مكانته في الأدب
١
كان شعر أبي الطيب، في بعض معانيه ولغته وأسلوبه، يمتاز من شعر معاصريه، وكان أبو الطيب في أنفته وكبريائه وثورته وتحدثه بالسؤدد والمجد فذًّا في الشعراء.
فهذا وذاك نبها الناس إليه منذ حداثته، فما زال ذكره ينبه حتى فاق شعراء الشام، ثم اتصل بسيف الدولة فاتسع المجال لبيانه، وواتت الحال كبرياءه، فعلا قدره وسار شعره حتى كسف شعراء عصره جميعًا القريبين من سيف الدولة والبعيدين.
وكان الشاعر معجبًا بنفسه مفتونًا بشعره منذ نشأ، يقول في قصيدة الحسين بن علي الهمذاني:
وفي قصيدة ابن طغج:
وفي قصيدة طاهر العلوي:
ولما نبه ذكره عند بني حمدان اغتبط بإدراك بعض آماله، وتحدث عن بعد صيته، وسير شعره فقال:
•••
•••
٢
وكان من نباهته أن تطلع الشعراء إلى شعره منذ صباه، وقد ادعى بعضهم إحدى قصائده:
في النسخة (٥٣٠): «حدثني أبو الحسن بن سعيد راوية المتنبي بحلب سنة أربع وخمسين، وقد تناشدنا قصيدته الحائية التي أولها:
أن أبا الطيب حدثه أنه في بعض زوراته لآل الفصيص كان عند رئيسهم فأنشده شاعر قدم عليه قصيدته الحائية التي قدمنا ذكرها إلى أن أتى على آخرها، فأخذ أبو الطيب الدواة وكتب لوقته قطعة لم يُجز أن تروى عنه وقد كتبناها في ديوانه هذا.» وقد ألحقت القطعة بآخر النسخة، وأولها:
وهذه من قصائد الصبا.
ولست أصدق هذه الرواية عن أبي سعيد ولكن ساق إليها الحديث.
وحسبنا دليلًا على منزلة شاعرنا أن شاعرًا أديبًا كابن دينار الذي رويت عنه كتب الزجاج وثعلب وابن الأعرابي وغيرهم يمدحه بقصيدة أولها:
وقد تخلل شعره الجماهير فحفظوه وتمثلوا به. أسلفت قصة الهاشمي الذي كتب وهو بمصر إلى امرأته بحران متمثلًا بمطلع القصيدة:
فأجابته امرأته بل أنت كما قال في هذه القصيدة:
٣
وكان من إحسانه وتحليقه فوق شعراء زمانه أن أعجب به جماعة، وحسدته أخرى. وكان من شذوذه وابتداعه في بعض المعاني والألفاظ أن كرهه قوم، ووجد فيه آخرون مجالًا للشرح والجدل.
فالشعراء واللغويون عند سيف الدولة أخذوا عليه مآخذ، والوزير المهلبي أغرى به شعراء بغداد، وحرض عليه الحاتمي فناظره أو ادعى مناظرته ثم كتب كتابه «المُوضِّحة في مساوئ المتنبي». وابن العميد انتقد بعض شعره وكأنه أراد أن يعلمه أنه على سمو قدره، لا يكبر على نقد ابن العميد. وسخط عليه الصاحب إذ دعاه إليه فاستكبر كما يقول الثعالبي، فكتب رسالته «الكشف عن مساوئ المتنبي».
وكان الصاحب عارفًا بإحسان أبي الطيب على طعنه فيه، وقد رأيت رسالة اختار فيها الصاحب أبياتًا كثيرة من شعر الشاعر وقدمها لفخر الدولة بن بويه.
فقد صار الشاعر مدار نقد وموضوع تأليف وهو حي.
٤
وألف الشريف المرتضى من بعدُ كتابًا سماه تتبع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلم عليها ابن جني.
وكتب بعض الأدباء يزعم أن شعر أبي الطيب مسروق من أبي تمام والبحتري، فكتب أبو الحسين محمد بن أحمد المغربي راوية أبي الطيب كتاب «الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي»، وجاء القاضي المنصف علي بن عبد العزيز الجرجاني المتوفى سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة هجرية يتوسط فكتب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، فذاع الكتاب أو كما قال ياقوت سار مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وأقبل عليه المتأدبون حتى قال بعض أهل نيسابور:
وكان مع هذا الجدل ذيوع شعره، وإكباب الناس على قراءته ودرسه.
ومن أمثلة هذا أنه في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وقعت في نيسابور مناظرة بين بديع الزمان والخوارزمي فاقترح عليهما رئيس المجلس أن ينسجا على منوال المتنبي في قوله: أرق على أرق ومثلي يأرق. ثم قال لهما: قولا على منوال المتنبي في قوله: أهلا بدار سباك أغيدها، وهاتان القصيدتان من قول الشاعر في صباه، فكيف بقصائد سيف الدولة وما بعدها.
٥
فليس اليوم مجالس الدرس أعمر بشعر أبي الطيب من مجالس الأنس، ولا أقلام كتاب الرسائل أجرى به من ألسن الخطباء في المحافل، ولا لحون المغنين والقوالين أشغل به من كتب المؤلفين والمصنفين، وقد ألفت الكتب في تفسيره وحل مشكله وعويصه، وكثرت الدفاتر على ذكر جيده ورديئه، وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه، وتفرقوا فرقًا في مدحه والقدح فيه، والنضح عنه والتعصب له وعليه.
وكتب الثعالبي بابًا مطولًا جدًّا قال فيه: «ويتميز هذا الباب به عن سائر أبواب الكتاب كتميزه عن أصحابها بعلو الشأن في شعر الزمان، والقبول التام بين الخاص والعام.»
وفي القرن الخامس شرح أبو العلاء المعري المتوفى سنة تسع وأربعين وأربعمائة الديوان، وسمى شرحه معجز أحمد.
وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة أتم علي بن أحمد الواحدي (المتوفى سنة سبع وستين وأربعمائة) شرح الديوان، وقال في خاتمة الشرح: «وإنما دعاني إلى تصنيف هذا الكتاب، مع خمول الأدب وانقراض زمانه، اجتماع أهل العصر قاطبة على هذا الديوان وشغفهم بحفظه وروايته والوقوف على معانيه، وانقطاعهم عن جميع أشعار العرب جاهليها وإسلاميها إلى هذا الشعر، واقتصارهم عليه في تمثلهم ومحاضراتهم وخطبهم ومخاطباتهم حتى كأن الأشعار كلها فقدت … إلخ.»
ثم توالى الشراح: التبريزي والعكبري وغيرهما إلى يومنا هذا وليس هذا مقام تعداد شروح الديوان وقد تجاوزت الأربعين.
وأختم الكلام بإثبات قصة تمثل الحقيقة وإن لم تكن حقًّا. روى صاحب الصبح: «أن رجلًا من مدينة السلام كان يكره أبا الطيب المتنبي فآلى على نفسه ألا يسكن بمدينة يُذكر بها أبا الطيب وينشد كلامه، فهاجر من مدينة السلام وكان كلما وصل بلدًا سمع بها ذكره يرحل عنها حتى وصل إلى أقصى بلاد الترك فسأل أهلها عن أبي الطيب فلم يعرفوه فتوطنها، فلما كان يوم الجمعة ذهب إلى صلاتها بالجامع فسمع الخطيب ينشد بعد ذكر أسماء الله الحسنى:
٦
- الأول: «أبيات معان في شعر المتنبي».
- والثاني: «ما أخذ عن المتنبي من اللحن والغلط».١٠
وابن رشيق (المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة) ذكره في كتاب العمدة مرات، وسماه خاتم الشعراء وقال: «ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس.»
وأما شيوع شعره في أندية الأندلس منذ القرن الرابع فهنا قصتان: روى ابن خلكان أن المعتمد بن عباد أنشد يومًا في مجلسه بيت المتنبي:
وجعل يردده استحسانًا له، وفي مجلسه أبو محمد عبد الجليل بن وهبون الأندلسي فأنشد ارتجالًا:
فخلا بها ابن شرف أيامًا فوجد مركبها وعرًا، ومريرتها شذرًا، ولكنه أبلى عذرًا، وأرهق نفسه من أمرها عسرًا، فما قام ولا قعد. وسأل ابنَ ذي النون بعدُ أي شيء أقصدَه إلى تلك القصيدة؟ فقال: لأن أبا الطيب يقول فيها:
وروي في الصبح عن ابن بسام أن أبا علي بن رشيق حدث نفسه بمعارضة أبي الطيب في قصيدته:
فلم يستطع.
٧
وفي المغرب الأقصى شاع ذكر أبي الطيب كذلك، وأعجب الناس بشعره حتى كبار رجال الدين كالمهدي محمد بن تومرت.
٨
ولا تنس كلف النحاة وعلماء البلاغة بشعر أبي الطيب، يجد الأولون في مشكله وعويصه مثارًا للجدل كما فعل ابن هشام في كتاب المغني، ويجد الآخرون في محاسنه ومساوئه أمثلتهم في البلاغة والتعقيد كما فعل عبد القاهر الجرجاني وأبو يعقوب السكاكي ومن أخذ عنهما من مؤلفي البلاغة.
٩
ذلكم أبو الطيب، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما قال ابن رشيق، قد أورث الأدب العربي ثروة بشعره ولا سيما حماسته وأمثاله وحكمه، وأورثه ثروة بما ثار حوله من نقد الأدباء وجدالهم وبما كُتب على ديوانه من شروح تجاوزت الأربعين.
لقد أدرك الشاعر الكبير، في الأدب، المجد الذي فاته في السياسة، فإن يكن المجد كما قال:
فما زالت الدنيا مدوية باسمه، والآفاق مرددة ذكره، وما زال حتى اليوم مدار قيل وقال، ومثار مراء وجدال، ولم يزده مر الزمان إلا نباهة، ولا قدم العهد إلا حداثة، وها هي ذي البلاد العربية قد احتفلت أخيرًا بذكره بعد ألف عام، من فاس إلى مدينة السلام.