضُ موعدهفما تأخرُ آمالي ولا تَهِنُهو الوفيُّ ولكني ذكرتُ لهمودَّةً فهو يبلوها ويمتحنوالقصيدة الثانية التي نظمها في هذه الفترة قصيدة يتبين فيها تفكيره في الناس والدنيا، ويقول فيها: إن مصائب الزمان كثيرة، ولكن الناس لا يكتفون بها فيخلقون لأنفسهم مصائب بالقتال والنزال، وإن مطلب النفوس أصغر من أن يتقاتل الناس عليها.
وهذه القصيدة من خير ما قال في الحكم ومطلعها:
صَحب الناسُ قبلنا ذا الزماناوعناهم من أمره ما عنانا - (ط)
ثم تكون وقعة تضطر أبا الطيب إلى أن ينشد كافورًا من شعره، ذلكم أن كافورًا كان قد اصطنع شبيبًا العقيلي الخارجي، وولاه عمان والبلقاء وما يليهما، فعظم أمره، وخرج على كافور، وسار إلى دمشق في جيش كثيف ودخل المدينة.
وفي أثناء الهرج والمرج أُلفي شبيب ميتًا، فارتاع أصحابه وهزموا وتفرقوا. واختلفت الروايات في موته: قيل: ألقت عليه امرأة حجرًا، وقيل: سقطت رجل فرسه في قناة فسقط عنها، وقيل: شرب سويقًا مسمومًا، وقيل: اعتراه صرع كان يعتريه.
وجاءت الأخبار مصر يوم الجمعة ثاني جمادى الثانية سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وطالب كافور أبا الطيب بأن يذكر هذا في شعره فقال القصيدة التي أولها:
عدوُّك مذموم بكل لسانوإن كان من أعدائك القمَرانوهي قصيدة يلقى بها الشاعر ممدوحه بعد ترك مدحه ثمانية أشهر، وكأنه أراد أن يهجوه ويغيظه بها لا أن يمدحه، فأول القصيدة:
عدوك مذموم بكل لسانوإن كان من أعدائك القمرانولله سرٌّ في عُلاك وإنماكلام العِدى ضربٌ من الهذَيانثم لم يستطع أن يكتم إعجابه بشبيب، وأبو الطيب تعجبه الشجاعة والبطولة حيثما تجليا، وكأنه يرثي شبيبًا في هذه القصيدة لا يُهنئ كافورًا بقتله، يقول:
فإن يك إنسانًا مضى لسبيلهفإن المنايا غايَةُ الحيَوانوما كان إلا النارَ في كل موضعتُثير غبارًا في مكان دُخانفنال حياةً يشتهيها عدوُّهوموتًا يُشهِّي الموتَ كلَّ جباننفى وقع أطراف الرماح برمحهولم يخشَ وقعَ النجم والدبرانولم يدر أن الموت فوق شواتهمُعارُ جَناح محسنُ الطيرانوقد قتلَ الأقرانَ حتى قتلتهبأضعفِ قِرن في أذلِّ مكانأتته المنايا في طريق خفيَّةعلى كلِّ سمع حوله وعِيانولو سلكت طُرْق السلاح لردَّهابطول يمين واتساع جنانتقصَّده المقدارُ بين صِحابهعلى ثقةٍ من دهره وأمانوهل ينفع الجيشَ الكثيرَ التفافُهعلى غير منصور وغير مُعانيريد أبو الطيب أن يقول لكافور: إنك لم تغلب شبيبًا وما كنت لتقدر عليه في الحرب ولكنك قتلته غيلة أو كفاك أمره القضاء.
وكأنه بعد هذه الأبيات يريد أن يكفر عنها قليلًا وينال ثقة كافور ليركن إليه وينيله ما ابتغى فتراه ينعي الوفاء ويقول: إن العاقل لا يكفر النعمة، وإن كفران شبيب أودى به، ويختم الكلام بقوله:
وعند مَن اليوم الوفاءُ لصاحب؟شبيبٌ وأوفى مَن ترى أخَوانوأنَّى ينفع أبا الطيب كلامه في كفر النعمة والوفاء بعد أن أسمع ممدوحه شعرًا يهون فيه انتصاره على عدوه، ويشيد بذكر هذا العدو، ولم يكن أبو المسك غبيًّا عن فهم دقائق الشعر، وقد روى ابن جني في شرح هذه القصيدة، قال: حكى إبراهيم بن محمد العلوي أنه كان بحضرة كافور، وأبو الطيب ينشده هذه القصيدة فلما قال: «بأضعف قرن في أذل مكان»، قال كافور وهو يتكلم بكلام الخدم: «لا والله بل أشد قرن في أعز مكان، فروى الناس بأضعف قرن وجعلوا مكان أذل أعز.»
- (ي)
وبعد هذه القصيدة التي اضطرته إليها الحادثات والتي هي أقرب إلى الهجاء من المدح انقطع شاعرنا عن مدح الأستاذ كافور الإخشيدي ستة عشر شهرًا.
وفي هذه الفترة أصابته حمى فقال قصيدة باكية شاكية يصف فيها حاله في مصر، ويعرض ببخل كافور ومنعه إياه السفر ويتمنى الرحيل، وكتبها يوم الاثنين لأربع خلون من ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، ويقول في أول القصيدة:
مَلومكما يجلُّ عن الملامووقعُ فعاله فوق الكلامذراني والفلاةَ بلا دليلووَجهي والهجيرَ بلا لثامفإني أستريح بذي وهذاوأتعبُ بالإناخة والمُقامعيونُ رواحلي إن حِرتُ عينيوكلُّ بُغام راحلةٍ بُغاميفقد أرد المياه بغير هادسوى عدِّي لها برقَ الغماميُذمُّ لمهجتي ربِّي وسيفيإذا احتاج الوحيد إلى الذمامولا أُمْسِي لأهل البخل ضيفًاوليس قِرًى سوى مُخ النعامولما صار وُدُّ الناس خِبًّاجزيت على ابتسام بابتساموصرت أشك فيمن أصطفيهلعلمي أنه بعض الأنامإلى أن يقول:
أقمت بأرض مصر فلا ورائيتخِبُّ بي الرِّكاب ولا أماميوملَّنِي الفِراش وكان جنبييملُّ لقاءه في كلِّ عامقليل عائدي سَقِمٌ فؤاديكثير حاسدي صَعبٌ مراميعليل الجسم ممتنع القيامشديدُ السكر من غير المُدامويصف الحمى ونوباتها ثم يقول:
أبنتَ الدهر عندي كل بنتفكيف وصلتِ أنت من الزحامجرحت مجرَّحا لم يبق فيهمكانٌ للسيوف ولا السهامويذكر شوقه إلى السفر ثم يقول:
يقول لي الطبيب أكلت شيئًاوداؤك في شرابك والطعاموما في طِبِّه أني جوادأضرَّ بجسمه طولُ الجِمامتعوَّد أن يغبَّر في السراياويدخلَ من قتام في قتامفأمسِك لا يُطال له فيَرعَىولا هو في العليق ولا اللجاموقد قال ابن جني، ومثله في شرح المعري: إن أهل مصر شغفوا بهذه القصيدة وبلغت كافورًا فساءته.
- (أ)
أبو شجاع فاتك: وفي هذه الفترة أيضًا كان اتصال أبي الطيب بأبي شجاع فاتك الملقب بالمجنون.
وكان فاتك روميًّا أسر ورُبي في فلسطين، ثم أخذه الإخشيد من سيده في الرملة كرهًا بلا ثمن فأعتقه صاحبه.
قال في شرح المعري: «فكان معه حرًّا في عدة المماليك كريم النفس حر الطبع بعيد الهمة.
وكان في أيام كافور مقيمًا بالفيوم من أعمال مصر، وهو بلد كثير الأمراض لا يصح به جسم؛ وإنما أقام به أنفةً من الأسود وحياءً من الناس أن يركب معه، وكان الأسود يخافه ويكرمه فزعًا، وفي نفسه ما في نفسه، فاستحكمت العلة في بدن فاتك، وأحوجته إلى دخول مصر فدخلها ولم يمكن أبا الطيب أن يعوده وفاتك يسأل عنه ويراسله بالسلام، ثم التقيا في الصحراء فحمل إلى منزله للوقت هدية قيمتها ألف دينار ذهب، ثم أتبعها هدايا بعدها.»
وقال صاحب الإيضاح: وصل إليه من أنواع صلاته وأصناف جوائزه ما تبلغ قيمته عشرين ألف دينار.
وقال صاحب الإيضاح أيضًا: «وقادوا بين يديه (يدي فاتك) في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جنيبة منعلة بالذهب فسماه أهل مصر بفاتك المجنون.
ويزيد ابن خلكان على هذا أن الفيوم كان إقطاعًا لفاتك، وأن أبا الطيب كان يسمع بكرم فاتك وشجاعته، ولا يستطيع أن يقصده خيفة كافور، وأن أبا الطيب استأذن كافورًا في مدح فاتك فأذن له.»٥وسيرى القارئ كيف جزع الشاعر لوفاة أبي شجاع ورثاه أبلغ رثاء، ورثاء فاتك بثلاث قصائد بعد خروج الشاعر من مصر وانقطاع أمل الشاعر في مثوبة فاتك أو أحد من أقاربه، وما في هذه القصائد من الحزن ومن الإعجاب بشجاعة فاتك ومروءته وسخائه، كل هذا يدل على وفاء الشاعر، كما يدل على إكباره الشجاعة والمروءة وما يتصل بهما من أخلاق.
وفي النسخة (١٥٣٠) أن هذا المدح كان بعد استقرار الحال بين فاتك والأستاذ.
ولا ريب أن شاعرنا ما اتصل بفاتك واستأذن كافورًا في مدحه، وهو يعلم ما بينهما من المنافسة، إلا بعد أن يئس من كافور أو كاد.
أنشد الشاعر مدح فاتك في تاسع جمادى الثانية سنة ٣٤٨، وفي هذه القصيدة أبيات تعد تعريضًا بكافور، فأولها:
لا خيل عندك تُهديها ولا مالفليُسعد النطق إن لم تُسعِد الحالواجز الأميرَ الذي نعماه فاجئةبغير قول، ونُعمى الناس أقوالأليس هذا تعريضًا بكافور الذي وعده فلم يفِ له؟ وفيها يقول:
كفاتك ودخول الكاف منقصةكالشمس قلت، وما للشمس أمثال•••
يريك مخبره أضعاف منظرهبين الرجال وفيها الماء والآلتملك الحمد حتى ما لمفتخرفي الحمد حاء ولا ميم ولا دالوأكبر الظن أن هذه القصيدة أسخطت كافورًا على أبي الطيب، وأبعدت أمل الشاعر في كافور.
- (ب)
آخر المدائح: وفي شوال سنة ٣٤٩ أنشد أبو الطيب كافورًا آخر مدائحه، بعد أن انقطع عن إنشاده ستة عشر شهرًا كما أسلفت، وبعد أن مدح فاتكًا، وبعد أن أنشأ قصيدة الحمى التي ساءت كافورًا، فلماذا عاد إلى مدحه وماذا قال؟
أما عوده إلى المدح فإجابة لطلب كافور، وفي نسخة المعري: «وكان كافور يتطلع إلى مدحه ويقتضيه، ولم يكن له بد من مداراته.»
وأحسب تطلع كافور إلى مدح أبي الطيب أحيا في نفسه حشاشة الأمل، فعاد يرمي آخر سهم غير يائس أن يصيب.
•••
بدأ الشاعر يذكر شيبه، وأنه يحمده ولا يذمه، ثم قال فاخرًا بنفسه غير مطامن منها ولا غافل عنها ساعة يتوسل فيها بكافور إلى مطالبه:
وفي الجسم نفس لا تشيب بشيبهولو أن ما في الرأس منه حرابلها ظفر إن كل ظفر أعدهوناب إذا لم يبق في الفم نابيغير مني الدهر ما شاء غيرهاوأبلغ أقصى العمر وهي كعابوإني لنجمٌ تهتدي صحبتي بهإذا حال من دون النجوم سحابغنيٌ عن الأوطان لا يستخفنيإلى بلد سافرت عنه إيابوعن ذملان العيس، إن سامحت بهوإلا ففي أكوارهن عقابومطلع القصيدة:
مُنًى كن لي أن البياض خضابفيخفى بتبييض القرون شبابتحدث عن نفسه في ثمانية عشر بيتًا ثم مدح كافورًا بتسعة، ثم طالبه بإنجاز ما وعد:
لنا عند هذا الدهر حق يلطهوقد قل إعتاب وطال عتابوقد تُحدث الأيام عندك شيمةوتنعمر الأوقات وهي يبابولا ملك إلا أنت والملك فضلةكأنك سيف فيه وهو قرابأرى لي بقربي منك عينًا قريرةوإن كان قربًا بالبعاد يشابوهل نافعي أن ترفع الحجب بينناودون الذي أملت منك حجابأقل سلامي حب ما خف عنكموأسكت كيما لا يكون جوابوفي النفس حاجات وفيك فطانةسكوتي بيان عندها وخطابوما أنا بالباغي على الحب رشوةًضعيف هوًى يبغى عليه ثوابوما شئت إلا أن أدل عواذليعلى أن رأيي في هواك صوابوأعلم قومًا خالفوني فشرقواوغربت أني قد ظفرت وخابواويمدحه بعد هذه الأبيات بثلاثة أبيات، ثم يختم القصيدة بقوله:
إذا نلت منك الود فالمال هينوكل الذي فوق التراب ترابوما كنت لولا أنت إلا مهاجرًاله كل يوم بلدة وصحابولكنك الدنيا إليَّ حبيبةفما عنك لي، إلا إليك، ذهاببقي أبو الطيب بمصر بعد هذه القصيدة أربعة عشر شهرًا لا يمدح كافورًا، وتتفق نسخ الديوان والشروح على أنه ما كان يلقاه إلا أن يركب فيسير معه في الطريق لئلا يوحشه.
- (أ)
(٤) ما الذي أمَّل الشاعر من كافور؟
وكان أبو الطيب ضيف كافور مدة مقامه في مصر، وكانت هذه الضيافة صلة بينهما بعد انقطاع الشاعر عن مدحه وغشيان حضرته، ودليلنا على هذه الضيافة ما نقلنا أولًا من أن كافورًا أخلى للشاعر دارًا، وما نجده في هجاء كافور بعد كقول أبي الطيب:
•••
•••
لو كانت منية أبي الطيب أن ينال مالًا من كافور لبلغ بعض منيته فقد أعطاه كافور وأكثر العطاء أحيانًا، ولكن أبا الطيب طمع في ضيعة أو ولاية:
قال هذا في قصيدة أنشأها بعد أن أرسل إليه كافور ستمائة دينار ذهب كما تقدم.
ومن قبل قال بعد قدومه مصر بشهر واحد:
ثم قال بعد أن وعده الولاية:
وقال في القصيدة نفسها:
وقال في القصيدة النونية التي لم ينشدها أمام كافور، وقد أشرف على اليأس:
(٥) لماذا خيب كافور أمله؟
طلب أبو الطيب ولاية أو ضيعة وألح في الطلب، ووعده كافور وذاع بين الناس حينًا أنه ولاه كما تقدم، فلماذا أخلف كافور وعده، وخيب أمل صاحبه؟
قال في الصبح المنبي: وسأل أبو الطيب كافورًا أن يوليه صيداء من بلاد الشام أو غيرها من بلاد الصعيد، فقال له كافور: «أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سمت نفسك إلى النبوة، فإن أصبت ولاية وصار لك أتباع فمن يطيقك؟»
ولست أصدق أن كافورًا قال للشاعر هذا ولعل هذا كان في نفسه.
ولم يأل أبو الطيب في فخره، وذِكر همته وآماله البعيدة، مما يراه القارئ بينًا فيما قدمت من شعره.
وسبب آخر يذكره مؤرخو أبي الطيب هو ذكر سواده.
كان المتنبي يعلم أن ذكره السواد على مسامع كافور أمر من الموت، فإذا ذكر لون السواد بعد ذلك فقد أساء إلى نفسه، وعرضها للقتل والحرمان، وكان من إحسان الصنعة وإجمال الطلب ألا يذكر لونه، وله عنه مندوحة.
ولست أشارك في هذا الرأي، فقد ذكر أبو الطيب سواد كافور في القصيدة الأولى، ثم ذكره من بعد، ولم يكن أبو الطيب غبيًّا، فلو أحس كراهة كافور هذا لتجنبه، وقد قدمت أنه لما أنشده:
حلف ليبلغنه جميع ما في نفسه، وفي هذه القصيدة يذكر السواد، ويقول:
فلو كره كافور ذكر السواد هذه الكراهة ما اهتز للقصيدة هذه الهزة.
وينبغي ألا ننسى أن الشاعر بعد أشهر من إقامته بمصر شرع يشكو إخلاف كافور، فلما طال عليه الأمد أكثر من تذكيره واستنجازه في كلام لا يخلو من توبيخ كقوله:
وقوله:
فهذا وأشباهه زاد في نفور كافور، وأبعد الشاعر من غايته.
وقصيدة شبيب التي أنشدها الشاعر أمام كافور، وقصيدة الحمى التي بلغت كافورًا على ألسنة الناس، كان لهما وقع سيئ عليه.
وكذلك مدح فاتك لم يكن ليُرضي كافورًا، وإن أذن به، وقد أثبت فيما تقدم أبياتًا في قصيدة فاتك يمكن عدها تعريضًا بكافور. ولم يقتصر الشاعر على مدح فاتك بل أنس به وركن إليه، وتمكنت بينهما المودة.
ولما مدح أبو الطيب أبا شجاع فاتكًا شق على الأسود وشقت عليه قصيدة الحمى.
ولقائل أن يقول: إن الشاعر ما ألحف في مطالبة كافور وخاطبه بما يقارب التوبيخ، ولا قال ما قال في قصيدة شبيب ولا مدح فاتكًا، إلا بعد أن يئس من كافور.
والجواب أن أبا الطيب أعرب عن رجائه في كافور حتى القصيدة الأخيرة، فحشاشة الأمل في نفسه كانت جديرة أن تمنعه أن يقول ويفعل ما يبعده من آماله.
وما أحسب أبا الطيب كان غبيًّا عن أثر ما يقول ويفعل في نفس كافور، ولكن الرجل كان عظيم النفس، أبيًّا، جريئًا لا يحاسب نفسه فيما يقول ولا يبالي كثيرًا موقع كلامه من نفوس الممدوحين، ولم يكن إشفاقه من العواقب يملك عليه قوله وفعله، ويخفض من كبريائه.
وبعدُ فلا ينبغي أن ننسى الوزير ابن الفرات، وقد أغفله أبو الطيب فلم يمدحه، وقد مدحه شعراء آخرون منهم الناشئ، مدح كافورًا ووزيره، ولو توسل شاعرنا بالوزير لكان أقرب إلى أمله، وأظنه كبر عليه أن يمدحه، أو لم يجد من حفاوته ما يغريه بمدحه، كما أبى مدح الوزير المهلبي في بغداد.
(٦) روايات عن أبي الطيب بمصر
قبل أن أتكلم في رحيل أبي الطيب عن مصر أثبت واقعات حدثت له أيام مقامه بها:
كان أبو بكر الكندي من أدباء مصر وعلمائها في القرن الرابع، برع في الحديث واللغة والنحو والأدب ولقب سيبويه لمكانته في النحو وغريب اللغة، وقد حدث علي بن حمزة، قال حدثني أبو الطيب قال: «وسيبويه هذا فصيح خفيف الروح يركب حمارًا يدور عليه ويتكلم والناس يكتبون ألفاظه.» وقال: «وقف سيبويه المجنون على باب مسجد الجامع بمصر فقال: ملوك الناس ثلاثة أقرع وأفظع وأرقع، وذكر كلامًا كثيرًا، ثم قال: وهذا الذي لهج أهل مصر بشعره، لو قال:
لكان أحسن من «صداقته».
قال علي بن حمزة: فاستحسنت أنا وجميع من حضر وقلنا هو أحسن.
حدث محمد بن الحسن الخوارزمي قال: مررت بمحمد بن موسى الملقب بسيبويه وهو يقول مدح الناس المتنبي على قوله:
ولو قال ما من مداراته أو مداجاته بد لكان أحسن وأجود، قال: واجتاز المتنبي به فوقف عليه وقال: أيها الشيخ أحب أن أراك، فقال له: رعاك الله وحياك؛ فقال له: بلغني أنك أنكرت عليَّ قولي: «عدوًّا له ما من صداقته بد»، فما كان الصواب عندك؟ فقال له: الصداقة مشتقة من الصدق في المودة، ولا تسمي الصديق صديقًا وهو كاذب في مودته، فالصداقة إذن ضد العداوة، ولا موقع له في هذا الموضع، ولو قلت: ما من مداراته أو مداجاته لأصبت. هذا رجل منا (يريد نفسه) قال:
فقال المتنبي: أمع هذا غيره؟ قال: نعم.
فتبسم المتنبي وانصرف، وسيبويه يصيح عليه: أُبكم الرجل وجلال الله.
فلما أكمل إنشاده استعادها منه، ثم صفق بيديه وقال: «يا بن عبد ربه لقد يأتيك العراق حبوًّا.»
فأجابتني عن الكتاب وقالت: ما أنت والله كما ذكرته في هذا البيت، بل أنت كما قال الشاعر في هذه القصيدة:
هذا ولا ريب أن ديوان أبي الطيب قرئ عليه بمصر، وسنبين في الكلام على معرفته باللغة أنه أملى بها تصحيحًا لكتاب المقصور والممدود لابن ولاد.