الفصل الثاني
علمه بغير اللغة والأدب
وأما معرفته بما عدا اللغة والأدب، فظننا بأمثاله من رجال عصره ونظرُنا في شعره، يدلَّان
على أنه قد سمع وقرأ فحصَّل كثيرًا من المعارف الشائعة في القرن الرابع.
نجده يمدح محمد بن زريق الطرسوسي، فيذكر أمثلة متتالية من القصص الدينية:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه
لما أتى الظلماتِ صِرْن شموسا
أو كان صادفَ رأسَ عازَر سيفُه
في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لُجُّ البحر مثل يمينه
ما انشق حتى خاض فيه موسى
أو كان للنيران ضوءُ جبينه
عُبِدت فكان العالَمون مجوسا
ويقول:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبِّر أن المانوية تكذب
ويقول في هجاء كافور:
ألا فتى يورد الهنديَّ هامتَه
كيما تزولُ شكوك الناس والتُّهَم
فإنه حجة يُؤذي القلوبَ بها
مَن دينه الدهر والتعطيل والقِدم
يشير إلى آراء الدهريين، والمعطلة، والقائلين بقدم العالم.
ويقول في مدح دلير:
فتمليك دلير وتعظيمُ قدره
شهيدٌ بوحدانية الله والعدل
يشير إلى قول المعتزلة في التوحيد والعدل وفعل الصالح والأصلح.
فهذا كله دليل على اطلاع الرجل على المذاهب الدينية والقصص، وقد نظم قصيدة في مصر
حينما
اصطلح كافور وأنوجور بن الأخشيد، فلما أراد أن يُبيِّن عواقب الشقاق ساق أمثلة من تاريخ
الجاهلية والإسلام:
وإذا كان في الأنابيب خُلفٌ
وقع الطيش في صدور الصِّعاد
أشمتَ الخُلفُ بالشُّراة عِداها
وشفَى ربَّ فارس من إياد
وتولَّى بني اليزيديُّ بالبصرة
حتى تمزَّقوا في البلاد
وملوكا كأمس في القرب منا
وكطَسْم وأختها في العباد
فقد ذكر انقسام الخوارج، ووقعة ملك الفرس وقبيلة إياد، وما أصاب بني اليزيدي وطسما
وجديسا.
وقال في مدح ابن العميد:
مَن مُبلغ الأعراب أني بعدهم
لاقيت رِسطاليس والإسكندرا
ولقيتَ بطلَيموس دارس كُتْبه
متملكًا متبديًا متحضرا
والشاعر لا تنجده ذاكرته بهذه الأمثلة وِلاءً إلا بعد اطلاع واسع على التاريخ.
ولا ريب أنه أكمل درسه في اللغة، واستفاد فنونًا أخرى، من مطالعة الكتب، وقد روي
أنه كان
يطالع الكتب كل ليلة قبل أن يهجع.
١
وقد مرَّ في الكلام على نشأته أنه كان مولعًا بملازمة الوراقين يستفيد من دفاترهم.
وفي رواية أبي نصر الجَبلي عن مقتل أبي الطيب أنه كان يحمل كتبه معه في أسفاره ويحرص
عليها،
وكان قد أحكمها قراءة وتصحيحًا.
٢
وقد أعرب هو عن شغفه بالقراءة، وأُنسه بالكتب في قوله:
أعزُّ مكان في الدُّنى سَرجُ سابح
وخير جليس في الزمان كتاب