فراق سيف الدولة
فارق أبو الطيب صديقه بعد أن لبث في كنفه ثماني حجج.
أنشده أول قصيدة مدحه بها:
في جمادى الأولى سنة ٣٣٧ وأنشده آخر قصيدة:
سنة ٣٤٥.
لماذا ترك صاحبه الذي أخلص له الود، وتوَّجه بتاج الخلود؟
إذا رجعنا إلى ديوان أبي الطيب، وكتب الأدب نجد أمورًا تحدث في الحين بعد الحين، تنغِّص على الشاعر الأبيِّ عيشه، وتكدِّر صفوه، ونجد الشاعر يشكو ما يلقى، ويهدد بالفراق أحيانًا.
وفي هذه السطور إجمال الكلام في هذا الصدد:
١
كان حول سيف الدولة شعراء كسفت شمسُ أبي الطيب نجومهم، وأخمدت نباهته ذكرهم، فكانوا يحسدونه ولا يألون في ذمِّه والتسميع به، وإفساد ما بينه وبين صاحبه، وكانت كبرياء أبي الطيب وفخره بشعره وتعاليه عليهم وإيثار الأمير إياه تزيد حسدهم وغيظهم، وكان الشعراء يحسدون الشاعر الأبي على مكانته، وينقمون عليه تعاليه وتعاظمه. انظر إلى قوله:
انظر كيف يكون وقع هذا على شعراء سيف الدولة، وقد جعلهم أصداء له، وسأل الأمير أن يجيزه هو إذا هم أنشدوه، فلا جرم أنهم جهدوا أن يوقعوا بينه وبين الأمير، ومما قاله المتنبي في هذا:
وقوله:
وقوله:
وقوله:
٢
وكان سيف الدولة مغرمًا بشعر أبي الطيب، يود أن يسمع كل حين قصيدة في مدحه، وكان الشاعر ينظم كل سنة أربع قصائد أو خمسًا غير القطع، فكان الأمير يسخط عليه أحيانًا استبطاء لمدحه، ومن أدلة هذا في الديوان أنا نجد قصيدة أنشدت في جمادى الآخرة سنة ٣٤٢ وأخرى أنشدت يوم الأضحى من هذه السنة وفي الفترة بين القصيدتين وهي زهاء ستة أشهر نظم أبو الطيب سبعًا ما بين قطع وقصائد قصيرة، يعتذر في اثنتين منها عن تأخير مدحه، يقول في قطعة:
ويقول في قصيدة نظمها وقد تنكر له سيف الدولة لتأخره عن مدحه:
ثم القصة الآتية التي أنشأ فيها القصيدة: وا حرَّ قلباه ممَّن قبله شبم، وهذه القصيدة بين قصيدتين الأولى في المحرم سنة ٣٤١ والثانية في شعبان من السنة.
فهذا يدل على مقدار شغف الأمير بمدائح شاعره وتأخر الشاعر عن الاستجابة لهذا الشغف.
إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرِّق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره.
٣
- (أ)
القصة التي قال فيها القصيدة المعروفة:
وا حرَّ قلباه ممن قلبه شبمومن بجسمي وحالي عنده ألموفي شرح ابن جني وغيره في سبب إنشاء هذه القصيدة:كان سيف الدولة إذا تأخر عن مدحه شق عليه، وأكثر أذاه، وأحضر من لا خير فيه وتقدَّم إليه بالتعرض له في مجلسه بما لا يُحب، فلا يجيب أبو الطيب أحدًا عن شيء فيزيد ذلك في غيظ سيف الدولة، ويتمادى أبو الطيب على ترك قول الشعر، ويلح سيف الدولة فيما كان يفعله، إلى أن زاد الأمر وكثر عليه، فقال هذه القصيدة.
وفي هذه القصيدة يقول:
يا أعدل الناس إلا في معاملتيفيك الخصام وأنت الخصم والحكمأعيذها نظرات منك صادقةأن تحسب الشحم فيمن شحمُه ورمويفتخر بشعره وشجاعته ثم يقول:
كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكمويكره الله ما تأتون والكرمما أبعد العيب والنقصَان عن شِيَميأنا الثريا وذان الشيبُ والهرَمولما أنشده القصيدة اضطرب المجلس وقال أبو الفرج السامري أحد كبار كتَّاب الأمير: دعني أسعى في دمه. فرخص له في ذلك.
وفي ذلك يقول أبو الطيب:
أسامريُّ ضُحكة كل راءفطنتَ وكنت أغبى الأغبياءصُغرتَ عن المديح فقلت أهجيكأنك ما صغرتَ عن الهجاءوما فكرتُ قبلك في محالولا جَرَّبتُ سيفي في هبَاءوكاد أبو الطيب يهلك في هذه القصة.
ففي النسخة (١٥٣٠ أدب) وشرح المعري وبعض نسخ الواحدي، أنه لما أنشد القصيدة الميمية وانصرف وقف له رجال في طريقه، فلما رآهم أمكن يده من قائم سيفه وحمل فاخترقهم ولم يصنعوا شيئًا، وأن أبا العشائر أرسل جماعة من غلمانه فوقفوا له في طريقه، فلما مرَّ بهم ضرب واحد منهم بيده إلى عنان فرسه، فسلَّ أبو الطيب سيفه فخلَّاه الرجل، وتقدم إلى قنطرة أمامه فعبرها واجترَّهم إلى الصحراء، ورمى أحد الغلمان الفرسَ بسهم فأصابه في نحره فانتزعه أبو الطيب ثم كرَّ عليهم فضرب أحدهم فقطع قوسه وأصاب ذراعه، ومضى عنهم فسمع أحدهم يقول: نحن غلمان أبي العشائر، فلذلك قال:
ومنتسب عندي إلى من أحبُّهوللنبل حولي مِن يديه حفيففهيَّج من شوقي وما من مذلةحَننتُ ولكنَّ الكريم ألوفوكل وداد لا يدوم على الأذىدوامَ ودادي للحسين، ضعيففإن يكن الفعلُ الذي ساء واحدًافأفعاله اللائي سَررنَ ألوفونفسي لَهُ، نفسي الفداءُ لنفسهولكنَّ بعضَ المالكين عنيففإن كان يبغي قتلَها يك قاتلًابكفيه، فالقتل الشريف شريفثم عاد أبو الطيب إلى المدينة مستخفيًا فأقام عند بعض أصدقائه وراسل سيف الدولة، وأنكر الأمير أنه أمر بما وقع للشاعر، وكتب أبو الطيب الأبيات:
ألا ما لسيف الدولة اليوم عاتبًافَداه الورى أمضى السيوف مضارباوما لي إذا ما اشتقتُ أبصرتُ دونهتنائفَ لا أشتاقها وسباسبا … إلخودخل الشاعر دار الأمير بعد تسعة عشر يومًا فتلقاه الغلمان، وأدخلوه إلى خزانة الألبسة، فخُلع عليه وَطيبَ، ودخل على الأمير فرحَّب به وسأله عن حاله وهو مستحٍ، فقال له: رأيت الموتَ عندك أحبَّ من الحياة عند غيرك، فقال: بل يُطيل الله بقاءك. ثم ركب أبو الطيب وركب معه جماعة كثيرة وأتبعه الأميرُ هدايا فقال القصيدة:
أجاب دمعي وما الداعي سوى طللدعا فلبَّاه قبل الركب والإبل - (ب) والقصة الثانية رواها البديعي في الصبح المنبي قال:
قال عبد المحسن بن علي بن كوجك إن أباه حدثه، قال: كنت بحضرة سيف الدولة أنا وأبو الطيب اللغوي وأبو عبد الله بن خالويه النحوي، وقد جرت مسألة في اللغة تكلم فيها ابنُ خالويه مع أبي الطيب اللغوي، والمتنبي ساكت.
فقال له سيف الدولة: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم فيها بما قوَّى حُجَّة أبي الطيب اللغوي، وضعَّف قول ابن خالويه، فأخرج من كمه مفتاحًا حديدًا ليلكم به المتنبي، فقال له المتنبي: اسكت ويحك، فإنك أعجمي وأصلك خوزي، فمالك وللعربية؟ فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي لذلك إذ لم ينتصر له سيف الدولة لا قولًا ولا فعلًا، فكان ذلك أحد أسباب فراقه.١
٤
وقد هدد أبو الطيب بالفراق تصريحًا وتعريضًا، قال في القصيدة «وا حر قلباه»:
وقال في القصيدة: «دروع لملك الروم هذي الرسائل»:
وبعد هذا البيت أبيات قدمتها في هذا الفصل:
وفي الصبح المنبي أن أبا الفتح بن جني قال: «كنت قرأت ديوان المتنبي عليه حتى وصلت إلى قوله:
فلما انتهيت إلى قوله:
قلت: يعز عليَّ أن يكون هذا الشعر في ممدوح غير سيف الدولة، فقال: حذَّرناه وأنذرناه فما نفع فيه الحذر، ألست القائل فيه:
٥
وقد صرَّح بعد فراق سيف الدولة بما كان في نفسه، قال في أول قصيدة مدح بها كافورًا:
فهو يعرض في هذه الأبيات بسيف الدولة، ويصفه بالغدر والأذى.
ويقول في قصيدة أخرى يمدح كافورًا:
وهذا تعريض بسيف الدولة يصفه بالمن والغدر أيضًا.
وكذلك قال حينما سمع أنه نُعِيَ عند سيف الدولة:
وأدل من هذا على ما كان في نفسه ما قاله في القصيدة التي أرسلها من العراق إلى سيف الدولة جوابًا لدعوته إياه إلى حلب، بعد أن أهدى إليه سيف الدولة وأعتبه، وبعد أن مدحه هو بقصيدتين، قال في القصيدة البائية:
وقال في آخر القصيدة:
٦
ضاق أبو الطيب بالمُقام عند سيف الدولة لهذه الأسباب، ولسبب آخر لا ينبغي ألا يغفل عنه الباحث، ذلك أن الشاعر الطموح الذي يقول:
بلغ درجة عالية عند بني حمدان فسمت نفسه إلى درجة أعلى منها، ولم يكن فارق نفسه حب المجد والسلطان والتطلع إلى الغلبة والتملك، فذهب يلتمس مُنيته في أقطار الأرض وأمل أن يجد في مصر وسيلة إلى غايته، فعزم أن يرحل إليها.
وقد أنشد سيف الدولة قصيدته الأخيرة:
وهو على نية الرحيل.
في شرح المعري: «قال ابن جني: قلت لأبي الطيب وقت قراءتي هذه القصيدة عليه: إنه ليس في جميع شعرك أعلى كلامًا من هذه القصيدة، فاعترف بذلك وقال: كانت وداعًا.»