رأيي في شعر أبي الطيب وخصائصه
(١) مقدمة
البيان كله تصوير وتعبير عما يُدرك الإنسان في هذا العالم من أشياء حسية وأمور معنوية، فللبيان أركان ثلاثة: المعنى الذي يُدرك، والصورة التي يُصور فيها، واللفظ الذي ينقل هذا المعنى وصورته إلى السامع والقارئ.
(١-١) الركن الأول: المعاني المدركة
كل ما في هذا العالم سمائه وأرضه من حقائق آفاقية ونفسية، تصلح أن تكون موضوعات للبيان البليغ نظمه ونثره، إن وصلها الإنسان بنفسه فصبغها بعاطفته أو صورها بخياله، أو جلاها وفصلها بصنعته، والناس يختلفون فيما يدركون قلة وكثرة، وضيقًا وسعة، وإجمالًا وتفصيلًا، وكلما اتسع علم الإنسان بحقائق العالم وأحواله اتسع مجال البيان عنده، وكثرت موضوعات البيان ومعانيها لديه، فكان أشمل بيانًا وأقدر على أن يخاطب النفوس المختلفة من العلماء والجهال، والخاصة والدهماء، وكان بيانه أكثر اتصالًا بحقائق العالم، وأوفى نصيبًا من الخلود.
اختلاف الموضوعات في صلتها بالإنسان
ثم الموضوعات التي يعالجها البيان، هذه الحقائق النفسية والآفاقية التي هي مادة النظم والنثر، تختلف في اتصالها بالإنسان: منها ما هو محكم الاتصال بشعوره وعاطفته، ومنها ما هو أضعف صلة بالعاطفة والشعور.
وهي في هذا تتوالى من مركز الدائرة إلى محيطها، والشعر والنثر في هذا مختلفان، الشعر أقرب إلى المركز وأشد اتصالًا بالعاطفة، والنثر أقرب إلى المحيط وأبعد عن المركز، وكلاهما تحيط به هذه الدائرة التي تشمل حقائق العالم كلها موصولةً بعاطفة الإنسان وشعوره.
فقول أبي العلاء المعري:
دخل في الشعر لأنه لم يُرد تبيين عناصر العالم والإنسان كما يبينها عالم طبيعي؛ بل وصلها برأيه في ضعف تركيب العالم، وتعرضه للانحلال والفناء، كما قال:
لم يبين هنا أمزجة الإنسان تبيين طبيب، ولكنه جعل هذا البيان وسيلة إلى قوله فيما يقاسيه الإنسان في الحياة من السقام والآلام.
وقول القائل:
يدخل في الشعر بأن قائله لم يرد بيان المظاهر الطبيعية حين طلوع الشمس وغروبها، ولكن يريد بيان فناء الإنسان على مر الزمان. وإن تكلم جغرافي في طلوع الشمس وغروبها، وبين سبب احمرارها حين الطلوع واصفرارها حين الغروب، وفصل القول في هذا تفصيلًا لم يدخل كلامه في دائرة الشعر، لانفصاله عن الإنسان عاطفته وخياله.
ثم انظر هذه الأمثلة:
قول زهير:
وقول عنترة:
وقول أبي الطيب:
تجد في هذه الأمثلة كلها بيان حقائق نفسية واجتماعية لم تخلقها العاطفة والخيال ولكنها متصلة بعاطفة الإنسان مؤثرة في نفسه وإن لم يبين هذا الاتصال وهذا التأثير في الكلام.
ثم انظر في قول بشار:
ابذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة بشرك وتحننك، واضنن بدينك وعرضك عن كل أحد.
وهذه القصة:
دخل أبو العيناء على أبي الصقر فقال له: ما أخرك عنا؟
قال: سُرق حماري، قال: وكيف سُرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك.
قال: فلِمَ لَمْ تأتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذلة المكاري، ومِنة العواري.
لا تجد في هذه الأمثلة إلا أمورًا كشف عنها القائل إخبارًا أو طلبًا وهي، على هذا، بيان جيد ذو أثر في النفس، دعوةً إلى الخير، أو روعة بالحجة القوية والتصوير المبين.
وهذه أمثلة أخرى:
قول عنترة في القصيدة التي فيها البيت الذي أثبتناه آنفًا:
وقول بشار في القصيدة التي منها البيت الذي مثلنا به آنفًا:
وقول أبي الطيب:
فالتصوير في هذه الأمثلة أروع والعاطفة فيها أبين والخيال فيها عجيب، فهي أقرب إلى مركز الشعر من الأمثلة السابقة، وكلٌّ شعرٌ أو نثر بليغ.
•••
ربما يكون التأثير بغير تخييل، ولا تبيين للعاطفة، ولكن بإثارة العاطفة أو التأثير في النفس بالصورة أو القصة.
انظر قول مجنون ليلى:
فهو لم يقل أنا محب موله، ولا شكا تبريح العشق به، ولعله وصف حقيقة ليس للخيال فيها عمل، ولكنه دل بهذه الحركات على ما وراءها من حب وشغف ووله.
وكذلك قول ذي الرمة:
فهو لم يزد على أن وصف حالًا تقع كثيرًا في البادية، وربما يعانيها كثير ممن لا يستطيعون الإبانة عنها بالشعر، ولكنه دل بهذا الوصف على ما في نفسه، كما يدل الوجه الواجم، والطرف الساجم، والثغر الباسم، وهكذا يطرد القول في هذا الشأن، وتكثر الأمثلة إلى غير نهاية.
ويؤثر عن أبي العلاء المعري أنه قال: أبو تمام والمتنبي حكيمان، وإنما الشاعر البحتري.
وتأويل هذا أن شعر البحتري أدخل في العاطفة وألصق بالوجدان من شعر أبي تمام والمتنبي، فجانب العقل في شعرهما أبين منه في شعر الوليد، والعاطفة في شعرهما لا تبلغ مبلغها في شعره، ويبقى للحكمة قدرها في شعرهما.
ولا ريب أن أبا تمام والمتنبي شاعران كبيران وأبو العلاء المعري أول من يعترف بشعر أبي الطيب، ولكن تأويل كلام المعري ما قلت.
ويمكن أن يقال على نسق ما قلت آنفًا: إن شعر أبي عبادة أقرب إلى مركز الدائرة الشعرية من شعر أبي تمام وأبي الطيب.
اختلاف التأثير باختلاف الموضوع
فموضوعات الأدب تختلف اتصالًا بالنفس الإنسانية فتختلف تأثيرًا فيها، يختلف تأثير الشاعر والكاتب باختلاف الموضوع، فالشاعر الذي يعالج موضوعًا شديد الاتصال بعواطف الإنسان كالرثاء، يؤثر في النفوس أكثر ممن يعالج موضوعًا آخر كالوصف، وإن كان بيان الواصف أقوى وأوضح من بيان الراثي.
فالشاعر الذي يعالج الموضوعات التي لا تثير حزن الإنسان ولا طربه ثم يجيد فيها ويروع بها، هو، في أكثر الأحيان، أشعر ممن يؤثر في الناس بمعالجة الموضوع الذي هو ألصق بالعاطفة، وأكثر إثارة للنفس، فينبغي أن يقدر هذا قدره حين النظر في الشعر، والموازنة بين الشعراء، والذين يعالجون الهزل والفكاهة في الشعر، أو يتناولون موضوع الشهوات فيلمسون مواضع الحساسية في نفس الإنسان، هؤلاء يؤثرون بالموضوع أكثر مما يؤثرون بصنعة البيان.
فأصحاب الأدب الذي يسمى «الأدب المكشوف» لا يثيرون الناس ببلاغتهم، ولكن بموضوعهم، وهذه طريقة يسيرة، ومتاع رخيص للتلبيس على الناس وتزيين الشعر بإحساسهم لا ببلاغة الشاعر.
إن أصحاب الأدب المكشوف يصفون أمورًا وأحوالًا إن وصفها متكلم عيي، في غير صناعة من النظم والنثر، وجد من يصغون إليه ويعجبون بقوله، ويطربون به، فكيف إذا مسها الشاعر بخياله وتصويره وحلاها بالوزن والقافية.
في الموضوعات جليل وحقير، وجميل وقبيح، وجد وهزل، ونافع وضار، ومصلح ومفسد، ولست أعرض هنا لنظريات النقاد في وصل الأدب بالأخلاق وفصله عنها، فليس هذا موضعه؛ ولكن أقول: إن الموضوعات التي يعالجها شاعر لها دخل في تأثيره في النفوس، مع اختلاف النفوس ونزعاتها، وتفاوت هممها ومطالبها.
وفي موضوعات الشعر مألوف مطروق ذللـه الشعراء، وألف الناس معانيه وصوره وعباراته، وفيها الغُفْل الذي لم يصقله الشعر، والأنف الذي لم يسبق إليه شاعر، وفيها ما قل السابقون إليه.
والموضوع الأنف لا يذلـلـﻪ إلا شاعر مبتكر مخترع متصرف في التصوير والتعبير، هو يدرك المعاني، وهو يصورها، وهو يتحيل للإبانة عنها ويتلطف، ولعل الناس يتلقونه بالاستغراب، أو يعدونه غامضًا بعيد المعنى، فإن كثيرًا من معاني الشعر في الموضوع المطروق المعتاد، يعين على فهمها الإلف والتعود وإن قصر اللفظ عنها؛ فالسامع والقارئ يعرفان أن الشعراء في مثل هذا الموضع يقصدون إلى هذا المعنى، وكثيرًا ما يفهم المعنى قبل تمام عبارته، وكثيرًا ما اعترض النقاد على شاعر بأنه لم يجر على ما تعود الشعراء في هذا المقام، ولم يسلك مسلكهم.
وليس الأمر كذلك في شاعر معتد بنفسه يهجم على الموضوع الغريب والمعنى البعيد، ويطوع له الألفاظ، ويبين عنه بحسن تعبيره ولطف تصرفه.
فليقدَّر هذا في الموازنة بين الشعراء كذلك.
اختلاف الإدراك في الشيء الواحد
ثم إدراك الناس مختلف فيما يعرض لهم من المرائي والأفكار، وفيما يفكرون فيه من الحسيات والمعنويات، وفي هذا يمتاز الشاعر والكاتب من غيرهما، فنظرة الشاعر إلى شيء تنفذ إلى معان خفية، وتصل إلى معان أخرى متصلة به، لا يدركها من لم يؤت موهبة الشعر، والشعراء فيما بينهم في هذا مختلفون؛ يختلفون في النفاذ من الظواهر إلى البواطن، وفي سلسلة المعاني بعضها من بعض.
وأضرب مثلًا آخر: حمالًا شيخًا ضريرًا يقوده صبي، وقد انحنى ظهره تحت حمله، رأيته في مدينة بغداد. من الناس من يرى الحمال الضرير فيشفق عليه فحسب، ومنهم من يثير فيه هذا المرأى معاني شتى وينفذ فكره إلى ما وراء هذا المنظر من ضرورات اضطرت هذا الشيخ الضرير إلى الحمل، ويتصور ما يعتلج في نفسه من آلام وهو يفكر في عيشه بين ضرورات قاهرة وشيخوخة وضرارة جديرتين بالراحة، ويتصل فكره بنظام الجماعة التي وكلت هذا الرجل إلى نفسه، وقسوة الناس، وذهاب الرحمة والمروءة من نفوسهم وهلم جرًّا.
ومثل آخر: زهرة ناضرة مشرفة على جدول لا يرى فيها البستاني إلا زهرة قريبة من الماء، ويرى فيها راءٍ آخر نضرة الحياة والشباب ويمتد فكره إلى ما وراء هذه النضرة فيتخيل ذبولها وسقوطها ويرى في صورتها التي تبدو في الماء وتخفى صور الآمال الكاذبة، والخيالات الذاهبة، ويستطيع أن يكتب مقالًا عنوانه «زهرة على جدول» أو ينظم أبياتًا كهذه:
وهكذا يستطيع كاتب أن يوالي الأمثلة في هذا العدد ليبين كيف يتفاوت إدراك الناس، وكيف ينفذ البيان البليغ إلى بواطن الأشياء، وكيف يفسر المرأى المحدود أو الفكرة الصغيرة تفسيرًا يبين عما لا يخطر على بال من لم يؤت النظر الثاقب والطبع الشاعر.
وفي هذا، في الحق، يمتاز الشعراء والكتاب من غيرهم، ويمتازون فيما بينهم، ويرقى بعضهم فوق بعض درجات.
(١-٢) الركن الثاني: التصوير
الشاعر يدرك حقائق كثيرة في هذا العالم، حقائق نفسية أو آفاقية ويعبر عنها كما هي، أو يصورها بخياله صورًا شتى، وهذه الصور معان يقصد إليها الشاعر، وهي مادة شعره وموضع ابتكاره وتصرفه، فلا تحسبن أنها ليست إلا وسائل لبيان معنى أصيل عناه الشاعر، فهي حينًا تشارك المعنى الأصيل في عناية الشاعر واحتفاله، وحينًا تنال من قصد الشاعر واهتمامه النصيب الأوفر، وحينًا تستأثر بقصد الشاعر كله فلا يُعنَى إلا بهذه الصورة المتخيلة.
وأضرب مثلًا قول بشار:
أراد الشاعر أن يقول: برزنا للقاء عدونا حين شروق الشمس فقال: والشمس في حجر أمها تطالعنا، فهذه الصورة التي تخيلها للشمس وهي في الأفق كالوليد في حجر أمه، وهي تطالعهم كما يطالع الطفل شيئًا كبيرًا رائعًا يستبد بنظره، هذه الصورة أبلغ أثرًا في نفس الشاعر والقارئ.
ومثل آخر قول مسلم بن الوليد:
المعنى الأصيل هنا أن جند العدو فروا خائفين، فكلما رأى أحدهم أخدودًا أشفق أن يكون فيه كمين.
فانظر كيف صور هذا في طراد كما يطرد الصقر الحمامة، فهذا طائرٌ خوفًا، والخوف طائر وراءه، وكلما رأى أخدودًا اعترض الخوف طريقه فخيل إليه أن به كمينًا.
فالمعنى الأصيل أفاده الكلام، وكأنه أفاده عرضًا، وشغل السامع والقارئ بهذه الصورة العجيبة المخيفة.
وتأمل في قول مسلم أيضًا:
فإن يكن قبل الصورة التي في البيت الثاني معنى أصيل فهو اضطراب الرياح في هذا المجهل وحيرتها فيه، وجائز أن يكون الشاعر قصد معنى غير هذه الصورة التي تخيلها، تخيل الرياح في هذا المجهل المشتعل المتشابه ضالة طريقها حائرة، جازعة من حره تلوذ بجوانب الصخور تتقي بظلالها مس الشمس أو تستريح من الكلال والضلال.
وقول أبي الطيب الذي مر آنفًا:
إن يكن الشاعر قصد إلى الدلالة على تقدم سيف الدولة الجيش، وعلى كثرة الرماح — ولعله لم يبال بهذين — فلا ريب أن همه الأول كان إظهار هذه الصورة الرائعة التي تمثل الجيش وجهًا غرته سيف الدولة، ورماحه غمم في هذا الوجه، كالوجه الأغم يكثر الشعر على جبهته.
وهكذا تجد هذه الصورة الشعرية لها مكانة في نفس الشاعر والسامع والقارئ مع المعنى الأصيل، أو لها المكانة الأولى، أو قصد إليها وحدها الشاعر، ولم يبال بمعنى غيرها.
ولست في حاجة إلى موالاة الأمثال، وتكثير الشواهد في هذا الشأن.
البلاغة في المعاني أو الألفاظ
ولا أعرض هنا للموضوع الذي طال فيه الجدال بين بعض الأدباء في القديم والحديث، وهو أن بلاغة الكلام في لفظه أو معناه، لا أجد هذه المقدمة القصيرة التي أقدمها قبل الكلام في شعر أبي الطيب، تقتضي الكلام في هذا الموضوع، ولا أراها تتسع له.
وحسبي أن أقول: إن أكبر ظني أن الذين قالوا: إن البلاغة في الألفاظ عدوا من الألفاظ هذه الصور الشعرية التي ذكرت، حسبوا ما عدا المعنى الأصلي الغُفْل، من قبيل الألفاظ فقالوا: إن بلاغة الكلام في اللفظ، وإلا فكيف تسنى لهم أن يدعوا هذه الدعوى فيقطعوا الكلام عن معانيه، ويقوموه بألفاظه.
فالمعاني موجودة عند كل واحد، وفي طوع كل فكر منها ما يشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى صناعة. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه، وهو بمثابة القوالب للمعاني، فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحدٌ في نفسه، وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء؛ كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال، تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد، والمعاني واحدةٌ في نفسها.
لا نقبل قول ابن خلدون: إن المعاني موجودة عند كل واحد … فالناس متفاوتون في إدراك المعاني تفاوتًا لا يُحد، ثم لا نقبل أن جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال والمعاني واحدة في نفسها إلا أن يكون ابن خلدون قد جعل الصور الشعرية التي يفتن فيها الشاعر من قسم الألفاظ، وقصر المعاني على المعاني الأصيلة الغفل، فإذا استوى اثنان في إدراك معنى امتاز أحدهما عن الآخر بالتصوير الذي يعده ابن خلدون ومن ذهب مذهبه، من تأليف الكلام لا من المعاني.
لا يستقيم هذا الكلام إلا على هذا التأويل.
(١-٣) الركن الثالث: العبارة
يبقى من أركان البيان اللفظ بمعناه الحق، أي الأصوات التي يستعين بها الإنسان على الإعراب عما في نفسه، العبارة التي يعبر بها عن المعنى الأصيل الساذج أو المعاني الشعرية التي سميتها الصور آنفًا، يبقى من أركان البيان بعد ما قدمت الركن الذي يتغير بنقل الكلام من لغة إلى أخرى لا المعاني والصور التي يمكن المحافظة عليها في اللغات المختلفة.
لكل لغة ألفاظها، ولكل لغة تركيباتها وأساليبها، ولا يستقيم البيان إلا بأن تسير الألفاظ مفردة ومركبة على سنن لغتها، وبأن تسلم من الحوشية ومن التعقيد ويتوافر حظ الكلام من الدقائق التي يدل عليها نظم الكلام في اللغة التي ينشأ فيها، ولا ريب أن لمفردات الكلام ومركباته وتأليفه نصيبًا من بلاغته كبيرًا.
وقد تبين لي هذا، وانجلى دون حجاب حين قست شعر شاعر واحد في لغتين هو في إحداهما أمكن منه في الأخرى، فعند الشاعر العلم بالحقائق، والقدرة على البيان، والمهارة في التصوير، لا تختلف فيما ينظم بهذه اللغة أو تلك؛ ولكن خبرته باللغة وبصره بدقائقها ودربته عليها، تختلف باختلاف اللغتين، فهذا ثبت أن للألفاظ والنظم مكانتهما في البلاغة.
قرأت شعر الشيخ سعدي الشيرازي بالفارسية، وقرأت قصائد له باللغة العربية فرأيت اختلاف الشعر رصانة وانسجامًا وجمالًا وروعة، وكذلك كل من ينظم في لغتين هو أقدر في إحداهما، تجد في شعره دليل هذه الدعوى، وفي هذا الموضوع دقائق خفية، ومعان بعيدة لا يدركها إلا النظر الثاقب والذوق الدرَّاك.
وبعدُ فالكلام كله ألفاظه ومعانيه الأصيلة، وصوره الشعرية، وحقائقه ومجازاته وألفاظه وأساليبه؛ كل أولئك نغمات في لحن واحد، إن اختلت إحداها وقع الخلل في اللحن كله.
فالمعنى القيم، إن لم يحسن تبيينه، ولم يجوَّد تصويره، أو أحسن تبيينه وأجيد تصويره ولم يُحسَن التعبير عنه بخلل في اللفظ أو التركيب أو التأليف، لم يقع في البلاغة موقع القبول؛ بل البيت القيم الذي استوفى كل الأوصاف المعنوية أو اللفظية إن أنشده منشد فلحن فيه أو أخل بوزنه نفر السامع من الخلل الطارئ على لسان المنشد، وإن كان السامع عرف البيت من قبل وحفظه.
الكلام موسيقى مؤتلفة، وأنغام مجتمعة، يذهب الخلل في جانب منها بجمالها، ويشيع الشذوذ من أحد أجزائها في سائر الأجزاء.
والشاعر المفلق هو الذي تلتئم معانيه ومجازاته وألفاظه وأسلوبه وأوزانه وقوافيه التئام الموسيقى المحكمة، تحس جمالها، وتعترف بروعتها، ولا تقول إن نبرة بعينها أو جرسًا واحدًا أو نغمة مفردة، مصدر هذا الجمال، وتلك الروعة.
(٢) نظرات في شعر أبي الطيب
ننظر، بعد هذه المقدمة، في شعر هذا الشاعر لنرى الموضوعات التي آثرها واحتفل بها وافتن فيها أكثر من غيرها، وهي الموضوعات التي وافقت نفسه، ولاءمت همته وطموحه … ثم نرى كيف عالج هذه الموضوعات إيضاحًا وتصويرًا وتعبيرًا.
(٢-١) موضوعاته
عالج أبو الطيب موضوعات الشعر التي عالجها شعراء العرب، ولكنه آثر من بينها موضوعات برز فيها، وعُرف بها وعُرفت به، وقد ألم بها الشعراء ولم يستوعبوها استيعابه ولم يكلفوا بها كلفه، ولا أجادوا إجادته.
وهي موضوعات ترجع في جملتها إلى القوة والإباء والطموح إلى المعالي، والإقدام والترفع عن الدنايا، كما ترجع إلى الحكمة الأخلاقية والاجتماعية.
الأمثال في شعره
وهذا الشاعر لاعتداده بنفسه، وتعويله على رأيه، واقتداره على البيان والإيجاز، صاغ كثيرًا من أقواله كلمات جامعة وأجراها مجرى الأمثال في الحكم والأخلاق، كقوله:
•••
•••
•••
وقوله:
•••
وقوله:
وهذا الشاعر على تميزه وبراعته وتبريزه في صنعته، له في الأمثال خصوصًا مذهب يسبق به أمثاله.
أدرك أبو الطيب الحكمة بفكره، وصاغها أمثالًا ببيانه فسارت في الأدب ثروة للمتأدبين ومددًا للمتمثلين.
•••
أولع أبو الطيب بهذه الموضوعات وهي في جملتها ترجع إلى الحكمة والحماسة فخص بها قصائد وكررها في قصائد المدح:
فالقصائد التي اختصها بهذه الموضوعات، اثنتا عشرة قصيدة هي أحسن شعره بما كانت أدل على ما في نفسه إذ نظمها للإعراب عما يكنه لا مادحًا ولا هاجيًا وهي:
من قصائد الصبا:
•••
•••
•••
•••
•••
ومن القصائد السيفية:
ومن القصائد المصرية:
•••
•••
•••
ومن القصائد العراقية:
هذه قصائد نظمها الشاعر للإبانة عما في فؤاده لم يقصد فيها إلى مدح أو هجاء أو رثاء.
وقد ضمنت قصائد أخرى نظمت في موضوع من موضوعات الشعر المعتادة كثيرًا من الحكم والعبر والحماسة والفخر.
فمن قصائد الشباب:
والقصيدة:
التي يقول فيها:
والقصيدة:
والقصيدة:
بهذه القصيدة وأمثالها يسمو أبو الطيب في موضوعه، وفي اعتزازه بالنفس، وإشادته بالكرامة، ودعوته إلى الحرية والعزة.
وإذا أردنا أن ننشئ شباب العرب على الأخلاق العالية، والشيم العزيزة التي تسمو بهم عن الدنايا، وتثبتهم على زلازل هذا العصر فبمثل هذا الشعر، تستحكم أخلاقهم، وتستحصد عزائمهم، ومثل أبي الطيب فليكن القدوة.
•••
في هذه الموضوعات وهذه المعاني وما يتصل بها، ويمت إليها يسمو هذا الشاعر.
فهو يجيد الكلام في الفخر والحماسة وفي وصف الحرب وعددها من السلاح والخيل ووصف البيداء ومشقاتها وأهوالها ووصف الصيد، وهو ضرب من الحرب، ويعجب بالفتوة والقوة، وبالإقدام والغلب، وبالخشونة واقتحام المكاره، ومعاناة الشدائد.
(٢-٢) معانيه وصوره
أعرض هنا لبراعة أبي الطيب في إدراك المعاني وتصويرها، صلة بما قدمت في هذا الفصل.
ولا أستوعب الموضوعات التي شعر فيها أبو الطيب، بل أكتفي بموضوعين: موضوع يلائم طبعه وخلقه، وقد برز فيه وشهر به، وموضوع لا يجانس ما أثر من سيرته وطبعه. الأول الوصف عامة وفيه وصف الحرب، والثاني الغزل.
الوصف
الوصف، ولا سيما وصف الحسيات، من أصعب موضوعات البيان، الموصوف معروف بهيئته وأشكاله وألوانه، وعلى الواصف أن يبين عنه إبانة تمثله لمن لم يره، فهو ليس طليقًا يسير مع خياله، ويتجنب وعر الكلام إلى سهله، ويفزع من ضيقه إلى سعته، بل خياله وصنعته في حدود من هذه الصورة الماثلة.
في الوصف يتفاوت الشعراء؛ يتفاوتون في إدراك دقائق الموصوف الحسية، ثم إدراك ما تبعثه في النفس من خيال وعاطفة سرور وحزن وعبرة، كما أبدع البحتري في وصف إيوان كسرى في القصيدة السينية النابهة، فأجال طرفه وقلبه في صور الإيوان، وغِيَر الزمان.
لا بد للواصف من حس مرهف، وخيال واسع، وفكر منظم، وبيان قوي.
وأبو الطيب يساير كبار الشعراء في الوصف حينًا، ويتخلف عنهم حينًا، حاشا وصف الحرب وما يتصل بها، وقد أخذ عليه الواحدي تخلفه في قطع عدها عليه مثل أبياته في وصف مجلس الورد عند ابن العميد، وأبياته في وصف رسالة جاءت من ابن العميد إلى أبي الطيب.
واعتذر العكبري عن أبي الطيب فيما آخذه به الواحدي بأن هذه المآخذ كلها في أبيات أنشئت ارتجالًا ولو لم تثبت في الديوان لكان خيرًا للشاعر.
وقد عُرف الأعراب بإجادة الوصف، وقوة الإبانة عما يرون، لحدة إحساسهم وسلامة فطرتهم ولحاجتهم إلى معرفة ما يحيط بهم، معرفة تمكنهم من سلوك السبل، وتخلل الشعاب والاهتداء إلى المواطن، وتتبع المياه والمراعي، وتجنب المخاطر.
وفي كتب الأدب من أوصافهم العجيب البليغ، وأكتفي بهذه القصة: روى أبو هلال العسكري في ديوان المعاني أن هشام بن عبد الملك قال لأعرابي لا يقرأ: انظر الميل، يعني كم على الحجر من عدد الأميال؟ فنظر ثم عاد فقال: «رأيت شيئًا كرأس المِحجَن، متصلًا بحلقة صغيرة، تتبعها ثلاث كأطْباء الكلبة تُفضي إلى هَنة كأنها قَطاة بلا منقار.»
ففهم هشام أنها خمسة.
وأبو الطيب، وهو يكاد يكون أعرابيًّا، من أدق الشعراء إدراكًا للموصوف وأقدرهم إبانة عنه، وثبت هذا في أوصافه الكثيرة، وصف بحيرة طبرية في القصيدة:
ووصف الأسد في قصيدة بدر بن عمار:
ووصف السيف في قصيدة الروزباري:
وفي قصيدة ابن العميد الدالية، ووصف الصيد في طرديات أبي علي الأوراجي وابن طغج وعضد الدولة، ووصف خيمة سيف الدولة في القصيدة:
ولا أتعرض لوصف الجيش والحرب فأمره فيهما بيِّن.
قال يصف السيف:
فاقرن هذه القطعة بقطعة البحتري:
أو بقطعة ابن الرومي:
نجد لأبيات أبي الطيب فضلًا عليهما.
وقال في وصف: كلب صيد:
وكذلك طردية عضد الدولة التي أولها:
من أبلغ ما قيل في وصف الصيد، فليرجع إليها القارئ في الديوان.
ومن دقته في الإدراك وتلطفه في الوصف ميله إلى التشبيهات اللطيفة المأخوذة من حروف الهجاء وأشباهها كقوله:
أي كما تدور الحروف في «هوز» من الحلق إلى الشفة إلى الأسنان.
يعني أول حرف من اسم سيف الدولة وهو «علي» كتبته سنابك الخيل في الصخر، والسنابك تؤثر في الأرض كرأس الحرف ع.
•••
•••
•••
•••
وأما وصف الحرب فقد أسلفت كلام ابن الأثير في هذا في فصل آراء النقاد.
وقلت في فصل سيف الدولة إن هذا المقدار من الشعر الحماسي في هذه البلاغة لا يعرف لشاعر آخر.
وأبو الطيب في طبعه الحماسة، وفي سجيته الطرب للحرب والضرب والغلب، والإعجاب بالقوة والعزة والمنعة وما إليها.
فكان، لا جرم، مبرزًا في كل ما هو من هذه الأمور، وكل ما يمت إليها.
وحسبي أن أثبت أمثلة من حماسياته، وهي كثيرة، ولا أطيل الكلام بالوقوف عند كل مثال، والإنابة عما فيه من قوة وروعة، والإشادة بما فيه من حسن تصوير، وجودة تعبير، بل أدع هذا كله لتأمل القارئ وتقديره.
شهد أبو الطيب بعض الوقعات فصور ما رآه وما شعر به، ووُصِف له بعضها فوصف عن سماع، وصاغها بما في طبعه من حماسة وما في خياله وبيانه من سعة وقوة. وأمثل بثلاث قصائد:
•••
•••
تأمل في هذه الأبيات من القصيدة الأولى وهي تصف حرب سيف الدولة والروم:
وهذه الأبيات ليست أجود من غيرها في القصيدة.
ويقول في القصيدة الثانية وهي تصف حرب بني كعب وغيرهم من الثائرين على سيف الدولة:
ومن القصيدة الثالثة وهي تصف حرب الروم:
•••
الغزل
أبادر فأعترف بأن أبا الطيب لم يكن غزلًا، لم يكن رقيقًا يأسره الهوى، يخفق له قلبه، ويسيل دمعه، ويغني لسانه.
وقد تجنب الشاعر الغزل في مطلع كثير من القصائد حيدًا عن سنة الشعراء، وصرح بلومهم على هذا إذا قال في مطلع قصيدة سيفية:
وفي القصيدة التي مطلعها:
قال:
وفي القصيدة التي مطلعها:
يقول:
وقال في القصيدة التي مطلعها:
ليس الشاعر في طبعه ونزوعه من أهل الغزل، ولكنه حينما أراد أن يتغزل تأسيًا بالشعراء، استطاع أن يجيد، وهذه أمثلة من غزله في شبابه تشهد بما أدَّعِي:
ومن قصيدة في مدح الحسين الهمذاني:
ومن غزله في السيفيات:
وقوله:
وقوله:
وانظر الغزل في هذه الأبيات:
يتبين بهذا أن الرجل مجيد في الغزل، متصرف فيه، ولولا طبعٌ شاعر، وبيانٌ قادر ما أحسن هذا الإحسان في موضوع لا يميل طبعه إليه، ولا تخضع كبرياؤه له.
•••
- الأول: أن الغزل لا ينسيه الكلف بذكر الحرب فهو يصف منعة الحبيب وما يحيط به من
شدائد وأهوال، يقول في قصيدة ابن طغج:
ديار اللواتي دارهن عزيزةبطولَى القنا يُحفظن لا بالتمائم
وفي بعض القصائد السيفية:
حبيب كأن الحسن كان يحبهفآثره أو جار في الحسن قاسمهتحول رماح الخط دون سِبائهوتُسبَى له من كل حي كرائمهويُضحِي غبار الخيل أدنى ستورهوآخرها نشر الكباء الملازمه•••
وما شرقي بالماء إلا تذكرًالماء به أهل الحبيب نزوليحرمه لمع الأسنة فوقهفليس لظمآن إليه وصول•••
متى تزر قوم من تهوى مودتهالا يُتحفوك بغير البيض والأسلوفي قصيدة كافورية:
سوائر ربما سارت هوادجهامنيعةً بين مطعون ومضروبوربما وخدت أيدي المطي بهاعلى نجيع من الفرسان مصبوب - والثاني: أن الشاعر الهمام كلف بالحرب حتى تغزل بها، وقد تقدم قوله:
محب كنى بالبيض عن مرهفاتهوبالحسن في أجسامهن عن الصقلوبالسمر عن سمر القنا غير أنهاجناها أحبائي وأطرافها رسلي
ويقول:
أعلى الممالك ما يُبنى على الأسلوالطعن عند محبيهن كالقبلوالطعن شزر والأرض واجفةكأنما في فؤادها وهَلقد صبغت خدها الدماء كمايصبغ خد الخريدة الخجل - والثالث: تغزله بالأعرابيات، وتفضيلهن على الحضريات، والإعراب بهذا عما في طبعه من
إيثار الطبيعة على الصنعة، والبداوة على الحضارة.
وقد بينت هذا في فصل «البداوة في طبعه وشعره» من قبل.
- والرابع: مزج الغزل بالحزن والنظر في الدنيا والاعتبار بتغيرها.
قال في القصيدة التي بعث بها إلى سيف الدولة من العراق والتي مطلعها:
ما لنا كلنا جَوٍ يا رسول؟أنا أهوى وقلبك المتبولزودينا من حسن وجهك ما دامفحسن الوجوه حال تحولوصلينا نصلك هذه الدنيا فإن المقام فيها قليلمن رآها بعينها شاقه القُطَّانُ فيها كما تشوق الحمولوقال في القصيدة السيفية التي أولها:
لعينيك ما يلقى الفؤاد ما لقيوللحب ما لم يَبق مني وما بقيسقى الله أيام الصبا ما يسرهاويفعل فعل البابلي المعتقوهذا بيت في أبيات من الغزل كثيرة لا ينظر القارئ أن يعقبه هذا البيت:
إذا ما لبستَ الدهر مستمتعًا بهتخرقتَ والملبوسُ لم يتخرقولكنها خطرة حزن، ولمحة عبرة أثناء الغزل. وفي القصيدة:
ليالي بعد الظاعنين شكوليقول أثناء الغزل:
وما عشتُ من بعد الأحبة سلوةًولكنني للنائبات حمولوإن رحيلًا واحدًا حال بينناوفي الموت من بعد الرحيل رحيلبل نجد خطرات الحزن هذه في غزل الشباب، ففي القصيدة التي أولها:
أرَقٌ على أرَقٍ ومثلي يأرقوحشًا يذوب وعبرةٌ تترقرقيقول:
وعذلت أهل العشق حتى ذقتُهفعجبت كيف يموت من لا يعشقوعذرتُهم وعرفت ذنبي أننيعيرتهم فلقيت منه ما لقواثم يتبع الغزل هذه الأبيات:
أبني أبينا نحن أهل منازلأبدًا غراب البين فيها ينعقنبكي على الدنيا وما من معشرجمعتهم الدنيا فلم يتفرقواأين الأكاسرة الجبابرة الأُلَىكنزوا الكنوز فما بقين ولا بقواإلى أن يقول:
ولقد بكيت على الشباب ولمتيمسودة ولماء وجهي رونقحذرًا عليه قبل يوم فراقهحتى لكدت بماء جفني أشرقثم ينتقل من هذا البيت إلى المدح، فما الذي دس هذه الأبيات التي فيها التفرق والفناء بين الغزل والمدح؟ حزنٌ خفي واكتئاب في نفس الشاعر يظهر بين الحين والحين، ويذكر به كل شيء حتى الغزل.
(٢-٣) التعبير
بقي أن ننظر في تعبير الشاعر، ونعرف كيف يبين عن معانيه بألفاظه.
وكيف تقع مفرداته ومركباته من مفردات الشعر البليغ ومركباته، ثم كيف يستقيم الأسلوب، وتيسر له طرائق البيان.
هذا موضوع واسع بعيد الجوانب، خفي الأعلام، وله في البلاغة مكانته، ولكني لا أحسب الذي يكتب عن شاعر كبير بسبيل من الإفاضة في هذا الموضوع واستقصاء نواحيه، فإن شاعرًا لا يبلغ منزلة عالية بين شعراء أمته حتى يستوفي عدته للبيان، ويبلغ في اللغة — ألفاظها وأساليبها — المنزلة التي تعلو على الجدل في علمه باللغة، ومسايرة قواعدها، والتزام الأساليب المتينة البليغة فيها.
وأبو الطيب شاعر كبير، لا يختلف في هذا اثنان، وإن اختلف الناس في درجات هذا الكبر، فليس لزامًا على من يكتب عنه أن يخوض في بحث الألفاظ؛ ولكن عليه أن يعالج ما عرف به وذاع عنه من عيب أو مزية، غير المزايا التي يشترك فيها الشعراء العظام جميعًا.
لا أنكر أن لأبي الطيب عيوبًا جزئية في أبيات له، لم يؤد إليها جهله باللغة ولا عجزه عن الارتقاء إلى الدرجات العليا فيها، ولا حطه إليها ضعف في الطبع، أو خور في البيان.
وقد أفاض فيها النقاد، وألممت بها آنفًا، أخذوا عليه كلمة حوشية أو تكرارًا ثقيلًا في الكلمات، وحفلت كتب البلاغة والنقد بأمثلة من مثل قوله في سيف الدولة:
وقوله في وصف فرس:
وقوله:
وقوله:
وهي جزئيات أدى إليها الإدلال بعلمه بغرائب اللغة، أو ميله إلى الإغراب ليوجه الناس إليه ونحو هذين مما يعرض للإنسان في عنفوان شبابه.
وقد قدمت أن الرجل كان من أعلم أهل عصره باللغة، وأنه كان كوفيًّا يؤثر أحيانًا طريقة الكوفيين في النحو على طريقة البصريين التي ألفها المتأدبون. وتبقى بعد هذه المآخذ الجزئية، جمهرة شعر يتصرف قائله في اللغة؛ مفردها ومركبها وأسلوبها، تصرف الخبير القدير، والناقد البصير، والفصيح الذي ملك الزمام، وانقاد له صعب الكلام.
•••
ولأبي الطيب مزية أطلت النظر فيها وأنا أقرأ شعره، هي قدرته على الإبانة عن المعنى الواسع البعيد بألفاظ قليلة قريبة، ولقد مررت في شعره بأمثلة روائع، وكلمات بدائع يطيل القارئ عندها الإعجاب والتعجب … وهذا نصها:
أراد أن يقول: إن الليالي تكلفني سفرًا متصلًا أقطع به مهامه واسعة صابرًا على السير ومصاعبه مستأنفًا رحلة بعد رحلة! حتى تتعجب ناقتي وتحار أهذه سعة البيداء أم سعة عزمي وانفساح همي؟ فانظر كيف وضع هذا المعنى الطويل في عشر كلمات:
وأراد أن يقول في مدح أبي علي الأوراجي: إن أبا علي كالجبال عظمًا ووقارًا، وإن لي فيه رجاء عظيمًا كالجبال، وإن بيني وبينه جبالًا شامخة لا بد لي من قطعها، فانظر كيف أدى هذا في ثماني كلمات:
وأراد أن يقول إن ممدوحه حسن، ولكنه في عيون أعدائه قبيح، وكذلك ضيفه قبيح في عيون إبله؛ لأنها تعرف في قدوم الضيف نحرها، وهو في عيون أعدائه أقبح من ضيفة في عيون إبله، فأتى بهذه العبارة:
وإن يكن في هذا البيت شيء من الغموض فبما حُمِّل من معنى كثير في لفظ قليل.
وأراد أن يبين أنه يطرد عن عينه النوم في مسيره إلى رجل جواد يسري معروفه إلى الناس في ديارهم وهم نائمون غير متجشمين نصبًا ولا ملحفين طلبًا لهذا المعروف فقال:
وأراد أن يصف نساء بالجمال وسعة الأعين وحسنها ويخبر بأنهن يبكين بكاء شديدًا يذهب بجمال أعينهن فأدى هذا المعنى في الشطر الثاني من هذا البيت:
وأراد أن يبين أن سيف الدولة هزم الروم وقتلهم فمنهم من اختفى في المطامير والسراديب وتحت الأطلال كالخُلد الذي يختفي في الأرض، ومنهم من فر مسرعًا كالبازي، فما سلم هؤلاء ولا هؤلاء من القتل، فقال:
وأراد أن يقول إنه لا مفر للإنسان من الشيب، فإن سبب الشيب الذي يكرهه الإنسان هو سبب الشباب الذي يبكي عليه، وهو مرور الزمان واستمرار الحياة، فقال:
وأراد أن يمدح سيف الدولة بأنه قتل في الحرب نفوسًا كثيرة لو حواها لخلد، وأن حياته سرور لهذه الدنيا فهي تهنأ بخلده، فقال:
وهذا الذي يسمى المدح الموجه أي ذا الوجهين كالثوب الذي له وجهان كلاهما حسن، كما قال الثعالبي في اليتيمة، وهو في شعره كثير كقوله:
•••
•••
•••
فهذا فن يشهد بالقدرة على الإبانة، والبصر بإبراز المعاني الكثيرة بألفاظ قليلة، وكم قائل يمد للمعنى أشطانًا من الألفاظ ثم يكون كما قيل: تجئك بحمأة وقليل ماء.