أبو الطيب في فارس
(١) عند ابن العميد
ذكر الخطيب أبو زكريا التبريزي في شرحه ديوان المتنبي أن المتنبي لما قصد مصر ومدح كافورًا مدح الوزير أبا الفضل المذكور بقصيدته الرائية التي أولها:
وجعلها موسومة باسمه، فكانت إحدى قوافيها جعفرًا، وكان قد قال فيها:
فلما لم يرضه صرفها عنه ولم ينشده إياها، فلما توجه إلى عضد الدولة قصد أرجان، وبها أبو الفضل بن العميد فحول القصيدة إليه، وحذف منها لفظ جعفر وجعل ابن العميد مكان ابن الفرات.
وقال صاحب الإيضاح: «وكان السبب في قصده أبا الفضل بن العميد على ما أخبرني أبو علي بن شبيب القاشاني — وكان أحد تلامذتي ودرس علي بقاشان سنة ثلاثمائة وسبعين وتوزَّر للأصبهبد بالجبل وأبوه أبو القاسم توزَّر لوشمكير بجرجان — عن العلوي العباسي نديم أبي الفضل بن العميد الذي يقول فيه:
أن المعروف بالمطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور:
وهاتان روايتان خليقتان بالرد، ويكفي التأمل في القصيدتين لنرى كذب الروايتين، ففي القصيدة الرائية أبيات لا تصلح لخطاب ابن الفرات ولا مدحه، وأبيات تصف سفر أبي الطيب إلى أرجان، وما كان أبو الطيب عييًا بالشعر فيحول قصيدة من مدح ابن الفرات إلى مدح ابن العميد ويتكلف حذف أبيات وإثبات أبيات، وتغيير أخرى لتلائم ممدوحه الثاني.
والقصيدة البائية فيها ندم أبي الطيب على فراق سيف الدولة وأبيات فيها اسم كافور، وأبيات فيها لوم كافور على حرمانه الشاعر مما أمَّل، ويذكر الشاعر في القصيدة العيد وشوقه إلى أهله، ثم أبيات أخرى لا تلائم مدح ابن العميد. وما كان الشاشي ليغفل عن هذا وما كانت هذه الرسالة المفتراة لتخيل عند ابن العميد النقادة.
وروى صاحب الصبح المنبي أن ابن العميد كان يخاف ألا يقصده أبو الطيب ويعامله معاملة المهلبي، فكان يتحامل عليه ويغض من شعره.
رُوي عن بعض أصحاب ابن العميد قال: «دخلت عليه يومًا قبل دخول المتنبي فوجدته واجمًا، وكانت قد ماتت أخته عن قريب فظننته واجدًا لأجلها، فقلت: لا يحزن الله الوزير فما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني أمر هذا المتنبي واجتهادي في أن أُخمل ذكره وقد ورد عليَّ نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها إلا وقد صدر بقوله:
فكيف السبيل إلى إخماد ذكره؟ فقلت: القدر لا يغالب، والرجل ذو حظ من إشاعة الذكر واشتهار الاسم، فالأولى ألا تشغل فكرك بهذا الأمر.
ويؤخذ من رواية الصبح المنبي أن ابن العميد لم يرسل إلى المتنبي يدعوه، وفي بعض نسخ الديوان أنه أرسل إليه، في نسخة الوزير تاج الدين المحفوظة في دار الكتب المصرية والتي رمزت إليها بالحرف ت في تعليق على الديوان: «ثم خرج أبو الطيب من الكوفة إلى العراق (لعله يريد بغداد) فراسله ابن العميد أبو الفضل محمد بن الحسين وزير ركن الدولة من أرجان فسار إليه.»
كنت مع المتنبي لما ورد أرجان، فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض يتعبدون بي، وقصدت رب هذه المدرة، فما يكون منه؟ ثم وقف بظاهر المدينة وأرسل غلامًا على راحلته إلى ابن العميد، فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيب خارج البلد، وكان وقت القيلولة وهو مضجع في دسته، فثار من مضجعه واستثبته ثم أمر حاجبه باستقباله، فركب واستركب من لقيه في الطريق، ففصل عن البلد بجمع كثير فتلقوه وقضوا حقه وأدخلوه البلد، فدخل على أبي الفضل فقام له من الدست قيامًا مستويًا، وطُرح له كرسي عليه وسادة ديباج، وقال أبو الفضل: كنت مشتاقًا إليك يا أبا الطيب.
ثم أفاض المتنبي في حديث سفره، وأن غلامًا له احتمل سيفًا وشذ عنه.
وأخرج من كمه عقب هذه المفاوضة درجًا فيه قصيدته:
لبث أبو الطيب شهرين عند ابن العميد، وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه.
وقد مدح الشاعر ابن العميد بثلاث قصائد؛ الأولى التي مطلعها:
وفيها يقول بعد النسيب:
فقد رجع إلى ذكر الخيل والسلاح والأعادي كما ترى في البيت الأخير. ويصف بلاغة ابن العميد ومهابته ثم يقول:
ربما يظن أن في قول أبي الطيب: «تركت دخان الرمث إلخ» و«من مبلغ الأعراب إلخ» تحقيرًا للعرب لا يجمل بهذا الشاعر العربي القح، وجواب هذا في الكلام على العروبة في شعر أبي الطيب فيما يأتي.
والقصيدة التالية مدحه بها يوم النوروز وقد انتقد ابن العميد شعره فهو يمدحه ويعتذر بقوله:
وقال صاحب الإيضاح: أرسل ابن العميد بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب، وما سمعته دونه. فلم يحر جوابًا إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئًا ومعتذرًا.
وفي الأبيات اعتراف بما أخذه ابن العميد عليه، واعتذار عنه، وكأن شاعرنا استشعر الهيبة حين مدح أديبًا كبيرًا وهو لم يتعود مدح الأدباء النقاد، كما يقول: ما تعودت أن أرى كأبي الفضل … إلخ.
وقد أدرك الواحدي هذا فقال في شرح هذا البيت: وهذا يدل على تحرز المتنبي منه وتواضعه له، ولم يتواضع لأحد في شعره ما تواضع له.
وأزيد على هذا أن اهتمام الشاعر بابن العميد وتهيبه إنشاد هذا الأديب العالم أوحيا إلى أبي الطيب شيئًا من التكلف والإغراب في القصيدة الأولى، فقد أراد أن يأتي بأمر بدع، وأن يتفلسف مسايرة لابن العميد فحط هذا من شعره.
وبعد هذه القصيدة في الديوان قطعتان الأولى خمسة أبيات أنشأها حين ورد عليه كتاب من أبي الفتح بن أبي الفضل بن العميد يثني عليه ويذكر شوقه إليه، وهي:
والثانية أربعة أبيات يصف فيها مجمرة رآها عند ابن العميد:
ثم يودعه بالقصيدة الثالثة:
وفيها يصف غلمانه الذين صحبوه في أسفاره كما وصفهم من قبل في مرثية فاتك الميمية:
إلى أن يقول في مدح ابن العميد:
ثم يقول:
وفي هذا تسوية نفسه بابن العميد وهي عادته في مدائحه. ثم يذكر أهله وانتظارهم رجوعه:
(٢) عند عضد الدولة
كان عضد الدولة بصيرًا بالأدب له شعر جيد، وكانت دولته هو وبني بويه عامة دولة للأدب العربي، وتولى الوزارة لهم ابن العميد والصاحب والمهلبي.
وكان الشعر الفارسي يترعرع في الجهات النائية من فارس لا في الجهات القريبة من العراق العربي، ولم يهتم أحد من بويه ووزرائهم بشعراء الفرس، إذ كان الأدب العربي غالبًا، والشعر العربي أبعد صيتًا وأروج سوقًا.
أرسل عضد الدولة إلى ابن العميد يسأله أن يدعو أبا الطيب إلى المسير إليه، وكان الشاعر يريد العود من أرجان إلى الكوفة، وفي قصيدة وداع ابن العميد ما يشعر بهذا، فقد اعتذر عن الرحيل بتطلع أهله إليه، وهذا صريح في كلام صاحب الإيضاح فهو يقول: «لما ودع أبا الفضل بن العميد ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه فعرفه ابن العميد، فقال: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل: عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به. فأجاب بأني مُلَقَّى من هؤلاء الملوك، أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئًا يبقى ببقاء النيرين، ويعطونني عرضًا فانيًا، ولي ضجرات واختيارات فيعوقونني عن مرادي فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه …» فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن.
وصدق أبو الطيب في حديثه عن الملوك وفراقهم فكذلك فارق سيف الدولة وكافورًا.
وفي شرح المعري:
«وجه أبو شجاع عضد الدولة في طلبه، ولم يمكن الأستاذ مخالفته فحمله مكرهًا.
سار من أرجان فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب، فلما تلاقيا وتسايرا استنشده فقال المتنبي: الناس يتناشدونه فاسمعه. فأخبر أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي، فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها:
ثم دخل البلد فأنزل دارًا مفروشة ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى وأنشده أبياتًا من كلمته وهي:
فقال عضد الدولة: هو ذا يتهددنا المتنبي.
ثم لما نفض غبار السفر واستراح ركب إلى عضد الدولة فلما توسط الدار انتهى إلى قرب السرير مصادمة فقبل الأرض واستوى قائمًا، وقال شكرت مطية حملتني إليك، وأملًا وقف بي عليك، ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر، وعن علي بن حمدان فذكره وانصرف.» ا.ﻫ.
أنشأ أبو الطيب عند عضد الدولة ست قصائد وأرجوزة طردية وقطعة، وإحدى القصائد تعزية بعمة عضد الدولة التي توفيت ببغداد، والأخريات مدائح ليس فيها من التاريخ إلا وصفه هزيمة وهشوذان الكردي الثائر على بني بويه في قصيدتين.
وأولى القصائد القصيدة التي مطلعها:
ويؤخذ من الإيضاح أن الأولى هي التي وصف فيها الشعب في طريقه إلى شيراز:
ولكن ترتيب الديوان وعنوان الأولى في النسخ، وقوله في الثانية يصف ابني عضد الدولة:
وهو لم يرهما إلا بعد قدومه إلى شيراز، وغشيانه مجلس عضد الدولة.
كل هذا يدل على أن الأولى هي: أوه بديل من قولتي واها.
ويعنينا من هذه القصائد في تاريخ أبي الطيب أنه استوحش من فقد العربية في فارس، وذكر الشام وحن إليها في قصيدتين، ولم نر ذلك في شعره بمصر والعراق كأنه حن إلى ملاعب الصبي من بلاد العرب حين رحل إلى بلاد العجم، يقول في القصيدة الأولى:
ويقول في الثانية:
إلى أن يقول وقد افتقد الضيافة التي تعودها في بلاد العرب:
وكذلك يدل على حنينه إلى العرب، ولا سيما باديتهم وهو مغرم بالبداوة، تغزله بالبدويات في القصيدة اللامية التي مدح بها عضد الدولة:
يقول فيها:
وقد وصل عضد الدولة الشاعر صلات كثيرة، روى صاحب الإيضاح أنه لما أنشده القصيدة الأولى «حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية والأمنان، من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد فرسه الملقب بالمجروح، وكان اشتُري له بخمسين ألف شاة، وبدرةً دراهمها عدلية، ورداء حشوه ديباج رومي مفصل، وعمامة قومت بخمسمائة دينار، ونصلًا هنديًّا مرصع النجاد والجفن بالذهب.»
وأنه لما دخل عليه يوم نثر الورد قال ما خدمت عيناي قلبي كاليوم، وأنشده قطعة فأعطاه فرسًا وخلعة وبدرة.
وروى صاحب اليتيمة أنه وصله بأكثر من مائتي ألف درهم، وأنه لما استأذنه في المسير أمر أن يخلع عليه الخلع الخاصة، ويقاد إليه الحملان الخاص، وتعاد صلته بالمال الكثير.
وقد ظهر أثر هذا في شعر أبي الطيب ولا سيما قصيدة التوديع.
أقام أبو الطيب في شيراز زهاء ثلاثة أشهر وقرئ عليه ديوانه، ثم أنشد قصيدة الوداع في شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ولا بد من وقفة نتأمل فيها هذه القصيدة.
يبالغ الشاعر في شكر الأمير ويقول:
ويظهر الشاعر رغبته في الرجوع إلى الأمير:
ويقول:
ويعتذر بأن أهله في شوق إليه وحزن لغيابه.
ويقول ما يدل على أنه يتوقع شرًّا في طريقه:
فقوله: وأيَّا شئت إلخ … وقوله: إن يمن فناخسر يشرد عنه الأعداء والطعن، وإن رضاه سلاح له في طريقه، يشعر أنه يخاف الطريق، ويحذر عدوًّا عليها أو لصًّا.
وقد روى العكبري أن عضد الدولة قال: تطيرت عليه من ترك النجاة بين الأذاة والهلاك. ومعنى هذا أن سامع القصيدة شعر أن فيها ما يتطير منه، وقد قال من قبل في قصيدة يصف الأمن في بلاد عضد الدولة:
وفي هذا إعراب عن إشفاق أبي الطيب من الطريق وتوقعه شرًّا فيها، وأنه عرف أن الطريق خارج مملكة عضد الدولة مخوفة، هذا ما يعرب عنه كلامه، وأحسبه عرف في العراق وفي طريقه إلى أرجان فشيراز أن السبل آمنة في أرض عضد الدولة مخوفة في بلاد العراق حيث سلطان معز الدولة البويهي، ولا أدري أتوقع مع هذا شرًّا من عدو يقصده بسوء أم لا.