آراء النقاد فيه
أعرض في هذا الفصل طائفة من آراء الأدباء القدماء في أبي الطيب منذ تكلم فيه النقاد إلى القرن السابع.
وإنما عنيت بآراء النقاد القدماء؛ لأنهم أقدر على نقد الشاعر، وأبصر بمواقع شعره في النفوس، ومكانته من أدب عصره.
ذلكم بأن ألفاظ اللغة، على اطراد استعمالها، ووضوح مدلولاتها، تتضمن إلى معانيها البينة، دقائق لا تستطيع تفسيرها معاجم اللغة، ومرامي تختلف باختلاف الزمان والمكان، فقد يدرك معاصر أبي الطيب متانة في عبارة أو ركاكة لا تظهر لنا، ويرى في جملة سوء أدب لا نراه.
ومن أجل هذا كانت اللطائف لا تقع عند الناس مواقع واحدة، فرب كلمة تذهب بجماعة مذاهب في الضحك والعجب، ويمر بها آخرون لا يرون فيها ما يضحك؛ لأن في اللطائف، إلى المعنى المشترك بين الجماعات، دقائق تختلف في إدراكها البيئات.
ثم معرفة الناس الوقائع التي قيل فيها الشعر تجعل للعارف ميزة على غيره في تقدير المعاني ووزن الكلام، والحكم على القائل، فالقصيدة التي تنظم اليوم في واقعة تقع في مصر تتضمن من الدقائق ما لا يقدره غير المصريين وإن اشترك العرب والمتأدبون بالأدب العربي جميعًا في فهم معانيها.
وكذلك القصيدة التي أنشئت في القرن الرابع هي أقرب إلى أهل القرن الرابع، وهلم جرًّا.
وهكذا تختلف البيئة والعرف والأدب باختلاف الزمان والمكان.
ثم في عرض آراء النقاد من السلف فائدتان أخريان: الاستعانة بنظرهم وكانوا أكثر منا فراغًا للأدب، واختصاصًا به، والثانية أن معرفة آراء النقاد في شاعر ما تدخل في تاريخ أدب هذا الشاعر، فلا يسع كاتب أن يتركها دون إخلال بتاريخ من يكتب عنه قليل أو كثير.
وترتيب الآراء هنا على ترتيب التاريخ:
١
وإن كان في بعض ألفاظه تعسف عن القصد في صناعة الإعراب، من التمسك بأهداب شاذ أو حمل على نادر، فعن غير جهل كان منه، ولا قصور عن اختيار الوجه الأعرف له، ومن هنا تشبث قوم لا دربة لهم بعلم العربية بأشياء من ظاهر لفظه، إذ لم يكن لهم خبرة بدخلة أمره، وحقًّا أقول لقد شاهدته على خلق قلما تكامل إلا لعالم موفق.
وأما اختراعه للمعاني وتغلغله فيها، واستيفاؤه إياها، فما لا يدفعه إلا ضد، ولا يستحسن معاندته إلا ند، وما أحسبني رأيت أحدًا (غض من) هذا الرجل وقتًا من الزمان إلا وشاهدته بعد ذلك قد رجع عنه وعاد إلى تفضيله … وما لهذا الرجل الفاضل عيب عند هؤلاء السقطة الجهال وذوي النذالة والسفال، إلا أنه متأخر محدث، وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له ومنبهة عليه؛ لأنه جاء في زمان يُعقم الخواطر، ويُصدئ الأذهان، فلم يزل فيه وحده بلا مضاه يساميه، ولا نظير يعاليه، فكان كالقارح الجواد يتمطر في المهامه الشداد، لا يواضح إلا نفسه، ولا يتوجس فيها إلا جرسه.
٢
وكنت ذاكرت بعض من يتوسم بالأدب، الأشعار وقائليها والمجودين فيها، فسألني عن المتنبي فقلت: إنه بعيد المرمى في شعره كثير الإصابة في نظمه، إلا أنه ربما يأتي بالفِقرة الغراء، مشفوعة بالكلمة العوراء، فرأيته قد هاج وانزعج، وحَمِي وتأجج، وادعى أن شعره مستمر النظام متناسب الأقسام، ولم يرض حتى تحداني فقال: إن كان الأمر كما زعمت فأثبت في ورقة ما تنكره، وقيد بالخط ما تذكره، لتتصفحه العيون وتسبكه العقول. ففعلت وإن لم يكن تطلب العثرات من شيمتي، ولا تتبع الزلات من طريقتي، وقد قيل: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو؟
ثم عد الصاحب عيوبًا أخذها على الشاعر واستشهد بأبيات. وترى أن الصاحب في المقدمة لم يطعن في مقدرة الشاعر، ولا حط من قدره، ولا أخره عن مكانه، بل أراد أن يثبت أن للرجل هفوات، وليس يعنينا أن يكون حقًّا أو باطلًا ما رواه الثعالبي من أن الصاحب دعا أبا الطيب إلى مدحه فاستكبر فانتقم منه بالطعن فيه، فقد حاول الصاحب أن يأتي بالبينة على دعواه فنصرته حينًا وخذلته حينًا، وعمدتنا هذه البينة لا نية الناقد.
وهذا الصاحب نفسه جمع لأحد الأمراء من بني بويه أبياتًا من عيون شعر أبي الطيب وتداولها الناس في رسالة باسم الصاحب، كما تقدم.
٣
وأما الحكم عليه وعلى شعره فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه، وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به، يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البدع، وفي متن شعره وهْي، وفي ألفاظه تعقيد وتعويص.
وخلاصة هذا الرأي أنه كان قليل التثبت فأحسن وأساء ولم يسلم من الضعف والتعقيد، وذلك قريب من رأي الصاحب.
٤
وما زلت أرى أهل الأدب منذ ألحقتني الرغبة بجملتهم، ووصلت العناية بيني وبينهم، في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي فئتين: من مطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحط في هواه بلسانه وقلمه، يتلقى مناقبه إذا ذُكرت بالتعظيم، ويشيع محاسنه إذا حُكيت بالتفخيم، ويعجب ويعيد ويكرر، ويميل على ما عابه بالزراية والتقصير، ويتناول من ينقصه بالاستحقار والتجهيل، فإن عثر على بيت مختل النظام أو نُبه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نصرة خطئه، وتحسين زلـلـﻪ، ما يزيله عن موقف المعتذر، ويتجاوز به مقام المنتصر، وعائب يروم إزالته عن رتبته فلا يسلم له فضيلة، ويحاول حطه عن منزلة بوَّأه إياها أدبه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار معايبه، وتتبع سقطاته وإذاعة غفلاته، وكلا الفريقين إما ظالم له أو للأدب فيه.
وللفضل آثار ظاهرة، وللتقدم شواهد صادقة، فمتى وجدت تلك الآثار وشوهدت هذه الشواهد، فصاحبها فاضل متقدم، فإن عثر له بعد ذلك على زلة ووجدت له بعقب الإحسان هفوة، انتُحل له عذر صادق، أو رخصة سائغة، فإن أعوز قيل: زلة عالم، وقل من خلا منها، وأي الرجال المهذب؟
فإذا نزلت به إلى أبي تمام وأضرابه، نفض يده وأقسم واجتهد أن القوم لم يقرضوا بيتًا قط ولم يقعوا من الشعر إلا بالبعد. ومن هذا رأيه ومذهبه، وهذه دعواه ونحلته، فقد أعطاك ما أردت من وجه وإن مانعك سواه، وسمح لك بما التمست وإن التوى عليك في غيره؛ لأن الذي انتصبت له، وشغلت عنايتك به إلحاق أبي الطيب بهذه الطبقة وإضافته إلى هذه الجملة، وقد بذل ذلك وقرب مطلبه عليك، فإن تكن الجماعة منسلخة من الشعر مرسومة بالنقص مستحقة للنفي، فصاحبك أولهم، وإن تكن قد علقت منه بسبب، وحظيت منه بطائل، وكان لها فيه قدم ومنه حظ وموقع فهو كأحدهم.
فإنك لا تدعي لأبي الطيب طريقة بشار وأبي نواس، ولا منهاج أشجع والخزيمي، ولو ادعيته إنما كنت تخادع نفسك أو تباهت عقلك، وإنما أنت أحد رجلين: إما أن تدعي له الصنعة المحضة فتلحقه بأبي تمام وتجعله من حزبه، أو تدعي له فيها شِركًا وفي الطبع حظًّا، فإن ملت به نحو الصنعة فضل ميل صيرته في جنبة مسلم، وإن وفرت قسطه من الطبع عدلت به قليلًا نحو البحتري.
وأنا أرى لك، إذا كنت متوخيًا للعدل مؤثرًا للإنصاف، أن تقسم شعره فتجعله في الصدر الأول تابعًا لأبي تمام، وفيما بعده واسطة بينه وبين مسلم.
وقد قدمنا لك في صدر هذه الرسالة من شعر أبي نواس وأبي تمام وغيرهما ما مهدنا به الطريق إلى هذا القول، وأقمناه علمًا يرجع إليه في هذا الحكم، وأعلمناك أنه ليس بغيتنا الشهادة لأبي الطيب بالعصمة، ولا مرادنا أن نبرئه من مقارفة زلة، وأن غايتنا فيما قصدناه أن نلحقه بأهل طبقته، ولا نقصر به عن رتبته، وأن نجعله رجلًا من فحول الشعراء، ونمنعك من إحباط حسناته بسيئاته، ولا نسوغ لك التحامل على تقدمه في الأكثر، بتقصيره في الأقل، والغض من عام تبريزه بخاص تعذيره.
فقد تبين بما نقلت رأي القاضي وهو تشريف أبي الطيب بإلحاقه بمسلم وأبي تمام والبحتري في إحسانهم والاعتراف بأن له سيئات مثلهم، وأنه بين صنعة مسلم وأبي تمام وطبع البحتري.
٥
وتكلم الأفاضل في الوساطة بينه وبين خصومه، والإفصاح عن أبكار كلامه وعونه، وتفرقوا فرقًا في مدحه والقدح فيه، والنضح عنه والتعصب له وعليه، وذلك أول دليل على وفور فضله، وتقدم قدمه، وتفرده عن أهل زمانه بملك رقاب القوافي، ورق المعاني، فالكامل من عدت سقطاته، والسعيد من أحصيت هفواته، وما زالت الأملاك تهجى وتمدح.
وأنا مورد في هذا الباب ذكر محاسنه ومقابحه، وما يُرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل نقد شعره، والتنبيه على عيونه وعيوبه، والإشارة إلى غُرَره وعُرَره، وترتيب المختار من قلائده وبدائعه.
رأي الثعالبي قريب من رأي الجرجاني، وقد نقل عنه كثيرًا من نقده، ولكن الثعالبي أطلق القول ولم يقف بأبي الطيب عند أبي تمام والبحتري، ولا قال: إن قصاراه أن يلحق بهما كما قال صاحب الوساطة، وسأبين من بعد ما حكاه الثعالبي مما أخذ على الشاعر في ألفاظه ومعانيه.
هؤلاء الخمسة: ابن جني والصاحب والأصفهاني والجرجاني والثعالبي من أدباء القرن الرابع المعاصرين للشاعر أو الملحقين بالمعاصرين.
ومن المعاصرين أبو هلال العسكري (المتوفى سنة ٣٩٥) لم يحفل بأبي الطيب ولم يسمه في كتاب الصناعتين، ولكن كنى عنه مرات عند التمثيل بالمستهجن من شعره، ثم صرح باسمه مرات في ديوان المعاني.
٦
٧
المعري والشريف المرتضى:
وفي الشرح المنسوب إلى أبي العلاء المعري ما يبين عن شدة تعصب أبي العلاء للشاعر، فقد روى فيه أن ابن جني اعترض على قول أبي الطيب:
وعند أبي الفتح أنه يقدر على تبديل ألفاظ هذا الشعر بما هو خير منه؟ وقرأت على أبي العلاء المعري، ومنزلته في الشعر ما قد علمه من كان ذا أدب، فقلت له يومًا في كلمة: ما ضر أبا الطيب لو قال مكان هذه الكلمة كلمةً أخرى أوردتها. فأبان لي عوار الكلمة التي ظننتها، ثم قال لي: لا تظن أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها، فجرب إن كنت مرتابًا. وها أنا أجرب ذلك منذ العهد فلم أعثر بكلمة لو أبدلتها بأخرى لكانت أليق بمكانها، وليجرب من لم يصدق يجد الأمر على ما أقول.
وهذا القول عجيب من مثل المعري، فإن كان الراوي قد وهم فنسب إلى المعري ما لم يقل فهذه النسبة تؤيد ما عُرف به المعري من التعصب لأبي الطيب.
٨
ولقد تأملت أشعاره كلها فوجدت الأبيات التي يفتخر بها أصحابه، وتُعتبر فيها آدابه، من أشعار المتقدمين منسوخة، ومعانيها من معانيهم مسلوخة … إلخ.
ويرى القارئ أنه رأى متعصب أخذ عليه البغض مسالك الصواب.
٩
وأما المتنبي فقد شغلت به الألسن، وسهرت في أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره، والآخذ لذكره، والغائص في بحره، والمفتش في قعره عن جمانه ودره، وقد طال فيه الخلف وكثر عنه الكشف، وله شيعة تغلو في مدحه، وعليه خوارج تتعايى في جرحه، والذي أقول إن له حسنات وسيئات، وحسناته أكثر عددًا وأقوى مددًا، وغرائبه طائرة، وأمثاله سائرة، وعلمه فسيح، وميزه صحيح، يروم فيقدر، ويدري ما يورد ويصدر.
١٠
وليس في المولدين أشهر اسمًا من الحسن أبي نواس ثم حبيب والبحتري؛ ويقال: إنهما أخملا في زمانهما خمسمائة شاعر كلهم مجيد ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز فطار اسم ابن المعتز حتى صار كالحسن في المولدين، وامرئ القيس في القدماء، فإن هؤلاء الثلاثة لا يكاد أن يجهلهم أحد من الناس.
ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس.
وقال: «وقد كان أبو الطيب كثير البديهة والارتجال إلا أن شعره فيهما نازل عن طبقته جدًّا، وهو لعمري في سعة من العذر.»
«فإذا صرت إلى أبي الطيب صرت إلى أكثر الناس غلوًّا وأبعدهم فيه همة حتى لو قدر ما أخلى منه بيتًا واحدًا.»
١١
١٢
وإن الناس منذ عصر قديم قد ولوا جميع الأشعار صفحة الإعراض مقتصرين منها على شعر أبي الطيب المتنبي معرضين عما يروى لسواه، وإن فاقه وجاز في الإحسان مداه، وليس ذلك إلا لبخت اتفق له فعلا وبلغ المدى، قال:
على أنه كان صاحب معان مخترعة بديعة، ولطائف أبكار لم يسبق إليها دقيقة، ولقد صدق من قال:
ولهذا خفيت معانيه على أكثر من روى شعره من أكابر الفضلاء والأئمة؛ حتى الفحول منهم والنجباء، كالقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، صاحب كتاب الوساطة وأبي الفتح عثمان بن جني النحوي وأبي العلاء المعري وأبي علي بن فُورَّجة البروجردي … إلخ.
وقال بعد شرح أبيات أبي الطيب التي وصف بها كتاب أبي الفتح بن العميد، وهي التي أولها:
ولو خرس المتنبي ولم يصف كتاب ابن العميد بما وصف لكان خيرًا له فكأنه لم يسمع قط وصف كلام … إلخ.
وقال بعد شرح الأبيات التي نظمها يوم نثر الورد عند عضد الدولة، والتي أولها:
وهذه قطعة في وصف الورد غير مليحة، وليس المتنبي من أهل هذه الأوصاف، وهي كالقطعة التي وصف فيها كلام ابن العميد.
وقد روى العكبري كلمة الواحدي بهذه العبارة: «وليس المتنبي من أهل الأوصاف.»
وننتقل إلى رأي أديب من أدباء القرن السادس والسابع.
١٣
قال أبو البقاء العكبري شارح الديوان (المتوفى سنة ٦١٦) بعد شرح البيت:
وقد أجمع الحذاق بمعرفة الشعر والنقاد، أن لأبي الطيب نوادر لم تأت في شعر غيره، وهي مما تخرق العقول، منها هذا البيت ومنها إلخ.
أورد الشارح أكثر من مائة بيت من مختار شعر أبي الطيب، ثم قال: فهذا الذي لم يأت شاعر بمثله، وإنما ذكرناه مجملًا ليسهل أخذه وحفظه، ولو تصفحت دواوين المجيدين المولدين والمحدثين، لم تجد لأحد منهم بعض هذا إلا نادرًا، ولكن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، يؤتي الحكمة من يشاء.
قلت إنما المتنبي ممن يحسن الأوصاف في كل فن، وإنما هذا الذي يأتي له في البديهة والارتجال أو في وقت يكون على شراب أو غيره فلا يعتد به، ولو كان أبو الفتح (يعني ابن جني) عمل صوابًا لكان أسقطه من شعره، ولولا أن من تقدمني شرح هذه المقطعات وأثبتها لما ذكرتها في كتابي هذا.
١٤
ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع، وأنفدت شطرًا من العمر في المحفوظ منه والمسموع، فألفيته بحرًا لا يوقف على ساحله، وكيف يُنتهَى إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله؟ فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده، وتتشعب مقاصده، ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم، في اتباع من قصر نظره على الشعر القديم، إذ المراد من الشعر إنما هو إبداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف، فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل، وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس، وأبي عبادة الوليد، وأبي الطيب المتنبي، وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعُزَّاه ومناته، الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته، وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء، وجمعت بين الأمثال وحكمة الحكماء.
وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه، ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه، لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال، واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال، وأنا أقول قولًا لست فيه متأثمًا، ولا منه متلثمًا، وذاك أنه إذا خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها، وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها؛ حتى تظن الفريقين قد تقابلا، والسلاحين قد تواصلا، فطريقه في ذلك يضل بسالكه، ويقوم بعذر تاركه.
ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة بن حمدان فيصف لسانه ما أدى إليه عيانه.
ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن الوسط فإما مفرِّط في وصفه، وإما مفرِط، وهو، وإن انفرد بطريق صار أبا عذره، فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:
ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى، وجدته أقسامًا خمسة: خمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخمس من متوسط الشعر، وخمس دون ذلك، وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها، ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها، فإنها هي التي ألبسته لباس الملام، وجعلته عرضة لسهام الأقوام.
خلاصة هذه الآراء
إذا استثنينا العميدي، وينبغي أن يخرج من بين هؤلاء النقاد، فالإجماع على أن أبا الطيب من فحول الشعراء وفرسان البيان المتصرفين في فنون القول المخترعين دقائق المعاني.
وجل هؤلاء النقاد يرون له إلى حسناته سيئات، ثم يختلفون في النظر إلى سيئاته:
يحاول بعضهم تعظيمها والمبالغة فيها، وهم الصاحب بن عباد والشريف المرتضى، ويلحق بهم أبو القاسم الأصفهاني، على أن الصاحب قد اعترف بفضل الشاعر في رسالته التي جمع فيها أمثاله كما سيأتي.
ومنهم من يحاول الإغضاء عنها أو دفعها والاعتذار لها وهم ابن جني والمعري والعكبري.
ومنهم من يقدرها قدرها لا يبغي التسميع بها، ولا تهوينها وهم الأكثرون: الجرجاني والثعالبي وابن شرف وابن رشيق والواحدي.
وإذا قيس أبو الطيب إلى الشعراء فالمعري والعكبري يرفعانه فوقهم جميعًا، والجرجاني يلحقه بأبي تمام والبحتري، ويقف به دون أبي نواس وبشار. وابن الأثير يقول: إنه أراد أن يقفو أثر أبي تمام فقصرت به خطاه، ولكنه فاقه وغيره من كبار الشعراء في الأمثال والحكم ووصف القتال وبذ الشعراء جميعًا في قسم من شعره، وجارى كبارهم في قسم، وتوسط في آخر فسار مع أوساط الشعراء وتخلف في قسم آخر فلم يساير الأوساط ثم جاء سكيتًا بعد هذا.