أبو الطيب في العراق
(١) حال العراق إذ ذاك
نشأت دولة بني بويه في أوائل القرن الرابع الهجري، وتعاون الإخوة الثلاثة علي والحسن وأحمد بنو بويه على التسلط في فارس والعراق واستولى أصغرهم أحمد على بغداد سنة ٣٣٤ﻫ، وكان بها الخليفة العباسي المستكفي بالله، فمنحهم الولاية على ما بأيديهم ولقب عليًّا عماد الدولة، والحسن ركن الدولة، وأحمد معز الدولة؛ وقد تنازع بنوهم على السلطان من بعد، وتشعبت إماراتهم، وبقي ملكهم في العراق إلى سنة ٤٤٧ حين استولى عليه السلاجقة.
بقي معز الدولة في بغداد حتى تُوفِيَ سنة ٣٥٦، وكان استيلاؤه على العراق إيذانًا بانتقال السلطان جملة من أيدي الخلفاء إلى ملوك البويهيين، فبعد أسابيع من دخوله بغداد خلع الخليفة المستكفي بالله وسمل عينيه وولي مكانه الخليفة المطيع.
وكان هذا الاستيلاء إيذانًا بالخراب فقد شغب الجند على معز الدولة طالبين أرزاقهم، فأخذ الأموال من الناس ظلمًا، وأقطع قواده القرى جميعها، فأهملوا الطرق والمشارب فخربت المزارع، وكانوا كلما نقص الدخل زاد ظلمهم، ومصادرتهم أموال الناس.
وقدم أبو الطيب العراق بعد ستة عشر عامًا من استيلاء معز الدولة فوجدها أسوأ حالًا منها يوم تركها، وأقام بالكوفة التي هجرها في صباه مرات فرارًا من القرامطة والأعراب، فشهد بعد سنتين من قدومه غارة بني كلاب عليها، وشارك هو في الحرب والدفاع عنها، وسيأتي ذكر هذا بعد.
وكان يلي الوزارة الحسن بن محمد المعروف بالوزير المهلبي وليها ثلاثة عشر عامًا وثلاثة أشهر من سنة ٣٣٩ إلى سنة ٣٥٢.
وكان أديبًا شاعرًا اجتمع حوله جماعة من الأدباء منهم القاضي التنوخي، وأبو الفرج الأصفهاني، ومدحه جماعة من الشعراء منهم السري الرفاء، وابن البقال، وألف علي بن هرون المنجم كتابًا باسمه.
وكان جوادًا ذا مروءة معوانًا لأصحاب الحاجات، رتب لرجل فقير عرف أنه من أولاد معن بن زائدة مائة دينار وكسوة كل سنة، ولما مات التنوخي صلى عليه وقضى دينه وكان خمسين ألف درهم.
وكان مسرفًا في بذخه كلفًا بمجلس اللهو والمجون عرف بها.
وسترى ما كان بينه وبين أبي الطيب.
(٢) في الكوفة
أقام أبو الطيب في العراق منذ قدمها في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة إلى أن سافر إلى فارس في صفر سنة أربع وخمسين، وذلك زهاء ثلاث سنين، وكانت إقامته ببلده الكوفة، ولسنا ندري كم مرة ذهب إلى بغداد، والروايات تصف قدومه إلى بغداد وإقامته بها مرة واحدة، وسنرى أن بغداد لم تكرم مثواه فأحسبه ما ذهب إليها من بعد إلا في طريقه إلى فارس سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
- (أ)
في جمادى الثانية سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة كان هجاؤه لضبة بن زيد العيني.
وفي نسخ كثيرة من الديوان قصة هذا الهجاء متفقة في فحواها مختلفة في التفصيل، وأوفاها رواية المعري ونسخة بغداد، وهذا نسقها:
كان قوم من أهل العراق قتلوا يزيد العيني ونكحوا امرأته، ونشأ منها له ولد بالعين يُسمى ضبة يغدر بكل من نزل به وأكل معه أو شرب.
واجتاز أبو الطيب بالطف فنزل بأصدقاء له، وسارت خيلهم إلى هذا العبد واستركبوه فلزمه المسير معهم، فدخل العبد الحصن وامتنع به وأقاموا عليه أيامًا لا سلاح له إلا شتمهم من وراء الحصن أقبح شتم، ويسمي أبا الطيب باسمه ويشتمه، وأراد القوم أن يجيبوه بمثل ألفاظه، وسألوه ذلك فتكلف لهم على مشقة، وعلم أنه لو سبه لهم معرضًا لهم يفهم ولم يعمل فيه عمل التصريح فخاطبه على ألسنتهم من حيث هو فقال:
ما أنصف القوم ضبهوأمه الطرطبه … إلخوهي قصيدة بلغ فيها الغاية من الإقذاع وأبو الطيب إذا حقد أفاض حقده هجاء لا يبالي فيه ما يقول، وسير أبي الطيب مع أصدقائه لقتال ضبة أو شتمه دليل على ما تمكن فيه من طباع البادية، وسيأتي أن الرجل كان بدويًّا في طباعه وسيرته، ثم إفحاشه في هذا الهجاء لا يقوم به الاعتذار بأن ضبة لم يكن يفهم التعريض، فمن قبل هجا ابن كيغلغ فلم يقصر في الإفحاش والتصريح.
ويقول ابن جني في شرحه ديوان أبي الطيب: «ورأيته وقد قرأت عليه هذه القصيدة وهو ينكر إنشادها.» وقال الواحدي: «كان المتنبي إذا قرئت عليه هذه القصيدة ينكر إنشادها، وأنا أيضًا والله أنكر كتابتها وتفسيرها، ولست أرويها، إنما أحكيها على ما هي عليه، وأستغفر الله تعالى من خط ما لا يُزلف لديه.»
- (ب)
وبعد ستة أشهر من هذه الواقعة كانت حوادث في الكوفة اشترك فيها أبو الطيب وقاتل، ثم مدح قائد الجيش الذي قدم من بغداد لحرب الأعراب الذين أغاروا على البلد.
قال في شرح المعري ومثله في نسختي:ونجم خارجي من بني كلاب بظهر الكوفة، وذُكر له أن خلقًا من أهل الكوفة قد أجابوه وحلفوا له، فسارت إليها بنو كلاب معه ليأخذها، ورفعت الرايات، وخرج أبو الطيب على الصوت من ناحية قطوان، فلقيته قطعة من الخيل في الظهر فقاتلها ساعة، فانكشفت وقد جرح فيها وقتل منها، وسار في الظهر حتى دخل إلى جمع السلطان والرعية من درب البراجم، ووقعت المراسلة سائر اليوم وعادوا من غد فاقتتلوا إلى آخر النهار فلم يصنع الخارجي شيئًا، ورجع وقد اختلفت فيه بنو كلاب وتبرأ بعضها منه، وعاد بعد أربعة أيام فالتقوا في الظهر فوقعت بالسلطان والعامة جراح، وقتل من بني كلاب، وطعن فرس لأبي الطيب تحت غلام له في لبته فمات لوقته، فحمله أبو الحسن محمد بن عمر العلوي على فرس، وجرح غلام له فرسين وقتل رجلًا.
وعادوا من غد فالتقى الناس عند دار أسلم وبينهم حائط فقتل من بني كلاب بالنشاب عدة فانصرفوا ولم يقفوا لقتال.
ووردت الأخبار إلى بغداد فسار أبو الفوارس دلير بن لشكروز في جماعة من القواد، فورد الكوفة بعد رحيل بني كلاب، فأنفذ إلى أبي الطيب ساعة نزل، ثيابًا نفيسة من ديباج رومي وخز وديبقي فقال يمدحه، وأنشده إياها في الميدان وهما على فرسيهما، وكان تحت دلير جواد أصفر وعليه حلية ثقيلة فقاده إليه، وذلك كله في ذي الحجة سنة ٣٥٣.
ومطلع القصيدة:
كدعواك كل يدعي صحة العقلومن ذا الذي يدري بما فيه من جهللهنك أولى عاذل بملامةوأحوج ممن تعذلين إلى العذلتقولين ما في الناس مثلك عاشقجدي مثل من أحببته تجدي مثليمحب كنى بالبيض عن مرهفاتهوبالحسن في أجسامهن عن الصقلوبالسمر عن سمر القنا غير أننيجناها أحبائي وأطرافها رسليعدمت فؤادًا لم تبت فيه فضلةلغير الثنايا الغر والحدق النجلويصف ممدوحه بالعفة والشجاعة، وهما خلتان يحبهما الشاعر:
عفيف تروق الشمسَ صورةُ وجههفلو نزلت شوقًا لحاد إلى الظلشجاع كأن الحرب عاشقة لهإذا زارها فدته بالخيل والرجلوريان لا تصدى إلى الخمر نفسهوصديان لا تروى يداه من البذلفتمليك دلير وتعظيم قدرهشهيد بوحدانية الله والعدل
(٣) أبو الطيب في بغداد
ذهب أبو الطيب إلى بغداد بعد رجوعه من مصر إلى الكوفة، ولا ندري متى ذهب إليها، ولكنا نعلم أنه خرج منها في شعبان سنة اثنتين وخمسين؛ ونحن نعرف أنه لقي الوزير المهلبي حين قدومه بغداد ونعرف أن المهلبي برح بغداد إلى البصرة في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين، ومات قبل أن يرجع إلى دار الخلافة، فقد كان أبو الطيب ببغداد من جمادى إلى شعبان، ولا ندري كم أقام قبل هذا، وأحسبه لم يطل الإقامة بها.
وكان ببغداد معز الدولة بن بويه ووزيره المهلبي، ولا ريب أنهما تطلعا إلى مدح الشاعر النابه الذي أشاد ببني حمدان خصوم بني بويه، ولكن أبا الطيب لم يمدح الملك ولا وزيره، فلماذا؟ قال صاحب الإيضاح: فلما حصل المتنبي ببغداد نزل في ربض حميد فركب إلى المهلبي فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه، وصاعدٌ خليفته دونه، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، فأنشدوا هذا البيت:
وقال المتنبي جرابا. وهذه أمكنة قتلتها علمًا، وإنما الخطأ وقع من النقلة، فأنكره أبو الفرج.
قال الشيخ هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جرامًا بالميم، وهذا الصحيح وعليه علماء اللغة.
وتفرق المجلس عن هذه الجملة، ثم عادوا في اليوم الثاني، وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل، وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف، واستهتاره بالهزل، واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه، وكان المتنبي مر النفس صعب الشكيمة حادًّا مجدًّا فخرج.
فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق بلجام دابته في صينية الكرخ وقد تكابس الناس عليه من الجوانب وابتدأ ينشده:
فصبر عليه المتنبي ساكتًا ساكنًا إلى أن نجزها ثم خلى عنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله.
وابن الحجاج هذا شاعر خليع ماجن فلم يكن أبو الطيب ليعبأ به.
فهذه الرواية ترينا تطلع الرؤساء إلى مدح أبي الطيب وأن المهلبي كان راغبًا في مديحه مغيظًا من إغفاله إياه.
ولست أرى رأي الثعالبي في اليتيمة أن أبا الطيب ترفع عن مدح المهلبي ذهابًا بنفسه عن مدح غير الملوك، فلو صح هذا ما مدح ابن العميد، والذي أراه أن أبا الطيب ازدرى المهلبي كما قال صاحب الإيضاح، وأن المهلبي لم يلقه من التكريم والإعظام بما يُنشطه إلى مدحه، وأحسب أبا الطيب كان يريد مدحه وأنه لذلك زاره مرتين، وكان المهلبي وسيلته إلى معز الدولة كما كان ابن العميد وسيلته إلى عضد الدولة، فلما غاضب المهلبي لم يجد إلى معز الدولة وسيلة.
فأغرى به شعراء بغداد حتى نالوا من عرضه، وتباروا في هجائه وفيهم ابن الحجاج وابن سكرة الهاشمي، والحاتمي، وأسمعوه ما يكره، وتماجنوا به وتنادروا عليه فلم يجبهم ولم يفكر فيهم، وقيل له في ذلك، فقال: إني قد فرغت من إجابتهم بقولي لمن هم أرفع طبقة منهم في الشعراء:
وقولي:
وقولي:
وبلغ أبا الحسين بن لنكك بالبصرة ما جرى على المتنبي من وقيعة شعراء بغداد فيه واستحقارهم، وكان حاسدًا له طاعنًا عليه هاجيًا إياه، زاعمًا أن أباه كان سقاء بالكوفة، فشمت به وقال:
وفي اليتيمة بعد هذا قطعتان أخريان من أهاجي ابن لنكك فيهما ستة أبيات.
مناظرة الحاتمي
وقد قال ياقوت عن الحاتمي هذا إنه كان مبغضًا لأهل العلم وهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرة.
ويذكر الثعالبي وغيره قصة المتنبي في بغداد ثم يقولون إنه خرج منها إلى ابن العميد، وليس هذا حقًّا فقد لبث سنة ونصفًا في الكوفة بعد مفارقته بغداد ثم مر ببغداد في طريقه إلى أرجان.