أبو الطيب وسيف الدولة
سار أبو الطيب سنة ست وثلاثين من الرملة إلى إنطاكية فمرَّ ببعلبك وفيها علي بن عسكر، فخلع عليه وحمله وسأله أن يقيم عنده فمدحه بأربعة أبيات. ورحل إلى إنطاكية فمدح أبا العشائر بالقصيدة:
ثم مدحه في ثلاث قطع، وأنشأ في إنطاكية أرجوزة حينما غشَّى الثلج الأرض، وتعذر المرعى على حِجرته الجَهامة ومُهره الطخرور:
ثم أغار على إنطاكية يانس المؤنسي قائد الإخشيديين وفجِئ أبا العشائر، فقاتل عن نفسه حتى خرج إلى حلب، وفي هذه الغارة قُتل الطخرور وأمُّه، فقال أبو الطيب الأبيات التي أولها:
ومرَّ بطرابلس وبها إسحاق بن الأعور بن إبراهيم بن كيغلغ، وكان جاهلًا، وكان يجالس ثلاثة من بنى حَيدرة، وكان بين أبي الطيب وبين أبيهم عداوة قديمة، فقالوا له: ما نحب أن يجاوزك ولم يمدحك، وإنما يترك مدحك استصغارًا لك، وجعلوا يُغرونه به، فراسله وسأله أن يمدحه، واحتج أبو الطيب بيمين ألا يمدح أحدًا إلى مدة، فعاقه عن طريقه ينتظر قضاء تلك المدة، وأخذ عليه الطريق وضبطها، ومات الثلاثة الذين كانوا يغرونه به في مدة أربعين يومًا، فقال أبو الطيب يهجوه بطرابلس، قال: ولو فارقته قبل قولها، لم أقلها أنفة من اللفظ بما فيها، قال: وأملاها على من يثق به، فلما ذاب الثلج وجف عن لبنان خرج كأنه يُسيِّر فرسه، وسار إلى دمشق وأتبعه ابن كيغلغ خيلًا ورَجْلًا فأعجزهم ثم ظهرت القصيدة.
وهي القصيدة التي مطلعها:
وهي قصيدة جمع فيها أبو الطيب بين التحليق إلى أوج الحكمة والإسفاف إلى حضيض الإقذاع.
ثم سار إلى إنطاكية فلقي أبا العشائر، ومدحه بقصيدتين وثماني قطع.
سيف الدولة
١
كان أبو العشائر بن حمدان واليًا على إنطاكية من قِبَل سيف الدولة، فلما قدم الأمير إنطاكية سنة ٣٣٧ قدَّم أبو العشائر إليه أبا الطيب وأثنى عليه، قال في الإيضاح: فاشترط أنه لا ينشده إلا قاعدًا، وعلى الوحدة، فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل وعدَّ ما طلبه استحقاقًا، وقال صاحب الصبح المنبي: «واشترط المتنبي على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد، وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه، فنُسب إلى الجنون، ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط.»
فأما اشتراط المتنبي ما اشترط فجدير بنفسه الأبية، فقد ألف أن يتخذ الممدوحين أصدقاء لا سادة، وأشفق على نفسه أن تُسام الهوان، وأن تكلَّف ما يكلَّفه الآخرون في لقاء الملوك، ولم يكن صعبًا على سيف الدولة أن يجيبه إلى ما اشترط؛ فالعربي بطبعه أبعد الناس عن أن يرضى العبودية لنفسه أو لغيره.
٢
وجد أبو الطيب في علي بن حمدان الأمير العربي الذي ينشده، ورأى سيف الدولة في أحمد بن الحسين فتى أبيًّا أهلًا لصداقته، وشاعرًا مُجيدًا جديرًا بتخليد مآثره، وكان لا بد لبطولة سيف الدولة من شاعر كأبي الطيب، يُشيد بها ويسجل مفاخرها وقد أراد الله سبحانه لهما هذه الصحابة فوُلدا في سنة واحدة، ولم يعش سيف الدولة بعد قتل أبي الطيب إلا سنتين، لقد كانا بطلين يتعاونان بل شاعرين يتباريان كما قال أبو الطيب في أبي العشائر:
وقال في سيف الدولة:
•••
٣
صحب أبو الطيب سيف الدولة ثماني سنوات نظم فيها ١٥١٢ بيتًا في ٣٨ قصيدة و٣١ قطعة.
ومن هذا أربع عشرة قصيدة في وصف وقائعه مع الروم، وأربع في وقائعه مع القبائل العربية، وخمس عشرة في المدح دون وصف الوقائع، وخمس في الرثاء، ومن القطع اثنتان في حوادث الروم، وغيرها في مقاصد مختلفة.
ويضاف إلى هذه القصائد القصيدة التي أولها:
نظمها سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ثم ألحقها بمدائح سيف الدولة وهي ٣٣ بيتًا.
تتفق نسخ الديوان، وأقوال الشارحين على أن هذه القصيدة قيلت في سيف الدولة سنة ٣٢١، وهي السنة التي رحل فيها الشاعر إلى الشام كما قدمنا، ولعل القارئ يجد فيها ما يصده عن تصديق هذا، يجد الشاعر يقول لممدوحه:
ونحن نعلم أن أم سيف الدولة ماتت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة ورثاها أبو الطيب وهو في صحبة ابنها، فكيف قال سنة إحدى وعشرين: «وسقى ثرى أبويك صوب غمام.»
ثم في القصيدة هذا البيت:
وعلي بن حمدان لم يلقب «سيف الدولة» قبل سنة ٣٣٠.
يجوز أن يقال: إن هذا البيت منحول كما قال بعض الشراح، أو إن أبا الطيب زاده حين ألحق القصيدة بمدائح سيف الدولة بعد، ويجوز أن يقال في «ثرى أبويك» إنه أراد أباه وجده أو أباه وعمه، وقد تُوفِيَ أبوه سنة ٣١٧ أو لم يفطن الشاعر إلى أن أم سيف الدولة كانت حية. إن يكن في النفس شيء من أن يكون أبو الطيب أنشأ هذه القصيدة في مدح سيف الدولة سنة ٣٢١، فهذا لا يقتضي رد الروايات الصريحة التي تبين أن أبا الطيب أنشأ هذه القصيدة في مدح علي بن حمدان هذه السنة.
وسيأتي أنه مدحه من بعد بقصيدتين وعزاه عن أخته بأخرى بعد أن رجع إلى العراق.
وقصائد الحروب كلها، وهي ثماني عشرة قصيدة في واحد وسبعين وسبعمائة بيت، يبلغ فيها أبو الطيب الغاية التي ليس بعدها متقدَّم لشاعر أو ناثر. وليس هذا موضع الكلام في شعره ولكني أقول: إن هذا المقدار من الشعر الحماسي البليغ في ديوان الشاعر العربي يعسر على الباحث أن يختاره من الملاحم الكبيرة، مثل: الإلياذة اليونانية والشاهنامة الفارسية والأنياذ الرومانية، والمهابهرتا والراميانا الهنديتين على طولها، ولا أحط من قيمة هذه الملاحم ولكن أقول: إنها لا تعلو في شعرها إلى مستوى قصائد أبي الطيب القصيرة إلا أبياتًا متفرقة تنبغ في المنظومة حينًا بعد حين، ويبقى لهذه الملاحم قيمتها في القصص وما تضمنته من فلسفة وأفكار وأمور أخرى.
وتختلف قصائده في حرب الروم عن قصائده في حرب القبائل العربية، يتبين في الأولى نقمة الشاعر على الروم وفرحه بانتصار المسلمين عليهم.
ويتبين في القصائد التي وصف فيها حرب قبائل العرب بني كلاب وبني قشير والعجلان وكعب، عطف الشاعر عليهم والشفاعة لهم، والاعتذار عنهم، واضطراب نفسه بين الإشادة بانتصار الأمير، وحزنه على ما أصاب هذه القبائل.
يقول في بني كلاب:
•••
•••
ويعتذر عن بني كعب ومن عصى معهم بأنهم لم يألفوا الطاعة والخضوع:
إلى أن يقول:
ويقول:
٤
ولم يأل سيف الدولة في بر شاعره، وإغداق النعمة عليه وإكرامه، وإعظامه، يؤخذ من رواية في الصبح المنبي أنه كان يعطيه ثلاثة آلاف دينار كل سنة، ويدل الديوان أنه كان يعطيه عطايا أخرى في مقامات مختلفة.
فالقطعة:
إلخ، قالها حين سأله سيف الدولة عن صفة فرس يُرسله إليه.
والقطعة:
إلخ، قالها حين خيَّره في حجرتين إحداهما دهماء، والأخرى كميت.
والقطعة:
إلخ، قالها حين أنفذ إليه خلعًا.
والقطعة التي أولها:
وكذلك نرى في شروح الديوان ذكر الخلع والهدايا التي منحها الأمير شاعره حين اصطلحا بعد أن تنافرا، وأنشده القصيدة:
وروى الثعالبي أن سيف الدولة عاب على المتنبي ببيتين من قصيدته:
وشعر أبي الطيب ينطق بالغبطة والشكر، يقول:
ويقول:
ويقول:
وقد سكن أبو الطيب إلى صحبة الأمير الكريم، وما يشهد معه من مشاهد الحرب والمجد فترك الشكوى، وكف عن حديث الثورة والقتل الذي طفح به شعره الأول إلا قليلًا نادرًا كقوله:
وقوله:
وكان يصحب سيف الدولة في أكثر حروبه فيصفها شاهدًا:
ويقول:
وقال وقد أرسل إليه الأمير يسأله إجازة أبيات: