علمه باللغة والأدب
يعرف جمهور المتأدبين أبا الطيب شاعرًا واسع المعرفة باللغة، ولكنهم لا يعرفونه إمامًا من أئمة اللغة في القرن الرابع، كما يتبين فيما يلي:
قدمت في الكلام على نشأة أبي الطيب أنه درس اللغة والأدب، وأثبتُّ رواية تتضمن أنه لقي جماعة من كبار الأدباء في عصره، ولكن هذه الرواية على ما أظهرتُه من الوهن في بعض أخبارها لم تبين كم طلب اللغة والأدب على هؤلاء الشيوخ ولا كيف طلب، وقد بينت آنفًا أن رحيل الشاعر إلى الشام كان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وهو في سن الثامنة عشرة.
وقدَّمت كذلك قول الخطيب في تاريخ بغداد: «وطلب الأدب وعلم العربية ونظر في أيام الناس (أي: التاريخ).»
والذي لا ريب فيه أن أبا الطيب بلغ من العلم باللغة وغريبها وشواهدها، ولقن عن أهل البادية منها، ما لا نعلمه لشاعر آخر من شعرائنا، وقد بلغ في هذا أن عُدَّ في عصره من علماء اللغة وإن غلب الشعر عليه.
- (١)
رويت لنا حوادث وأقوال متفرقة تبين عن اشتهاره بمعرفة اللغة، وتعرب عن رأي معاصريه فيه:
قال ابن الأنباري: «ويحكى أن أبا الطيب اجتمع هو وأبو علي الفارسي، فقال له أبو علي: كم جاء من الجمع على وزن فِعلى، فقال: حِجْلَى وظِرْبَى جمع حَجَل وظَرِبان، قال أبو علي: فسهرت تلك الليلة ألتمس لهما ثالثًا، فلم أجد، وقال في حقه: ما رأيت رجلًا في معناه مثله.»
وهذه الجملة الأخيرة ذكرها ابن جني في مقدمة شرحه الديوان، وقال: «ولو لم يكن له من الفضيلة إلا قول أبي علي هذا فيه لكفاه؛ لأن أبا علي، على جلالة قدره في العلم ونباهة محله واقتدائه بسنة ذوي الفضل من قبله، لم يكن ليطلق عليه هذا القول إلا وهو مستحق له عنده.»
فسؤال أبي علي أبا الطيب هذا السؤال دليل على أنه عُرف بسعة علمه باللغة، ثم شهادته له دليل آخر.
ولما وقع الجدال بين أبي الطيب اللغوي وابن خَالويه في اللغة بحضرة سيف الدولة قال الأمير: ألا تتكلم يا أبا الطيب؟ فتكلم ونصر أبا الطيب اللغوي على ابن خالويه،٢ فسؤال سيف الدولة أبا الطيب أن يتكلم في أمر يتجادل فيه اثنان من اللغويين دليل على الاعتداد بعلمه ورأيه في اللغة.ولما دخل على الوزير المهلبي في بغداد أنشد بعض الحاضرين وفيهم أبو الفرج الأصفهاني هذا البيت:
سقى الله أمواها عرفت مكانهاجُرامًا ومَلكومًا وبذَّر فالغَمرافقال أبو الطيب: هو جُرابًا، وهذه أمكنة قتلتها علمًا وإنما الخطأ وقع من النَّقلة.٣وقد ادَّعى الحاتمي أنه ناظر أبا الطيب ببغداد، فلم يقتصر على مناظرته في الشعر، بل ناظره في اللغة أيضًا، وادَّعى أن أبا الطيب قال له: اللغة مسلمة لك؛ فقال: وكيف تسلمها وأنت أبو عُذْرتها وأولى الناس بها وأعرفهم باشتقاقها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن غريبها منك.٤وفي هذا برهان على اشتهار أبي الطيب بمعرفة اللغة ولو كان كلام الحاتمي تهكمًا وسخرية أو كانت قصته كذبًا.
ولما نزل عند ابن العميد في أرجان قرأ عليه كتابًا جمعه في اللغة، قال في الإيضاح: «وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه، ويتعجب من حفظه وغزارة علمه.»٥وقال الخالديان: «كان أبو الطيب المتنبي كثير الرواية، جيد النقد … وكان من المكثرين في نقل اللغة والمطلعين على غريبها ولا يُسأل عن شيء إلا استشهد بكلام العرب من النظم والنثر.» وقال صاحب الإيضاح: «وجملة القول فيه أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر.»٦وقال ابن جني: «ولقد كان من الجد فيما يعانيه، ولزوم أهل العلم فيما يقوله ويحكيه على أَسَدِّ وتيرة وأحسن سيرة.»
وقد أُثِر لنا بعض كلامه في اللغة، وذلك قسمان:
مجادلته ابن جني في مسائل عرضت أثناء قراءة الديوان عليه، وحسبك بمن يناظر في اللغة والصرف ابن جني إمام أهل العربية في التصريف، ثم يشهد له ابن جني الشهادة السالفة، وعندنا من هذه المجادلات أمثلة.
والثاني ما أملاه أبو الطيب نفسُه شرحًا لبعض شعره، وقد عثرت على نسختين من الديوان فيهما كثير من هذا الشرح، وفيه من التبيين وإيراد الشواهد ونسبة الأقوال إلى أصحابها ما يُشعر القارئ أنه يقرأ لأحد أئمة اللغة.
وأنقل هنا مثالين من إملائه على بعض أبيات ديوانه تبيانًا للقارئ:
جاء في شرح البيت:
«قال أبو الطيب: يقال: أحاد وثناء وثلاث ورباع إلى عشار في المؤنث والمذكر غير مصروف، والفرَّاء يصرفها إذا جعلها نكرات، وكل ما لا يَنصرف من الأسماء يُصرف في الشعر؛ لأن الصرف الأصل، وهذا الذي يُنسَب إليه في العدد، فيقال: ثُنائي وثلاثي ورباعي وخماسي إلى عشاري، قال أبو النجم:
وأنشد:
وللكميت:
وللهذلي:
وأنشدني:
وحكى ابن السكيت عن أبي عمرو: ادخلوا مَوحد مَوحد ومَثنى مثنى، ومثلث مثلث، ومربع مربع، وكذلك إلى العشرة، وكذلك ادخلوا أحاد أحاد، وثُناء ثناء وثُلاث ثلاث ورباع رباع إلى العشرة، قال علي (يعني ابن حمزة راوية أبي الطيب): وقال أبو الطيب: وكان أبو حاتم تبع أبا عبيدة في قوله في كتاب المذكر والمؤنث: «ورباع رباع، ولا نعلمهم قالوا فوق ذلك»، ثم رجع عنه فقال في كتاب الإبل: «ورباع إلى العشرة.»
قال أبو الطيب: وأما لييلتنا فتصغير تعظيم كقول لبيد:
الرواية التي أعرفها خويخية، وكذا أنشده المبرد واليزيدي وثعلب، وأنشدنيه المتنبي دويهية (هذا من قول علي بن حمزة) وقال الأنصاري: أنا جُذَيلها المحكَّك، وعُذَيقها المرجَّب. قال: وتصغير الأسماء على هذا المعنى كقولهم: كليب وعمير.
قال: وما يروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه: أنا هُوَيٌّ ومعي سلاحي فصغَّره.
والتنادي أراد التنادي بالرحيل.» ا.ﻫ.
وفي شرح البيت:
قال أبو الطيب: يقال: حاجة وحاج وحاجات وحِوَج، وعلى غير القياس حوائج، وتقول العرب في نفسي منه حوجاء أي حاجة، وأنشد:
وقال آخر:
وأنشد لامرئ القيس:
وأنشد الفراء:
وزعم الأصمعي أن حوائج مولَّدة، قال أبو الطيب: وهي كثيرة على ألسن العرب خرجَتْ عن القياس، قال البصري (علي بن حمزة) وأنشدني أبو الطيب للشماخ:
قال حوائج جمع حائجة على القياس وهو صحيح، وقد ذكر ذلك ابن دريد، فقال: حاجة وحائجة وحوجاء. ا.ﻫ.
قال أبو القاسم: وكان هذا الكتاب أعني المقصور والممدود، قرئ على أبي الطيب بمصر سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، فردَّ فيه على ابن ولاد أغلاطًا وبيَّنها واستشهد عند بعضها، فجمع ردَّ أبي الطيب وشواهدَه بعضُ المصريين وادَّعاه لنفسه بعد خروج أبي الطيب من مصر، وأضاف إليها أشياء من عنده غلِط فيها هو، وأشياء أصاب فيها، وكان هذا المدعي سمع هذا الكتاب وغيرَه من ابن ولاد، وعنه سمعته، وهذا المدعي يعرف بأبي الحسين المهلبي، فإذا مرَّ من تلك الأغلاط والشواهد شيء في كتابنا عزوناه إلى مستحقه، وبيناه إن شاء الله.
وقع بيني وبين المتنبي في قول العَدواني:
وذلك أن المتنبي قال: إن الناس يغلطون في هذا البيت، والصواب اشقوني من شقات رأسه بالمشقاة، وهو المُشط.
هذه رواية المهلبي، وليس يعنينا أن نناقشها هنا.
وقد قرأتُ كتاب التنبيهات على مقصور ابن ولاد الذي ذكرته آنفًا، وهو كتاب صغير، فجمعت ما رواه المؤلف عن أبي الطيب في الرد على ابن ولاد وأثبتُّه هنا:
وقال ابن ولاد في باب الشين: وذكر عن أبي عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر أنهما قالا: الشَذو لون المسك، قال الشاعر:
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال: هو الشِّذو. وقد أصاب المتنبي وغلط ابن ولاد في فتحه.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الطاء): والطُّرقي في النسب من قولهم الطُّرقي والقُعدي فالطُّرقي أبعدهما والقُعدي أدناهما نسبًا.
وهذا ما أخذه عليه المتنبي قبلنا فقال: الصواب الطرفي بالفاء. وقال ابن الأعرابي يقال فلان أقعد من فلان؛ أي: أقل آباء، وأطرف من فلان؛ أي: أكثر آباء. وهو مأخوذ من الطرف وهو البعد. وقال الأصمعي: يقال فلان بيِّن الطرافة إذا كان كثير الآباء إلى الجدِّ الأكبر. وهو عندهم مدح كما قال الشاعر:
وهذا الذي حكاه المتنبي مشهور معروف من قول ابن الأعرابي والأصمعي (وهو) الصحيح، وقد ادعى هذا الرد ابن الملتقط (يريد أبا الحسن المهلبي) وكذب في ادعائه، وهو من رد المتنبي.
وقال ابن ولاد في هذا الباب (باب الغين) غضبى مائة من الإبل معروفة كقولك هُنيدة، وأنشد:
وهذا ما رواه المتنبي، فادعاه ابن المنبوز (يريد المهلبي أيضًا) فقال: الذي رواه أبو العباس (ابن ولاد) غضنى بالنون، وهو خطأ إنما هو غضبَى بالباء، وهذا صحيح. ا.ﻫ.
ذلكم أبو الطيب في علمه باللغة وشواهدها ونحوها وصرفها، ومن أجل هذا ترجم له ابن الأنباري في كتابه «نزهة الألباء في طبقات الأدباء» الذي ترجم فيه لرجال الأدب واللغة والنحو، ولم يذكر غيره من الشعراء إلا أبا نواس وأبا تمام وابن المعتز وابن الجهم والمعري وأبا إسحاق الغزي.