أخلاق أبي الطيب
لعل القارئ في غنى عمن يبين له عن أخلاق أبي الطيب، بعد الذي قرأ من سيرته تفصيلًا، وبعد أن عرف كيف اختلفت الغِيَر عليه، وكيف قابلها وأعرب عنها.
قد صحب القارئ الشاعر من نشأته إلى مماته فهو عالم بأخلاقه، عارف بنزعاته، ولكني أحاول في هذا الفصل أن أردَّ هذه الأخلاق والنزعات المتفرقة إلى أصولها في نفس الرجل، وأقول في ذلك قولًا يشبه أن يكون بيانًا وخلاصة لما قدمتُ في تاريخه:
(١) جماع أخلاقه
يتبين قارئ شعر الرجل ومتتبع سيرته الكبرياء والعُجب والإباء وبعد الهمة، والجرأة والإقدام والصبر، فيرى رجلًا قويَّ النفس كما كان قويَّ الجسم.
ويمكن رد هذه الأخلاق إلى ثلاثة: الشجاعة، والأنفة، وعلو الهمة، وهي أخلاق تتجلى في أقواله وأفعاله كلها إلا شذوذًا.
وقد مكنها في نفسه وأمرها نشأته في البادية، ثم صحبة الأعراب في الحين بعد الحين من بعدُ، وكثرة أسفاره، وتعرضه للصعاب والمخاوف.
وإن في هجرته إلى الشام شابًّا، وتطويفه في أرجائه، وهمِّه بالثورة أو دعوته إلى بيعته وهو في حدود العشرين من العمر، ومساواة نفسه بالممدوحين، وفي هجائه ابن كيغلغ هجاء مقذعًا، وهو رجل ذو بأس، ومقابلة وعيده بالسخرية، وفي شهود الحروب مع سيف الدولة، وفي غضبته على هذا الأمير، وإنشاده القصيدة: «وا حر قلباه ممن قلبه شَبم»، ثم مغاضبته إياه وسيره إلى مصر، وفي تعاظمه في قصائد كافور، والاشتداد في مطالبته بإنجاز وعده، ثم خروجه من مصر إلى الكوفة يشق الأهوال والفيافي، وفي إبائه مدح المهلبي ومعز الدولة؛ إذ لم يلقياه بما يستحق من الحفاوة، وهجاء ضبة بن يزيد، وهو يعرف أخلاق البادية، وفي إبائه الخفارة وقد أُخبر أن شرًّا يرصده في طريقه، في هذا كله وفي كلفه في شعره بالحرب والضرب والسؤدد والمجد والإباء والثورة، لبرهانًا على ما أقول لا تعوزه الدلالة والقوة.
وفي الإيضاح: «سمعت أنه قيل للمتنبي، قولك في كافور:
ليس قول ممتدح ولا منتجع إنما هو قول مضاد. فأجاب المتنبي إلى أن قال: هذه القلوب كما سمعت، أحدها يقول:
وأحدها يقول:
ولولا أن الرجل كان طامعًا في المجد ولا عصبية له ولا مال فاضطر إلى المدح وما يجرُّه المدح من المذلة والنفاق، لبلغ في الإباء والشمم ومكارم الأخلاق عامَّة أعلى مما بلغ.
(٢) ترفعه عن الدنايا
وهذه الأخلاق أدت إلى تعاليه عن مسايرة شعراء وقته في اللهو والمجون ومعاقرة الخمر، فقد عرف بعفته وتنزُّهه عما لا يليق بالرجل العظيم، وفخر بذلك في شعره خلاف جمهرة الشعراء في عصره، قال في قصيدة مدح بها أبا أيوب بن عمران:
وقال في بعض القصائد السيفية:
•••
وقال في قصيدة كافورية:
وقال في أرجوزة عضدية: لا تخطر الفحشاء لي ببال.
وقد عُرف بين أهل عصره بتجنب الخمر على كثرة غشيانه مجالس الأمراء والكبراء، وكان أصدقاؤه يعرضون عليه الشرب فيجيبهم بمثل قوله:
وقد بلغ من إبائه الخمر أن حلف عليه صديق له بالطلاق ليشربنَّ، وقال له الأمير ابنُ طغُج: بحقي عليك إلا شَربت. ولا أنكر أنه شرب مرات إجابة لأيمان أصدقائه، أو إلحاح ممدوحيه.
وهو ينقم على أمراء عصره الشرب واللهو في مثل قوله لسيف الدولة:
وقوله في مدحه وهو بالعراق مُعرِّضًا بالأمراء الآخرين:
(٣) صدقه وكراهته التصنُّع
ويتصل بهذا صدقه الذي عرف به حتى قال علي بن حمزة راويته: إنه ما كذب قط، وقد قال هو في بغداد:
وفي ذلك البيت الفرد قاعدتان من قواعد أخلاقه.
ومن ذلك صراحته ونفوره من التكلف حتى فضَّل البداوة على الحضارة بأن حسنها طبيعي:
وفضَّل النساء البدويات على الحضريات بأنهن أصرح لفظًا وأبعد من الزينة:
بل عدَّ خضاب الشيب من التمويه والكذب:
(٤) سخطه على الناس
وكان أبو الطيب، في اعتداده بنفسه وطموحه إلى السؤدد، وقصور عصبته وثروته عن بلوغ ما أمَّل، حاقدًا على الناس يحقرهم ويذمهم ويضطغن عليهم، ويتحدث بقتلهم كما مرَّ، وكان حقده يتجلى حين يحقِره إنسان أو يحول دون غايته، انظر كيف هجا ابن كَيغَلغ وكافورًا وضبة بشعر فيه من الإقذاع ما يكاد يوفي بالقارئ على الشك في أنه شعر أبي الطيب.
(٥) وفاؤه وتودُّده
وكان على شدة في طبعه، ومرارة في جِدِّه، وَدودًا لأصدقائه وفيًّا لهم، يتبسط معهم ويمازحهم، ويأسى لفراقهم، ويجزع لموتهم.
انظر كيف تقسَّم قلبُه بينه وبين بني حمدان، في أول مدائحه في كافور، وكيف رثى صديقه أبا شجاع رثاء صادقًا لم يُمله إلا الوفاء، ولم يكتف بمرثيَّة بل رثاه ثلاث مرات، وكلُّ مراثيه أنشأها بعد خروجه من مصر حين بعد عن فاتك، وما يُذكِّر به وانقطع كل أمل في الجزاء، وإحدى هذه المراثي قالها بعد وفاة صديقه بسنتين، فلم يكن الشاعر كاذبًا حين قال:
وقد مثَّل شدته على أعدائه ورقته مع أصدقائه في قوله:
حدثني أبو علي الحسين بن أحمد الصَّنَوبري: قال: خرجت من حلب أريدُ سيف الدولة، فلما برزت من السور إذا أنا بفارس متلثم قد أهوى نحوي برمح طويل، وسدَّده إلى صدري، فكنت أطرح نفسي عن الدابة فَرَقًا، فلما قرب مني ثنى السنان وحسر لثامه، فإذا المتنبي وأنشدني:
ثم قال: كيف ترى هذا القول، أحسَن هو؟ فقلت له: ويحك قد قتلتني يا رجل.
فحكيت أنا هذه الحكاية بمدينة السلام لأبي الطيب فعرفها وضحك لها، وذكر أبا علي من التقريظ والثناء بما يقال في مثله.
ويرى القارئ أن أبا الطيب لا يمزح إلا برمح.
ثم رأيُ أصدقائه المقرَّبين كابن جني، يشهد بأن الرجل كان صديقًا محمودًا.
(٦) انقباضه وتشاؤمه
وكان الشاعر العظيم حزين الطبع كثير التفكير في الدنيا وغيرها، فتراه ينطق بالكلمة الحزينة حيث ينتظر المقامُ غيرها أثناء مدح أو غزل.
يمدح سيف الدولة فيختم المدح بقوله:
ويقول في آخر قصيدة أخرى سيفية:
ويقول في القصيدة: «لياليَّ بعد الظاعنين شكول»:
وفي القصيدة: «ما لنا كلُّنا جوٍ يا رسول» التي أرسلها إلى سيف الدولة من العراق:
فانظر كيف غلبه الحزن والفكر في عاقبة الإنسان وهو يحاول النسيب.
ويقول في القصيدة العضدية: «أزائر يا خيال أم عائد»:
فبينما يذكر خيال الحبيب غلب عليه الفكر في فناء الناس، فقال: إن الخيال كالحبيب: «كلٌّ خيالٌ وصاله نافد.»
فهذا جانب من أخلاق الرجل يتبينه المدقق في شعره.
(٧) وصفه بالبخل
ومن الأخلاق التي شاعت عن أبي الطيب البخل وقد رُويت في هذا حوادثُ مُثبتَة في اليتيمة والإيضاح والصبح المنبي:
قال الثعالبي: سمعت الخوارزمي يقول كان أبو الطيب المتنبي قاعدًا تحت قول الشاعر:
وإنما أعرب عن عادته وطريقته في قوله:
فحضرت عنده يومًا بحلب وقد أحضر مالًا من صلات سيف الدولة، فصُبَّ بين يديه على حصير قد افترشه، ووُزن وأعيد في الكيس، وإذا بقطعة كأصغر ما يكون من ذلك المال قد تخللت خَلَل الحصير، فأكب عليها بمجامعه يَنقُرها، ويعالج استنقاذها منه، ويشتغل بذلك عن جلسائه حتى توصل إلى إظهار بعضها فتمثل بقول قيس بن الخطيم:
وخلاصة ما رواه صاحب الصبح أن سيف الدولة أتى ببدرة فشقَّها فقام أبو الفرج الببغاء وابن خالويه وأخذا منها، ولم يقُم أبو الطيب، فاغتاظ سيف الدولة ونثرها على الغلمان، فقام أبو الطيب يزاحمهم فغمزهم عليه فداسوه.
وأنَّ ابن العميد خالف أبا الطيب في سيفين أيهما أقطع، فاقترح أبو الطيب أن يجرَّب السيفان في قطْع الدنانير، وضَرب عشرين دينارًا فقطعها وقام يلتقطها، فقال ابن العميد: «ليلزم الشيخ مجلسَه، فإن أحد الخدم يلتقطها ويأتي بها إليك، فقال: بل صاحب الحاجة أولى.»
فأما قصة اليتيمة فليس فيها دليل بيِّن على البخل وقد يتشاغل الإنسان بمثل هذا رغبة في التشاغل، على أن الرجل جعلها مزاحًا حين قال: تبدت لنا كالشمس … إلخ.
وقصة سيف الدولة بعيدة من كبرياء أبي الطيب، وما أحسبه قام لمزاحمة الغلمان ولكن سيف الدولة نثرها عنده، وأغرى غلمانه به، فإن صلحت القصة دليلًا على شيء فهي دليل على أنفة أبي الطيب من أن يقوم إلى سيف الدولة ليأخذ من البدرة التي شقها كما قام الببغاء وابن خالويه، وكيف يستكبر عن أن يقوم إلى المال ليأخذه من يد الأمير ولا يستكبر أن يلتقطه من الأرض ويزاحم فيه الغلمان.
وقصة ابن العميد يمكن أن يقال فيها: إن أبا الطيب ما كان خائفًا من ضياع الدنانير في مجلس ابن العميد، وكان يستطيع أن يأمر بجمعها وهو قاعد، ويثق بتحصيلها، ولكنه كان مجلس رهان ولهو لا يلزم فيه التوقُّر.
ولعلَّ قصة الحصير وقصة ابن العميد تمثِّلان ما في خلق الرجل من التياسر وتجنُّب التكلف، كقصة الغسَّال التي تقدمت في أخبار محسَّد ابنه، ولست أدفع عن الرجل البخل ولكني أبيِّن مقدار دلالة هذه القصص.
قد تقدم قول الخوارزمي في بخل أبي الطيب، وقال ابن فُورَّجة: «ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه إلا بخله وشرهه على المال.»
ربما يكون شيوع الحديث عن بخله دليلًا عليه؛ ولكن ينبغي أن يُحسَب في هذا كلَف حسَّاد الرجل بالطعن عليه، ومبالغة الناس في مثل هذا؛ وتوهمهم أن الشعراء أغنياء بما ينالون من صلات، ومحاسبتهم إياهم على هذا الغنى محاسبةً يبالغون فيها مبالغتهم في تقدير الصلات التي ينالونها.
على أن أبا الطيب كان صريحًا في الإيصاء بتدبير المال وتوفيره؛ لأنه وسيلة المجد وعماده:
بلغني أنه قيل للمتنبي: قد شاع عنك من البخل في الآفاق ما قد صار سمَرًا بين الرفاق، وأنت تمدح في شعرك الكرم وأهله وتذمُّ البخل وأهله، ألستَ القائل:
ومعلوم أن البخل قبيح، ومنك أقبح، فإنك تتعاطى كبر النفس وعلوَّ الهمة وطلبَ الملك، والبخل ينافي سائر ذلك، فقال: إن للبخل سببًا، وذلك أني أذكر أني وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت خمسة دراهم بجانب منديلي وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة، فرأيت عنده خمسة من البطيخ باكورة، فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ؟ فقال بغير اكتراث: اذهب فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه، وقلت: يا هذا دع ما يغيظ واقصِد الثمن، قال: ثمنها عشرة دراهم، فلشدة ما جبهني به ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائرًا ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهبًا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من الدكان ودعا له، وقال: يا مولاي هذا بِطِّيخ باكورة، بإجازتك أحمله إلى البيت؟ فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال: بخمسة دراهم، قال: بل بدرهمين، فباعه الخمسة بدرهمين، وحملها إلى داره، ودعا له وعاد إلى دكانه مسرورًا بما فعل.
فقلت: يا هذا ما رأيت أعجَبَ من جهلك، استَمتَ عليَّ في هذا البطيخ، وفعلت فِعلتك التي فعلت، وكنتُ قد أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعتَه بدرهمين محمولًا، فقال: اسكت، هذا يملك مائة ألف دينار.
فعلمت أن الناس لا يكرمون أحدًا إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولون: إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.
إن لم تكن هذه القصة حقًّا، فهي تمثل ما كان في نفس أبي الطيب من التوسل إلى الجاه والسؤدد بجمع المال إذ لم يكن له وسيلة أخرى.
•••
ذلك إجمال القول في أخلاق أبي الطيب كما نعرف من سيرته وشعره، ومن روايات شتى في كتب الأدب.
وينبغي ألا يعوَّل على غير هذا من أقوال لا ينصرها دليل، ومطاعن أشاعها الحسَّاد وخذلها الحق.
(٨) اتهامه بالغدر والكنود
يقول بعض الكاتبين عن أبي الطيب: إنه لا خُلق له، فهو منافق متقلب تقلُّب الأحوال كنود، يمدح الرجل فيُفضِّله على الناس طُرًّا، ثم يتركه إلى غيره فينسى ما قال من قبل ويرفعه فوق البشر، ثم يتركه إلى ثالث وهلم جرًّا، وهو قد صحب سيف الدولة ثمانيَ حِجج فأدرَّ عليه الرزق، ونبَّه من ذكره، فلم يمنعه ذلك أن يهجرَه مغاضبًا ويذهب إلى كافور فينظم في مدحه روائع القصائد، ويعرِّض بصديقه القديم بل يهجوه في مثل قوله:
وقد أقام في كَنَف كافور أربع سنين يمدحه في الحين بعد الحين، ثم سخط عليه ففارقه مُراغمًا وصبَّ عليه لعنات محقت مدائحه كلها.
كذلك يقول القائلون، ومنهم من يُفيض على الشاعر من السب والهجاء ما يُذكرنا بأهاجي كافور.
وجوابي عن الشق الأول أن ذنب أبي الطيب في هذا أنه كان من شعراء القرن الرابع فسار على سنن سلفه ومعاصريه من الشعراء، وكان عُرف الناس يبيح للشاعر أن يكسب المال بشعره ولا يرى في هذا مهانة، وإذا تصدَّى الشاعر للمدح، فإنما هي صناعة قِوامها خَلق المعاني وتصويرُها، ورفعُ قدر الممدوح بها، وإبعاد صيته فيها، ولم يكن هذا المدح كله حقًّا فيجب على الشاعر أن يلائم بين ما قال أمس وما يقول اليوم، فإذا أردنا أن نقدر أخلاق الرجل فعلينا أن نزنها بميزان القرن الذي عاش فيه.
وأما سيرة الشاعر مع سيف الدولة فالرجل كان أعرف بصاحبه، وقد احتمل هنات ما زالت تتوالى حتى ضاق بها ذرعه، فأنذر صديقه وحذَّره فراقه، فلم يحذر واستمرَّ يستمع للمفسدين حينًا بعد حين.
وقد فارقه مغاضبًا وعتَب عليه أحيانًا فعرَّض به، وذكر أياديه أحيانًا فمدحه وأعرب عن ندمه لمفارقته في مدائح كافور، وكان تعريضه وتصريحه في بني حمدان أشبهَ بقول الصديق الغاضب العاتب، الذي يجزع لفراق صديقه ويحاول أن يسوِّغ هذا الفراق.
وسيف الدولة نفسه لم يرَ في فعل أبي الطيب ما يصده عن مكاتبته والإهداء إليه ودعوته إلى جانبه وترغيبه في معاودة صحبته، وأبو الطيب هو الذي استمر عاتبًا على صديقه يؤاخذه باستماعه لوشايات حُسَّاده، ويُعلمه أنه خائف أن تعود الوشايات سيرتها الأولى، وقد أسلفت بيان هذا في الكلام على الشاعر والأمير في الفصل السادس عشر.
وأما كافور فقد قصده الرجل تاركًا صديقًا جذَب بضبعه وأسبغ عليه برَّه، وحسادًا ينالون منه ويرمونه بالغدر والكفران، منطويًا على أمل عظيم، راجيًا أن ينال المجد الذي طمح إليه، وأن يبلغ في مصر ما ينفي عنه قول أعدائه وطعن حساده، فأدناه كافور من أمله بمواعيده ثم مطله وسقاه الخيبة جرعة بعد جرعة، ثم اضطره إلى الفرار خائبًا خائفًا بعد انتظار سنوات أربع، فمضى وكأنه يسمع قهقهة سيف الدولة ومن حوله، ويحس شماته أعدائه أنَّى توجه.
لا أنكر أن الشاعر قسا على كافور واشتد في عتبه على بني حمدان، فإن يكن أبو الطيب ملومًا على شيء فعلى غلوِّه لا على أنه فارق سيف الدولة أو هجا كافورًا.
(٩) قول معاصريه في أخلاقه
وأختم هذا الفصل بإثبات آراء بعض معاصري أبي الطيب إذ كانوا أعرف به وأبصر بزمانهم، وأقدر على تقدير الأخلاق فيه.
كان المتنبي داهية، مرَّ اللسان، شجاعًا، حافظًا للآداب، عارفًا بأخلاق الملوك، ولم يكن فيه ما يشينه ويسقطه إلا بخله وشرهه على المال.
وكان المتنبي مرَّ النفس، صعب الشكيمة حادًّا مجدًّا.
وأخيرًا أقول: إن لم يكن أبو الطيب عنى نفسه بهذه الأبيات فهي المثل الذي يصبو إليه: