آراؤه
لو تجوزتُ في تفسير الفلسفة كما يتجوز الكتاب في وقتنا لجعلت عنوان هذا الباب «فلسفة أبي الطيب» ولكن الفلسفة في حقيقتها نظرات شاملة نافذة تنتج آراء في العالم أو الحياة أو الأخلاق يقوم عليها نظام من الفكر متصل متماسك.
فالآراء المنثورة التي تلقى القارئ في ثنايا شعر شاعر أو نثر كاتب، ليست حقيقةً أن تسمَّى فلسفة.
ولأبي الطيب آراء منها ما يُذكر في شعره مرة أو مرتين كما يقع في شعر غيره، ومنها ما يتكرر في صور شتى تنبه القارئ إلى أن وراء هذه الصور المكررة فكرة غالبة ورأيًا متمكنًا في نفس الشاعر. وهذا هو الذي يعدُّ رأيًا للشاعر، وصورة من صور عقله أو قلبه، وبه يمتاز شاعر عن شاعر، ويقال: مذهب فلان ومذهب فلان.
- (١)
آراء أبي الطيب إنسانية ترجع إلى حياة الإنسان، وأخلاقه وعواطفه، وعلاقته بالجماعة التي يعيش فيها، قلما يتعرض شاعرنا لفلسفة العالم مبدئه ومنتهاه كأبي العلاء المعري؛ ولكن فكره يجد مضطربًا واسعًا في الناس بين الحياة والموت، والقوة والضعف، واللذة والألم، والنيل والحرمان … وهلمَّ جرًّا.
- (٢)
يكثر كلام الشاعر عن فناء الحياة وتقلبها وزوال نعيمها، وقد يغلبه الفكر في هذا فينطق به في أثناء المدح أو الغزل كما رأيتَ في الكلام على أخلاقه، يقول:
نصيبُك في حياتك من حبيبنصيبك في منامك من خيال•••
هَوِّن على بصر ما شقَّ منظرهُفإنما يقظات العين كالحلُم•••
لو فكَّر الإنسان في منتهىحسن الذي يسبيه لم يسبِه•••
لم يُرَ قرن الشمس في شرقهفشكَّت الأنفس في غربه•••
وما الدهر أهل أن يؤمَّل عندهحياةٌ وأن يُشتاق فيه إلى النسل•••
مُشِبُّ الذي يبكي الشبابَ مُشيبُهفكيف توقِّيه وبانيه هادمه•••
نحن بنو الموتى فما بالنانعاف ما لا بدَّ من شربه - (٣)
والناس يسيرون في الحياة أفواجًا إثر أفواج بين الميلاد والموت:
على ذا مضى الناسُ، اجتماع وفرقةومَيت ومولود، وقالٍ ووامقسُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلهامُنعنا بها من جيئة وذهوبتملكها الآتي تملكَ سالبوفارقها الماضي فراق سليب•••
يدفن بعضنا بعضًا ويمشيأواخرنا على هام الأوالي - (٤)
وهذه الحياة، على قصرها واضطرابها وأوصابها وآلامها، محبوبة يكلَف كل إنسان بها ويتقاتل الناس عليها:
أرى كلنا يبغي الحياة لنفسهحريصًا عليها مستهامًا بها صَبَّافحبُّ الجبان النفس أورده التقىوحبُّ الشجاع النفس أورده الحرباولذيذ الحياة أنفَسُ في النفسوأشهى من أن يملُّ وأحلىوإذا الشيخ قال أفٍّ فما ملَّحياةً وإنما الضعفَ مَلَّا - (٥)
وينبغي للإنسان ألا يجزع من الموت فهو حادث طبيعي:
نحن بنو الموتى فما بالنانعاف ما لا بدَّ من شربهتبخل أيدينا بأرواحناعلى زمان هنَّ من كسبهفهذه الأرواح من جوِّهوهذه الأجسام من تربه•••
إلفُ هذا الهواء أوقع في الأنفـُـس أن الحِمام مُرُّ المذاقوالأسى قبل فرقة الروح عجزوالأسى لا يكون بعد الفراق•••
وغاية المفرط في سلمهكغاية المفرط في حربهفلا قضى حاجتَه طالبفؤاده يخفق من رعبه - (٦)
والعيش جهاد مستمر، وغِلاب بين الناس لا هوادة فيه ولا رحمة:
دون الحلاوة في الزمان مرارةلا تُختَطَى إلا على أهواله•••
إنما أنفس الأنيس سِباعيتفارسن جهرة واغتيالامن أطاق التماس شيء غلابًاواغتصابًا لم يلتمسه سؤالاكلُّ غاد لحاجة يتمنىأن الغضنفر الرئبالاوالناس لا تكفيهم مصائب الزمان الطبيعية بل يزيدون عليها مصائب بأيديهم. لا يألون في التنازع والاحتراب، وليس على الأرض ما يستحق هذا التعادي والتقاتل؛ ولكن الرجل الأبيَّ لا بدَّ له أن يدفع عن نفسه العدوان والهوان:
صحبَ الناسُ قبلنا ذا الزماناوَعناهم من أمره ما عناناوتولوا بغصة كلهم منهوإن سرَّ بعضَهم أحياناربما تُحسن الصنيعَ لياليهولكن تُكدِّر الإحساناوكأنا لم يرضَ فينا بريب الدهرحتى أعانه من أعاناكلما أنبت الزمانُ قناةركَّب المرءُ في القناة سناناومرادُ النفوس أصغر من أننتعادى فيه وأن نتفانىغير أن الفتى يُلاقي المناياكالحاتٍ ولا يلاقي الهواناولو ان الحياة تبقى لحيلعددنا أضلَّنا الشُّجعاناوإذا لم يكن من الموت بدٌّفمن العجز أن تكون جباناكل ما لم يكن، من الصعب في الأنــفس، سهل فيها إذا هو كانا - (٧)
والناس ظالمون بطبعهم مخادعون، لا عهد لهم ولا خير فيهم فليسوا أهلًا للرحمة:
إذا ما الناس جَرَّبهم لبيبفإني قد أكلتهم وذاقافلم أر ودَّهم إلَّا خداعًاولم أرَ دينهم إلا نفاقا•••
ومن عَرف الأيام معرفتي بهاوبالناس روَّى رمحَه غير راحمفليس بمرحوم إذا ظفروا بهولا في الردى الجاري عليهم بآثم•••
ولما صار وُدُّ الناس خَبًّاجزيت على ابتسام بابتساموصرت أشكُّ فيمن أصطفيهلعلمي أنه بعض الأنام•••
ولا تَشَكَّ إلى خلق فتُشمتَهشكوى الجريح إلى العِقبان والرخَموكن على حذَرٍ للناس تسترهولا يغرك منهم ثغر مبتسموأما ذمة أهل زمانه خاصة فملء شعره في عهده الأول، قبل مصاحبة سيف الدولة، وقد تقدم منه أمثلة.١ - (٨)
والإنسان كريم ولئيم بخلقته، لا يستطيع عنها حِوَلا:
وإذا الحلم لم يكن في طِباعلم يُحلِّم تقدُّم الميلاد•••
وأسرع مفعول فعلتَ تغيرًاتكلُّف شيء في طباعك ضدُّه•••
فقلَّما يلؤم في ثوبهإلا الذي يلؤم في غِرْسهمن وَجد المذهب عن قدرهلم يجد المذهب عن قَنْسِه•••
يراد من القلب نسيانكموتأبى الطباع على الناقل - (٩)
الحياة والعيش والناس في نظره كما وَصف، فماذا يفعل الرجل اللبيب؟
أيفرُّ إلى الزهد، ويخلص من مصائب الحياة، وآلام العيش، ومكائد الناس بأن يتجنب الزحام، ويفرَّ من المعتَرك؟ أيتأسَّى بأبي العلاء المعري؟ أم يتناسى الهموم والآلام باللهو والمرح وتسليط الخمر على العقل، ويتخذ لنفسه قدوة في أبي نواس، ويجعل هجيراه رباعيات الخيام؟
هنا تظهر نفس أبي الطيب قوية: يجب أن تُلبَس الحياة على عِلَّاتها، ويجب أن يأخذ كل حيٍّ نصيبه من العراك، وحظَّه من الجهاد، فمن نكص فهو جبان ليس له إلا الذلة والاستكانة والحرمان:
عجبت لمن له قدٌّ وحدٌّوينبو نَبوة القَضِم الكَهامومن يَجدُ السبيل إلى المعاليفلا يَذر المطيَّ بلا سَنامولم أر في عيوب الناس شيئًاكنقص القادرين على التماموهذه الأبيات مَثَل لكل نفس عظيمة، وكل أمة إلى المعالي طامحة، وفيها حكمة يزيدها النظر وضوحًا، وتملأ الناظر إعجابًا بهذا الشاعر الطموح، الداعي إلى الكمال الذي يرى أعظم العيوب أن يرضى الإنسان بالنقص، ويقعد دون الغاية، وانظر النفس العظيمة في هذه الأبيات:
وفي الناس من يرضى بميسور عيشهومركوبُه رجلاه والثوبُ جلدهولكنَّ قلبًا بين جنبيَّ ما لهمَدًى ينتهي بي في مُراد أحدُّهيرى جسمه يُكسَى شُفوفًا تَرُبُّهفيختار أن يُكسَى دروعًا تَهدُّه•••
تهوِي بمنجرد ليست مذاهبهللبس ثوب ومأكول ومشروبيرى النجوم بعينيْ من يحاولهاكأنها سلَب في عين مسلوبثم تأمل في قوله:
لا يدرك المجدَ إلا سيِّد بطللما يشقُّ على السادات فَعَّاللا وارثٌ جهلت يمناه ما كسَبتولا كَسوب بغير السيف سآل•••
ومن يك قلبٌ كقلبي لهيشق إلى العز قلبَ التوىولا بدَّ للقلب من آلةورأي يصدِّع صُم الصفا•••
ذريني أنلْ ما لا يُنال من العُلىفصعب العلى في الصعب، والسهل في السهلتريدين لُقيانا المعالي رخيصةًولا بدَّ دون الشهد من إبر النحلوهذه الأبيات من شعره في الكهولة. وأما شعر الشباب فقد بلغ فيه حد التهور والطيش والثورة يريد الدنيا ثورة وطعانًا وضرابًا. وحسب القارئ أن يرجع إلى القصيدة:
فؤاد ما تسليه المداموعُمر مثل ما يهب اللئاموالقصيدة:
لا افتخار إلا لمن لا يضاممدركٍ أو محارب لا ينامليرى كيف تكون الدعوة إلى عزَّة النفس وعلوِّ الهمة، والإقدام والمخاطرة.