البداوة في طباع أبي الطيب وشعره١
في خلق أبي الطيب قوة وخشونة تميلان به إلى كل قوي وكل خشن، وتعدلان عن كل ضعيف وكل لين، وفي خلقه صراحة تحبب إليه كل صريح من القول والفعل والرأي، وتنفره من كل مموه مزخرف، وقد لاءمت هذه الأخلاق التبدِّي، وزادها التبدي تمكنًا فيه، وظهر أثر هذا في فعله وقوله.
وسأمر بسيرة أبي الطيب سريعًا منبهًا إلى الحادثات والأقوال الدالة على حبِّه البداوة والمبينة عن تمكن البداوة في طبعه وأثرها في نفسه.
١
عاش الشاعر في البادية حقبة وهو صبي، روى الخطيب البغدادي عن محمد بن يحيى العلوي الكوفي أن أبا الطيب صحب الأعراب في البادية سنين ثم رجع إلى الكوفة بدويًّا قحًّا، وعاش في الشام بين البدو والحضر، وبعض ممدوحيه هناك من رؤساء البادية مثل سعيد بن عبد الله الكلابي، وشجاع بن محمد الطائي، وهو يقول في الشام:
ويقول:
٢
وفي مصر حنَّ إلى البادية وفضَّل البداوة على الحضارة، وتغزل بالبدويات في القصيدة التي مطلعها:
يقول فيها:
وكانت له في مصر مع بعض رؤساء القبائل مودة، فلما أزمع الرحيل مغاضبًا كافورًا استعان بأحد أصدقائه عبد العزيز بن يوسف ببلبيس، وسأله دليلًا فأنفذه إليه، وقال في هذا:
وكان سيره من الفسطاط إلى الكوفة برهانًا بينًا على ما تمكن في نفسه من أخلاق البادية وعاداتها، ودليلًا على خبرته بالسير في البيد، فقد سلك طريقًا أُنفًا لا تسلكه القوافل، ذكر في قصيدته التي وصف بها سفره اثنين وعشرين موضعًا ليس على السبل المطروقة منها إلَّا اثنان أو ثلاثة، فما سلك طريق الحاج المصري إلى الحجاز، ولا طريق دمشق إلى الكوفة، ولا طريق الفرات، بل سار على أحياء البادية والمفاوز المجاهيل والمياه الأواجن حتى بلغ غايته.
وكانت له في مسيره وقائع تمثله بدَويًّا قحًّا خبيرًا بقبائل البادية وعاداتها، مزودًا بجرأة الأعراب وإقدامهم.
٣
لما بلغ نخلًا في سيناء ألفى خيلًا صادرة عن الماء، فأشفق أن يكونوا عيونًا عليه أو عدوًّا له فقاتلهم وغلبهم، ولما قرب من النِّقاب رأى رجلين فطردهما وأخذهما فأخبراه أنهما رائدان من بني سليم فخلَّاهما، وسار وهما معه حتى توسط بيوت بني سُليم آخر الليل فضرب له ملاعب بن أبي النجم خيمة بيضاء وذبح له، وغدا فسار إلى النقع فنزل ببادية من مَعن وسُنْبُس فذبح له عفيف المَعني غنمًا وأكرمه، وغدا من عنده وبين يديه لصان من جُذام يدلَّانه. ولما بلغ حِسْمَى في شمال الحجاز وجد بني فزارة شاتين بها، فنزل بقوم من عَدي فزارة فيهم أولاد لاحق بن مخلب، وكان بينه وبين أمير فزارة حسان بن حكمة مودة، وأراد ألَّا يُعلم ما بينه وبينهم من ودٍّ فنزل بجار لهم من طيئ، واستطاب أبو الطيب حِسْمَى فأقام بها شهرًا، وما أحبَّ المُقام بالبادية إليه! ثم استراب ببعض عبيده وظن أنهم يسرقون أمتعته ويريدون سرقة سيف ثمين كان معه، أغراهم على هذا وردان بن ربيعة، فأرسل إلى فتى من بني مازن اسمه فليتة بن محمد وكان قد عرفه من قبل، فلما جاءه المازني تقدم شاعرنا فشد أحماله، وعبيدُه نيام، ثم أيقظهم وطرحهم على الإبل وسار والقوم لا يشعرون، وأخذ بعض العبيد السيف فدفعه وفرسه إلى عبد آخر، وجاء إلى فرس أبي الطيب ليأخذه فانتبه الشاعر البدوي الشجاع، فقال العبد مخادعًا: أخذ الغلام فرسي، وعدا إلى فرس سيِّده ليركبه، فالتقى هو وأبو الطيب عند الفرس، وسلَّ العبد السيف فضرب الرسَن فضرب أبو الطيب وجهه فقتله، وأرسل رجلًا من بني خفاجة وآخر من بني مازن ليدركا العبد الذي أخذ السيف فلم يقدرا عليه.
وفي قتل العبد يقول الشاعر:
إلى قوله:
وأراد أبو الطيب أن يسلك إلى مكان اسمه البياض، فأرسل فُليتة إلى الأعراب الذين في طريقه، فعميت عليه أنباؤهم، وخشي أن يكون له على الطريق رصَد.
فعدل إلى دومة الجندل وواصل سيره حتى بلغ الكوفة في شهر ربيع الأول سنة ٣٥١ بعد ثلاثة أشهر من خروجه من الفسطاط، فهل يستطيع أن يسير هذا المسير ويفعل هذه الأفعال إلا بدوي جريء خبير بالبوادي؟ أليس في هذا تصديق قوله:
ألا يحق له أن يفخر به فيقول:
وفي هذه القصيدة روح البداوة وألفاظها، انظر قوله:
واسأل اليوم بدويًّا عن مكان قريب يقل لك: ها.
٤
وفي قصة هجاء ضبة بن يزيد العيني دليل آخر على تبديه، فقد اجتاز بالطَّفِّ فنزل بأصدقاء له، وساروا إلى ضبة وسألوه أن يصحبهم فلم يسعه إلَّا السير معهم كما يقول الشاعر في بعض الروايات، فسيرُ الشاعر مع أصدقائه إلى قتال ضبة أو إرهابه دليل على ما تمكن من نفسه من عادات البادية.
٥
ولما رحل إلى فارس افتقد الوجه العربي واليد العربية واللسان العربي، وهو يصف مغاني شِعب بَوَّان:
وافتقد عرب دمشق الذين كانوا يكرمون مثواه فقال:
وذكره الثرد والنَّار يدل على أنه يريد بادية دمشق لا حاضرتها، وقال في أول قصيدة مدح بها عضد الدولة:
فهذه عيشة أهل البادية وعاداتهم يحن إليها أبو الطيب وهو يمدح: ملكًا في بلاد الفرس، ورجع إلى التغزل بالبدويات فقال في القصيدة التي مطلعها:
•••
وقصة قتله برهان آخر على ما ندعي، فقد حذَّره أبو نصر الجَبلي، وأشار عليه أن يستصحب خفراء، فأبى أن يسير في خفارة.
٦
وشعر أبي الطيب تتجلى فيه قوة البداوة وعزتها، ومن آثار البداوة فيه تهاونه في خطاب الممدوحين وخروجه عن الإلف أحيانًا، ولذلك أخذ عليه النقاد مآخذ لا يتسع المقام لذكرها، ومن آثارها الكلف بالحرب وآلاتها والخيل والسفر، وشعره مليء بهذا، ومن ذلك وصف الحبيبة بالمنعة في مثل قوله:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
ومن أثر البداوة استعمال بعض الألفاظ الغريبة أحيانًا بما ألف من خطاب الأعراب والأخذ عنهم، وقد رأيته في كثير من تعليقاته على ديوانه يحتج بما سمع عنهم، وأكتفي هنا بمثال واحد، قال في قصيدته يعزي بها عضد الدولة:
ثم أتى بشواهد على وضع العرب إيما مكان إما، إلى أن قال: وقد ظلع فرس لي فقال بعض أهل البادية من خفاجة، وهو من أفصح الناس: إيما نسره مفلوق، وإيما موهوص.
٧
ذلكم إجمال الكلام في بداوة أبي الطيب، ولست أقول: إن البداوة أنتجت هذه النتائج كلَّها في أخلاقه وشعره، ولكني أقول: إن بين طباعه وشعره وبين البداوة صلة قويَّة: غرائز في الشاعر حبَّبت إليه البداوة وما يتصل بها، وبداوة وكَّدت هذه الغرائز في نفسه، وبهذه الأخلاق الحرة والطِّباع القوية والشجاعة والإقدام كان أبو الطيب أقرب إلى الطبع العربي من غيره. ولو أن عمرو بن كلثوم وعنترة العبسي والحارث بن حِلِّزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب المتنبي لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.