الرحيل من مصر
(١) هل منع كافور أبا الطيب أن يرحل عن مصر؟
أقام شاعرنا في مصر أربع سنين وستة أشهر كما قدمنا، وقد بينا أنه قد بدأ يشكو مِطال كافور بعد ثلاثة أشهر من قدومه عليه وأنه لم ينشئ في مدحه ما بين شوال سنة ٣٤٧ وسفره من مصر، وهي ثمانية وثلاثون شهرًا، إلا قصيدتين: قصيدة شبيب العقيلي والقصيدة الآخرة، وأنه بعد القصيدة الخاتمة بقي أربعة عشر شهرًا لا يمدح الرجل ولا يلقاه، وقد ذكر الرحيل في شعره مرارًا، فما الذي أمسكه في مصر هذه المدة؟ أكان الرحيل محظورًا عليه؟
يقول في قصيدة الحمى:
ويقول:
فانظر كيف يتمنى الرحيل، ويرى فيه شفاءه، فكيف أقام سنة بعد هذه القصيدة؟
ومن قوله في القصيدة التي هجا بها كافورًا عند رحيله من مصر:
وقوله:
وقوله:
وهذا يُشعر أن كافورًا كان يمنعه المسير.
وفي الديوان ما هو أبين من هذا، في شرح المعري ونسخ من الديوان أن الشاعر كتب إلى كافور يستأذنه في المسير إلى الرملة ليتنجز مالًا بها، وأراد أن يعرف رأيه في مسيره، فأجابه: لا والله، أطال الله بقاءك، لا نكلفك المسير ولكن ننفذ رسولًا يأتيك به، فلما قرأ الجواب قال:
وسنرى في رحيل أبي الطيب إلى الكوفة أنه رحيل هارب لا رحيل مودع مشيع.
فلماذا منع كافور أبا الطيب الرحيل؟ أنزل كافور الشاعر الأبي دارًا، وأعطاه أكثر ما يعطي الشعراء، وحسب أن هذا يكفيه وأنه يكون عنده كما كان عند سيف الدولة، فلما طالبه بولاية أو ضيعة وعده، ثم خافه حين رأى علو نفسه، وبعد أمانيه، ولما سمع من حبسه في صباه، وأنه ادعى النبوة. وأسباب أخرى سنذكرها عند الكلام على هجاء كافور.
فلما ألح أبو الطيب في اقتضاء كافور ما وعده، وأشفق كافور أن يُنيله، بقي الشاعر بين يأس قريب ورجاء بعيد، وتلدد كافور لا يدري ما يفعل، أيولي هذا الرجل الطماح ولاية أم يعطيه ضيعة أم يرضيه بعطاء جزيل ليس هو أهلًا له أم يتركه يذهب حيثما شاء فيعرض نفسه للهجاء، ويحرم مدائح الشاعر الذائع الصيت التي تطير بذكره في الآفاق، فمنى نفسه أن يبقى أبو الطيب بجانبه قانعًا بما يدره عليه بين الحين والحين مشيدًا بذكره.
(٢) من الفسطاط إلى الكوفة
أقام أبو الطيب في مصر أربعة عشر شهرًا لا يمدح كافورًا ولا يلقاه إلا أن يركب فيسير معه لئلا يوحشه.
وفي ليلة عيد الأضحى أنشأ قصيدته الباكية الساخطة التي أولها:
ويقول في هجاء كافور:
وكتب أبو الطيب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي في بلبيس يطلب منه دليلًا، وتتفق الروايات على أنه كتب إليه هذه الأبيات:
ولا ريب أن أبا الطيب كان يعرف عبد العزيز من قبل، ويركن إليه ولولا معرفته إياه ووثوقه به ما كتب إليه ولا مر به، وبرهان هذا أن في النسخة (١٥٣٠) وله في عبد العزيز الخزاعي قبل رحيله من مصر:
فانظر قوله لئن مر بالفسطاط وقوله: «تناول ودي من بعيد فناله» تر أن المودة بدأت بين الرجلين، وأبو الطيب في الفسطاط، وأحسب الشاعر قد كتب إليه يؤذنه بسيره، ويسأله دليلًا، ثم مر به.
وأخفى طريقه حتى قال بعض أهل البادية: هبه سار فهل محا أثره؟ وقال بعض المصريين إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض، وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والجفار وغزة والشام وجميع البوادي.
وأحسب خروج أبي الطيب خفية أثار أحاديث الناس، وخلق طائفة من القصص التي تحركها العامة حول الحادثات الخفية العجيبة وليس عجيبًا أن يتبعه كافور جماعة، ويكتب إلى عماله، فما كان ليرضى خروج شاعره على هذه الشاكلة غير مادح ولا مستأذن، خروجًا يفتح عليه بابًا من الهجاء والتشهير، وأحسب القصيدة التي أنشأها أبو الطيب ليلة العيد بلغت كافورًا بعد قليل فثارت ثائرته. وتحفُّظُ أبي الطيب في مسيره دليل على أنه كان يتوجس شرًّا من كافور أن يتبعه جندًا أو يكتب إلى من يقطع عليه الطريق.
وتتبعُ أبي الطيب في سفره وتعرفُ ما عرض له في طريقه، يشوق كل متأدب معجب بهذا الشاعر الشجاع، وأنا أثبت هنا القصة بعد أن قابلت منها روايتين محرفتين في شرح المعري ونسخة بغداد، ونتفًا في شرح ابن جني، فصححتها على قدر الطاقة.
ثم اهتديت، بعد الطبعة الأولى، إلى نسخة من الديوان قديمة صحيحة جعلتها أصلًا لطبعة الديوان التي أخرجتها على ذكرى الشاعر بعد ألف سنة من وفاته، وفي هذه النسخة مقدمات للقصائد وتفصيل للحوادث لا يجدها الباحث في نسخة أخرى.
وهي توافق في قصة سفر أبي الطيب من مصر إلى العراق ما في شرح المعري إلا قليلًا.
وإليك هذه القصة العجيبة كما جاءت في هذه النسخة:
«وكانت للأسود عليه عيون، وكان جميع جيرانه يراعونه حتى كان قوم يسهرون حذاء منزله يتفقدونه ويتعرفون من يدخل إليه ويخرج من عنده، ويفد كل يوم صاحب الخبر إلى بابه، حتى يقف على حاله، وهو يعلم بذلك فلا يظهره لهم.
وكان يتسلى بفاتك والحديث معه، وتوفي فاتك فعمل أبو الطيب على الرحيل، وقد أعد كل ما يحتاج إليه على مر الأيام في رفق ولطف لا يعلم به أحد من غلمانه، وهو يظهر الرغبة في المقام، وطال عليهم التحفظ فخرج فدفن الرماح في الرمل، وحمل الماء على الإبل في الليل من النيل عُدة لعشر ليال، وتزود لعشرين.
وكتب إلى عبد العزيز بن يوسف الخزاعي «الأبيات التي قدمتها» وأخفى طريقه فلم يأخذوا له أثرًا حتى قال بعض أهل البادية؛ هبه سار فهل محا أثره، وقال بعض المصريين: إنما أقام حتى عمل طريقًا تحت الأرض.
وتبعته البادية والحاضرة ومن وثقوا به من الجند، وكتبوا إلى عمالهم بالحوفين والفجار وغزة والشام وجميع البوادي.
وحسمَى هذه أرض طيبة، تؤدي أثر النحلة من لينها، وتنبت سائر النبات مملوءة جبالًا في كبد السماء متناوحة ملس الجوانب، إذا نظر الناظر إلى قلة أحدها فتل عنقه حتى يراها، بشدة، ومنها ما لا يقدر أحد أن يصعده، ولا يكاد القتام يفارقها، وذلك معنى قول النابغة:
وقد اختلف الناس في تفسير هذا البيت ولم يعلموا ما أراد، وتكون مسيرة ثلاثة أيام في يومين يعرفها من رآها من حيث رآها؛ لأنها لا مثيل لها في الدنيا ومن جبالها جبل يُعرف بأرم عظيم العلو تزعم البادية أن عليه كرومًا وصنوبرًا.
وكان مخلب هذا خرج يطلب ناقة له فقدها، وكانت فزارة قد أخذت غزيًّا غزاها فكانت الأسرى في القد بين البيوت فسمعه بعض الأسرى ينشد الناقة، فقال هي بموضع كذا وكذا وجدناها أمس فشربنا لبنها وتركناها لنعود فنأخذها؛ فنادى مخلب على شهادتكم يا معشر العرب، ثم عاد فلبس سلاحه وركب فرسه وقال: الغزي ضيوفي، فخلصهم من القد بعد اختلاف الناس وخوف الشر، فرد عليهم كل شيء أخذ لهم، وقراهم وسيرهم وقال:
وكان بينه وبين أمير بني فزارة حسان بن حكمة مودة وصداقة فنزل بجار للقوم ليوري عنهم فلا يعلم بما بينه وبينهم واسم الجار وردان بن ربيعة من طي ثم من معن ثم من بني شبيب، فاستغوى عبيده وأفسدهم عليه وأجلسهم مع امرأته، فكانوا يسرقون له الشيء بعد الشيء من رحله.
وطابت حِسْمَى لأبي الطيب فأقام بها شهرًا، وكتب الأسود إلى من حوله من العرب ووعدهم، وظهر لأبي الطيب فساد عبيده، وكان الطائي يرى عند أبي الطيب سيفًا مستورًا فيسأله أن يريه إياه فلا يفعل؛ لأنه كان على قائمه ونعله ذهب من مائة مثقال، وكان السيف لا ثمن له، فجعل الطائي يحتال على العبيد بامرأته طمعًا في السيف؛ لأن بعضهم أعطاه خبره.
فلما أنكر أبو الطيب أمر العبيد، ووقف على مكاتبة الأسود لكل العرب التي حوله في أمره، أنفذ رسولًا إلى فتى من بني فزارة ثم من بني مازن ثم ولد هرم بن قطبة بن سيار يقال له: فليتة بن محمد، وفيهم يقول بعض البادية:
فلما أصبح أتبع العبد علي الخفاجي وعلوان المازني، وأخذا أثره فأدركاه عصرًا وقد قصر الفرس الذي تحته، فسألهما عن مولاه فقالا جاءك من ثم؛ وأشارا إلى موضع، فدنا منهما كالعائذ وهو يتبصر، فقالا له: تقدم، فقال: ما أراه، فإن رأيته جئتكما، وإن لم أره فما لكما عندي إلا السيف، فامتنع منهما، وعادا في غد ووافق عودة فليتة، فقال فليتة: لقد كان فيما جرى خيرة؛ لأن الوقت الذي اشتغلتم بقتله فيه، كانت سرب الخيل عابرة مع ذلك العلم، ولو كنتم زلتم عن موضعكم لحدث بعضكم بعضًا، فقال أبو الطيب ارتجالًا:
وقال فيه:
وقال أيضًا (في العبد الذي قتله):
وسار أبو الطيب حتى نظر إلى آثار الخيل، ولم يجد مع فليتة خبرًا عن العرب التي طلبها، فقال له: اخرق بنا على بركة الله إلى دومة الجندل، وذلك أنه أشفق أن تكون عليه عيون بحسمى قد علمت أنه يريد البياض فسار حتى انحدر إلى الكفاف فورد البويرة بعد ثلاث ليال، وأدركتهم لصوص أخذت آثارهم وهم عليها فلم يطمعوا فيهم، وسار معهم حمصي بن القلاب.
فلما توسط بسيطة (وهي أرض تقرب من الكوفة) رأى بعض عبيده ثورًا يلوح فقال: هذه منارة الجامع، ونظر آخر إلى نعامة في جانبها الآخر، فقال وهذه نخلة، فضحك أبو الطيب وضحكت البادية فقال:
وورد العقدة بعد ليال وسقى بالجراوي؛ واجتاز ببني جعفر بن كلاب، وهم بالبريت والأضارع فبات فيهم؛ وسار إلى أعكش حتى ورد الرهيمة، ودخل الكوفة فقال في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة:
ا.ﻫ.»
وحقٌّ أن مسير أبي الطيب من الفسطاط إلى الكوفة على هذه الشاكلة تصديقُ ما ادعى في شعره من الجرأة والدربة على الأسفار بالليل والنهار، والخبرة بالبوادي، والمعرفة بقبائل العرب وسادتها، والدهاء والحزم. وقد صدق حين قال:
(٣) بلوغه الكوفة
بلغ أبو الطيب الكوفة في شهر ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط، فأنشأ قصيدة يعدد فيها المواضع التي مر بها في مسيره، وقد عد واحدًا وعشرين موضعًا، ويفخر بما فعل ويهجو كافورًا، وأول القصيدة:
وذكر مواضع مر بها إلى أن قال:
ثم أخذ يهجو كافورًا ووزيره، ويصف حاله في مدحه:
هكذا رجع الشاعر الهمام إلى بلده بعد أن غاب عنها نحو ثلاثين سنة.