العصبية العربية
أبو الطيب شاعر عربيُّ النسب، عربي النشأة، عربي الطباع، فهو يمثل العربية تمثيلًا صادقًا في خشونته، ونفوره من الترف، وترفعه عن الدنايا، وإبائه وطموحه وبعد همته وشجاعته وإقدامه وصبره ودربته على السفر، وبصره بالسبل والبلاد، وهلم جرًّا، ولو أن عنترة بن شداد وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلِّزة عاشوا في القرن الرابع الهجري حيث عاش أبو الطيب لأشبهوه في كثير من قوله وفعله.
ذلك تمثيله العربية في أخلاقه ونزعاته وسيرته، وأما تحدثه بالعصبية العربية وإشادته بالعرب وفخره بهم فسأجمل القول فيها بعد هذه المقدمة:
بعض الكتاب يحاولون أن يفسروا تاريخنا بنزعات العصر الحاضر وبما يحسون من عصبية، ولا بدَّ لهم أن يتذكروا أن الأمم الإسلامية في القرن الرابع، كانت تعيش في أخوة الإسلام والتاريخ والأدب، وكانت عصبياتها لا تَطغَى على هذه الأخوة، وكانت الفوارق الوطنية والقومية والسياسية تخالف ما نراه في عصرنا هذا.
فأبو الطيب حينما رحل من العراق إلى الشام فمصر فالعراق ففارس فالعراق لم يُسأل في طريقه عن موطنه، ولم يكلَّف حَمل جواز السفر، ولا تسجيل اسمه في سجلات الشُّرطة كلما فارق مملكة إلى أخرى، وقد أقام في الشام سنين يمدح أناسًا جلهم عرب، وغير العربي منهم كالعربي في ثقافته ولغته ومعيشته.
ورحل إلى مصر فمدح رجلًا أسود ولكنه مسلم يتكلم العربية، ويعرف آدابها ولا يعرف لنفسه لغة أخرى ولا أمة غير الأمة العربية.
ولما رحل إلى فارس لقي ابنَ العميد، وهو علَم من أعلام الأدب العربي، ثم سار إلى عضد الدولة فإذا ملكٌ عربي اللسان، ينظم الشعر العربي ويحب الأدب العربي ويصل شعراء العربية ولا يبالي باللغة الفارسية وآدابها وشعرائها.
ثم ننظر فيما يوحيه كلام الشاعر وسيرته.
- الأول: ذكر فيه العرب والعجم وأعرب عن عصبيته لقومه.
- والثاني: لم يقس فيه العرب بغيرهم، ولكنه دل فيه على اعتزاز بالعربية وافتخار بها.
- والثالث: عطفه على القبائل العربية وحضه سيف الدولة على برهم ورعاية الأخوة العربية فيما يشجر بينه وبينهم من خلاف.
فأما الأول فقوله:
وقوله في ذم ابن كيغلغ موازنًا بينه وبين أبي العشائر الحمداني:
وقوله في رثاء يماك التركي أحد جند سيف الدولة:
وأما الضرب الثاني، وهو اعتزازه بالعروبة وافتخاره، فيتجلى في مدائح سيف الدولة حيث يشيد بعربيته، ويعدها من مفاخره كقوله:
•••
•••
•••
والثالث: وهو عطفه على القبائل العربية، يتبين في قصيدتيه اللتين ذكر فيهما حرب سيف الدولة وقبائل العرب فاجتهد في عطف الأمير عليهم وذكَّره بعربيتهم وقرابتهم، وقد قدمت أدلة هذا في [الفصل الثامن من الباب الثاني] وما بعدها.
- (أ)
مدحه علي بن صالح الروزباري الكاتب بقوله:
فارسي له من المجد تاجكان من جوهر على أبروازنفسه فوق كل أصل شريفولو انِّي له إلى الشمس عازوبآبائك الكرام التأسيوالتسلي عما مضى والتعازيتركوا الأرض بعدما ذللوهاومشت تحتهم بلا مهمازوأطاعتهم الجيوش وهيبوافكلام الورى لهم كالنحازولست أرى في هذا المدح إخلالًا بالعصبية العربية فمدح جماعة ليس تحقيرًا لأخرى؛ لا سيما من شاعر له من وراء المدح مأرب. وكأن الشاعر ضاق عليه مجال القول في هذا الممدوح فحلاه بشيء من مجد الفرس القديم، ولو أنه أراد تعظيم الفرس لاتسع له المجال في قصائد عضد الدولة وهو لم يذكر فيها كلمة عن الفرس وملوكهم، وقد مدح أبو تمام والبحتري غير العرب وقال البحتري في القصيدة السينية التي وصف فيها إيوان كسرى:
ومساع لولا المحاباة منيلم تُطقها مسعاة عنس وعبسثم ذكر فضل الفرس على اليمن إذ أعانوا على إخراج الحبش. ولم تعد مدائح أبي تمام والبحتري مزرية بالعصبية فيهما.
- (ب)
وقال أبو الطيب في كافور:
ويغنيك عما ينسب الناس أنهإليك تناهَى المكرمات وتُنسبوأي قبيل يستحقك قدرهمعد بن عدنان فداك ويعرب•••
أبلى الأجلة مهري عند غيركموبدل العُذر بالفسطاط والرسَنعند الهمام أبي المسك الذي غرِقتفي بحره مضرُ الحمراء واليمنوفي البيتين الأولين موضع للمؤاخذة لا يشفع فيه مقام المدح، واقتضاء الصنعة إذا شفعا في مثل قوله:
ومن قول سام لو رآك لنسله:فدَى ابن أخي نسلي ونفسي وماليا - (جـ)
وقال في مدح ابن العميد:
أرأيت همة ناقتي في ناقةٍنقلت يدًا سُرُحًا وخفًّا مجمرا•••
تركت دخان الرمث في أوطانهاطلبًا لقوم يُوقدون العنبرا•••
من مبلغ الأعراب أنِّي بعدهملاقيت رسطاليس والإسكندراولقيت بطليموس دارس كتبهمتملكًا متبديًا متحضرا
والظاهر أن الشاعر يصف انتقاله من البداوة إلى الحضارة فقد ذكر دخان الرِّمث، وهو من شجر البادية، وذكر الأعراب، ثم قابل هذا بالعنبر وأرسطاليس والإسكندر، فكلام الشاعر عن الأعراب لا العرب، فليس فيه قياس أمة بأمة بل قياس حال بحال: بداوة وجهالة بحضارة وعلم، ولكني مع هذا لا أبرئ الشاعر من أنه وقف نفسه موقف التهمة، وكان خيرًا له ألا يقول هذا.
هذا ما يمر به القارئ أثناء قراءة الديوان من العصبية والخروج على العصبية.
والحق أن أبا الطيب لم يمثل العرب بأقواله كما مثلهم بأفعاله، إنما كان أبو الطيب شاعر العرب بما مثلهم في عيشه وخلقه وفعله وقوله كما قدمت في أول الفصل.
•••
ولا يقاس أبو الطيب في الإشادة بالعرب والفخر بهم والدفع عنهم، ودعوتهم إلى استعادة مجدهم، بشاعر العرب الحق الذي فاض شعره في القرن الخامس الهجري بالعزة العربية، والعصبية للعرب والإشادة بمجدهم، وذلكم الشاعر الأموي النابغ الأبيوردي.
هذا؛ ولأبي الطيب، غير ما بينت، آراء منثورة ترجع إلى أمور شتى لا تبين عن مذهب مكين في النفس، ويستطاع تعدادها هنا.