حماية المستقبل
تكون القرارات أيسر ما يكون عندما يمكن مقارنة الخيارات بشكل مباشِر؛ فمن السهل الاختيار بين تفاحة ناضجة وأخرى عطبة، والأصعبُ الاختيارُ بين تفاحة ناضجة وثمرة كمثرى ناضجة، بل الأكثرُ صعوبةً الاختيارُ بين بوشل من التفاح وشريحة من لحم الخاصرة، ويظلُّ الأصعبَ الاختيارُ بين لحم الخاصرة وزوج من الأحذية. وعند الاختيار بين أشياء متنوعة بالفعل، شديدة الاختلاف بما يصعب معه المقارَنة المباشِرة، فليس ثمة بديل سوى تصنيفها بناءً على مقياس شائع، مثل فوائدها. هذا ليس شيئًا أكاديميًّا فحسب؛ بل إن المجتمع يدفعنا لفعله سواء رغبنا في ذلك أم لا، وسواء رغبنا في الاعتراف به أم لا، حتى وإن كان هذا لأن لدينا (أو لدى معظمنا على الأقل) ميزانية ثابتة وينبغي أن ينتهي بنا الأمر وقد سددنا فواتيرنا، وهذا وحده يتطلَّب الاختيارَ بين عدة خيارات، بناءً على مدى قيمتها النقدية لنا. بالطبع هناك بعض الأشياء في الحياة ليس من السهل قياسها نقدًا، وهناك قرارات تبدو واضحةً مثل الاختيار بين الذهابِ للتريُّض وأخْذِ غفوةٍ، لكن حتى هنا يمكن للمرء أن يتخيَّلَ السؤال: «ما مدى قيمتها بالنسبة إليك؟» إن النقود هي محاولة من المجتمع لإحالة كل شيء لمقياس مشترك، وإبعادنا عن مقايضة أصداف المحار بالفخار؛ وبالنظر لشيوع النقود وشعبيتها، فإن هذا النظام ناجح فيما يبدو. لكن ماذا عن مقارنة النقود الحالية بالنقود المستقبلية؟ هذا بُعْدٌ جديدٌ.
هل الأكثر منطقيةً أن تستثمر في المستقبل، أم تنفق ما تجمعه بمجرد أن يأتيك؟ يقول شكسبير: «المرح في الوقت الحالي يحمل في طيَّاته ضحكاتٍ حاليةً، وما سيأتي لا يزال غير مؤكَّد.» إن الصراع يكمن بين الإشباع اللحظي لرغبةٍ أو حاجةٍ وقتية (كتناول الطعام، على سبيل المثال)، وبين فوائد يُوعَد بها في المستقبل القريب أو البعيد؛ أو بين الإشباع المؤجل والإشباع الفوري إنْ أردْتَ. إن الأفراد والشركات والبلدان جميعهم يواجهون نفس المشكلة: هل نستثمر في المدارس أم نرمِّم الحفرَ؟ نصلح السقف أم ندَّخِر النقود لوقت الحاجة؟ هل تعمل في شبابك لكي تستمتع بمباهج تقدُّم العمر، أم العكس؟ لم يكن ليتوافر لدينا كمٌّ ضخمٌ من الأمثال التي تحثنا على الاستعداد للمستقبل، لو لم يكن ذلك أمرًا غير طبيعي.
والأمر غير طبيعي «بالفعل»؛ فلو كان الجِنِّي الكريم في الفصل التاسع قد أعلَنَ أن أيَّ أحد سيظهر في ساحة القرية الثلاثاءَ القادمَ سيختار بين الحصول على ورقة نقدية جديدة فئة مائة دولار، وبين إيصال أمانة يعد بسداد مائة دولار بعد عشر سنوات، فمن السهل أن تعرف أيَّ خيار كان سيختاره معظمنا. ليس هناك أي حافز، أيًّا ما كان، يدفعنا للنظر إلى المستقبل بينما يهاجمنا الحاضر بالفعل. إلى جانب أن المستقبل، كما قال شكسبير، غير مضمون (ووفقًا لمزحة قديمة شهيرة، تلك نظرة تفاؤلية). وقد كتب عمر الخيام يقول: «عليك بالحاضر وانْسَ المؤجلات، ولا تجفل لقرع طبل من بعيد!» فمَن يعرف إذا ما كنتَ ستستردُّ مدخراتك أم لا، وإذا ما كنتَ ستجني ثمارَ استثماراتك أم لا. وقد أظهرَتِ الاستطلاعات أن الأشخاص الذين يساهمون في صندوق الضمان الاجتماعي اليومَ، مقتنعون بأن النقود لن تكون متواجِدةً عندما يحتاجون إليها خلال العقود القليلة القادمة، والسياسيون الذين يقولون إنهم يعملون على تقوية الاقتصاد من أجل مستقبلٍ أكثرَ إشراقًا، يخسرون باستمرارٍ أمامَ مَن يَعِدُون بأن يكون هناك ما يكفي من الطعام لكل عائلة غدًا. لا يهم ما يفعله الفائزون حينما يتمُّ انتخابهم؛ فالوعد يجلب لهم المنصب، والذاكرة ضعيفة، وتَولِّي المنصب يؤدِّي إلى البقاء به لفترة طويلة.
إذن فقد اعتدنا جعْلَ الأشياء أكثر جاذبيةً؛ كي نحثَّ الأشخاص على توجيه اهتمام أكبر نحو المستقبل؛ فندفع فائدةً — عائدًا على الاستثمار — فقط كي نغوي الأشخاصَ بتأجيل رغباتهم أو احتياجاتهم التي كان يمكن إشباعها من خلال مواردهم الحالية؛ وهذا يجعل التخلِّي عن استخدام النقود أمرًا أكثر استساغةً بعض الشيء؛ فأنت تحصل على شيء في المقابل. ليس هناك مقدار سحري للفائدة «ملائم تمامًا» كحافز، لكن يبدو أن الخبرة الإنسانية قد اتفقت على معدلٍ يتراوح بين خمسةٍ وخمسةَ عشرَ بالمائة سنويًّا كعلاوة مطلوبة لفصل الأشخاص عن استخدامهم الفوري لأموالهم؛ أي عن الإشباع اللحظي. وتختلف معدلات الفائدة وفقًا لمستوى المخاطرة؛ إذ تكون المعدلات أقلَّ بالنسبة إلى الاستثمارات الخالية من المخاطر، فيما تكون أعلى بالنسبة إلى الاستثمارات القائمة على المضاربة التي قد تؤدِّي إلى خسارة كل شيء، وأعلى بالنسبة إلى الربا، ومراباة القروض، وأرصدة بطاقات الائتمان. وتظل الفوائد أعلى إذا ما كانت البلاد في أزمة اقتصادية شديدة، والمستقبل أقل وضوحًا عن المعتاد؛ فعندما يصل التضخُّم لمائة بالمائة سنويًّا، ينبغي أن تتواكَب معدلات الفائدة مع ذلك. والمقصد من هذا ببساطة هو أن اقتراح إمكانية ربح «زائد» في المستقبل على الأشخاص، يمكن أن يعوِّض إحجامهم الطبيعي والمفهوم عن الاستغناء عن ممتلكاتهم اليوم. وكلُّ فرعٍ معروف لهذا المؤلف من فروع الجنس البشري، في كل الأزمنة والأماكن، قد اكتشف تلك الحقيقة العالمية؛ فالمعدلات تختلف وفقًا للظروف المتعلِّقة بالزمان والمكان، لكنْ يظل المبدأ واحدًا كما هو.
عند هذه النقطة قد يشتكي بعض القرَّاء من أن الفريضة الأخلاقية للادِّخار من أجل المستقبل، أو الاستثمار في سعادة ورفاهية الأبناء والأحفاد، فضلًا عن بقية الجنس البشري؛ لم تُوَفَّ حقها من التناول هنا. باختصارٍ، قد يشتكون من أن هذا المؤلف فاقِدٌ للحسِّ الأخلاقي. ربما يكون الأمر هكذا، لكن إذا فكرتَ في الأمر، فستجد أن كلَّ واجباتنا وفرائضنا الأخلاقية ذاتها مرهونة بالمكان والزمان، وهي ببساطة خلاصات احتياجات مجتمعية سابقة، صُنِّفت على هذا النحو حتى لا يعود علينا أن نفكِّر من أين أتَتْ، تمامًا مثل جدول الضرب. وفي بعض الأحيان تتجمَّع هذه الدروس داخل مجموعة من القوانين، وأحيانًا في تعليمات وأوامر دينية، وفي بعض الأحيان في قواعد السلوك المختلفة وهكذا، لكن جميعها في النهاية يعكس الاحتياجاتِ الفعليةَ لأحد المجتمعات السابقة التي ظلَّتْ باقيةً بشكل ما. إن الالتزامات والفرائض التي خلَّفتها لنا الخبرات والتاريخ القديم، سريعًا ما تنهار تحت الضغط المباشِر، بغضِّ النظر عن كونها قد تجمَّعَتْ بطريقة مقنعة أو أننا تمرسنا جيدًا على طاعتها. والتاريخ الإنساني المعاصِر يقدِّم لنا أدلةً مُفزِعة كثيرة على ذلك؛ هذا لا يعني أن القوى ليسَتْ فعَّالةً — فالكثير منَّا على استعدادٍ للتضحية بحياته من أجل حماية أطفاله — لكننا نذكِّر القرَّاء بأن أصول القوى الاجتماعية كلها تكمن في ماضينا التطوُّري. وهناك العديد من الحيوانات الأخرى التي تضحِّي بأنفسها أيضًا من أجل بقاء سلالتها، بنفس الدوافع، لكنْ دون التبريرات المطنبة.
لكنَّ ذلك تحوُّلٌ عن الموضوع؛ النقطة الجوهرية هي أننا إذا لم نحسِّن جاذبيةَ الإشباع البعيد، فلن تكون له فرصة للتنافس مع الإشباع الفوري.
من الممكن التفكير في معدلات الفائدة اللازمة لتشجيع الاستثمار إما كفائدة على الاستثمار الحالي وإما كخصم من المكافأة المستقبلية؛ فإذا ما كان استثمار مبلغ ١٠٠ دولار الآن، بمعدل فائدة سنوي مقداره خمسة بالمائة، فسيجلب (كما هو الحال مع المعدل السنوي التراكمي للفائدة) مكسبًا قيمته ١٠٠٠ دولار خلال سبعة وأربعين عامًا، يمكن التفكير في هذا إما كفائدة على الاستثمار الحالي، وإما كخصمٍ للفائدة المستقبلية بنسبة خمسة بالمائة سنويًّا. وبطريقة التفكير الثانية، ستقول إنك ترغب في الألف دولار خلال سبعة وأربعين عامًا؛ لذا فقيمتها المخصومة الآن هي مائة دولار فقط، وهو ما تساويه الألف دولار بالفعل في هذا الوقت؛ إنه الثمن الذي تدفعه الآن للمكافأة المستقبلية. إن البنوك وشركات التأمين تفعل هذا كأسلوب حياة، وعندما تسدِّد قسطًا لبوليصة تأمين على الحياة، فإنك تفعل الشيئين مرةً واحدةً؛ أيْ إنك تستثمر بفوائد لتسدِّد القيمةَ المخصومة حاليًّا من حياتك. ولما كان من المتوقَّع أن تموت (ويحصل وَرَثتك على قيمة التأمين) في وقت لاحق، فليس هناك سببٌ لكي تسدِّد المبلغ كله الآن، وشركات التأمين تعرف جيدًا كيف تخصم قيمة حياتك، وهذا ما يجعلهم يقومون بتوظيف متخصِّصين في الحسابات الإكتوارية. يبدو هذا قاسيًا، لكنْ مَن قال إن التأمين على الحياة لم يكن مفهومًا قاسيًا؟ وأنت، كفردٍ، يمكن بالكاد أن تفوز به.
إن للأمر جانبًا سلبيًّا وآخَر إيجابيًّا؛ فكما أن الربح البعيد ليس مغريًا كالربح الحالي، ومن ثَمَّ يكلِّفك أقلَّ إذا دفعتَ مقابله الآن، لا تُعَدُّ الخسارة البعيدة مخيفةً كخسارة حالية. خيِّرِ الناس بين أن يجتاحهم فيضان غدًا أو يجتاحهم فيضان بعد خمسين عامًا، وانظر كم منهم سيهرع نحو الخيار الأول. في حالة التأمين على الحياة المذكورة أعلاه، يمكنك التفكير في فوائد التأمين كمصدر دَخْلٍ لأسرتك (على افتراض أنهم المستحقون للتأمين)، لتعويضهم عن خسارتهم. إن المبلغ والخسارة يظهران في نفس الوقت تقريبًا؛ ومن ثم يتم خصمهما من أجل حساب القسط، وينتهي النطاق الزمني، بالنسبة إلى معظم الأشخاص، لخصم الخسائر المستقبلية بنهاية فترة حياتهم، أو حياة أبنائهم أو أحفادهم؛ وبالنسبة إلى المجتمعات أو الدول، قد يمتدُّ هذا النطاق قليلًا (على الرغم ممَّا يبدو حاليًّا من أن الدول تتَّسِم بقِصَر فترات الانتباه مقارَنةً بالأفراد). ثمة نقطةٌ ما يصير بعدها الأمر غيرَ منطقي بالمرة؛ فمثلًا مَن الذي سيشتري سندًا سيجلب فائدة هائلة ومضمونة بعد ألف عام؟ لا توجد حالة واحدة في التاريخ الإنساني بِيعت فيها مثل هذه السندات (بحسب معرفة هذا الكاتب، يمكن للمندوبين المتجولين الماهرين في بعض الأحيان أن يبيعوا للناس أشياء في غاية الغرابة)، وبعض المجتمعات والإمبراطوريات ذات الرؤى المُغالى فيها لقدرتها على البقاء عُرِف عنها بناء أشياء صُمِّمت لتدوم لآلاف السنين؛ فلا تزال الأهرامات باقيةً (ولكن اقرأ قصيدةَ شيلي «أوزيماندياس»، التي تضع مثل هذه الطموحات والتطلُّعات في نصابها الصحيح).
ما علاقة هذا بصنع القرار؟ بعض القرارات الشخصية ذات التأثير المستقبلي لها فترةُ تأجيل قصيرة بما يكفي لجعل عملية اقتطاع الأرباح المستقبلية سهلة، إلا أنك تضطر بين الحين والآخَر لأن تضاهي مكسبًا أو خسارة فورية بشيءٍ بعيدٍ للغاية في المستقبل، لدرجة أن حتى المرغبات المألوفة (أو نِسَب الخصم) تبدو أنها تفقد ميزتها. وحتى هذا التفكير يُعَدُّ مسألةً ترتبط بالزمان والمكان؛ ففي أجزاء من العالم حيث يهتم الناس بالإرث العائلي، من الشائع أن تقوم باستثمارات تؤتي ثمارها بعد بضعة أجيال، أو الاحتفاظ بمنزل عائلي أو مزرعة يضيف إليهما كلُّ جيل شيئًا خلال فترة امتلاكهما، وهناك دول يَشيع فيها وجود رهن عقاري مدته تسعين عامًا على منزل؛ ولكن هذا النوع من التفكير الطويل المدى قلَّمَا يوجد في الولايات المتحدة هذه الأيام.
إليك حالة خاصة وصارخة على نحو خاص؛ يَعرف الجميع (وهو أمر صحيح) أن الجرعات الكبيرة بما يكفي من الإشعاع يمكنها أن تسبِّبَ السرطان، وأن الوقود المستهلَك من محطات الطاقة النووية مُشِعٌّ، غير أنه على الرغم من الضجة الإعلامية شبه الجماعية حول هذا الموضوع، لا يوجد دليل، أيًّا ما كان، على أن التعرُّض بقدرٍ ضئيلٍ للإشعاع يسبِّب أيَّ ضررٍ على الإطلاق. لعل هذا موقف شائع؛ فالعديد من الأشياء التي تُلحِق الجرعاتُ الكبيرة منها ضررًا لا يكون للجرعات الصغيرة منها أي ضرر؛ والجرعات الزائدة من المواد الكيميائية الحميدة مثل الأسبرين تقتل بعضَ الأشخاص كل عام. إن عدد الوفيات الناتجة عن الأسبرين في تناقُص، ولكنَّ هذا يُعزَى جزئيًّا إلى قيام الناس بالاستعاضة عن الأسبرين بمسكنات أخرى تحظى بالدعاية الجيدة، غير أن الجرعات الصغيرة من الأسبرين آمِنةٌ، مثلها مثل أي عقار آخَر بالسوق. حتى الماء يسبِّب أضرارًا حين يكون بجرعات كبيرة. وعلى أي حال، فقد حفَّزَ خطرُ التعرُّض للإشعاع وكالةَ حماية البيئة لوضع معيارٍ؛ إذا لم يصل إليه الوقودُ المستهلك من محطات الطاقة النووية، وجَبَ عزله عن الملامسة البشرية لعشرة آلاف عام. ولعل هذه واحدة من القواعد الحكومية الصاعقة الأكثر حمقًا التي رآها المؤلف على الإطلاق — تخيَّلْ عشرة آلاف عام لدولة تجاوَزَ عمرُها المائتَيْ عام بالكاد — ولكن دعنا نتعمَّق في الأمر كمثال مفرط للمبالغة في حماية المستقبل.
بدايةً، ماذا تساوي أيُّ حياة بعد عشرة آلاف عام؟ الجهات التنظيمية مستقرة هذه الأيام فيما يبدو عند حوالي مليون دولار كقيمة للحياة؛ فتلك هي القيمة التي تقدِّرها هيئات التحكيم في قضايا القتل الخطأ، وهي أيضًا الخط الخفي الذي يفصل تحرُّكَ الحكومة عن تراخيها حيال المخاطر المُدرَكة (عدا في الحالات الخاصة، مثل عمَّال مناجم الفحم وروَّاد الفضاء، الذين ننفق عليهم أكثر بكثير لكل حياة يتم إنقاذها). لذا دعنا نستخدم هذا التقدير للحياة، ونفترض أن المادة المدفونة قد انبعثَتْ في البيئة بعد عشرة آلاف عام؛ بحلول هذا الوقت ستكون قد تحلَّلَتْ، وصارت بالكاد مُشِعَّةً؛ أي أقل إشعاعًا بكثيرٍ من المادة الأصلية التي صُنِعت منها، ولكننا سنتجاهل ذلك أيضًا؛ ففي النهاية، لا يبدو أن وكالة حماية البيئة تَعْبأ بتلك الحقيقة الجوهرية، ولا بد أن نفترض أن الأشخاص المتواجدين حينذاك لن تكون لديهم دراية بكيفية التعامل مع المواد المشِعَّة، وأنهم سيكونون أكثر بلاهةً منَّا؛ لذا سوف نفترض أنه بعد عشرة آلاف عام، سوف يقتل الوقود المنبعِث عشرةَ آلاف شخص بشكل مؤكَّد، بتكلفة مليون دولار (بالعملة الحالية) لكلٍّ منهم. تلك كارثة تساوي عشرة مليارات دولار، ستقع بعد عشرة آلاف عام، سنرغب من أجل مواجهتها في شراء وثائق تأمينية. (لنضعِ الأمرَ في نصابه الصحيح، يجب أن نذكر أن هذا المبلغ أقلُّ بكثيرٍ ممَّا ينفقه الأمريكيون الآن كلَّ عام لشراء الكوكايين، وأقلُّ بكثيرٍ من التكلفة المتوقَّعة لمحطة الفضاء.)
ولكننا نريد التأمين، والمسألة الوحيدة المتبقية هي تحديد قيمة الأقساط وفقًا لقواعد الحسابات التأمينية المألوفة؛ أي بالشكل الذي يجعل الأموال المستثمَرة تجلب الفائدة في الوقت المناسب. سوف نستثمر الأموال بفائدة قيمتها ٤ بالمائة، وهو تقدير متحفظ آخَر. يتبين لنا أن الأقساط تقل كثيرًا عن واحد بالمائة للعام الواحد لدرجة يستحيل معها حسابها. إن أول سنت أحمر ندفعه في الأقساط وقتما نشعر بدافع نحو ذلك، سوف يجلب المبلغ المطلوب — وقيمته ١٠ مليارات دولار — في غضون سبعمائة عام لا أكثر، دون أي أقساط إضافية، وبعدها نستطيع ببساطةٍ الاحتفاظَ بالصندوق دون أي فوائد، لأكثر من تسعة آلاف عام. والواقع أنه لا توجد طريقة لجعل المبلغ «أقل» من ١٠ مليارات دولار، إذا لم يكن بمقدورنا استثمار أقل من سنت، ما لم نقُم بتأجيل القسط الأول لأكثر من تسعة آلاف عام؛ إنه ضرب من السخف المحض حقًّا أن نفكِّر في التخطيط لمثل هذه الفترات الطويلة من الزمن، وهذا هو ما يجعلها قاعدة حمقاء؛ إن وكالة حماية البيئة لا تجيد الحساب.
ولكن الإجراء الأمثل بالنسبة إلى الفترات الأكثر معقوليةً، التي تمثِّل أهميةً لعملية اتخاذ القرار الواقعية (في مقابل الحكومية)، هو القيام بما تقوم به شركات التأمين؛ ينبغي أن نفترض أن الموارد التي تُنفَق الآن يجري استثمارها، وأن المكاسب والخسائر في المستقبل يتم خصمها، علمًا بأن نسبة الفائدة تتحدَّد بحسب الظروف. فإذا تدهورت أيٌّ من الأصناف أو الأشياء المشمولة أيضًا مع الوقت، ينبغي وضع قيمتها المتدنية في المستقبل في الحسبان؛ «بالإضافة إلى» خصم العوائد المستقبلية. إن تدنِّي القيمة والخصم مفهومان منفصلان تمامًا، وغالبًا ما يتم الخلط بينهما.
إذن فالتأثير الوحيد للتأجيل على عملية اتخاذ القرار يتمثَّل في وجوب خصم الأحداث المستقبلية؛ إذ يجب خصم جميع الفوائد والتكاليف، الجيدة والسيئة، بحسب قيمتها الحالية. فإذا قال لك أحدهم إنه سيمنحك ١٠٠٠ دولار بعد عشرين عامًا، فلا تفكِّر فيها باعتبارها ١٠٠٠ دولار؛ فقيمتها اليوم، بعد تطبيق خصمٍ قيمته ٦ بالمائة، تساوي حوالي ٣٠٠ دولار. أحد برامج الجوائز التي تحظى بدعاية واسعة تَعِد بجوائز قيمتها مليون دولار، ولكن التفاصيل المكتوبة بخط صغير تقول إنها ٥٠ ألف دولار في العام لمدة عشرين عامًا، وهذا لا يساوي مليون دولار؛ فعند تطبيق خصمٍ بنسبة ٦ بالمائة، تصبح القيمة حوالي ٦٠٠ ألف دولار. لا شك أنها جائزة لا بأس بها، ولكنها ليست المليون المزعومة. بالطبع يعلم المعلنون ذلك، ولكنهم يتغاضون عن ذلك.