الفصل السادس عشر
أبو الطيب وسيف الدولة
لما سمع سيف الدولة بخروج أبي الطيب من مصر مراغمًا كافورًا وبلوغه الكوفة كاتبه معرضًا
برجوعه إلى حلب، وأهدى إليه مرة بعد مرة، وفي بعض نسخ الديوان أنه أرسل ابنه إليه، فأجابه
أبو
الطيب في شوال سنة ٣٥٢ بعد ست سنين من فراقه بقصيدة يتبين فيها حزنه وإكباره سيف الدولة،
ولكنه
يتغاضى عما أراده الأمير من رجوع شاعره إليه.
وكان سيف الدولة خرج وهو مريض للقاء الروم وقد ساروا لغزو طرسوس فرجعوا، وبلغ أبا
الطيب
الخبر فذكر حرب الروم في قصيدته، يقول في مطلعها:
ما لنا كلنا جو يا رسول
أنا أهوى وقلبك المتبول
كلما عاد من بعثت إليها
غار مني وخان فيما يقول
أفسدت بيننا الأمانات عينا
ها وخانت قلوبهن العقول
وفي هذا إشارة إلى حساده الذين أفسدوا بينه وبين سيف الدولة، ثم يقول فيمزج الحزن
بالنسيب:
زودينا من حسن وجهك ما دام
فحسن الوجوه حال تحول
وصلينا نصلك في هذه الدنيا
فإن المقام فيها قليل
من رآها بعينها شاقه القطان
فيها كما تشوق الحمول
ويقول في مدح سيف الدولة:
الذي زلت عنه شرقًا وغربًا
ونداه مقابلي ما يزول
ومعي أينما سلكت كأني
كل وجه له بوجهي كفيل
إلى أن يقول:
كيف لا تأمن العراق ومصر
وسراياك دونها والخيول
لو تحرفت عن طريق الأعادي
ربط السدر خيلهم والنخيل
ودرى من أعزه الدفع عنه
فيهما أنه العزيز الذليل
أنت طول الحياة للروم غاز
فمتى الوعد أن يكون القفول
وسوى الروم خلف ظهرك روم
فعلى أي جانبيك تميل
قعد الناس كلهم عن مساعيك
وقامت بها القنا والنصول
ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول
وفي هذا تعريض بالإخشيديين وبني بويه ملوك مصر والعراق.
لست أرضى بأن تكون جوادًا
وزماني بأن أراك بخيل
نغص البعد عنك قرب العطايا
مرتعي مخصب وجسمي هزيل
إن تبوأت غير دنياي دارًا
وأتاني نيل فأنت المنيل
من عبيدي إن عشت لي ألف كافو
ر ومن نداك ريف ونيل
ثم توفيت أخت سيف الدولة الكبرى في ميا فارقين (في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة)
وورد
خبرها إلى العراق فقال يرثيها في المحرم سنة ثلاث وخمسين بقصيدة أولها:
١
يا أخت خير أخ يا بنت خير أب
كنايةً بهما عن أشرف النسب
طوى الجزيرة حتى جاءني، خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وكان لهذا الرثاء أثره في نفس ابن حمدان فأرسل بعدُ إلى أبي الطيب هدية ومالًا وأمانًا
بخطه
وكتابًا يستدعيه، فكتب أبو الطيب في ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين قصيدة أولها:
فهمت الكتاب أبر الكتب
فسمعًا لأمر أمير العرب
وطوعًا له وابتهاجًا به
وإن قصر الفعل عما يجب
ويقول معتذرًا عن القعود عنه:
وما عاقني غير خوف الوشاة
وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم
وتقريبهم بيننا والخبب
وقد كان ينصرهم سمعه
وينصرني قلبه والحسب
وما قلت للبدر أنت اللجين
ولا قلت للشمس أنت الذهب
فيقلق مني البعيد الأناة
ويغضب مني البطيء الغضب
وما لاقنى بلد بعدكم
ولا اعتضت من رب نعماي رب
ومن ركب الثور بعد الجواد
أنكر أظلافه والغبب
وما قست كل ملوك البلاد
فدع ذكر بعض بمن في حلب
ويذكر محاربته الروم وجهاده حاميًا للثغور الإسلامية، ثم يختم القصيدة بقوله:
أرى المسلمين مع المشركين
إما لعجز وإما رهب
وأنت مع الله في جانب
قليل الرقاد كثير التعب
كأنك وحدك وحدته
ودان البرية بابن وأب
فليت سيوفك في حاسد
إذا ما ظهرت عليهم كئب
وليت شكاتك في جسمه
وليتك تجزي ببغض وحب
فلو كنت تجزي به نلت منك
أضعف حظ بأقوى سبب
ويتبين من هذه القصيدة أن أبا الطيب كان لا يزال عاتبًا على سيف الدولة معاتبًا إياه
على ما
كان يصغي إلى المفسدين بينهما في الحين بعد الحين.
انظر قوله: وقد كان ينصرهم سمعه إلخ، وقوله آخر القصيدة: وليتك تجزي ببغض وحب إلخ،
وكان إلى
هذا العتب يخشى أن يعود الوشاة إلى الإفساد بينهما:
وما عاقني غير خوف الوشاة
وإن الوشايات طرق الكذب
ثم كان إلى هذا وذاك حياء الشاعر من لقاء الأمير ومصاحبته بعد ما فارقه مراغمًا وعرض
به في
القصائد المصريات.
وسنرى أنه في مدح عضد الدولة لم يتجنب ما يسيء إلى سيف الدولة كقوله:
وقد رأيت الملوك قاطبة
وسرت حتى رأيت مولاها
وقد رُوي أن سيف الدولة لما سمع هذا البيت قال: تُرى هل نحن في الجملة؟
ولو أنه كان يفكر في الرجوع إلى بني حمدان بعد العودة إلى العراق أو يرى هذه العودة
ممكنة
يومًا لتجنب ما يسوء الأمير وما يكدر المودة بعد ما صفت.